Coherence ، ومفادها باختصار أن العبارة أو القضية تكون صحيحة إذا كانت تنسجم مع حقائق أخرى مقررة أو مع معرفتنا ككل. وأفضل مثل لذلك هو ميدان الرياضيات. ففي هندسة إقليدس مثلا نجد نسقا مستمدا بالاستنباط، خطوة فخطوة، من البديهيات والمصادرات الأصلية. وما إن تؤخذ هذه البديهيات والمسلمات على أنها صحيحة، حتى يلزم عنها بقية النسق منطقيا، وعلى نحو يكاد يكون محتوما. فنحن في هذه الحالة ننتقل في سلسلة لا تنقطع، قوامها استدلال غاية في الدقة، من البديهيات الأصلية إلى عبارة «وهو المطلوب إثباته» التي يختم بها البرهان على النظرية الهندسية. وبالوصول إلى النتيجة تكون لدينا سلسلة تامة التكامل من التفكير المنطقي، تترابط بدورها مع نسق كامل من الاستدلال.
في مثل هذه الأنواع من التفكير الاستنباطي، يكون من الواضح أن الحقيقة والبطلان يتحددان تبعا لكون القضية المطلوب بحثها تنسجم مع النسق الذي يفترض أنها تكون جزءا منه. وهنا يصبح الترابط هو المعيار الوحيد للحقيقة: فالعبارة لا تكون باطلة إلا إذا لم تتكامل مع مجموع معرفتنا أو اعتقادنا.
وفي حالة هذه النظرية بدورها نجد أن أول رد فعل لنا على مثل هذا المعيار هو - كما كان في حالة نظرية التطابق - رد فعل ملائم على الأرجح؛ إذ لا يبدو هناك اعتراض واضح على النظرية. وفضلا عن ذلك فإن الإحكام المنطقي، بوصفه مثلا أعلى. يمتدح أمامنا إلى حد يجعلنا نبدي أشد الإعجاب بهذا الهدف. أعني هدف النسق الفكري التام الإحكام، ولا سيما إذا كان هذا الهدف طموحا إلى حد يشمل معه كل معرفتنا وتجربتنا، كما في حالة الميتافيزيقا. غير أن الفيلسوف (عندما يكون تجريبيا) يسارع عادة إلى القول بأن جنة نظرية المعرفة هذه تربط فيها حية رقطاء. هذه الحية هي أن نظرية الترابط، وكذلك كل النسق والاستنباطية المبينة عليها، لا تنطوي على «حقيقة» على الإطلاق، إذا شئنا الدقة. فكل ما لدينا في هذه الحالة هو اتساق منطقي
Logical Consistency
الذي يستحسن أن يسمى بالصواب
Validity ، والذي لا تربطه علاقة ضرورية بالواقع، أو بالعالم الموضوعي أو بالنظام الخارجي للطبيعة. فكل ما لدينا هنا نوع من النظام والترابط المنطقي، قادر تماما على أن يقوم في فراغ بالنسبة إلى الواقع الموضوعي.
الفرق بين «الحقيقة» و«الصواب»:
لا شك أن الطلاب الذين درسوا مقررا دراسيا في المنطق، يذكرون بعض النتائج الغريبة التي انتهت إليها أقيستهم، والتي كانت مع ذلك صائبة تماما بالنسبة إلى قواعد التفكير المنطقي. ففي محاضرات المنطق وحدها يميز المرء عادة تمييزا دقيقا بين «الصواب» و«الحقيقة المطابقة للواقع». فلنتأمل مثلا مستمدا من منطقة الحدود الواقعة بين الفلسفة واللاهوت. فالمؤمن بمذهب الألوهية يشيد مذهبه على مسلمات معينة، كوجود الله وعلمه المحيط ومقدرته الشاملة، وخلود النفس، وحرية الإرادة، إلخ ... هذه المسلمات هي المقدمات التي يبدأ منها استدلاله. فهو يبدأ بهذه المسلمات، ويصوغ منها بالاستنباط بناء فكريا ضخما، يحوي في داخله كل التجربة البشرية، ومصير الفرد والجنس البشري معا. أي إن هذا المذهب الألوهي يؤدي إلى نتائج معينة، يبدو أنها تلزم منطقيا وحتميا من المسلمات أو المقدمات التي بدأت بها السلسلة الاستدلالية. غير أن هذه النتائج لا تلزم منطقيا إلا من هذه المسلمات الأصلية بعينها. فلو بدأنا من مجموعة أخرى من المسلمات (مثل عدم وجود الله، وفناء النفس، والحتمية الكونية، إلخ) فإننا سنصل بنفس الضرورة المنطقية المحتومة إلى مجموعة مختلفة تماما من النتائج. وفي هذه الحالة تغدو كل من المجموعتين صائبة، ومرتبطة بالمقدمات التي بدأنا بها (بل لازمة عنها). ولكن أيهما هي «الحقيقة» - إن كانت إحداهما تتصف بهذه الصفة، وماذا يكون المقصود «بالحقيقي» في هذه الحالة؟ إذا كنا نفكر على أساس نظرية التطابق، فمن الواضح عندئذ أن مجموعة النتائج التي تعبر عن وقائع الوجود الموضوعي على أفضل نحو هي الأكثر حقيقة. ولكن عندما تكون هذه النتائج متعلقة بقضايا مثل «الله خير»، و«الكون روح شاملة»، و«الكون آلة ضخمة لا روح فيها»، وما شابه ذلك، فأية قيمة يمكن أن تكون لنظرية التطابق في هذه الحالة؟ وبالاختصار، كيف نستطيع أن نثبت، على أي نحو، التطابق بين أمثال هذه العبارات وبين الواقع الموضوعي؟ أو بعبارة أخرى - وهذا هو السؤال الأهم - ما قوام «الواقع» في هذا المجال؟ وإذا اتبعنا الاقتراح الذي قلنا به من قبل، واقتصرنا على استخدام لفظ «الواقع» للدلالة على تلك التجارب التي يمكن تحقيقها على نطاق شامل؛ أعني تلك التي يمكن أن تدخل في تجربة كل الملاحظين - فهل يكون من الممكن أن نتحدث عن «وقائع» في صدد الفلسفة أو الدين على الإطلاق؟ (5) حدود الصواب المنطقي
إن أفضل وسيلة لإيضاح العلاقة بين «الصواب» و«الحقيقة» هي شرحها بضرب أمثلة من الاستدلال المنطقي والرياضي. فمثلا، إذا كانت لدينا معادلة مثل س = ص، تليها معادلة ص = ع، فعندئذ يكون من الصواب أن نستنتج من ذلك أن س = ع. غير أننا نصل إلى هذه النتيجة دون أية معرفة لمعنى الرموز أو قيمتها؛ لذلك لا تكون لدينا معرفة متعلقة «بالحقيقة المطابقة للواقع» في نتيجتنا هذه؛ لأننا لا نعرف أي معنى واقعي للمعادلة س = ع.
2
صفحه نامشخص