في رأيي، لا يكمن الاهتمام بصراع هايدجر وكارناب في تحديد من محق ومن مخطئ، ولكن في النظر إلى هذا الصراع باعتباره تعبيرا واضحا عن إشكالية فلسفية ومرض ثقافي لا يزالان معنا إلى حد كبير. إذا لم يكن هذا مدركا، فإننا أمام خطر جمود فلسفي عقيم؛ وهو المواجهة بين العلموية من ناحية، والظلامية من ناحية أخرى. ويتمثل موضوع الفصل التالي في محاولة إيجاد وسيلة لتجاوز هذه المواجهة والوصول إلى لب الفلسفة الذي لا يزال خفيا، والذي يتحدث عنه هايدجر.
الفصل السابع
العلموية في مقابل الظلامية: تجنب المأزق التقليدي في الفلسفة
الفلسفة الحقيقية تتمثل في إعادة تعلم كيفية النظر إلى العالم.
موريس ميرلو-بونتي
كما أشرت في الفصل الرابع، فإن حقيقة أن جانبا كبيرا من الفلسفة في التقليد القاري يمكن أن يقال إنه استجابة لشعور بالأزمة في العالم الحديث، ومحاولة لإنتاج وعي ناقد للحاضر بنية تحررية؛ تساعد إلى حد كبير في تفسير الفارق الأكثر بروزا وإثارة الذي يميزه عن جزء كبير من الفلسفة التحليلية، وهو مناهضة العلموية؛ فمن منظور قاري، اعتناق العلموية في الفلسفة يفشل في فهم الوظيفة النقدية والتحررية للفلسفة؛ أي إنه يخفق في إدراك التواطؤ المحتمل بين التصور العلمي للعالم وما رآه نيتشه على أنه عدمية؛ فهو يفشل على نحو أساسي في معرفة الدور الذي تقوم به العلوم والتكنولوجيا في اغتراب البشر عن العالم. هذا الاغتراب يمكن أن يحدث بعدد من الطرق، سواء أكان من خلال تحويل العالم إلى عالم محتم سببيا من الأشياء يقف ضد ذات إنسانية معزولة ، أم من خلال تحويل هذه الأشياء إلى سلع فارغة يمكن مسحها أو تبادلها بلا مبالاة.
يكمن نقد العلموية في الاعتقاد بأن نموذج العلوم الطبيعية لا يمكن - وعلاوة على ذلك، لا ينبغي - أن يعد نموذجا للتفكير الفلسفي، وأن العلوم الطبيعية لا تعد السبيل الأساسي والأكثر أهمية لفهم العالم. يجد المرء تعبيرا عن هذا الاعتقاد لدى مجموعة كبيرة من المفكرين في التقليد القاري مثل برجسون وهوسرل وهايدجر، والفلاسفة المرتبطين بمدرسة فرانكفورت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها. وفي هذا الصدد، أوصي بشدة بقراءة كتاب هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (1968)؛ فبالنسبة إلى هابرماس، العلموية تعني الإيمان بالعلم في حد ذاته؛ أي «الاقتناع بأننا لم يعد بوسعنا أن نفهم العلم «كشكل» من أشكال المعرفة، وإنما يجب اعتبار أن المعرفة هي العلم.» ويعد كتاب «المعرفة والمصالح البشرية» نقدا منهجيا للعلموية التي تبدأ تاريخيا بالاعتقاد بظهور الوضعية من خلال تقبل فلسفة كانط النقدية في منتصف القرن التاسع عشر، في أعمال إرنست ماخ وأوجست كونت. يروي هابرماس على نحو أساسي تاريخ ما قبل تصور حلقة فيينا العلمي للعالم، ولكن مقصده نقدي وتحرري على حد سواء. ويشير إلى أن الوضعية والعلموية تشكلان إنكارا لأي تأمل نقدي، وهو التأمل من النوع المتجسد في أعمال كانط وفي تطور المثالية الألمانية لهذا المشروع النقدي، الذي وفر أساسا لنظرية اجتماعية تحررية لدى ماركس وفيبر، ومدرسة فرانكفورت في بداياتها. ما يعنيه هابرماس بهذا الادعاء هو أن فلسفة كانط النقدية هي (كما رأينا في الفصل الثاني) تأمل في شروط إمكانية وجود ذات عالمة ومتحدثة وفاعلة؛ ومن ثم فإن كانط يسعى من خلال ذلك إلى وضع أسس المعرفة النظرية العلمية، إلا أن بحثه المتعالي له هدف تحرري، لدرجة أنه يسعى للدفاع عن مفهوم الحرية الإنسانية. وكما يشير هابرماس: «فعل التأمل الذاتي الذي «يغير الحياة» هو حركة تحرر.» ويتقدم هيجل بعد ذلك بهذا المشروع النقدي إلى مرحلة أخرى، عن طريق تأمل الطرق التي ينبغي من خلالها أن تفترض فلسفة كانط مقدما مجموعة كاملة من الافتراضات المضمنة سياقيا ، المتأصلة في عالم الحياة القائم فعليا وهياكل الحياة الاجتماعية وتاريخها؛ هذا يعني أن صورة كانط عن «المعرفة» ينبغي أن تفترض مقدما سلسلة كبيرة من «المصالح» التي لم تخضع لتأمل ملائم؛ وهذا هو أساس ادعاء هيجل أن الأخلاق الكانطية، على الرغم من قصدها الجدير بالثناء، لا تزال شكلية مجردة خالية من السياق. ويزعم هابرماس بعد هيجل أن مفهوم التأمل النقدي هذا حول علاقة المعرفة بالمصلحة اختير بطريقة تمثيلية من قبل التحليل النفسي الفرويدي، على الرغم من ميل فرويد المؤسف نحو العلموية الذي يبذل هابرماس قصارى جهده لاستئصاله. يعني هذا أن التحليل النفسي ممارسة تأملية نقدية تسعى إلى تحرير البشر من الأوهام المختلفة التي يعتادون خداع أنفسهم بها، و«من خلال فهم هذه الأوهام، تحرر الذات نفسها من نفسها». (1) ممارسة الفنومينولوجيا
مع ذلك، يوجد خطر يتمثل في أن يتحول القلق المشروع حيال العلموية إلى توجه مناهض للعلموية، وهذا هو خطر «الظلامية». من وجهة نظري، القطبان اللذان يجب تجنبهما في الفلسفة هما العلموية والظلامية، اللذان يعكسان الميول الضارة داخل الفلسفة التحليلية والقارية، كما يبين الصراع بين كارناب وهايدجر على نحو واضح. في إشارة هايدجر الوحيدة لكارناب، تحدث عن «لب الصراع الذي لا يزال خفيا» في التفكير بين الطرفين المتقابلين للفلسفة المعاصرة. أريد الآن أن أحاول النظر في لب الصراع هذا من خلال الدفاع عن مفهوم للفنومينولوجيا يهدف إلى تقويض العلموية دون الوقوع في الظلامية.
