وإذا كان هناك قدر كبير من الاتفاق الاجتماعي حول هذه الأمور الثلاثة الأولى. (5)
وإذا اتفقت عليها كل السلطات ذات العلاقة بالموضوع. (6)
وأخيرا، وإذا كان هناك، من وراء ذلك كله ومن خلاله، يقين باطن واقتناع طبيعي بشأن تلك التجربة. ومع ذلك فقد لا تكون هذه الحقيقة ذاتها هي النوع الذي ينبغي أن نصفه بأنه «حقيقة» بالمعنى الكامل، ولكنها تقدم إلينا على الأقل شيئا يمكننا أن نعتمد عليه ونبني حياتنا حوله.
ولكن هناك تعبيرا شعبيا ساخرا يلخص الموقف على أفضل وجه، هو أن «هذا شيء رائع، إذا أمكنك القيام به». فمعظمنا على أتم استعداد لبناء حياتنا على حقائق وطيدة الأركان كهذه. غير أن أمثال هذه الحقائق قليلة ومتباعدة. وفضلا عن ذلك، فإن حالات الحقيقة التي تبلغ هذا القدر من التوطد هي عادة أبسط من أن تحل مشكلاتنا الأكثر إلحاحا. مثال ذلك، أن قضيتنا القديمة: «الكتاب على المنضدة الموجودة في الغرفة المجاورة» قد تكون قادرة على مواجهة كل هذه الاختبارات، مثلما تقدر على ذلك معظم العبارات البسيطة المعبرة عن أمر واقع، والخاصة بالعلاقات الزمنية والمكانية للأشياء المادية، بل إن التصنيف الأساسي لأمثال هذه الموضوعات قلما ينطوي على مشكلات خطيرة متعلقة بالحقيقة. فإذا قلت: «هذا الكتاب أخضر»، كان من الممكن إثبات حقيقة هذه العبارة أو بطلانها على نحو قاطع - على شرط ألا أكون متحدثا، بالطبع، عن كتاب مشكوك فيه أو لون باهت، وإلا اشترط اتفاق الأشخاص المصابين بعمى الألوان، أو ألا أكون أنا ذاتي مصابا بعمى الألوان.
حدود المعيار المركب : ولكن من سوء الحظ أن جزءا فقط من القضايا التي يتعين علينا الحكم عليها بأنها «حقيقة» أو «بطلان» هو وحده الذي يستطيع الصمود لكل هذه المعايير. فلنأخذ حكما مثل: «الانتحار لا مبرر له أبدا». فكيف نستطيع أن نقرر إن كان هذا الحكم حقيقة أم؟ من الواضح أن من المحال الالتجاء إلى أي تحقيق حسي، أو إلى أية نظرية للتطابق. كذلك فإن المعيار البرجماتي لا قيمة له، ما لم يكن ذهننا من النوع الذي يتأثر بالحكم العام، الذي لا تربطه بموضوعنا صلة وثيقة، والقائل: «تصور أن الجميع قد انتحروا!» أما معيار السلطة فلا يكون مقيدا إلا لأولئك الذين يقبلون السلطة الخاصة التي ترد في حديثنا: فالنهي الصارم للكنيسة الكاثوليكية عن الانتحار، مثلا، ليس ملزما إلا للكاثوليكيين. وقد تكون نظرية الترابط مفيدة، ولكن ذلك يتوقف على الأساس الكامل لمعرفتنا وتجربتنا. ففي استطاعتنا أن نشترط أن تتفق القضية القائلة إن: «الانتحار لا مبرر له أبدا» مع كل الحقائق والمبادئ. ولكن لما كانت لكل شخص مجموعة مختلفة من الحقائق والمبادئ، فإن ذلك يؤدي إلى جعل حكمنا عليها بالحقيقة أو البطلان حكما ذاتيا بحتا. ومع ذلك فلما كان المعيار الوحيد الباقي، وهو الاتفاق الاجتماعي، معيارا لا قيمة له؛ إذ إننا كلنا نعرف مدى اختلاف الآراء حول الانتحار، فربما أدى بنا ذلك إلى القول بأن نظرية الترابط هي على أية حال تلك التي يمكن الاعتماد عليها أكثر من غيرها. ولكن ما حدث لنظريتنا المركبة الرائعة عن الحقيقة بعد هذا كله؟ من الواضح أننا لا نستطيع أن نأمل في الحصول على موافقة مختلف نظريات الحقيقة وجميع معاييرها، وفي استخلاص التأييد القاطع منها، إلا في ميدان التجربة الحسية. ويبدو أن معنى لك هو أن ميدان التجربة الحسية هو وحده الذي نستطيع أن نحصل فيه على أية حقيقة مطلقة أو حقيقة لا ترد. أما بالنسبة إلى بقية جوانب التجربة البشرية، فيبدو أننا مضطرون إلى الاقتصار فيها على معيار الحقيقة، أو مجموعة معاييرها، التي تثبت التجربة أنها هي الأفضل في ذلك الميدان بعينه.
