»: على أن التفاوت في ردود الفعل على مذهب اسبينوزا، سواء في حياته وفيما بعد، يوضح مدى صعوبة تقدير هذا المذهب بطريقة مرضية. فقد لقي أثناء حياته اضطهادا من الكاثوليك والبروتستانت واليهود معا (وكان هو ذاته يهوديا)، وكان يطلق عليه اسم ذلك «الملحد اللعين»، وبعد قرن من الزمان وصف بأنه «رجل منتش بالله»، ومنذ ذلك الحين رفع إلى مرتبة هي أقرب المراتب التي عرفتها الفلسفة الحديثة إلى القديسين. وحقيقة الأمر هي، على ما يبدو، أن إرجاع الذهن والمادة إلى جوهر واحد مشترك لا يستتبع بالضرورة أية نظرية بعينها في وجود الله، ومع ذلك فإننا لو بدأنا بمصادرة الواحدية المحايدة، فإن أية ألوهية تبدو في مذهبنا ينبغي بالضرورة أن تكون ذات طابع شمولي أو حلولي.
تقدير نهائي : إن حكمنا العام على الموقف الحيادي لا بد أن يكون إلى حد بعيد تكرارا لحكمنا على نظرية «الوجهين» في طبيعة الذهن. ولا بد لنا أن نؤكد مرة أخرى أن الإنسان في موقفه الطبيعي لا يجد في طريقة وصف الواقع على هذا النحو معنى كبيرا. كما ينبغي أن نشير إلى أن أي رأي كهذا إنما يوجد في فراغ، من حيث قابليته للتحقيق؛ إذ لا توجد أية وسيلة يمكن تصورها، نستطيع بها أن نثبته أو نفنده. وحتى لو تسنى لعالم النفس في يوم ما إن يحقق نظرية «الوجهين» في علاقة الذهن بالجسم، فإن هذا لا يثبت أن من الممكن التوسع في النظرية بحيث تصبح نظرة شاملة إلى العالم. وهكذا فإن مذهبا كمذهب اسبينوزا لا بد أن يظل، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، عقيما من الناحية العلمية، مهما تكن أهميته الأخلاقية.
ولكن لا بد لنا، لكي نكون منصفين لهذا النوع من الواحدية، أن نعترف بأن جميع المذاهب الميتافيزيقية توجد بدورها، في نهاية الأمر، في فراغ كهذا من حيث قابليتها للتحقيق. فكلها تمثل تركيبات منطقية، لا بناءات فكرية مستمدة من التجربة. والواقع أن المذاهب الميتافيزيقية ليست امتدادا منطقيا هائلا لتجربة الإنسان فحسب، بل إنها تعترف صراحة بتجاوزها للتجربة؛ أي بأنها بعيدة عن منال التجربة. وهذا الطابع البعيد عن التجربة للمذهب الميتافيزيقي يظهر بوجه خاص في حالة الواحدية المحايدة؛ إذ إننا لا نستطيع حتى أن نتصور ما يمكن أن يكون طابع ذلك الجوهر الثالث الذي لا يكون الذهن والمادة إلا وجهين له. فهو لا يتجاوز تجربتنا وحدها، بل يتجاوز خيالنا أيضا. وحتى لو أمكننا أن نتصور هذا الكيان المحايد - وهو أمر مشكوك فيه - فإننا لا نستطيع قطعا أن نتخيل أو نتصور على أي نحو يمكن أن تكون طبيعته. ولن يعيننا في فهمنا على الإطلاق أن نطلق اسم «الله»، ما دامت الأفكار الغامضة الموجودة في أذهان معظمنا عن الله، لا تتفق هي ذاتها مع هذه الألوهية الاسبينوزية.
وبالاختصار، فعلى حين أن الواحدية المحايدة تتجنب المواقف المتطرفة، والتبسيطات المفرطة الممكنة لدى كل من منافسيها الواحديين، فإنها تبدو أقل منهما ذاتهما تقديرا لثراء التجربة البشرية وتعقدها. صحيح أن هذا المذهب يدمج هذه التجربة في كل موحد، على حين أن المذهبين الواحديين الآخرين يشطرانها فيما بينهما إلى حد يؤدي إلى اليأس من استعادة وحدتها . ومع ذلك فإن كلا من الحلين المتطرفين اللذين يأتي بهما كل مذهب، يبدو أقرب إلى الصواب بوصفه تفسيرا للواقع أو لتجربتنا في الكون المحيط بنا.
ولكن لنتأمل الآن ما تستطيع المواقف الميتافيزيقية الممكنة الأخرى أن تقدمه إلينا.
