رکائز در فلسفه سیاست
ركائز في فلسفة السياسة
ژانرها
إهداء
تصدير
أولا: اليمين واليسار
اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي
ما هي الليبرالية؟
أصول الليبرالية
تطور الفلسفة الليبرالية
الاشتراكية
الماركسية
نقد النظرية الماركسية
صفحه نامشخص
الهندسة الاجتماعية الجزئية طريق ثالث
ثانيا: الاستعمارية وما بعد الاستعمارية
الاستعمارية
نموذج لفلسفات ما بعد الاستعمارية
حاشية
القومية العربية في المعمعان
إهداء
تصدير
أولا: اليمين واليسار
اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي
صفحه نامشخص
ما هي الليبرالية؟
أصول الليبرالية
تطور الفلسفة الليبرالية
الاشتراكية
الماركسية
نقد النظرية الماركسية
الهندسة الاجتماعية الجزئية طريق ثالث
ثانيا: الاستعمارية وما بعد الاستعمارية
الاستعمارية
نموذج لفلسفات ما بعد الاستعمارية
صفحه نامشخص
حاشية
القومية العربية في المعمعان
ركائز في فلسفة السياسة
ركائز في فلسفة السياسة
تأليف
يمنى طريف الخولي
إهداء
إلى المهندس محمد طريف الخولي
هذا المثقف الليبرالي، المولع بالتحليلات الفلسفية للمفاهيم السياسية، وبالفلسفة الأمريكية.
ي. ط.
صفحه نامشخص
تصدير
هذه مجموعة دراسات نشرت في مواضع فكرية وثقافية مختلفة، تجتمع في أنها تتناول بالتحليل الفلسفي والنقدي بضعة مصطلحات ومفاهيم مما ترتكز عليه تيارات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، من قبيل الليبرالية والاشتراكية والماركسية والطريق الثالث والديمقراطية والاستعمارية والقومية والمقاومة وما بعد الاستعمارية والنسوية والعولمة وحوار الحضارات؛ بخلاف مفاهيم فرعية تندرج تحت هذه المفاهيم الكبرى أو الركائز، من قبيل العقد الاجتماعي والقوانين الطبيعية والاحتكار وفائض القيمة والعدالة الاجتماعية والفابية والراديكالية والتخطيط الكلي والجزئي والهندسة الاجتماعية وحقوق الأقليات والمهمشين والإمبريالية والمركزية الغربية؛ تسهم جميعها في رسم معالم للفلسفة السياسية الحديثة، بقدر ما أسهمت في تشكيل الواقع السياسي والمسار الحضاري عبر حقب الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
وفي هذا ربما نجد فلسفة السياسة تماثل فلسفة المعرفة العلمية من حيث إنها حوار بين الفكر والواقع أو بين النظرية والتجربة، ومركب جدلي منهما؛ فلا يستطيع أحد الجانبين - الفكر أو الواقع - إغفال الآخر بحال.
وقد جاء تتبع المفاهيم أو الركائز مواكبا لتتابعها التاريخي عبر مسار الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، وكانت الليبرالية هي أول ركيزة فرضت نفسها؛ فقد ارتهنت نشأتها بأفول العصور الوسطى وانهيار النظم الإقطاعية، حتى باتت الليبرالية تمثل معلما من معالم تجربة الحداثة الأوروبية، وتطورت على مدار تطورها، ثم أدى نموها ونضجها إلى ظهور التيار المقابل الذي يحاول تجاوز سلبياتها ومثالبها؛ أي الفكر الاشتراكي، فباتت الليبرالية بإطارها الرأسمالي تمثل فلسفة الأمر الواقع الذي ينبغي الحفاظ عليه، ولعل ارتباط الرأسمالية والليبرالية بالأمر الواقع أو العالم الواقعي المعاش يفسر لنا لماذا كان فيلسوف العلم والمعرفة التجريبية البارز في حقب متتالية من العصر الحديث هو فيلسوف الليبرالية البارز أيضا، فهكذا كان جون لوك ثم جون ستيوارت مل ثم برتراند رسل ثم كارل بوبر.
باتت الرأسمالية تمثل اليمين وما هو كائن، لتمثل المذاهب الاشتراكية اليسار؛ أي النزوع إلى التغيير والنقض وتحقيق ما يراه معتنقوها هو ما ينبغي أن يكون. إنه التقابل بين اليمين واليسار الذي حكم أطر الفلسفة السياسية الحديثة طويلا، حتى تساءل الفيلسوف الليبرالي أشعيا برلين
Isaiah Berlin (1909-1997م) في سبعينيات القرن الماضي عما إذا كان القرن العشرون قد عجز عن إنجاب أية فلسفة سياسية جديدة.
ظل هذا التقابل بين اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي ماثلا، حتى كان الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي، والمتغيرات التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين صوب ما سمي - حقا أو زورا - النظام العالمي الجديد، الذي يفتقر كثيرا للنظامية أصلا، لا سيما بعد ارتفاع وتيرة العولمة وسواها من مفاهيم صاخبة يموج بها الفكر السياسي الراهن، ليمثل ما سمي بالطريق الثالث؛ المفهوم الجدير حقا بالتوقف عنده.
ولعل من أبرز ما يميز الفكر والواقع وجدليتهما في قرننا الحادي والعشرين، هو انتهاء عصر المركزية الغربية وبروز مراكز حضارية أخرى، وعلى وجه الخصوص تمثل نهضة شرق آسيا ومعدلات التحديث والتصنيع والتنمية المتصاعدة هنالك مركزا متألقا ونموذجا يحتذى، ليس فقط مع العملاقين اليابان الرائدة والصين الواعدة، بل أيضا مع بقية النمور الآسيوية المنطلقة بعزم أكيد.
لقد اقترنت المركزية الغربية بالاستعمارية والإمبريالية، وهما نتيجة من نواتج النمو الرأسمالي الذي وطدت له الليبرالية. والاستعمارية بدورها من المرتكزات التي سوف نتوقف عندها، ثم عند أفولها وبروز عصر ما بعد الاستعمارية المرتهن بعصر ما بعد الحداثة، وتحديدا عند واحد من أهم التيارات الفكرية الراهنة؛ أي الفلسفة النسوية وموقفها النقدي الراديكالي الرافض للمركزية الغربية والاستعمارية، ورؤيتها لحقوق الأقليات والطبقات المهمشة والشعوب والثقافات المقهورة، وللعولمة في مقابل القومية، وأخيرا ننتهي عند نقطة ساخنة حقا وهي الدفاع المشبوب عن القومية العربية، كواقع وكمثال.
ولعل الصفحات المقبلة التي تتناول هذه الركائز بالعرض والنقد والتحليل تساهم في ترسيم معالم للفكر السياسي والفلسفة السياسية الحديثة في ذهن القارئ.
صفحه نامشخص
وبالله قصد السبيل.
أ.د. يمنى طريف الخولي
منيل الروضة في 15 يناير 2008م
أولا: اليمين واليسار
اليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي
بشكل عام، يمثل اليمين موقف المحافظين الراغبين في الإبقاء على الوضع القائم، بينما يمثل اليسار موقف الثوريين الراغبين في التغيير؛ إما التغيير الفابي
1
أي التدريجي، وإما التغيير الراديكالي أي الجذري.
أما بالنسبة لليمين الرأسمالي واليسار الاشتراكي، فقد تبلورت الليبرالية في القرن الثامن عشر لتكون فلسفة نبيلة تدافع عن منطلقات الرأسمالية والحق في الملكية، فقد كانت الليبرالية أصلا من أجل الدفاع عن الطبقة الوسطى، طبقة صغار الملاك (= البرجوازية؛ أي سكان المدن)
2
صفحه نامشخص
التي كانت طبقة نامية آنذاك، وللبحث عن الاعتراف الكامل بها، بسائر حقوقها في الحياة والحرية والملكية. هذا في مواجهة طبقة الإقطاعيين التي كانت مهيمنة أساسا على الحياة الاقتصادية، وبالتالي على سائر جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في العصور الوسطى، وقد زوت طبقة الإقطاعيين بانتهاء العصور الوسطى وإشراقة العصر الحديث.
هكذا كانت الليبرالية في أصولها فلسفة الطبقة البرجوازية وفلسفة الملكية، وبالتالي تعني الليبرالية - من حيث هي فلسفة للرأسمالية - أن ترفع الدولة يدها عن وسائل الإنتاج وتترك ملكيتها للأفراد في تنافسهم الحر وصراعهم؛ وذلك تحقيقا للمبدأ المعروف باسم مبدأ الاقتصاد الحر
Laissez faire ، والذي يعبر عنه الشعار الليبرالي/الرأسمالي الشهير: دعه يعمل، دعه يمر، إن العالم يسير من تلقاء نفسه.
بل وتعني الليبرالية في أصولها ألا تتدخل الدولة في العلاقات الاقتصادية بين الأفراد، أو بين الجماعات، أو بين الطبقات؛ فكان التنافس هو الصورة العامة للاقتصاد الليبرالي.
هكذا باتت الليبرالية تمثل اليمين والحفاظ على الأمر الواقع، فتدافع عن الملكية الخاصة والطبقة المالكة (= البرجوازية) وتجسد قيمة التنافس، بينما تمثل الاشتراكية اليسار، فتقوم من أجل الملكية العامة - ملكية الدولة لا ملكية الأفراد - لوسائل الإنتاج لتحقيق العدالة الاجتماعية، وبحثا عن تغيير الأمر الواقع لمداواة عيوبه، بله الثورة عليه وعلى أشكال الظلم والقهر فيه، إنها تدافع عن حقوق الطبقة العاملة (= البروليتاريا) وعن التقارب الطبقي إجمالا وتجسد قيمة التعاون.