بل إن هناك احتمالا يدعو إلى المزيد من القلق، تؤدي إليه هذه المناقشة، ألسنا نجدها توحي أيضا بأن كل حقيقة قد تكون شخصية خالصة أي بأن كل شخص يصنع حقيقته الخاصة، ويعيش في عالم خاص من «حقائقه» الخاصة، وهو عالم قد يتداخل مع عالم الحقيقة الخاص بشخص غيره، ولكنه لا يمكن أن يكون في هوية تامة معه؟ وبالاختصار يمكن أن تكون هناك أية حقيقة عامة، أو شاملة، ولا نقول أية حقيقة مطلقة؟
الكلمة الأخيرة للبرجماتي : ربما كانت للبرجماتي الكلمة الأخيرة في هذا المجال. فنحن لا نرى شيئا يدعو إلى الفزع في وجود أنساق فردية للحقيقة ذلك لأن كل شخص سيصوغ في هذه الحالة، عن وعي أو بلا وعي، نسقا للحقائق يفي على نحو معقول بشروط الحقيقة الثلاثة، التي يضعها البرجماتي. أول هذه الشروط هو أن يكون نسقه محكما إلى حد معقول، وفيه من الاتساق ما يكفي لإرضاء ما قد يكون لديه من حاسة الاتساق المنطقي، وثانيها أن يكون مطابقا للعالم الخارجي إلى حد يكفي لتحقيق النجاح العملي له، وأهم هذه الشروط جميعا أن يكون مرضيا وقابلا للتطبيق العملي في مجموعه. فيجب أن يؤدي هذا النسق إلى نتائج، ويحافظ على سعادته أو يزيدها، ويرضي اهتمامه ورغباته، ويتيح له، على وجه العموم، أن يشق طريقه في الحياة. ومن الجائز أنه لو وجد نسق أمثل - أعني أكثر تطابقا، وأكثر نجاحا عمليا - لأدى إلى نتائج أفضل، ولكان بالتالي «أكثر حقيقة». ولكن، مثلما أن المفروض أن تحصل كل أمة على نوع الحكومة التي تستحقها، فكذلك يحصل كل شخص على نسق الحقيقة الذي يستحقه: وهو نسق ينجح بالنسبة إليه، ويرضي مطالبه من الحياة والعالم المحيط به. وإذن فالبرجماتي ينتهي إلى موقف يمكننا تلخيصه في عبارة نستخدم فيها بيتا مشهورا للشاعر كيتس في غير موضعه، ونحور نصه قليلا، وهي: «هذه كل الحقيقة التي تعرفها في الأرض، أو تحتاج إلى معرفتها ».
الفصل الثامن
نظرية المعرفة: ماذا يمكننا أن نعرف؟
يكاد يكون من المؤكد أن كثيرين من القراء لن ترضيهم نتائج تحليلنا لمشكلة الحقيقة في الفصل السابق. فقد تبدو هذه النتائج نسبية غير قاطعة، أو قد تبدو المسألة بأسرها مؤدية إلى مذهب ضمني في الشك. وقد يشعر المرء كما يشعر كثير من الطلاب بعد مناقشة المشكلة، بأن هناك ما يغريه على التساؤل: «ولكني أريد أن أعرف! فما قيمة الفلسفة إن لم يكن في استطاعتها الإجابة عن أسئلتي؟ ألم يستقر الفلاسفة على رأي قاطع حول مسألة ما إذا كانت هناك أية حقيقة أصيلة، ما إذا كنا نستطيع معرفتها أم لا؟»
صفحه نامشخص