فقط في حالة وجود العلم على أساس ميتافيزيقي يمكن أن يقوم على نحو متجدد باستمرار بمهمته الأساسية، والتي هي ليست جمع وتصنيف أجزاء المعرفة، ولكن الكشف في نحو متجدد باستمرار عن النطاق الكامل للحقيقة في الطبيعة والتاريخ.
يجب أن يكون للعلم أساس ميتافيزيقي، وهذا أمر واضح. ولكن ما هو بالضبط هذا الأساس؟ حسنا، هو «العدم». ولكن لا شيء ينتج من العدم. إذن، ماذا يمكن أن يعني هذا؟ هذا يقودنا إلى لب تأملات هايدجر المثير للجدل؛ مسألة «العدم»، والتي سيسخر منها كارناب على نحو خبيث. اسمح لي أن أحاول استخلاص الفكرة الرئيسية من تعقيد الأسلوب النثري المزخرف بإفراط لهايدجر. في الجزء الأول من المحاضرة، يبدأ هايدجر بزعمه - على نحو غير مثير للجدل بنحو كاف - أن العلوم المحددة تتعامل مع عالم الأشياء المحدد الخاص بها، ولا تهتم بأي شيء آخر إلى جانب ذلك؛ ومن ثم فإن العلم يريد أن يعرف كل شيء عن الأشياء أو الكائنات ولا شيء آخر إلى جانب ذلك. ثم يسأل هايدجر على نحو خبيث: «ماذا عن هذا اللاشيء أو العدم؟» ويتمثل زعمه في أن العلم لا يريد أن يعرف شيئا عن هذا العدم، في حين أنه يمكن إثبات أن الميتافيزيقا تهتم على نحو رئيسي بهذا العدم، وهذا أمر مفهوم. يمكن للمرء أن يتخيل كارناب وهو يضحك من هذا الكلام ضحكة مكبوتة، مثل طالب جالس في الصف الخلفي في قاعة المحاضرات، والنقطة الرئيسية لديه ضد هايدجر هي أن السؤال - «ماذا عن هذا العدم؟» - لا يمكن حتى صياغته بلغة متسقة منطقيا؛ لأنه يحول نفيا إلى اسم مختلق. وتعد حقيقة إمكانية صياغة مثل هذا السؤال دليلا على أن الميتافيزيقا تغذي بعض الالتباسات الكامنة في اللغة العادية التي يمكن - ويجب - القضاء عليها من خلال الإصلاح المنطقي. وكان هذا الإصلاح المنطقي للغة جزءا من البرنامج المبكر لحلقة فيينا.
خطوة هايدجر القادمة هي إلقاء نظرة على كيفية فهم مسألة العدم تلك عن طريق المنطق التقليدي. القانون الأساسي للمنطق هو مبدأ عدم التناقض؛ أي إنه من التناقض أن نقول إن شيئا ما يمكن أن يتواجد ولا يتواجد في الوقت نفسه. ووفقا لهذا المبدأ، يتصور المنطق «العدم» على أنه نفي الكينونة في حد ذاتها أو كينونات عوالم كائنات معينة: «لا س» هو نفي «س». على هذا النحو، فإن المسألة الميتافيزيقية للعدم تصبح مسألة نفي. ودون ترك مساحة للنقاش، يشير هايدجر إلى أن «العدم أكثر أصالة من ال «لا» و«النفي»». ربما سيعترض كارناب، ولكن ما يبدو أن هايدجر يعنيه هنا هو أن الفهم المنطقي «للعدم» باعتباره نفي يفكر في النفي نظريا بالعقل. ويتمثل هدف هايدجر في المحاضرة (الذي عرض بتفاصيل مذهلة في كتاب «الكينونة والزمان») في أنه توجد طرق لفهم الأشياء غير الطريقة العقلية. فيدعي أنه قبل الكشف النظري للأشياء، يحدث كشف وجداني أو عاطفي فيما سماه هايدجر «الحالات المزاجية»؛ وهي ترجمته لمفهوم «العاطفة» عند أرسطو. وهكذا، يكون الشخص دائما في نوع من الحالات المزاجية، سواء أكان مكتئبا أم مبتهجا أم ببساطة غير مبال، وتتحدد طريقة رؤيته للأشياء من خلال هذه الحالة المزاجية. وبالنسبة إلى هايدجر، هذه الحالات المزاجية لا يمكن أن تفهم على أنها مجرد مشاعر، كنوع من التلوين النفسي في حياتنا العقلية الأحادية اللون على نحو عقلاني؛ فالحالات المزاجية تحدد طريقة اختبار البشر للحياة في العالم.