وكما سنرى، كانت الماركسية من أشهر صور الفكر الاشتراكي وأكثرها تطرفا، وبالطبع الماركسية هي فلسفة البروليتاريا أو الطبقة العاملة، في حين أن الليبرالية هي فلسفة البرجوازية أو الطبقة المالكة، وفي هذا نلاحظ أن الفكر الاشتراكي عموما والماركسية خصوصا هي فلسفة شمولية، تضع نصب أعينها الطبقة والجماهير، فيضيع الفرد في غمارها، هذا بينما الليبرالية فلسفة فردية، تضع الفرد نصب أعينها وترفع اهتمامها بالفرد فوق اهتمامها بالطبقة، أو على الأقل لا تربطه بعجلاتها وتترك له حرية الاستقلال عنها وعن أهدافها ومطامحها، من حيث تترك له كل حرية متاحة؛ إن الليبرالية هي المسئولة عن سمة الفردية وتقديسها والإعلاء من شأن الفرد، هذه السمة التي تسود الحضارة الغربية.
أما من الناحية السياسية، فكانت غاية النظام الماركسي هي اضمحلال الدولة بوصفها دولة، ولأنها أداة اليمين، أداة الرجعية للحفاظ على البرجوازية؛ على الرغم من أن الماركسية نظام شمولي؛ وكان الفكر الفوضوي اللاسلطوي
anarchism
الذي ينادي بسقوط الدولة تيارا موازيا. وبينما نجد الليبرالية تعظم من شأن الفرد، وتحد من سلطة الدولة أو الجماعة، ومع هذا فإن الدولة في الليبرالية مؤسسة ضرورية لا غنى عنها البتة، ليس بوصفها غاية وإنما بوصفها وسيلة لتحقيق غاية أبعد تتمركز أخيرا حول الفرد، وهي تحقيق الأمن؛ النظام والقانون في الداخل، ودفع الأعداء الأجانب من الخارج؛ وذلك ضمانا للأجواء الصالحة لممارسة الحرية. ثم إن الدولة أداة لتحرير المواطنين من الجهل والمرض، عن طريق اضطلاعها بتقديم الخدمات التعليمية والصحية.
وكان النظام السياسي الماركسي هو الديكتاتورية - ديكتاتورية البروليتاريا - ولو حتى بصفة مؤقتة، ويقوم على أساس أن الجميع ارتضوا أيديولوجيا محددة واستكانوا إلى مذهب فلسفي معين. وفي مقابل هذا نجد النظام السياسي الليبرالي هو النقيض للديكتاتورية، ولأي استبداد بالسلطة أو انفراد بالرأي أو خضوع دوجماطيقي أو إلزام بمذهب معين؛ وذلك على أساس أن المبادئ النهائية التي تمثل الحقيقة الحقة لا وجود لها في إمكانيات البشر، ثمة فقط آراء تتفاوت صحة وبطلانا، وقصارى ما يستطيع الليبرالي تأكيده - كما أشار برتراند رسل
صفحه نامشخص
Bertrand Russell (1872-1970م) - هو أن ذلك الرأي يبدو له أصح من غيره؛ وبالتالي لا يغدو اختلاف الرأي مثارا للعداء وللزج في السجون والمعتقلات، ويتسع المجال للتسامح الديني وتحقيق الحرية الفكرية.
ما هي الليبرالية؟
على أساس الدفاع عن الحرية والرأي الآخر تعد الليبرالية أساس الديمقراطية، ويشهد التاريخ أنها هي التي كافحت وجاهدت من أجل إرساء أسس الحكم الدستوري، وأنها هي التي علمت البشر أصوله، ووجوب استقلال السلطات عن بعضها؛ السلطة التنفيذية (= الحكومة والوزارة القائمة) عن السلطة التشريعية (= البرلمان والنواب أي مجلس الشعب في مصر) وعن السلطة القضائية، وأيضا - بل وأصلا - دافعت الليبرالية عن استقلال المواطن نفسه ما دام ملتزما بالقانون، وإطلاق حرياته في كافة المجالات إلى أقصى حد ممكن؛ وأهمها حرية الرأي والدين والفكر والاعتقاد والقول والفعل، وحرية انتخاب من يمثله، وإبداء رأيه في الاقتراع العام؛ مع ضرورة إقرار أكبر قسط ممكن من الوسائل التي تحد من تعسف الحكومات وتطاولها على حرياته. •••
لعلنا لاحظنا أن «الليبرالية» هي «مذهب الحرية»؛ حرية الفرد، وهذا هو على وجه الدقة المعنى اللغوي لمصطلح الليبرالية
Liberalism ، المأخوذ من اللفظة حرية
Liberty
في الإنجليزية و
Liberté
في الفرنسية وسائر البدائل في اللغات الأوروبية ذات الأصل اللاتيني؛ فهي راجعة إلى الاسم اللاتيني حرية
Libertas ، المشتق من الصفة حر
صفحه نامشخص
Liber ، التي تشير إلى وضع اجتماعي يفيد منزلة رفيعة وسجايا كريمة، وأساسه الانعتاق من العبودية، وأيضا من الأسر والسجن والجزية، كما تشير الصفة حر
liber
أيضا إلى غياب القهر والقسر والإرغام والإجبار والإكراه، في الفعل أو في الاختيار أو القرار ... إلخ، وسائر معوقات الحرية. الليبرالية إذن هي مذهب الحرية اسما ومضمونا. •••
على أن الحرية في واقع الأمر لم تكن هي الدافع أو المشكلة الملحة. المشكلة الحقيقية التي تستنفر الجميع لحلها، والتي هي أساس كل تنازع أو اختلاف حول يمين ويسار ووسط، هي مشكلة الملكية؛ أي حق الفرد في التملك أو الامتلاك، وليس المقصود طبعا امتلاك المقتنيات الشخصية والسلع الاستهلاكية كالملابس والأثاث وما إليه، بل المقصود ملكية وسائل الإنتاج كالمزارع والمراعي والمصانع والشركات والمتاجر الكبرى والمصارف.
اليمين، أي النظام الرأسمالي، هو الذي يترك ملكيتها للأفراد، وبطبيعة الحال الذي يقضي بكثرة عدد الأفراد وقلة عدد موارد الإنتاج، لن يتملك كل شخص، بل فقط قلة أو طبقة معينة هي طبقة الملاك أو البرجوازيين أو الرأسماليين. أما اليسار، أي النظام الاشتراكي، فهو الذي يرفض هذا، ويصر على أن تبقى سائر موارد الإنتاج ملكا لكل شخص وللا شخص، أي ملكية عامة للدولة أو للجماعة. وبين هذا وذاك نجد الوسط وهو النظام المطبق في معظم دول العالم يجعل بعضا من موارد الإنتاج - خصوصا الأساسية والحيوية والاستراتيجية - ملكا للدولة، ويترك بعضها الآخر ملكا للأفراد في تنافسهم الحر، ويكون تأرجح الوسط تجاه اليمين أو تجاه اليسار تبعا لحجم الموارد المتروكة للأفراد وتلك التي تسيطر عليها الدولة، وأيضا مدى وحدود هذه السيطرة.
لقد قامت الليبرالية أساسا لكي تؤكد حق الفرد في الملكية، وأنها - أي الملكية - غريزة فطرية قد تعلو على كل الغرائز الأخرى؛ لذلك وأدها مستحيل أو على الأقل خطر محقق على الحياة الإنسانية السوية، وقصارى ما يمكن هو تحديدها بحدود وربطها بواجبات والتزامات، كالضرائب والجمارك وحقوق الطبقة العاملة التي لا تملك، وقال الليبراليون في هذا الصدد قولة عجيبة مفادها أن الشخص قد يتسامح في مقتل أبيه ولكنه لا يتسامح في الاستيلاء على ممتلكاته.
في مقابل هذا نجد الماركسية قد سميت الشيوعية
Communism ، أي أقصى صور اليسار أو الاشتراكية؛ لأنها تقوم من أجل إلغاء الملكية الفردية - أي الملكية الخاصة - وإشاعة الملكية بين الجميع عن طريق تحقيق الملكية العامة لوسائل الإنتاج؛ هذه الملكية العامة في رأي الماركسية، وفي الفكر الاشتراكي عموما بمتغيراته الجمة ومذاهبه العديدة، هي المفتاح الذهبي لحل كل المشاكل والخلاص من كافة البلايا والنوائب والتصدعات التي تشوب البنيان الاقتصادي والسياسي، ومن ثم الاجتماعي.
هكذا نجد أن الملكية هي مربط الفرس والمشكلة الأم التي تشغل الجميع ، وباسمها تفرقوا إلى يمين ويسار متصارعين، وهي في الواقع أساس التنظيم الطبقي والاجتماعي عموما، وهي التي ربطت الاقتصاد والسياسة برباط عضوي؛ فالاقتصاد هو علم تنظيم الثروة في المجتمع، والسياسة هي علم تنظيم القوة في المجتمع، والثروة (= الملكيات) هي الوجه الآخر للقوة، حتى إن كلمة سلطة في الإنجليزية
authority ، وبسائر بدائلها في اللغات الهندوأوروبية، مشتقة من الكلمة اللاتينية
صفحه نامشخص
auctor
التي تعني المالك أو المحدث أو الممارس للحق؛ ومن هنا كان زيوس عند الإغريق - ونظيره جوبيتر عند الرومان - إله كل الآلهة، لأنه مالك الملك وصاحب السلطة على الآلهة والبشر على السواء.
