وللجماعات البشرية فرص كثيرة لاستحداث العلوم ومتابعة الكشوف والمخترعات تستطيع أن تأخذ منها ما تشاء إن لم تأخذها من نصوص الدين، ولكنها لا تستطيع أن تأخذ الدين من غير مصادر الاعتقاد، وحسبها منه أنه يحضها على التعلم، ولا يصدها عن سبيل المعرفة، حين تتاح لها مع الزمن بوسائل البحث والاستطلاع.
ونحن في هذا الكتاب قد تعرضنا للكلام عن الفلسفة القرآنية من حيث هي عقيدة للجماعات الإسلامية؛ لنعرض هذه العقيدة عرضا حديثا يلبي مطالب أبناء العصر الحديث.
ولم يكن غرضنا في الكتاب - كما ألمعنا في مستهله - أن نستشهد للقرآن من مذاهب الفلسفة؛ فإن كثيرا من الفلاسفة الأقدمين والمحدثين يوافقون الفلسفة القرآنية، فلا يهمنا من ذلك إلا أن يعلم المفرقون بين مجال الدين، ومجال العلم والحكمة، أن الأوامر والنواهي التي في القرآن قد عرضت للحكماء في مجال المباحث الاجتماعية، كما عرضت لهم في مجال العقائد الدينية، فلم يكن فيها إعنات للفكر في سبيل إرضاء الضمير؛ لأنها من شأن الفكر ومن شأن الضمير.
مثال ذلك أنهم زعموا أن تحريم الربا أضعافا مضاعفة مسألة اجتماعية أو اقتصادية قد عرض لها القرآن، فأتى فيها بحكم قد يرضاه المتدينون، ولكنها لا ترضي علماء الاجتماع أو خبراء الاقتصاد!
لكن الفلاسفة الأقدمين والمحدثين قد عرضوا لهذه المسألة فوافقوا فيها عقيدة المسلم الذي يدين بأوامره ونواهيه، فأرسطو قد حرم الربا؛ لأنه يجعل المال نفسه تجارة وهو وسيلة التبادل في التجارة، وأعداء الاستغلال من فلاسفة الاقتصاد المحدثين يردون مصائب الاجتماع كلها إلى تسخير الناس باستغلال رءوس الأموال، ولم تتناول هذه المسألة قريحة أدبية عالية تقيسها بمقياس الشعور الإنساني والكرامة النفسية إلا وصمت الربا بوصمة الخسة والمعابة، كما قال شكسبير: «إنه صدأ المعدن الخسيس.»
فحكم القرآن في الربا حكم لا يجافي الفكر ولا يعطي الضمير حقا أكبر من حقه المقدور في تقرير المحللات والمحرمات، وهذا كل ما يعنينا من الموافقة بين مسألة فكرية، وحكم من الأحكام التي اشتملت عليها الفلسفة القرآنية.
ولم نشأ أن نستدل على قداسة القرآن بما ظهر من نظريات العلم الحديث؛ إذ القرآن كما أسلفنا «لا حاجة به إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم حينما استطاع.»
ومن الخطأ أن نتلقى كل نظرية علمية كأنها حقيقة دائمة نحملها على معاني القرآن؛ لأن النظريات العلمية لا تثبت على قرار بين جيل وجيل.
ومن أمثلة ذلك ما قيل عن النظرية السديمية، وما قيل في التوفيق بينها وبين آيات من القرآن الكريم؛ منها:
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي .
صفحه نامشخص