هذا المعيار ينطوي على مشكلة ضمنية هي رأي الخبراء، ما دام الخبير في أي ميدان هو ذلك الذي اكتسب ، بوسيلة ما، من النفوذ ما يكفي للنظر إليه على أنه سلطة أو حجة. ولعل هذا المعيار الثالث هو أقوى المعايير كلها تأثيرا؛ لأن كل ذهن يتأثر بالنفوذ أو الهيبة، مهام يكن محصنا ضد معياري القدم والعدد. والمشكلة العملية التي تواجهنا ليست هي كيفية إزالة تأثير النفوذ من تفكيرنا، ما دام ذلك يكاد يكون مستحيلا، وإنما هي كيفية استخدامنا له بطريقة ذكية مشروعة.
إن الخطر الأكبر في هذا الصدد هو الميل الطبيعي إلى تحويل النفوذ من ميدان إلى آخر. وعلى حين أنه لا يوجد ميدان من ميادين الشئون البشرية يظل بمنأى عن هذه الإعارة الفاسدة، فإن أوضح الحالات في أيامنا هذه تظهر عادة بالنسبة إلى العلوم. فسلطة الخبير العلمي. بين زملائه من العلماء وبين عامة الجمهور، تبلغ من الضخامة حدا يجعلنا كلنا نتأثر على الأرجح بأي رأي يبديه في أي موضوع. وحتى لو كان ذلك الرأي في موضوع ليست للعالم معرفة خاصة به، فإن من العسير علينا ألا ننقل الشهرة التي اكتسبها في ميدانه الخاص إلى مجال آخر معين. ولسنا في حاجة إلى القول إن أية سلطة مشروعة يمكن أن يكتسبها هذا الرأي، تتوقف على مدى وثوق الصلة بين الميدانين موضوع البحث. فإذا أصدر حجة في الفيزياء تصريحات في موضوع الكيمياء، فالأرجح أن تكون هذه التصريحات جديرة بأن يصغى إليها في احترام، وإذا ما أعرب عن رأي في العلوم البيولوجية، كانت الصلة أقل وثوقا؛ ومن ثم كانت «السلطة» أقل أهمية على الأرجح. أما إذا كان له رأي في العلوم الاجتماعية، فأغلب الظن أن يكون ذلك مجرد رأي، لا ينطوي في ذاته على أهمية بوصفه صادرا عن سلطة أو حجة، بل إنه كثيرا ما يحدث أن يكون تعليم المرء وخبرته في ميدان معين عائقا فعليا في وجه قدرته على إصدار أحكام خبيرة في ميدان معين آخر. فالتعليم العلمي مثلا قد يحول بين المرء وبين إصدار أحكام في الميدانين الفني والأدبي. وهناك مثل آخر أكثر شيوعا، هو أن قدرة المرء على كسب المال في النظام الاقتصادي الأمريكي تحول بين المرء دون شك وبين إصدار أحكام تقديرية يعتمد عليها في الفنون والآداب والعلوم والتربية، بل في النظرية السياسية أيضا. ومع ذلك فقد كان من أخص مميزات الثقافة الأمريكية حتى عهد قريب جدا، أن الأشخاص الأثرياء يتخذون حجة على نطاق واسع جدا، في أي ميدان وفي كل ميدان من ميادين الفكر.
4 ⋆
وكان الأكثر من ذلك انتشارا، هو ذلك الاستغلال للنفوذ، المسمى بالإعلان عن طريق الشهادة
Testimonial Advertising
حيث يقوم نجوم الشاشة والإذاعة، وأبطال الرياضة، ومعبودو الجماهير في مختلف الميادين، بالإعراب عن إعجابهم بأنواع من السجاير والصابون وعلب البقول، إلخ؛ ففي كل الأحوال تقريبا لا تكون لهذا الحكم أية قيمة مشروعة؛ لأن العلاقة بين من يصدر الحكم وبين السلعة هي ذاتها العلاقة بين المستهلك العادي وبين هذه السلعة ذاتها. فعندما تعلن ممثلة السينما الآنسة س أنها تدخن سيجارة من نوع ص وحده، فإنها لا تعبر دون شك إلا عن تفضيل شخصي، قد لا يكون أعمق في نقده أو تحليله من رأي المدخن العادي. والنتيجة الضمنية التي يود المعلن أن يحملها إلى أذهان الجمهور هي أن ذوقها في السجاير على مستوى يتناسب مع شهرتها من حيث هي شخصية من شخصيات الشاشة. أما مسألة كون المعلن ينجح في ذلك أم لا، فينبغي أن تترك للمسئولين عن ميزانيات الإعلان. ولكنا إذا حكمنا على الأمر على أساس مقدار الأموال التي تنفق على هذا النوع من الإعلان، فلا بد أن يكون أصحاب الإعلانات مقتنعين بأن الإهابة بسلطة النفوذ هي وسيلة مربحة.