الفصل العاشر
الميتافيزيقا: الثنائية والتعددية
درسنا في الفصل السابق ثلاثة أنواع من الواحدية، ووجدنا أن الأنواع الثلاثة جميعا تواجه صعوبات - قد يكون بعضها صعوبات تقضي على المذهب بأسره. ولقد كان إخفاق الواحدية - الحقيقية أو المزعومة - يؤدي إلى القول بنوع من الثنائية. وأهم ما تقول به الثنائية. بإيجاز، هو أن الواقع يتألف من كيانين أو جوهرين أو مبدأين نهائيين لا يردان إلى غيرهما. ويختلف المفكرون في طريقة تصورهم للتقابل بين هذين العنصرين النهائيين، وإن كانوا في معظم الأحيان يسمونهما «بالذهن» و«المادة» أو «الروح» و«المادة»، وفيما يتعلق بالطبيعة البشرية، يؤكد المذهب الثنائي التضاد بين «الجسم» و«النفس» أو «البدن» و«الروح». وقد يتحدث الفيلسوف الثنائي أحيانا عن «وجود مادي» في مقابل «الوجود الذهني»، فأفلاطون مثلا قد وضع تقابلا بين العالم المحسوس (ويعني به العالم المدرك حسيا) وبين العالم المعقول (أي الذهني أو التصوري). أما الثنائيون اليوم فيفضلون الكلام عن العالم المادي في مقابل العالم الروحي. ولكن أيا كانت طبيعة هذا التقابل، وسواء أكانت تعبر عنه أسماء أم صفات، فإن وجهة النظر العامة تظل واحدة؛ فهناك نوعان من الوجود، ينفصل كل منهما تماما عن الآخر. والواقع أن لفظ «الثنائية» يشرح نفسه بنفسه، على شرط أن ننظر إليه في مفهومه الميتافيزيقي على أنه يدل على انقسام أساسي في داخل الوجود.
ومن الضروري بالنسبة إلى أي مذهب ثنائي أصيل أن يكون المبدآن النهائيان اللذان يتحدث عنهما غير قابلين للرد؛ أعني ألا يكون من الممكن إرجاع أحدهما إلى الآخر، وألا يكون من الممكن إرجاع أحدهما أو كليهما إلى مبدأ ثالث له الأولوية عليهما معا. وبعبارة أخرى، فإن الثنائية الأصلية لا تنظر إلى مبدأيهما الأخيرين - أيا كان اسمهما - على أنهما مجرد مظهرين مختلفين لشيء أهم منهما. وفضلا عن ذلك فإن الثنائية تعتقد أن هذا الانقسام في داخل الوجود دائم، لا مجرد حالة عارضة تزول بمضي الوقت بفضل ازدياد اصطباغ الواقع بالصبغة الروحية أو المادية. وهكذا يفترض أن الانقسام كامن في طبيعة الوجود ذاته - وليس مجرد وجه سطحي للأشياء.
وتفترض الثنائية عادة أن عالمي الوجود هذين مستقلان تماما، بحيث تكون لكل منهما قوانينه الخاصة وعملياته الخاصة. وفضلا عن ذلك فإنهما يعدان عادة متقابلين. ويتمثل ذلك بوضوح في تلك الثنائية الكلاسيكية التي عرفها الكثيرون منا طوال حياتهم عن طريق المسيحية، وهي عقيدة ثنائية في آرائها التي تنتمي إلى مجال الميتافيزيقا والأخلاق وعلم النفس. ولقد كان هناك، في العهود القديمة والوسطى المسيحية بوجه خاص، اتجاه إلى النظر إلى الحياة البشرية على أنها حرب لا تنقطع بين «البدن» و«الروح»، وكان المفروض أن نتيجة هذه الحرب التي تدوم طوال الحياة هي التي تحدد مصير النفس الفردية بعد الموت في الجنة أو النار. فإذا تركنا «البدن» ينتصر في هذه الحرب، فستكون النار مقرا أبديا لنا، أما إذا كسبت «الروح» الصراع، كان مصيرنا إلى الجنة. وكثيرا ما كان المسيحيون الأوائل ينقلون الحرب إلى منطقة الجسم ذاتها، بأن يأبوا عليه الغذاء والنوم اللازم، أو حتى الكساء الكافي لتدفئة الجسم. وعلى هذا النحو تضخم الصراع بين الجسم والنفس واتخذ طابعا دراميا. غير أن هذه الأساليب الزاهدة ليست إلا مظهرا مبالغا فيه للتقابل الثنائي بين مستوى الواقع النهائي، وهو التقابل الذي تفترضه المسيحية من حيث المبدأ. (1) الثنائية في المجال الأخلاقي
صفحه نامشخص