أصول الليبرالية
في العهود البدائية السحيقة من عمر البشرية، لم يكن ثمة بالطبع بنيان اجتماعي اقتصادي سياسي؛ ذلك لأنه لم يكن ثمة ملكية. وعلى حد تعبير طريف لأحد رواد الفكر الليبرالي هو جان جاك روسو (1712-1778م) أتت المشكلة من أول وغد وضع سياجا حول قطعة أرض، وقال هذه لي ولا شأن للآخرين بها، إنها ملكي! وقبل أن يأتي هذا الوغد لم يكن ثمة ملكيات، ولا حاجة لتنظيمها والحفاظ عليها؛ أجل كان ثمة فوضى، لكن كان الجميع أحرارا متساوين.
وحين استكمل الإنسان خروجه النهائي من فصيلة الحيوان، وبدأ يمارس أولى أنشطته الاقتصادية كالتقاط الثمار وصيد الحيوان ثم الزراعة، عرف قيمة العمل والإنتاج؛ وكان يحدث أن يسطو فرد كسول على إنتاج فرد آخر نشيط، وهو سطو قد يقتضي التعدي على الحياة ذاتها، مما جعل الإنسان على استعداد لهجر هذا الوضع المليء بالمخاوف والأخطار، حتى ولو كان هجرا يقتضي التنازل عن قطاع كبير من حريته للحاكم وللآخرين، إنقاذا للبقية الباقية من هذه الحرية. لقد ارتضى الجميع الدينوية لقوة أعلى تملك حق عقاب الخارجين والفصل بين المتنازعين، فيأتمر بأمرها جميع الأطراف. هكذا عرف الإنسان نظام الحكم والسلطة السياسية في المجتمع، والتي تطورت أيما تطور عبر تاريخه الطويل.
على هذا التفسير الأنثروبولوجي البسيط لنشأة الاقتصاد والسياسة، أي لنشأة تنظيم الثروة وتنظيم القوة في التجمع البشري، ترتكز الأسس الليبرالية، السياسية والاقتصادية على السواء.
فمن الناحية السياسية نلاحظ أن المسألة عقد - ولنضع خطا تحت عقد - بين الحاكم والمحكومين، ليقوم الحاكم بدور معين في تنظيم حياتهم، نشدانا لظروف أفضل للاجتماع الإنساني ولحياة البشر سويا؛ إنها فكرة العقد الاجتماعي التي اهتم بها الفلاسفة الليبراليون، خصوصا جون لوك وجان جاك روسو - وفيما بعد الفيلسوف جون رولز - أيما اهتمام؛ وذلك ليحدوا من طغيان الملوك ويلزموهم بحدودهم، ليخبروهم بأنهم في خدمة الشعب وليسوا ملاكا لقطيع.
وحقا إن فيلسوف الديكتاتورية الإنجليزي توماس هوبز
Thomas Hobbes (1588-1679م) قد سبقهم في الاهتمام بفكرة العقد الاجتماعي، ليصل إلى نتائج مخالفة كثيرا، إلا أن مقتضى الفكرة على كل حال هو أن تفسير نشأة السلطة الحاكمة، وأيضا طبيعتها ودورها أولا وأخيرا، عقد بين الحاكم والمحكومين الذين يدينون له بالولاء والطاعة، فقط ليقوم بدور معين في حياتهم - كما ذكرنا، بحيث إنه إذا عجز أو فشل أو انحرف في أداء هذا الدور الذي خوله له المحكومون، أصبح من حقهم عزله وإبرام عقد جديد مع حاكم آخر.
من هنا انطلقت الليبرالية - مسلحة بفكرة العقد الاجتماعي - لتؤكد رفض حق الملوك الإلهي في الحكم، أو أنهم ورثة الله على الأرض كما كان شائعا في العصور الوسطى الإقطاعية والعصور القديمة. بهذا الرفض الذي أصبح الآن أمرا مسلما به، بل وبديهية في غير حاجة إلى الذكر فضلا عن النقاش، أنجزت البشرية بعضا من أعظم خطوات التقدم الاجتماعي في تاريخ البشر. لقد استبدلت حكم القانون بحكم الفرد، وجعلت الشعوب مواطنين لا رعايا، واستطاعت أن تسير قدما في هذا الصدد مرسية الدعائم الحديثة للحكم الديمقراطي المنشود، وتأكيد حق المواطنين في الإشراف على الحكم من خلال ممثلين مختارين أو نواب، ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث - التنفيذية والتشريعية والقضائية - والذي أصبح الأساس الديمقراطي المكين بعد أن وضع مونتسكيو (1689-1755م) كتابه الخالد ذا الأجزاء الثلاثة «روح القوانين». ودأبت الليبرالية على وضع أقصى ضمانات ممكنة لضبط ممارسة السلطة لعملها، وللحيلولة بينها وبين صور الانحراف السلطوي التي شد ما عانت منها العصور الوسطى والقديمة، كالعسف والظلم والديكتاتورية وتكديس الأموال بلا حدود وبلا قانون.
صفحه نامشخص
وعلى نفس ذلك التفسير الأنثروبولوجي البسيط يعود أيضا الاقتصاد الليبرالي ، والذي يمكن أن نعتبر مركزه ومحوره - كما أوضحنا - هو الاعتراف بحق الفرد في الملكية بل وتأكيد هذا الحق.
ولنلاحظ أن الملكية كانت تعني في البداية ملكية ناتج العمل. العمل امتداد مباشر لشخص الإنسان، أما الأرض ومواردها فهبة إلهية وهبها الله لعباده أجمعين. في البداية كان البشر قليلين، والأراضي شاسعة جرداء مواردها وفيرة، أكثرها عادم لا يجد مستغلا أو مستثمرا، لا مشاحنة خطيرة في توزيعها وهي كل موارد الإنتاج آنذاك.
وحتى منشأ الليبرالية في القرن السابع عشر، كان هذا هو الوضع إلى حد ما، مما جعل رائد الليبرالية جون لوك يتحدث عن الملكية بوصفها حق كل فرد في تحويل قطعة جرداء من الأرض بفضل عمله إلى مزرعة مثمرة ومنتجة، أي مورد إنتاج أو وسيلة إنتاج؛ إنه إذن الحق الطبيعي في ناتج العمل الذي لا نقاش فيه، لا من قبل أهل اليمين الليبراليين ولا من قبل أهل اليسار الاشتراكيين، ولا حتى من الشيوعيين الذين رفعوا - ضمن شعارات عديدة لهم - شعارهم الشهير: «الأرض لمن يزرعها»، وإن كان بالطبع شعارا رفع في ظروف مغايرة ولأهداف مغايرة.
بيد أن حياة الإنسان قصيرة، ووسائل الإنتاج مستمرة، وطالما أن حقوق الملكية الفردية مكفولة ومصونة، فسوف يتلقاها الورثة الشرعيون بغير جهد ولا فضل، بغير عمل وجهد، وإذا أضافوا إليها عملا، فقد تركوها لورثتهم مضاعفة، وهي قد تتضاعف بغير عمل؛ فمن طبيعة وسيلة الإنتاج - كالأرض الزراعية وقطيع الأغنام مثلا - أنها مثمرة ولود؛ وتتراكم الثروات وتنمو عبر الأجيال، مما أدى إلى تضخم الملكيات ورءوس الأموال بصورة استنفرت الجميع من أجل التنظير الاقتصادي السياسي، خصوصا بعد ما تفاقم الأمر بالثورة الصناعية.
مع الثورة الصناعية تضاعفت إمكانيات تشغيل رأس المال واستغلال الطبقة العاملة بصورة مهولة، فتبلورت كافة مساوئ النظام الرأسمالي، التي بلغت الذروة بظهور الاستعمار والإمبريالية الحديثة، ثم أدى التقدم العلمي التكنولوجي إلى قيام الصناعات الضخمة المتكاملة التي هي في غير حاجة لمهارات صغار العمال.
هذه الصناعات الضخمة المتكاملة القادرة على ابتلاع صغار المنافسين؛ لقد اكتسبت القدرة على الاحتكار، أي الانفراد بسوق السلعة، وبالتالي التحكم المطلق فيها وفي ثمنها، وهذا أدى إلى جعل الجميع - عمالا أو منتجين أو مستهلكين - فريسة سهلة لجشع أصحاب المال والأعمال، ثم إن الاحتكار الذي استشرى بصورة واسعة مع مطالع القرن العشرين كان كفيلا بأن يفقد الرأسمالية طابعها المميز الذي تنادي به وتدافع عنه الليبرالية، أي التنافس.
هكذا كان النتاج التاريخي لترك الملكيات الخاصة تنمو وتتراكم لا يبعث على الاطمئنان لأسس الليبرالية، خصوصا وأنه من الناحية الأخرى يولد من لن يرثوا شيئا، ولن يجدوا قطعة أرض ليجعلوها بواسطة عملهم وجهدهم وسيلة إنتاج. إن تعداد البشر يتزايد بصورة رهيبة، أو بمتوالية هندسية حسب تعبير مالتوس، والأرض ما زالت كما هي، وربما تعرضت لنحر البحر أو للتصحر، ولم يعد ثمة أية قطعة أرض أو مورد للإنتاج ليس ملكا لشخص أو لهيئة أو لدولة؛ وأصبح من المؤكد أن الشخص المعدم سوف يهلك جوعا قبل أن يجد قطعة أرض جرداء يحولها بواسطة عمله إلى وسيلة إنتاج تعد من ممتلكاته الشخصية؛ والمحصلة أن العمل ذاته قد أصبح مجرد سلعة يبيعها الشخص ليجد قوت يومه، أو أكثر أو أقل؛ ويا ليت هذا فحسب، بل أصبحت المشكلة الملحة هي إيجاد سوق لهذه السلعة المسماة بالعمل، والتي لا تملك الأغلبية العظمى شيئا سواها؛ إنها المشكلة المعروفة باسم البطالة والتي تؤرق العالم أجمع شرقا وغربا.