التأثير الشامل للنفوذ : ليس هناك شخص محصن تماما من تأثير النفوذ، كما قلنا من قبل. فكلنا تقريبا لنا معبود أو بطل أو مفكر معين يؤثر في تفكيرنا وحياتنا، ونميل إلى الاقتداء به، حتى في الأمور التافهة، أو في القرارات التي لا يكون «للبطل» فيها مؤهلات خاصة قد تقدم إلينا توجيها نافعا. وقد يتركز هذا النفوذ أحيانا حول كتاب أو نظام أو عبادة. بحيث إن الإنجيل أو الكنيسة أو النادي أو الحزب السياسي يصبح هو السلطة التي تتحكم في تحديد التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية. والمشكلة هنا ليست في كيفية التخلص من تأثير كل سلطة، وهو محال، وإنما في طريقة اختيار السلطة التي يوثق فيها أكثر من غيرها، والتي تعد مصدرا صالحا للمعرفة. فإن لم يكن لنا مفر من اتباع سلطة معينة، شئنا ذلك أم أبينا، فكيف نحدد السلطة التي ينبغي اتباعها؟
عند هذه النقطة يأتي الفيلسوف ليقول ما يبدو أنه الكلمة الأخيرة في العلاقة بين السلطة وبين مشكلة المعرفة في عمومها. فهو يشير إلى أنه مهما تكن قيمة السلطة في الدين أو في الحكومة، فمن الواجب، بالنسبة إلى أغراض بحثنا عن المصدر النهائي للمعرفة، أن نرفض كل مذهب للسلطة. ذلك لأن كل سلطة، كما رأينا من قبل، ينبغي لها، عاجلا أم أجلا أن تواجه السؤال: «لماذا كانت كلمتنا أكثر حسما من كلمة المدعي المنافس لنا؟» فيكون من الضروري أن يأتي الجواب على أساس خارج عن نطاق السلطة. فلا بد للمرء أن يهيب عندئذ بشيء يقع خارج نطاق السلطة الأصلية. وحتى لو اقتبس كلمات سلطة أخرى معينة، فلن يكون في ذلك إلا إرجاء للمشكلة. ولما كانت هذه مسألة يستحيل التسلسل فيها إلى ما لا نهاية، فإن سلسلة السلطات تعود بناء بعد وقت معين، إلى مصدر خارجي معين. ففي نهاية السلسلة نكشف على الدوام فردا استمد معرفته من تجربة عادية، أو من وحي صوفي أو خارق للطبيعة من نوع معين. أما التجربة العادية - من بين النوعين السابقين - فمن الممكن أن تكون: (1) إدراكا حسيا، (2) أو استدلالا من هذه التجربة الحسية، (3) أو استدلالا من حقائق أولية أو واضحة بذاتها، من نوع ما. هذه هي مصادر المعرفة التي ينبغي أن تعتمد عليها كل سلطة آخر الأمر؛ ومن هنا فإن بحثنا في المعرفة ينبغي أن ينتقل إليها الآن. (3) مصادر المعرفة: التصوف
إن المصدر الخارجي للمعرفة، الذي يرجح أن القائل بالسلطة الدينية يرجع إليه، هو تجربة صوفية أو خارقة للطبيعة من نوع ما. مثل هذه التجارب تسمى في العادة وحيا ، وعليها تبنى معظم مذاهب التفكير الديني. وليس من الضرورة أن تكون هذه التجارب هي تجارب المؤمن بالسلطة ذاته، بل إن الأرجح في معظم الحالات أن تكون قد حدثت لنبي أو مؤسس عقيدة، بل من مشاهدة ملهم يقبل المتدين المؤمن سلطته.
والمعنى الذي ينطوي عليه قبول هذا الوحي بوصفه أساسا سليما للمعرفة أن للإنسان مصدرين متميزين للمعرفة: (1) المعرفة العادية أو الطبيعية، وهي عادة إدراك حسي واستدلال مبني على هذا الإدراك. (2) والمعرفة غير العادية أو الخارقة للطبيعة. وينقسم النوع العادي إلى عدة أنواع، ولكنها كلها تندرج عادة تحت اسم عام هو «التجارب الصوفية».
صفحه نامشخص