ونتخطى هنا الفلاسفة الدينيين؛ لنعود إليهم بعد الكلام على مذاهب الأديان، ونبدأ بالفلاسفة الذين عرضوا للمسألة من جانب البحث الفلسفي بمعزل عن المذاهب الدينية.
فالفيلسوف الإنجليزي «توماس هوب» يرى أن الإنسان يعمل ما يريد، ولكنه لا يريد ما يريد، بل يريد ما فرضته عليه الوراثة، وطبيعة البيئة، وعادات المكان والزمان، فهو بين الرغبة والامتناع يقدم أو يحجم، وكل إقدام أو إحجام فله باعث مفروض عليه، وما الإرادة إلا الرغبة الأخيرة من هذه الرغبات تأتي في النهاية مسبوقة بأسباب بعد أسباب.
والفيلسوف الفرنسي «ديكارت» يقول: إن الجسد محكوم بقوانين الطبيعة كسائر الأجسام المادية، ولكن الروح طليقة من سلطان هذه القوانين وعليها أن تجاهد الجسد، وتلتمس العون من الله بالمعرفة والقداسة في هذا الجهاد.
ومن تلاميذه من يقول: إن الإنسان حرف في كل فعل من أفعاله، ولكن الله يعلم منذ الأزل ما سيفعله كل إنسان؛ لأنه عليم خبير.
ويرى سبنوزا أن كل شيء يقع في الدنيا فلا بد أن يقع كما وقع، ولا يتخيل العقل وقوعه على نحو آخر؛ لأن كل شيء يصدر من طبيعة «الجوهر السرمدي»؛ وهو الله.
وما في الدنيا من خير وشر على السواء هو من إرادة الله، ولكنه يبدو لنا شرا؛ لأننا محدودون، ننقص من ناحية، ونتلقى الشر من حيث ننقض، أما الجوهر السرمدي فلا يعرض له النقص ولا تتصل به الأشياء إلا على وجه الكمال.
ومذهب ليبنتز يطابق مذهبه المعروف عن الوحدات، فكل موجود في الكون «وحدة» مستقلة لا تتأثر بوحدة أخرى، ولكنها قد تتفق في الحركة كما تتفق الساعات في الإشارة إلى الوقت، دون أن تتأثر ساعة منها بغيرها، وكل وحدة من هذه الوحدات، فهي محتوية على ذاتها، محاكية في وجودها للوجود الأعلى؛ وهو الله ... ولكنها تتفاوت في الكمال على حسب التفاوت في هذه المحاكاة، فإذا أصابها النقص فهو يصيبها من داخلها ولا يصيبها مما هو خارج عنها، وهي هي مناط قضائها وقدرها بغير سلطان عليها من سائر الموجودات، وكل ما هنالك أن الشر يعرض لها؛ لأنها ناقصة، ويقل فيها كلما زاد نصيبها في محاكاة الله.
والفيلسوف الألماني الكبير «عمانويل كانت» يقرر ضرورة الأسباب في عالم التجارب المحسوسة، ولكنه يرى هنالك عالما أعلى من عالم المحسوس؛ هو عالم الحقائق الأدبية، وحرية الإرادة حقيقة من هذه الحقائق عند الفيلسوف ... فإن لم نجد لها برهانا من ترابط الأسباب في التجارب الحسية فيكفي أن نعلم أن الإيمان بحرية الإرادة لازم لتقرير الأخلاق البشرية والتكاليف الأدبية، ولزومه هذا هو أقوى دليل نستمده من الحس على صدق الإيمان بها، ووجوب العمل على مقتضى هذا الإيمان.
ويتلخص مذهب هيجل كله في الفلسفة التاريخية التي تقرر «أن تاريخ العالم بأجمعه إنما هو ترويض الإرادة الطبيعية الجامحة حتى تخضع من ثم لقاعدة كونية عامة تتولد منها الحرية الذاتية».
فالقوى الطبيعية جامحة لا تعرف الحدود، وخضوع هذه القوى لقاعدة عامة هو الذي يكف هذا الجماح، ويخلق الحرية الأدبية، وفحوى ذلك أن الإنسان مسوق إلى الحرية بسلطان ذلك القانون، فهو يتلقى الحرية نفسها من طريق الاضطرار.
صفحه نامشخص