يصبح السؤال إذن: هل توجد حالة مزاجية تكشف العدم؟ إجابة هايدجر هي نعم، ويدعي أن هذه هي وظيفة «القلق». ولكن بالتأكيد دائما ما يشعر المرء بالقلق حيال هذا الأمر أو ذاك: الامتحانات، أو خوف مرضي من العناكب، أو الفئران، أو أيا ما كان. يصر هايدجر على أنه لا يقصد ذلك؛ فمن الأفضل تسمية هذا القلق المعين باسم «الخوف»؛ فعندما يزول السبب - العناكب أو الفئران أو الامتحانات - يختفي الخوف. يتمثل قصد هايدجر من فكرة القلق هذه في أنه يظل ويستمر قبل كل المخاوف، مثل بعض الضوضاء الغريبة في خلفية وجود الفرد؛ فالقلق هنا ليس قلقا حيال هذا الأمر أو ذاك، بل هو قلق حيال كينونة المرء بأكملها. ما يحدث في القلق - ويستخدم هايدجر هنا أسلوبا وصفيا رائعا - هو أن كل الأشياء المحددة تفلت من قبضة المرء ويترك المرء وحيدا، شاعرا بأنه غريب ودخيل. وفي تجربة الغربة الناتجة، وفي السكون وحتى الهدوء الذي تنتجه، يشعر المرء بعدمية كل شيء ويبدأ في طرح السؤال الميتافيزيقي، الذي كان لايبنيتس هو أول من طرحه: «لماذا توجد كينونات أساسا، ولماذا لا يوجد بدلا من ذلك عدم؟»
إذن، بالنسبة إلى هايدجر، العدم الذي ينكشف للمرء في تجربة القلق يؤدي به إلى طرح السؤال الميتافيزيقي المتعلق بمعنى الكينونة. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو غريبا، فإن مسألة العدم تدفع هايدجر مباشرة إلى قلب الميتافيزيقا، وهذا البحث لا يمكن إخضاعه للتصور العلمي للعالم الذي تطرحه حلقة فيينا . الفلسفة هي أساسا ميتافيزيقية، و«الفلسفة لا يمكن أن تقاس بمعيار فكرة العلم». ويخلص هايدجر إلى أن «الوجود الإنساني يمكن أن يوائم نفسه مع الكينونات فقط إذا وضع نفسه في العدم. والتجاوز يحدث في جوهر الوجود، ولكن هذا التجاوز نفسه ميتافيزيقي.» يجب أن يستند العلم إلى الميتافيزيقا. (2) المطوية الصفراء
كان عام 1929 عاما حافلا في مجال الفلسفة؛ ففي الفترة بين 15-17 سبتمبر من عام 1929، وبعد أقل من شهرين على محاضرة هايدجر، كان هناك اجتماع لجمعية إرنست ماخ في براغ. كان قد تقرر تقديم هدية لموريتس شليك (1882-1936)؛ الرمز الكبير لما سيسمى بعد ذلك - بسبب هذه الهدية - حلقة فيينا. كان شليك يعمل بعيدا في ستانفورد كأستاذ زائر، وكان قد رفض للتو كرسي الأستاذية في جامعة بون. كانت الهدية نصا قصيرا - في واقع الأمر بيانا - كان بعنوان «التصور العلمي للعالم. حلقة فيينا». كان واضع النص الرئيسي غير معروف، ولكن كانت المقدمة موقعة من قبل ثلاثة من أعضاء الحلقة - هانس هان، وأوتو نيورات، ورودولف كارناب - على الرغم من أن راديكالية مضمونها والنبرة الجدلية لعباراتها كانت تعكس آراء نيورات، الأكثر توجها نحو السياسة من الوضعيين المنطقيين. وسيعرف هذا النص القصير منذ ذلك الحين للمنضمين الجدد للحلقة باسم «المطوية الصفراء».