وقد بدأت مشكلة البطالة تميل إلى مؤشرات خطيرة منذ بداية العصور الحديثة، بل وقبيل أفول عصر الإقطاع؛ إذ انتشرت في تلك الآونة ظاهرة عرفت باسم ظاهرة «التسييج أو التسوير»؛ وهي أن يأتي واحد من الأشراف أو من ذوي البأس والنفوذ ليضع سياجا أو سورا حول قطعة أرض كانت في الأصل مشاعا يقطنها مزارعون ورعاة بسطاء فقراء يستخرجون منها بالكاد قوت يومهم، فتصبح الأرض ملكا خاصا لذلك الذي قام بتسييجها، ويهجرها قاطنوها البسطاء إلى المدن، والمدن تعاني أصلا من البطالة، فأصبح الذين لا يجدون عملا يقتاتون منه جحافل وجيوشا؛ ثم أخذت جحافل البطالة تنمو نموا سرطانيا مع نشأة وتطور التقدم العلمي التكنولوجي الذي استبدل بالصناعات اليدوية أنظمة التصنيع الآلي؛ فهي أولا تستغني عن عدد كبير من العمال، وثانيا تتمكن من استغلال النساء والأطفال بأجور زهيدة، أقل كثيرا من أجور الرجال الأصحاء ذوي القوة والقدرة على التحمل. هكذا تفاقمت البطالة، وتبعا لقانون العرض والطلب الذي سيظل دائما يحكم كل السلع في كل الأسواق، أصبح عمل الطبقة الكادحة - العمال المطحونين أو البروليتاريا - سلعة بخسة لا تكاد تفي بقوت اليوم، ولا أبسط مقتضيات الحياة الكريمة؛ ودع عنك تكوين الملكيات الخاصة والثروات.
لقد تبلورت مساوئ الرأسمالية، فتصاعد النقد الموجه لها؛ ظهر الفكر الاشتراكي لمواجهة ليبراليتها، بمذاهبه العديدة، مثل: الإيكارية والبلانكية والسان سيمونية والطوباوية والراديكالية والأكاديمية والتعاونية والفابية والفوضوية اللاسلطوية والماركسية ... إلخ. هكذا نجد المنظور الأنثروبولوجي ونموه وتطوراته أسهم بدوره في إعطاء التفسير لنشأة الصراع بين اليمين واليسار، ولكن ماذا عن نشأة الفكر الليبرالي وتطور الفلسفة الليبرالية؟
تطور الفلسفة الليبرالية
صفحه نامشخص
الليبرالية كما ذكرنا هي «مذهب الحرية»، ولم يعرف تاريخ الفكر ولا حتى تاريخ اللغة مصطلحا أشد هلامية وفضفضة من مصطلح الحرية؛ لذلك لا بد أن نتوقع من الليبرالية أن تعطينا قائمة طويلة من فلاسفة تتباين مشاربهم، ومن تنظيمات سياسية اقتصادية تختلف فيما بينها إلى حد ما.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن كل دول وسط وغرب أوروبا تقريبا تمثل حقب من تاريخها روافد في نهر الليبرالية، ولا تعدم دولة في غرب أوروبا فيلسوفا أدلى بدلوه في التنظير لليبرالية، وتبقى فرنسا صاحبة باع أعظم وقدح معلى، تليها ألمانيا. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد كانت منذ نشأتها الشيطانية المهجنة وحتى الآن معقلا من معاقل الليبرالية، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودينيا؛ فضلا عن أن الثورة الأمريكية كانت، كرائدتها الثورة الفرنسية، مجرد ترجمة عملية أو محض تطبيق للمبادئ الليبرالية، خصوصا السياسية منها.
لكن على الرغم من كل هذا وذاك، فإن الليبرالية أساسا نبتة إنجليزية أصيلة، إنها أحد الدروس التي تلقتها البشرية على يد هذه الأمة العريقة التي علمتها أصول التنظير السياسي الحديث، ربما من حيث علمتها أصول العلم الحديث والمنهج العلمي؛ فكان أول سك واستعمال وتداول لمصطلح الليبرالية في إنجلترا مع بدايات القرن الثامن عشر.
وقد لاحت بشائر الليبرالية كواقع عملي وكمثال نظري في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، أي مع أفول العصر الإقطاعي وبداية العصر البرجوازي؛ وأرهصت بها بعض من كتابات مفكري هذه الحقبة، وأهمهم الإيطالي ميكيافيللي والإنجليزي توماس مور، وإن كان هذا الأخير قد لوح باشتراكية اقتصادية من بين طيات ليبرالية سياسية واجتماعية.
على أية حال لم تتبلور الفلسفة الليبرالية إلا بعد أن تبلور النظام البرجوازي الرأسمالي ذاته، والذي تعد الليبرالية المتحدثة الرسمية باسمه، أي بعد ذلك بقرنين من الزمان في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، حيث كانت نشأة مصطلح الليبرالية، في إنجلترا كما ذكرنا.
كان مصطلح الليبرالية آنذاك ذا مغزى سياسي بحت، ولا يخلو من روابط مع الثورة على سطوة المؤسسات الدينية، وهيمنتها على سائر مناحي الحياة النظرية والعملية في أوروبا. إنها الثورة التي بدأت منذ بدايات عصر النهضة وعصر الإصلاح الديني في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ونمت واشتد عودها في القرن السابع عشر باطراد التقدم العلمي، والإيمان بالعقل وقدرة الإنسان ورشده، واستغنائه عن الوصاية، ولم يعد ثمة حرج في الحديث عن حرياته والدعوة إليها والمطالبة بها جهارا نهارا.
الفيلسوف الرائد: جون لوك
كانت الأجواء إذن تنبئ بمجيء الأب الروحي لليبرالية، أي الفيلسوف الإنجليزي جون لوك
John Lock (1632-1704م) فيلسوف المعرفة التجريبية الذائع الصيت، صاحب القول الشهير: «الحياة، الحرية، الملكية» الذي يلخص مبادئ الليبرالية؛ وبالتالي أصبح شعارا لها يؤكد على العلاقة بله الترابط بين الحرية الشخصية والملكية الخاصة.
أكد جون لوك أن الملكية حق من أهم الحقوق الطبيعية التي قامت الدولة من أجل تأمينها، والأصل فيها هو ملكية الإنسان لشخصه، وبالتالي لناتج عمله، على أن الملكية لن تقتصر على هذه الحدود، بل تمتد إلى موارد الإنتاج ذاتها؛ وتفاوت الملكيات في المجتمع راجع إلى تفاوت قدرات الأفراد في العمل، وتفاوت طاقات جهدهم وملكاتهم وإمكانياتهم وذكائهم ومواهبهم.
صفحه نامشخص
بهذا التبرير، الذي يبدو مقنعا، للملكية الخاصة الممتدة إلى موارد الإنتاج، وأيضا لتفاوتها بين شخص وآخر، كانت الليبرالية مع إمامها جون لوك؛ إنه يصوغ الليبرالية ويشكلها على أساس فكرة سادت القرن الثامن عشر تعرف باسم «القوانين الطبيعية»؛ ومؤداها أن ثمة قوانين طبيعية تحكم حياة البشر وتجمعاتهم وأنشطتهم، وتنظمها بصورة تلقائية، ويمكن لأي فرد أن يكتشفها باستبطان ذاته، ليجد مثلا أنه هو نفسه في تصرفاته وعلاقاته وتعاملاته الاجتماعية محكوم بقوانين طبيعية، كقانون «المحافظة على الذات» وقانون «التعاون مع الآخرين». والواقع أن فكرتي العقد الاجتماعي والقوانين الطبيعية هما الأساس الفلسفي لليبرالية؛ العقد الاجتماعي أساس السياسة الليبرالية، والقوانين الطبيعية أساس الاقتصاد الليبرالي، وهما بالتالي محورا الفكر الاجتماعي لجون لوك.
وكانت فكرة القوانين الطبيعية هي حيثيات دفاع جون لوك عن الملكية الخاصة، وأنه لا خوف منها مهما تضخمت، فهي محكومة بقوانين طبيعية، أي بحدود تلقائية طبيعية ومعقولة، أبسطها أن قدرة الفرد على العمل محدودة.
هكذا نلاحظ أن الملكية التي دافع عنها جون لوك كانت أساسا ملكية ناتج العمل، حتى إنه جاهر أن الدولة يجب عليها تأمين حدود التفاوت في الملكيات بحيث تضمن ألا يجور شخص على آخر، فيمتلك ما لا يرجع إلى جهده، وأننا إذا افترضنا جدلا أن ملكية شخص ما زادت على ناتج عمله، فإن هذه الزيادة ليست من حقه بل من حق الآخرين.
هذا حسن! ولكن كيف يمكن إلزام الواقع به من دون الخروج على مقتضيات الليبرالية التي أرادها جون لوك؟! يصعب أن تسعفنا القوانين الطبيعية في هذا الصدد.
الفيزيوقراطيون الفرنسيون
وقد حمل لواء الليبرالية في القرن التالي على جون لوك - أي في القرن الثامن عشر - جماعة من الاقتصاديين الفرنسيين، عرفوا باسم الفيزيوقراطيين أي أنصار الحكومة الطبيعية، وهم يمثلون أقوى اعتقاد بفكرة القوانين الطبيعية؛ فكما توجد قوانين عامة تحكم الطبيعة، ثمة قوانين عامة تحكم المجتمع.
أهم القوانين التي تحكم المجتمع قانونان: (1)
قانون المنفعة الخاصة التي تجعل كل فرد يعمل على تحقيق مصلحته الخاصة. (2)
قانون المنافسة الحرة ومؤداه أن كل فرد مجبول على منافسة الآخرين ومحاولة التفوق عليهم.
