والعقيدة التي يدين بها الملايين يشترك فيها الخاصة والعامة والأعلياء والأدنياء، ولا تصاغ منها نسخة مستقلة لكل طبقة أو لكل فريق.
فالذي يطلب من العقيدة الصالحة أن تصلح لكل هؤلاء مجتمعين، وأن تصلح لأعمار بعد أعمار؛ لأنها ليس مما يخلع تارة بعد تارة، ولا مما يستبدل ببرامج السنوات ونصوص الدساتير.
وموضوع هذا الكتاب هو صلاح العقيدة الإسلامية - أو الفلسفة القرآنية - لحياة الجماعات البشرية، وأن الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجاراة الزمن حيثما اتجه بها مجراه. •••
كنا نتحدث مع بعض الفضلاء من أعضاء لجنة «البيان العربي» في موضوع الدين والفلسفة، فقلنا: إن العقيدة الدينية هي فلسفة الحياة بالنسبة إلى الأم التي تدين بها، وأنها لا تعارض الفلسفة في جوهرها، وأن الفلسفة تصلح للاعتقاد كما تصلح العقيدة للفلسفة! واستشهدنا على ذلك بآيات كثيرة من القرآن يستخرج منها المسلم فلسفة قرآنية لا تحول بينه وبين البحث في غرض من أغراض الفكر والضمير.
وأيا كانت العلاقة بين موضوع الفلسفة، وموضوع الدين، فليس في وسع فيلسوف صادق النظر أن ينسى أن الأديان قد وجدت بين جميع البشر، وأنها - من ثم - حقيقة كونية لا يستخف بها عقل يفقه معنى ما يراه من ظواهر هذه الحياة.
فاقترح علي بعضهم أن يكون هذا البحث موضوع كتاب، فألفت هذا الكتاب في هذا الموضوع، وسميته باسم الفلسفة القرآنية؛ لأنه أقرب الأسماء إلى بيان غرضه، وكان اسم «فلسفة القرآن» من الأسماء التي اقترحت في سياق ذلك الحديث، فخطر لي أن هذا الاسم قد يوحي إلى الذهن أننا نتخذ القرآن موضوعا لدراسة فلسفية كدراسة فلسفة النحو، أو البيان، أو التاريخ، وليس هذا هو المقصود مما كنا نتحدث عنه، وإنما المقصود منه أن القرآن الكريم يشتمل على مباحث فلسفية في جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن، وأن هذه الفلسفة القرآنية تغني الجماعة الإسلامية في باب الاعتقاد ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم، وهي لذلك تحقق ضرورة الاعتقاد، وتمنع الضرر الذي يبتلى به من تصدهم عقائدهم عن حرية الفكر، وحرية الضمير.
وليس للعلماء ولا للفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا.
فمهما يكن من رأيهم في الإيمان بالله؛ فهم لا يجهلون - ولا يستطيعون أن يجهلوا - أن الإيمان - كما قدمنا - ضرورة كونية، لا تخلقها مشيئة أحد من الآحاد، ولو كان في قدرة الرسل والأنبياء.
فإذا أجمع الناس على الاعتقاد كيفما كان اختلافهم في الجنس، والزمن، والموطن، والمصلحة - فليس هذا عمل فرد، ولا هو مما يقع بين الحين والحين عرضا واتفاقا من فعل الحيلة والتدبير، ولكنه باعث من صميم قوى الكون، لا يفلح الرسل والأنبياء في نشر دعوته ما لم يكن في تلك الدعوة مطابقة لحكمة الخلق، وسر التكوين.
وكل اعتراض يعترض به المنكرون على حقائق الأديان لا يقام له وزن في مواجهة هذه الظاهرة الواقعة التي لا شك فيها.
صفحه نامشخص