أكثر ما يلفت النظر - وبالنظر إلى الاتجاه المحافظ لجزء كبير من الفلسفة التحليلية التي ستدعي بعد ذلك أنها مستوحاة من فكر حلقة فيينا - هو الطابع السياسي الراديكالي الحاد لنص المطوية. والتصور العلمي للعالم يقف في صراع مع النزعات الميتافيزيقية واللاهوتية الرجعية في الفلسفة والسياسة؛ فبالنسبة إلى مؤلفي المطوية، حلقة فيينا «تواجه العصر الحديث» من خلال رفض الميتافيزيقا واعتناق العلم التجريبي. ويرتبط هذا التطور جوهريا - على نحو يذكرنا بماركس - بالإمكانية التحررية لعملية الإنتاج الحديثة. وتتفق حلقة فيينا مع العامة ما دامت «تميل مواقفهم الاشتراكية إلى أن تؤدي إلى وجهة نظر تجريبية عملية». وتروي المطوية الصفراء قصة مقنعة على الرغم من قصرها، ترجع آراء حلقة فيينا إلى حالات التقدم المختلفة التي حدثت في العلوم، وتشارك في الهجمات الجدلية على الميول الميتافيزيقية المناهضة للنزعة العلمية. وتنص عبارتها الأخيرة على ما يلي: «التصور العلمي للعالم يخدم الحياة، والحياة تتقبله.» توضح مثل هذه العبارات التنويرية الخطر الذي يمثله مفكر مثل هايدجر بالنسبة إلى حلقة فيينا. وكما أشار آير على نحو مختصر في خطاب حماسي أرسل من فيينا إلى أشعيا برلين في عام 1933: «كل الفلاسفة المعاصرين في ألمانيا ضالون أو حمقى؛ فحتى مجرد التفكير في فلسفة هايدجر يجعلهم يشعرون بالغثيان.» بالنسبة إلى فلاسفة حلقة فيينا الوضعيين، تمثل أعمال هايدجر العودة إلى الميتافيزيقا الرجعية المناهضة للنزعة العلمية، التي تتوافق سياسيا مع تطلعات الشعوب الجرمانية، وسيثبت العقد التالي صحة شكوك كارناب على نحو مأساوي؛ حيث سيغادر جميع الأعضاء البارزين في الحلقة فيينا - الذين كان كثير منهم من اليهود - بعد فترة قصيرة من ضم النمسا إلى ألمانيا النازية في عام 1936. وكما أشار برتراند راسل: «يبدو أن التدريب المنطقي الشديد الذي أخضع هؤلاء الرجال أنفسهم له، جعلهم في مأمن من الإصابة بعدوى الدوجما العاطفية ...» وفي مقابل التزام هايدجر العاطفي السياسي بالاشتراكية القومية في عام 1933، التي أعقبها التصوف العميق الذي يرى أن دور الفلسفة علاجي، والذي أربك أتباعه أيضا؛ اعتنق كارناب وجهات نظر يسارية طوال حياته، وكان بالفعل في ستينيات القرن العشرين ناشطا في الحركة المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية. قد تبدو السياسة في صراع كارناب وهايدجر محتفظة بأكثر من صدى لخلاف بنثام وكولريدج الذي سبق تحليله. (3) المنطق والتجريبية والشعر الجيد والسيئ
بوضع هذا في الاعتبار، دعنا نلق نظرة أكثر تمعنا على مقال كارناب في عام 1932، الذي كان عنوانه «تجاوز الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي للغة»؛ حيث اختار محاضرة هايدجر في عام 1929 كمثال أساسي على الهراء الميتافيزيقي. لم تكن حجة كارناب ضد الميتافيزيقا أن أفكارها ليست صحيحة، بل إنها ببساطة لا معنى لها؛ فبالنسبة إلى الوضعيين المنطقيين مثل كارناب، المعنى متأصل في مبدأ التحقق؛ أي إن الكلمة أو الجملة تكون ذات معنى فقط إذا كان يمكن التحقق منها مبدئيا. ولكن ما شروط التحقق؟ إنها تنقسم إلى شقين: منطقي وتجريبي .