الثاني، أي قانون المنافسة الحرة ، يمثل ضوابط للأول أي لقانون المنفعة الخاصة؛ بعبارة أخرى قانون المنفعة يكفل تحقيق الصالح الخاص وقانون المنافسة يكفل تحقيق الصالح العام؛ أي أنهما معا يوفقان بين الصالح الخاص والصالح العام في آن واحد.
صفحه نامشخص
الله هو واضع هذه القوانين الطبيعية، والله عادل وخير، يريد الخير لعباده أجمعين؛ ومن ثم وجب أن تكون هذه القوانين عادلة فيها الخير للبشر، ويستحيل أن
تركن إليها، فلا تحاول عرقلتها بالقوانين البشرية الوضعية التعسفية. قوانين الله - القوانين الطبيعية - كفيلة بتحقيق الخير والعدل للبشر أجمعين، وأي إنكار لهذا كفر وتجديف.
فلترفع الدولة يدها تماما عن النشاط الاقتصادي، وتتركه للأفراد في تنافسهم الحر بحثا عن منفعتهم الخاصة، أي تترك حريات الأفراد الاقتصادية تحقيقا للمبدأ: «دعه يعمل، دعه يمر، إن العالم يسير من تلقاء نفسه.» وهذا المبدأ الشهير الذي يعد شعار الليبرالية الاقتصادي من وضع فنسنت دي جورناي، وهو واحد من هؤلاء الاقتصاديين الفرنسيين.
ونتيجة لاطراد التقدم العلمي التكنولوجي، وتطور الأوضاع السياسية والاجتماعية وتعقد البنيات، سرعان ما تغيرت مقتضيات الحياة الاقتصادية وأنظمة العمل والإنتاج، مفصحة عن سذاجة فكرة القوانين الطبيعية والركون إليها، وسذاجة تفاؤل جون لوك وأولئك الفيزيوقراطيين الفرنسيين، وأصبحت رؤاهم يشوبها القصور، واتضح أن نظرية جون لوك ببساطة لم تعد تطابق الأوضاع والأحوال.
الاقتصاديون الكلاسيكيون
نهض مع مطلع القرن التاسع عشر جماعة جملتهم إنجليز، تواتروا حتى القرن العشرين، وسموا باسم الاقتصاديين الكلاسيكيين؛ وهم في الواقع من الآباء الشرعيين لعلم الاقتصاد الحديث بأسره، منهم ديفيد ريكاردو وجيرمي بنتام ومالتوس وساي في القرن التاسع عشر، وألفرد مارشال وتشارلز جيد وتشارلز رست في القرن العشرين؛ على أن رائدهم الحق هو مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث (1723-1790م) الذي يعد الأب الروحي للاقتصاد الليبرالي الحديث، وهو في واقع الأمر الأب الروحي لعلم الاقتصاد بأسره، وضع في كتابه الشهير «ثروة الأمم» أصولا للاقتصاد الليبرالي متمشية مع التغيرات الحادة في أوضاع الملكية والعمل والإنتاج، التي صاحبت القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
الاقتصاديون الكلاسيكيون لا يقيمون ليبراليتهم - أو دعوتهم للحرية الاقتصادية - على أساس العناية الإلهية الخيرة وما تبثه في الكون من قوانين طبيعية لصالح البشر، بل على أساس وجود نوع من التوافق الطبيعي بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، كفيل بتحقيق التوازن الطبيعي مهما أطلقنا الحريات؛ مثلا: الصانع يبحث عن أجر أعلى لصناعته كي يحقق مصلحته الخاصة، فيضطر لتجويدها لكي ترتفع قيمتها، فيحقق مصلحة عامة بإيجاد سلعة جيدة الصنع؛ مثال آخر: الصانع يبحث عن سرعة دورة رأس المال - عن عملاء يبيعهم بضائعه لكي يحقق مصلحته الخاصة، ولكي يجتذبهم فإنه يعمل على خفض الأسعار، فيحقق مصلحة عامة؛ وهكذا.
على هذا يمكن بل يجب إطلاق حريات الأفراد في نشاطهم الاقتصادي؛ والتوازن التلقائي الذي يكاد يمثل يدا خفية تحكم السوق، كفيل بتحقيق الانضباط المنشود، ولا حاجة لتدخل الدولة فضلا عن سيطرتها على وسائل الإنتاج.
ولكن ماذا عسى أن يكون هذا التوازن التلقائي سوى قانون طبيعي؟ وهل ثمة اختلاف حقيقي بين القانون الطبيعي والتوازن التلقائي اللهم إلا في المصطلحات؟
على أية حال أسس الاقتصاديون الكلاسيكيون علما يبحث في قوانين هذا «التوازن التلقائي»، فكان ميلاد علم الاقتصاد الحديث في بداية القرن التاسع عشر؛ ليتطور ويتشعب كثيرا، لا سيما بعد أن انضمت إليه جهود الاقتصاديين الاشتراكيين وأشهرهم بالطبع كارل ماركس؛ ليغدو الاقتصاد الآن علما ضخما واسعا متشعبا، متعدد الأصول والفروع، يستوعب الليبرالية والاشتراكية، والوسط بينهما ونقائضهما وما لا علاقة له بكليهما.
صفحه نامشخص
ومنذ العقود الأخيرة في القرن العشرين باتت السمة الغالبة على الليبرالية المعاصرة هي أنها تراجعت تماما عن إصرارها على ألا تتدخل الدولة إطلاقا في الأنشطة الاقتصادية، وسلم الجميع بوجوب وضع قوانين توجه الأنشطة الاقتصادية للصالح العام، وتحفظ حقوق الطبقة العاملة التي لا تملك، وأيضا حقوق المستهلكين. إنها الآن تتخذ موقفا وسطا أبعد عن الرجعية المحافظة وأقرب إلى الاشتراكية التي كانت قوة كابحة لها، بلغت مداها مع إعصار الماركسية الذي علا وخبا؛ فماذا عن هذا؟
الاشتراكية
النظريات والمذاهب الاشتراكية عديدة مديدة، لعل أوجه الاختلاف بينها أكثر من أوجه التقارب، ربما كانت الماركسية أشهر وأهم النظريات الاشتراكية، إلا أنها ليست الأوسع انتشارا على أرض الواقع الذي يشهد صنوفا شتى من الأحزاب الاشتراكية، والتطبيقات الاشتراكية والتشريعات الاشتراكية.
فما هي الاشتراكية؟
هي نظام اجتماعي واقتصادي يحاول أن يكون عادلا بأن يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، منعا لاستغلال أقلية من الملاك لأكثرية عاملة؛ قد تتخذ هذه الملكية العامة شكل ملكية الدولة، كاشتراكية كارل ماركس (1818-1883م)، أو الملكية التعاونية كاشتراكية سان سيمون (1760-1825م) في فرنسا وروبرت أوين (1771-1825م) في إنجلترا، التي تؤكد على عدم تركيز رأس المال في أيد قليلة، أو ملكية الجماعة كاشتراكية شارل فورييه (1772-1858م) الذي رأى أن الإنسان خير بطبعه وليس في حاجة إلى القمع، وأن ارتكابه للأخطاء والجرائم بسبب خلل في المجتمع وليس فيه؛ لذلك كان شارل فورييه فوضويا لا سلطويا، حارب مفهوم الدولة، وقال إن شموليتها واتساعها يقودان إلى المركزية والبيروقراطية، ورأى أن ينقسم البشر إلى جماعات صغيرة أسماها «الزمر»، تمثل كل جماعة وحدة إنتاجية تكفي احتياجات أعضائها، ويعمل كل فرد فيها بواعز من ضميره ساعات عمل قليلة، وتكون الملكية مشاعا بينهم.
ثمة أيضا الاشتراكية الفابية، وهي حركة إنجليزية تنتمي لأقدم جمعية اشتراكية في العالم، وتمثل واحدا من أقوى تيارات الاشتراكيات اللاماركسية التي ترفض الثورة الدموية والانقلاب الكلي المفاجئ إلى المجتمع الشيوعي اللاطبقي؛ وقد اتخذت اسمها نسبة إلى القائد فابيوس الذي انتصر على هانيبال عن طريق استراتيجية مؤداها ألا يهاجم الجيش ككل أبدا، بل ينتظر ريثما تأتي اللحظة المناسبة فينفرد بميمنة الجيش، حتى إذا فرغ منها وتركها حطاما انتقل إلى الميسرة ثم المقدمة وهكذا، وفي النهاية كان له النصر.
هكذا يتبنى الاشتراكيون الفابيون استراتيجية تدريجية لتحقيق المجتمع الاشتراكي وإلغاء الفقر، عن طريق التشريع والإدارة وسيطرة المجتمع على إنتاجه وعلى حياته؛ وذلك على أساس أن تكون الاشتراكية أولا ديمقراطية تتحقق عن طريق قبول الأغلبية والقرارات التي تحظى بأعلى نسبة في الاقتراع العام؛ لذلك لا بد أن تكون السبل ممهدة في عقول الجماهير، فينبغي العمل على تنويرها بالحقائق الواقعية عن أوضاع العمال، والدعوة إلى الاشتراكية والإقناع بها، وتكون هذه الاشتراكية - ثانيا - تدريجية حتى لا تسبب قلقلة واضطرابا في الأوضاع؛ وتكون - ثالثا - دستورية سلمية؛ ورابعا لا تعتمد على أية قرارات يعتبرها الجمهور لا أخلاقية، من قبيل استلاب الملكيات الخاصة عنوة، أو مهاجمة الدين والمؤسسات الدينية.