يصف ميرلو-بونتي بأسلوب بارع مهمة الفنومينولوجيا بأنها «الكشف عن الطبقة قبل النظرية» للتجربة البشرية، التي يقوم عليها الموقف النظري للتصور العلمي للعالم. إن ما أود الدفاع عنه هنا هو شيء يشبه مفهوم ميرلو-بونتي عن الفنومينولوجيا. من وجهة نظري، المسألة مسألة ممارسة الفنومينولوجيا من أجل محاولة كشف الطبقة قبل النظرية لتجربة الأشخاص والأشياء، وإيجاد صيغة وصف موفق لهذه الطبقة من التجربة مع صرامتها ومعايير صحتها. إنه هذا البعد الصلب - على الرغم من أنه غير ملموس تقريبا - من التجربة قبل النظرية، الذي تتمثل مهمة الفنومينولوجيا في توضيحه؛ لغز المألوف الذي حاول ميرلو-بونتي توضيحه بمفهوم «الإيمان الحسي». وهذا يعني أنه عندما أفتح عيني وأنظر حولي للعالم، فإن لدي ثقة تامة بأنه موجود وذو معنى على نحو كبير. المشكلة هي أن هذا الإيمان ينهار عندما أبدأ في تأمله وأسأل نفسي: «حسنا، كيف يمكن أن أكون على يقين من أنه يوجد عالم خارجي بالنسبة إلي، عندما لا تكون الأدلة القادمة من حواسي دائما قابلة للاعتماد عليها تماما؟» كيف يمكن للمرء استعادة سذاجة الإيمان الحسي عندما يكون قد بلغ بالفعل نقطة التأمل؟ يجيب ميرلو-بونتي على هذه المسألة بمفهوم يسميه «فرط التأمل»؛ وهو أن الفنومينولوجيا تأمل فيما يسبق التأمل، الركيزة قبل النظرية للتجربة. الهدف هنا هو أن الوصول إلى المستوى قبل النظري للتجربة الإنسانية ليس بالضرورة فوريا للبشر مثلنا الذين بلغوا التوجه الذهني النظري للعلوم؛ ومن ثم، فإن الفنومينولوجيا تنطوي على إعادة تعلم كيفية النظر إلى العالم بكل ما فيه من وجود واضح وفعلي. (2) ما قبل العلوم
إذن، كيف تستطيع الفنومينولوجيا تجنب العلموية والظلامية كلتيهما؟ اسمح لي أن أبدأ بالعلموية. في رأيي، تستند العلموية لادعاء خاطئ بأن الطريقة العلمية النظرية أو الطبيعية لرؤية الأمور توفر السبيل الأساسي والأكثر أهمية لفهم أنفسنا وعالمنا، وأن منهجية العلوم الطبيعية تقدم أفضل شكل من أشكال التفسير لجميع الظواهر. تبين الفنومينولوجيا أن التصور العلمي للعالم في أعمال كارناب ونيورات - مثلا - يعد متطفلا على رؤية عملية مسبقة للعالم كسابقة للتأمل بطريقة عملية وواقعية. وهذا العالم هو ما يمكن أن نسميه «البيئة»؛ العالم الذي يحيط بنا، والذي يكون الأقرب والأكثر اعتيادا والأكثر معنى بالنسبة إلينا. هذا العالم المحيط ليس عالم العلم الموضوعي المحايد، ولكنه العالم الذي دائما ما يلون عن طريق قيمنا المعرفية والأخلاقية والجمالية؛ وهذا يعني أن العلموية - أو ما يسميه هوسرل «الموضوعية» - تتغاضى عن ظاهرة «العالم المعاش» باعتبارها الشرط المخول للممارسة العلمية. يصف هوسرل العالم المعاش في كتاب «أزمة العلوم الأوروبية» على النحو التالي:
صفحه نامشخص