بالنسبة إلى حلقة فيينا، وبدءا من راسل وأعمال فيتجنشتاين المبكرة، «المنطق» نظام إحالة ذاتية يسمح باختزال جميع العبارات إلى عبارات طوطولوجية أو متناقضة. دعنا نلق نظرة على المثال الكلاسيكي في هذا الشأن: عبارة «كل العزاب رجال غير متزوجين» طوطولجية؛ فالمحمول («رجال غير متزوجين») مساو أو متضمن في الموضوع («العزاب»). ويطلق على أمثال هذه العبارات ما يسميه الفلاسفة «الأحكام التحليلية»، وهذه الأحكام صحيحة ببساطة بمقتضى صيغتها، ولكنها لا تخبرنا شيئا على الإطلاق عما يحدث، عن الحقائق. عكس هذا هو التناقض، مثل «كل العزاب رجال متزوجون»، وهي بطبيعتها عبارة خاطئة، كما أنها لا تخبرنا شيئا أيضا. إذن، كل العبارات المنطقية تكون إما طوطولجية وإما متناقضة، والتي تكون إما صحيحة بالضرورة وإما خاطئة بالضرورة، ولكن كل هذه العبارات يمكن التحقق منها؛ ومن ثم لها معنى. العالم الوحيد ذو الكلمات أو الجمل ذات المعنى هو عالم «الحقيقة التجريبية». وآمن فيتجنشتاين في أعماله المبكرة بأن كافة الحوادث التجريبية أو الحالات المعقدة، يمكن اختزالها إلى عبارات بسيطة تعكس الحقائق أو «المعلوم»؛ وإذا عكست هذه العبارات البسيطة أو الأولية الحقائق، فيمكن حينها التحقق منها في مقابل الحقائق؛ فعبارتي: «هذه شجرة جاكاراندا» يمكن التحقق منها بمجرد النظر إلى الشيء الأخضر الضخم الجميل الموجود أمامي. العبارات التجريبية قابلة للتحقق منها؛ ومن ثم لها معنى.
ويتمثل الادعاء الرئيسي لكارناب في مقال عام 1932 في أن العبارات الميتافيزيقية ليست منطقية ولا يمكن التحقق منها تجريبيا؛ على سبيل المثال: إذا قلت إن «القلق يكشف كينونة أن تكون إنسانا»، فحينها سوف يسأل الوضعيون المنطقيون: هل يمكن التحقق من هذه العبارة منطقيا؟ لا؛ لأنها ليست طوطولجية ولا متناقضة. إذن، هل يمكن التحقق منها تجريبيا؟ لا؛ لأن «الكينونة» ليست حقيقة محددة مثل شجرة الجاكاراندا. ومن ثم فإن العبارة لا معنى لها. وما ينطبق على هذه العبارة ينطبق على كل العبارات الميتافيزيقية؛ فإذا لم تكن قابلة للتحقق منها، فإنها لا معنى لها ويمكن تجاوزها ببساطة من خلال التحليل المنطقي.
صفحه نامشخص