وقد تبلور الفكر الاشتراكي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نتيجة لتفاقم مساوئ النظام الرأسمالي، خصوصا بعد قيام الثورة الصناعية، وبداية الهجرة من الريف، وزيادة حجم الطبقة العاملة، وزيادة إمكانية استغلالها بصورة بشعة، تطرقت حتى استغلال النساء والأطفال بأجور منخفضة وساعات عمل طويلة، تستغرق هي وساعات النوم كل عمر العامل، بلا أية ضمانات أو تأمينات، مما جعل استغلال العمال شكلا آخر من أشكال العبودية.
الماركسية
كان كارل ماركس هو الفيلسوف الاشتراكي الذي استطاع أن يخرج بفلسفته من قاعات البحث الأكاديمي، ويجعلها تدفع من يؤمن بها إلى حد بذل الحياة من أجل تحقيقها، وتؤرق من لا يؤمن بها، بحيث كانت حتى العقد قبل الأخير من القرن العشرين صداع العالم المزمن.
صفحه نامشخص
وذلك لأن الماركسية وضعت من أجل تغيير الأوضاع؛ فقد آمن ماركس بأن ما تقاسيه الطبقة العاملة لا يرجع إلى ظلم أفراد لأفراد، بقدر ما يرجع إلى النظام الاجتماعي الفاسد الذي لا بد من تغييره؛ فكان بهذا مخالفا لسنة الفلاسفة في الاقتصار على محاولة الفهم والوعي والتوضيح، دون محاولة التغيير. وقد أكد ماركس أن الإنسان لكي يستطيع أن يغير العالم يجب عليه أولا فهم المادة التي يتناولها فهما علميا، فتصبح سيطرته على تطور المجتمع أشبه بسيطرته على سير الطبيعة. وضع ماركس أساس هذا الفهم بما أسماه المادية الجدلية
Dialectical Marterialism .
المادية - وهي أسبق في فكر ماركس من الجدلية - هي المذهب الذي يفسر كل شيء بالعلل المادية وحدها، وهي هنا مادية تاريخية؛ بمعنى أنها لا تؤمن بأية عوامل غير مادية لتطور المجتمع وتحرك التاريخ، لا علمية ولا فلسفية ولا دينية ولا غيرها، فكل هذا بنية فوقية، ما يحركها ويحرك التاريخ هو البنية التحتية التي تكمن خلفها، وهي العوامل المادية؛ أي الأحوال الاقتصادية التي تتمثل في صورتين:
قوى الإنتاج: أي المصادر الطبيعية كالمواد الخام والطاقة ورأس المال والتكنولوجيا والأيدي العاملة.
علاقات الإنتاج: أي التقسيم الطبقي للمجتمع، فما يضفي على المجتمع طابعه المعين هو نظام العلاقات التي تحكم عملية الإنتاج فيه.
تلك العوامل المادية هي القوة الأساسية التي تحدد هيئة المجتمع وطابع التنظير الاجتماعي والاقتصادي فيه، وتقرر تطور المجتمع من نظام إلى آخر؛ فهي أسلوب الحصول على وسائل المعيشة الضرورية لحياة الناس، أي أسلوب إنتاج الحاجات المادية الضرورية كالغذاء والملبس والمسكن. لقد استفاد ماركس كثيرا من أبحاث لودفيج فويرباخ
L. Feuerbach (1804-1872م) في إثبات هذه المادية، وفي دحض الفكر الديني واعتباره أفيون الشعوب من حيث يجعلها تساعد على تسكين الأمر الواقع الفاسد، ممنيا إياها بالجزاء في الحياة الآخرة.
غير أن ماركس مع كل هذا لم يعتبر المادية التاريخية مذهبا فلسفيا جديدا، بقدر ما كان يعتبرها أسلوبا علميا مفيدا في التحليل الاجتماعي والتاريخي، وقاعدة للاستراتيجية السياسية؛ فهي أساس الفهم العلمي لمسار التاريخ.
وهذه المادية التاريخية تتميز عن المادية التقليدية بأنها جدلية. الجدل أي منطق هيجل هو منهجها، وهذا يعني أنها تنفي أية سكونية عن العالم والطبيعة، وترى في الحركة والتغير الدائمين أساس فهمهما؛ فأي حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظرنا إليه منفردا، ويمكن فهمه وتبريره إذا نظرنا إليه من حيث ارتباطه بالحوادث الأخرى، ومن حيث إنه في تغير مستمر وحركة مستمرة.
هذه الحركة - وأية حركة سواء في الطبيعة أو في الفكر - لا بد أن تسير عبر خطوات الجدل الهيجلي الثلاث: (1)
صفحه نامشخص
القضية كما هي: أ. (2)
ثم تتحول إلى نقيضها: لا أ. (3)
ثم نصل إلى مركب يجمع خسر ما في القضية وما في نقيضها، ثم يتجاوزهما إلى ما هو أفضل. في كل جانب منهما - من القضية ومن نقيضها - جانب من الحق وجانب من الباطل؛ الحقيقة الكاملة لا توجد في أي منهما، بل في المركب الذي يوفق بينهما ولا يتعارض مع أي منهما، هذا المركب بدوره سرعان ما يصبح في مرحلة أعلى من الجدل «قضية» تنقلب إلى نقيضها، ثم تصل إلى المركب الذي يتجاوزهما، وهكذا دواليك.
وقد قدم هيجل هذا المنهج الجدلي بصورة مثالية متطرفة؛ فهيجل هو الميتافيزيقي الصميم الذي يرى الواقع مجرد انعكاس للفكرة أو للروح، فقد جعل الجدل خطوات صيرورة الروح؛ الذي ينتقل من الروح الذاتي أو الروح في ذاته، الذي يتمثل في الطبيعة؛ إلى نقيضه أي الروح الموضوعي أو الروح لذاته، الذي يتمثل في الإنسان بالقانون والأخلاق والسياسة؛ ثم يصل إلى الروح المطلق الذي يتمثل في الدين والفن والفلسفة؛ الجدل بهذا هو الفكرة إذ تنمي ذاتها، أما الطبيعة فهي انحطاط الفكرة.
غير أن ماركس ورفيقه فردريك إنجلز
F. Engles (1820-1895م) وهما الماديان الصميمان اللذان يريان في الفكرة مجرد انعكاس للواقع، قد نزعا عن الجدل هذه القشرة المثالية، فجعلا جدل الفكرة مجرد الانعكاس الواعي لحركة العالم الواقعي الجدلية، وبذلك جعلا الجدل يقف على قدمه المادية ثم ينعكس منها فيرتفع إلى رأسه المثالي، بعد أن كان مع هيجل يقف على رأسه المثالي وينعكس منها فيرتفع إلى قدميه الماديتين. إن جدل ماركس مادي وهو أساس تطور عمليات الطبيعة وأشكال المادة ومسار التاريخ وأشكال المجتمعات تبعا لتطور عمليات الإنتاج. إنه علم القوانين العامة للحركة، سواء في العالم الخارجي أو في الفكر البشري، وهو منهج للبحث هدفه امتلاك المادة بكل تفصيلاتها، وتحليل أشكال تطورها المختلفة واكتشاف قوانينها الداخلية.
وقد وضع ماركس وإنجلز لهذا الجدل قوانين ثلاثة ومقولات، أو بالأصح استخلصا من جدل هيجل قوانين الجدل، وهي: (1)
التغيرات من الكم إلى الكيف: فالتغير الذي يحدث في العالم هو انتقال من التغيرات الكمية إلى التغيرات الكيفية والعكس، وانتقال الشيء من حالة كيفية معينة إلى كيفية أخرى نتيجة للتغيرات الكمية المتدرجة هو طفرة في مجال التطور، والطفرة هي تحطيم لتدرج التغير الكمي للشيء أو هي الانتقال إلى كيف جديد، مثل تدرج التغيرات الكمية لدرجة حرارة الماء، حتى إذا وصلت إلى مرحلة معينة انتقلت من كيف إلى كيف آخر، من سائل إلى بخار. (2)
صراع الأضداد وتداخلها: سبب التغير والحركة المستمرة في العالم هو التناقض الكامن في الأشياء، وهو ما أسماه هيجل مبدأ السلب. (3)
نفي النفي: سير التطور كله يتم عبر سلسلة من نفي النفي، كل مرحلة تنفي سابقتها، ثم تنفيها هي نفسها مرحلة ثالثة، وهكذا. والنفي هنا لا يعني الفناء، كل مرحلة تنفي المرحلة السابقة وتحفظها في آن واحد؛ النفي الجدلي هو نفي واحتفاظ معا، هدم وتطور أبعد؛ يضرب الجدليون المثل على هذا بقانون الجبر: −1 × −1 = 1.
صفحه نامشخص
أما المقولات فهي كثيرة؛ مثل: الكم والكيف والمقدار، العلة والمعلول والتفاعل، المضمون والصورة، الماهية والمظهر، الضرورة والحرية، الإمكان والواقع، الفردي والجزئي والكلي، الهوية والاختلاف، الطرد والجذب، اللامتناهي الزائف واللامتناهي الحقيقي، القوة ومظهر تحققها، الكم المنفصل والكم المتصل، المجرد والعيني ... إلخ. والمجال مفتوح دائما أمام مقولات أخرى يمليها علينا التطور الجدلي.
بهذه الصورة سنجد الدنيا كلها تسير وفقا لإيقاع الجدل الذي لا يفلت من قبضته القوية شيء لا في العالم المادي ولا في العالم الروحي، حتى إن الخلافات التي تقع بين الرفاق داخل الحزب الشيوعي نفسه لا يفسرها إلا ذلك الجدل الهيجلي العظيم! •••
على أساس هذه النظرة الجدلية المادية يكون تناول تاريخ البشرية، فنجده عملية واحدة لا تكرار فيها، تخضع لقوانين يمكن اكتشافها؛ وهي قوانين تختلف عن قوانين العلوم الطبيعية والكيميائية التي تسجل اقترانات وتتابعات لظواهر متداخلة، أينما وكلما تكررت هذه الظواهر. إنها قوانين أقرب شبها إلى علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) وعلم النبات، التي تتضمن المبادئ التي تتم تبعا لها عملية تغيير مستمرة. كل مرحلة في هذه العملية جديدة، تحمل سمات جديدة. وعلى الرغم من كونها جديدة وفريدة وغير متكررة، فإنها مع ذلك تنبعث من الحالة السابقة عليها مباشرة، نتيجة للأسباب نفسها، وخضوعا للقوانين الطبيعية نفسها التي أدت إلى انبعاث الحالة السابقة عليها من تلك التي كانت قبلها.
المجال الوحيد للبحث عن مبدأ هذه الحركة التاريخية هو ذلك المجال الذي يظل مفتوحا للاختبار العلمي التجريبي. ولما كانت الظواهر المراد تفسيرها هي تلك التي تتعلق بالحياة الاجتماعية، فإن التفسير يجب أن يكمن في طبيعة البيئة الاجتماعية، على أن يكون تفسيرا علميا.
لقد ضاق ماركس بالمثاليين الذين يتطلعون إلى التخلص من أوضاع الواقع بواسطة قيم ومثل عليا، ورأى أن أكبر خطأ وقعوا فيه - بسبب من الفردية البروتستانتية - هو إيمانها بأن تغيير ما في أنفسهم من شأنه أن يؤدي إلى قلب أسلوب حياتهم بالكلية. وآمن هو إيمانا راسخا بأن التاريخ تتحكم في مسار أحداثه قوانين حتمية تشبه القوانين التي تتحكم في مسار ظواهر الطبيعة؛ وكما أن السيطرة على الطبيعة تكون بالتوصل إلى هذه القوانين، فإن السيطرة على التاريخ تكون - أيضا - بالتوصل إلى قوانينه التي تمكننا من التنبؤ بما سيكون، والتي لا تقبل ردا ولا استثناء، وإن كانت تقبل تعجيلا.
ها هنا نلاحظ معلما يميز النظرية الماركسية عن سواها من النظريات الاشتراكية، ألا وهو ما تزعمه من خاصة علمية، وبالتالي ما تدعيه من إخبار عن الواقع، الواقع التاريخي. فكما كان نيوتن عالم الفيزياء وكان باستير عالم البيولوجيا، أراد ماركس أن يكون عالم التاريخ الذي يدرسه ويحلله ويفهمه، فيستطيع التوصل إلى القوانين الحتمية التي تحكمه والتي تمكننا من التنبؤ بما سيكون من أحداثه، تبعا لطبيعة العلم ووظيفته.
والقانون الأساسي الذي يحكم حركة التاريخ كما توصل إليه ماركس هو: صراع الطبقات الذي يتطور تطورا جدليا من مرحلة إلى أخرى؛ فمنذ أن انتقلت الحضارة الإنسانية من الشيوعية إلى الملكية بدأ الصراع بين الأحرار والرقيق، ومع الانتقال الجدلي إلى المرحلة الإقطاعية أصبح الصراع بين طبقة ملاك الأرض وطبقة رقيق الأرض، ومع الانقلاب الصناعي أصبح الصراع بين طبقة البرجوازية (أي ملاك رأس المال) وبين طبقة البروليتاريا (أي عمال الصناعة الكادحين). إنه الصراع الدائم بين الحاكمين والمحكومين، بين القاهرين والمقهورين، بين الذين يملكون وسائل الإنتاج وبين العمال الذين لا يملكون ويقومون بعملية الإنتاج.
إن الباعث الأساسي على العمل في حياة الإنسان هو علاقته بالطبقات المختلفة في الصراع الاقتصادي، وهو باعث تزيد قوته لأن الإنسان لا يدركه؛ فهذه العلاقة حرب مستترة، تظهر تارة وتختفي تارة أخرى، حرب كانت تنتهي دائما إما إلى إعادة تشكيل المجتمع بأسره بطريقة ثورية، وإما إلى انهيار الطبقتين معا.
المجتمع البرجوازي الحديث الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي، لم يقض على التناقضات، لكنه أقام طبقات جديدة تحل محل الطبقات القديمة، وأوجد ظروفا جديدة للقهر، وأشكالا جديدة من الصراع بدلا من الأشكال القديمة، وإن كانت أشكالا قد بلغت الذروة في تناقضها، وهذا ما توضحه نظرية ماركس الاقتصادية التي أسماها «نظرية القيمة وفائض القيمة».
نظرية القيمة هي التي قال بها ديفيد ريكاردو (1772-1823م) وخلاصتها أن قيمة السلعة تتناسب تناسبا طرديا مع عدد ساعات العمل - أي كمية العمل - المبذولة فيها. أما نظرية فائض القيمة فقد توصل إليها ماركس، وخلاصتها أن العامل يبيع عمله للبرجوازي مقابل أجره الذي يكفيه الحد الأدنى من ضرورات الحياة، لكن البرجوازي يبيع ناتج العمل بأجر أعلى بكثير مما دفعه للعامل؛ فارق السعر بين أجر العامل وبين ثمن بيع عمله هو ما أسماه ماركس «فائض القيمة»، وهو الذي يبلور مدى استغلال البرجوازي للبروليتاري؛ فالثروات تتراكم بتراكم فائض القيمة، التي تشكل بدورها رأسمالا آخر يفيض عن إشباع حاجات البرجوازي، فيستغله في عملية إنتاج أخرى، أي في توسع صناعي أكبر واستغلال عدد أكبر من العمال، يحقق فائض قيمة أعلى، وهكذا دواليك.
صفحه نامشخص
ويبدو التناقض أوضح في أن العامل يبيع عمله كسلعة بثمن بخس، ولما كان عمله يستغرق عمره، فهو محروم من كل وسائل الترفيه والتثقيف، ويصبح العامل نفسه سلعة شقية، ويتناسب شقاؤه تناسبا طرديا مع حجم وقوة إنتاجه؛ كلما زاد الإنتاج، كلما انخفضت قيمة العامل، مما يوضح اغتراب العامل عن عمله الذي يسبب له الشقاء، بينما يسبب للبرجوازية المستغلة رفاهية ونعيما.
وبطبيعة الحال الجدلي، لن يستمر هذا الوضع إلى الأبد ولا حتى طويلا؛ فالبرجوازية شأن أية مرحلة تطور اقتصادي أخرى، تحمل في ذاتها عوامل فنائها، إلا أن البرجوازية تتميز بأنها أكثر بساطة؛ فالمجتمع يسير أكثر فأكثر في طريق الانقسام إلى طبقتين كبيرتين متعارضتين تماما، هما البرجوازية والبروليتاريا؛ فسوف تبتلع البروليتاريا الحرفيين والصناع والتجار - لأنهم لن يستطيعوا الصمود أمام الصناعات التكنولوجية الضخمة - وأيضا الفلاحين، وسوف تنكمش البرجوازية، فتتركز الثروة في أيد قليلة؛ مما سيزيد من حدة الصراع الطبقي وقوته ويعجل بانهيار النظام البرجوازي. سوف يشتد ساعد البروليتاريا ويقوى، فتقهر البرجوازية وتصل إلى مواقع السلطة، وتكون حكومة ديكتاتورية تحافظ على مكاسب البروليتاريا، وتصفي بقايا النظام والعادات البرجوازية، تؤمم كل وسائل الإنتاج، فيختفي الاستغلال والقهر، وتضمحل الدولة نفسها، أو تنتهي بوصفها دولة، لأن الدولة هي أداة الرجعية للحفاظ على النظام البرجوازي القائم. وشيئا فشيئا تنضم الدول الواحدة بعد الأخرى إلى هذا المجتمع - وعلى الأغلب سيكون المجتمع الإنجليزي أو الألماني - الذي سيشمل العالم أجمع في نهاية الأمر، لأنه ذروة التقدم وغايته: المجتمع الشيوعي اللاطبقي، الذي يحكمه مبدأ: من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته. بدلا من المبدأ البرجوازي: من كل حسب قدرته ولكل حسب إنتاجه؛ فيتساوى الجميع مهما كانت أعمالهم.
لكن البرجوازية سوف تستخدم كل الأساليب في محاولة عرقلة مسار التاريخ وتعويض تقدمه المحتوم نحو الشيوعية؛ لذلك من الضروري أن يتحد العمال للقيام بثورة دموية عنيفة، تقهر البرجوازية وتحقق الشيوعية بقوة السلاح، فقط لكي تخفف آلام الوضع وتقصرها، وتختصر المراحل التاريخية المطلوبة للوصول إلى المرحلة الشيوعية، وإن كانت هذه المرحلة على أية حال هي النهاية الحتمية لمراحل التطور الاقتصادي.
فتنت هذه النظرية في عصرها ألباب الكثيرين؛ فقد بدت حلما طوباويا خلابا يؤكد مجيء اليوتوبيا الموعودة للكادحين المطحونين، بعد طول قهر وحرمان. فهل هذا عن حق؟ هل كانت النظرية صادقة؟ لماذا إذن كل الانهيار المدوي لبعض أو لمعظم تطبيقاتها المخلصة؟
نقد النظرية الماركسية
أولا: نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية
في نقد وتقويم النظرية الماركسية نجد أن أول ما يلفت النظر فيها دونا عن سواها من نظريات اشتراكية، هو الزعم بأنها نظرية علمية.
فقد جاء ماركس في عصره الذي بلغ حد الثمل والدوار في الانتشاء بالعلم، وطرح نظريته بوصفها نظرية علمية، وسوف نرى أنها ليست علمية ولا يمكن أن تكون هكذا، أو أنها على أوسع الفروض تحاول أن تتمسح بالعلم وأن يكون لها الشكل العلمي، ولكنها في حقيقة الأمر ليست من العلم في شيء.
فأولا: منهج ماركس مضطرب غامض مبهم، حتمي وتنبؤي وقطعي وجدلي في الوقت نفسه. لقد صارح بأنه يعتمد على الجدل؛ والمنهج الجدلي والمنهج العلمي متضادان لا يمكن أن يلتقيا؛ فالجدل يحذف قانون عدم التناقض وينتقل من الفكرة إلى نقيضها إلى مركب يجمع بينهما أي يقر بهما معا، والعلم لا يسمح بهذا، ومن غير المعقول البتة أن ننتظر من كل قضايا العلم أن تكون جدلية. السمة المميزة للمنهج العلمي هي حذف القضية التي ثبت خطؤها وإحلالها بأخرى أكثر منها صوابا، بغير مبرر للبحث عن نقيضها فضلا عن مركب من القضية ونقيضها، ثم إن عالم العلم كمي، والكمية مجرد عناصر موجودة معا، أي أنها نقيض الوحدة الجدلية. العلم لا يعنيه البتة الانتقال من الكم إلى الكيف، كما يؤكد الجدل. وليس يفترض العلم أية انقلابات جدلية في مسار الطبيعة، بل على العكس يفترض استمرارية ما. جملة القول أن أبسط تحليل منطقي يكشف عن التضارب بين المنهج الجدلي والمنهج العلمي، ولم يكن هذا خافيا عن أي ملم بأساسيات المنطق؛ لذا دأب الشيوعيون على القول إن منهج العلم يناقض الجدل لأنه يكشف عن وجهة النظر البرجوازية.
ولما كان العلم أساسا هو المنهج، وكان منهج ماركس بكل هذا الاضطراب والتناقض، كانت نظريته علمية زائفة؛ إنها تحاول علمنة التاريخ، أي أن تجعله علما كالطبيعة، له قوانين نستخلص منها تنبؤات يقينية، أي تنبؤات ستحدث حتما، لينتهي إلى أن الشيوعية ليست نظرية نقبلها أو نرفضها، أو ننقدها أو نعدلها، بل هي أمر محتوم، سيحدث قطعا شئنا أم أبينا، وقصارى ما نستطيع أن نفعله هو الثورة الدموية التي تخفف آلام الوضع، أي فقط تقصر المرحلة التاريخية التي ستعقبها الاشتراكية، حتما على أية حال. وفضلا عن أننا الآن في عصر النسبية والكوانتم اللتين لم يشهدهما ماركس، فقد أدركنا أنه لا التاريخ علم كالطبيعة، ولا الطبيعة أو أي علم آخر يمكن أن يكون حتميا بمثل هذا المنظور.
صفحه نامشخص
وفضلا عن هذا نجد أن مصداق الخلل المنهجي قد أتى من الوقائع التاريخية التي حدثت فكذبت كل تنبؤات ماركس تقريبا، مما يعني أن النظرية ذاتها كاذبة؛ وبالتالي ليست الشيوعية حتما مقضيا كما وعدتنا: (أ)
تنبأ ماركس بأن طبقة البروليتاريا سوف تزداد زيادة غير محدودة، وتنكمش طبقة أصحاب رءوس المال انكماشا غير محدود، وهذا لم يحدث أبدا؛ فقد تعقد اتجاه الصناعة وتغير في حالات كثيرة، وأصبحت تعتمد على الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات والكومبيوتر أكثر من اعتمادها على العمال. زادت أهمية المهارة الكيفية للعامل عن أهمية العدد الكمي للعمال، وبدلا من أن تزداد البروليتاريا، ظهرت طبقة ثالثة لم يلتفت إليها ماركس بحكم طبيعة عصره، وهي طبقة المهندسين والعلميين والفنيين والمحاسبين والإداريين ... ودورها في عملية الإنتاج أهم من دور البرجوازية ومن دور البروليتاريا.
وبسبب من تطور المنتجات وتطور الاحتياجات لم تعد المؤسسات الكبرى تفلس أصحاب الصناعات الصغيرة فتضمهم للبروليتاريا، بل قد تعتمد عليها. المؤسسة الكبرى لصناعة السيارات - مثلا - تعتمد على صناعات صغيرة لإنتاج ما يلزمها من جلود المصانع وغيره. من الناحية الأخرى لم تنكمش طبقة أصحاب رءوس الأموال انكماشا غير محدود، بل على العكس، امتلك أسهم كثير من الشركات صغار المساهمين. (ب)
كذبت أيضا نبوءة ماركس القائلة إن الطبقات سوف تختصر إلى طبقتي البرجوازية والبروليتاريا؛ لم يحدث هذا وليس من المحتمل أن يحدث، ومهما تقدمت الصناعة لن تختفي طبقة المزارعين بالذات، ولن تنضم إلى البروليتاريا، وتظل الحياة الريفية متميزة بطابعها المعين. ويمكن القول إن تاريخ الاشتراكية في أواخر القرن العشرين هو في أحد جوانبه تاريخ الصراع بين الحركة البروليتارية وبين طبقة الفلاحين. لقد عالج ماركس الإنتاج الزراعي بسطحية بالغة، الأمر الذي كلف خمسة ملايين من الفلاحين الروس أن يموتوا أو يرحلوا حتى يتحقق نظامه.
على أية حال لم تسفر التطورات التي أعقبت ماركس عن طبقتين، بل عن الطبقات الآتية: (1) البرجوازية. (2) كبار ملاك الأراضي. (3) الملاك الآخرين. (4) العمال الزراعيين. (5) طبقة وسطى من الإداريين والفنيين. (6) طبقة العمال الصناعيين. هذا فضلا عن طبقة المثقفين التي عدها ماركس برجوازية، وهي ليست هكذا إذا تحرينا دقة في المصطلح. ومثل هذا التطور وهو الأمر الواقع في معظم البلدان، من شأنه أن يحطم اتحاد طبقة العمال الصناعيين أو وضعهم ككتلة متحدة، وذلك لتداخل علاقاتهم بالطبقات الأخرى. (ج)
تنبأ ماركس بأن انتصار البروليتاريا ومجيء الشيوعية سوف يتبعه حتما المجتمع اللاطبقي، وليس هذا محتوما، لا نظريا ولا تطبيقيا؛ نظريا، سوف يتحد البروليتاريون ليواجهوا البرجوازيين، ولنفترض أنهم انتصروا وابتلعت البروليتاريا البرجوازية، فلن يعود أمامها خطر تخشاه وتتحد لتواجهه، بل الأدنى إلى المعقول أن الصراعات والمشاكل الخاصة بالبروليتاريا ستنشأ داخلها فتقسمها إلى طبقات من جديد، ثم إنه في حالة انتصارها سوف يقفز إلى السلطة قادة الحركة الثورية ويشكلون طبقة الحكام الجدد في المجتمع الجديد. إنه مجرد نوع جديد من الأرستقراطية والبيروقراطية. هذا ما تحقق في المجتمعات الشيوعية، ولوحظ البون الشاسع بين طبقة الحكام وطبقة المحكومين. (د)
تنبأ ماركس بأن تراكم فائض القيمة سوف يؤدي إلى زيادة بؤس العمال، زيادة في شدته أي في شدة بؤس العامل الواحد، وزيادة في مداه أي بؤس عدد أكبر من العمال؛ وأكد ماركس أن البؤس مادي وأيضا معنوي، فاستغراق العامل في عمله الشاق الذي يغترب عنه من شأنه أن يزيد من بلاهة العامل ومن تشويه قواه العقلية.
فهل حدث هذا؟ وهل زادت بلاهة العمال؟ كلا بالطبع، بل العكس تماما هو الذي حدث؛ جزء من فائض القيمة الآن يستغل في إقامة مجتمعات سكنية ونواد اجتماعية ورياضية وأنشطة ترفيهية للعمال. تطورت النظم التربوية الحديثة، وأصبح التعليم حقا لكل مواطن، برجوازي أو بروليتاري. وتفجرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تشد الطبقات كلها في اللحظة نفسها للمادة الإعلامية الواحدة، ثم أتت ثورة المعلومات العظمى وثورة الإنترنت التي جعلتها متاحة للجميع بكبسة زر.
كل هذا فضلا عن الصورة التكنولوجية التي أدت إلى إنتاج بالجملة، فجعلت كماليات كثيرة - فضلا عن الأساسيات - في متناول كل الطبقات. والنتيجة هي نمو الوعي العمالي، وباتت طبقة العمال تسقط حكومات وترفع أخرى، وتطور التكوين الثقافي لطبقة البروليتاريا، ولدرجة لم يكن ماركس يحلم بها. (ه)
تنبأ ماركس بأن الشيوعية ستبدأ في أكبر الدول المتقدمة تكنولوجيا، وبالذات إنجلترا وألمانيا، والذي حدث هو عكس هذا تماما؛ فقد تحقق أول انقلاب شيوعي في دولة كانت متخلفة تكنولوجيا، هي روسيا التي استبعدها ماركس تماما على الرغم من علاقته بالمفكر باكونين (1814-1876م) ممثل الفكر الاشتراكي في البرجوازية الروسية، وأعقبت روسيا دولة أكثر تخلفا هي الصين. وفي الربع الثالث من القرن العشرين توالت انقلابات شيوعية في دولة متخلفة كاليمن الشمالية وأفغانستان. (و)
صفحه نامشخص