2 (3) النظرة الوظيفية إلى الذهن
اقترح البعض النظرية الوظيفية
Functional ، في محاولة لصياغة رأي عن الذهن يعمل حسابا لتجربتنا، ويتمشى تماما في الوقت ذاته مع العلم الحديث، ولكن من سوء الحظ بالنسبة إلى أغراضنا الراهنة، أن هذا الرأي الوظيفي هو عادة رأي يصعب على الطلاب فهمه ما لم يكن لديهم، قبل الشروع في دراسة الفلسفة، إلمام واسع بعلم النفس. ومع ذلك فإن دراستنا الموجزة للمذهب الوظيفي في الفصل السابق كفيلة بأن تجعل هذا المفهوم مألوفا إلى حد ما.
يبدأ صاحب النظرة الوظيفية بنقد مغالطة الرد في المذهب المادي، وهي المغالطة التي عرضناها منذ قليل. وإذ يرفض المذهب الوظيفي كل الآراء الثنائية (ولا سيما الرأي الجوهري)، فضلا عن الواحدية المتطرفة للمذهب المادي، فإنه يعترف بأن من المحال وجود تفكير بلا مخ، ولكنه يرفض أن يوحد بين الاثنين على أساس هذه الحقيقة. فالاعتراف باعتماد س على ص ليس معناه إرجاع س إلى ص، ولا هو ضمان لاستنتاج أن س هي بالتالي غير حقيقية. فصاحب النظرية الوظيفية يرى أن «الذهن» هو مجموعة أو فئة من الوظائف، وليس مجرد مخ مادي، أو جوهرا روحيا بسيطا. ذلك لأن القول بأن الذهن كيان أو جوهر روحي لا يعني شيئا؛ إذ إن علاقة هذا المفهوم بتجربتنا تبلغ من الضآلة حدا يجعل اللفظ لا يعني شيئا. ومن جهة أخرى فالقول بأن الذهن هو المخ ليس إلا كلاما فارغا - أو على الأصح كلام لا معنى له: فمثل هذا الحكم لا يقع خارج نطاق التجربة (كما هي الحال في المذهب الجوهري) وإنما الأصح أنه يناقض تجربتنا، التي هي - كما هو واضح - تجربة فيها نمطان أو عالمان للوجود.
الذهن هو ما يفعله الذهن : وباختصار فالمذهب الوظيفي يرى أن الذهن هو ما يفعله الذهن. وأفضل تشبيه هنا هو التشبيه بمجال الفيزياء. فالفيزيائي يرى أن الكهرباء لا يمكن أن تعرف إلا على أساس نشاطها. فليس في وسع أي عالم أن ينبئنا بما تكونه الكهرباء «في ذاتها»، وإنما هو لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال إلا بتعداد لما تستطيع الكهرباء أن تفعله. فالكهرباء في نظر علم الفيزياء هي ما تفعله، وهي لا تعرف إلا على أساس وظيفتها. ومن ثم فإن أي تعريف علمي لها ينبغي أن يكون وظيفيا بالمعنى الدقيق. وكذلك الحال في كثير من المفاهيم الأساسية الأخرى للعلم. «فالطاقة» مثلا تعرف بأنها القدرة على القيام بالعمل، و«طبيعتها» هي هذه القدرة أو وظيفة أداء العمل هذه، وهذا هو كل ما تعرفه الفيزياء، أو تحتاج إلى أن تعرفه، عنها. أما الكهرباء أو الطاقة كما هما في ذاتهما؛ أي بمعزل عن وظائفهما - فالعلم لا يعرف عنهما شيئا، بل إن نفس تصور تعريف غير وظيفي لأي منهما هو شيء لا معنى له في نظر العلم. والواقع أن معظم العلماء يتفقون مع التجريبيين المنطقيين المحدثين الذين يذكرون أن مجرد الكلام عن طبيعة الكهرباء «في ذاتها» هو لغو لفظي، ما دامت أية نظريات تتعلق بهذه الطبيعة المزعومة غير قابلة للتحقيق.
والواقع أن النظرة الوظيفية إلى الذهن تتوسع في هذا الرأي بحيث تمده إلى المجالين النفسي والفلسفي. فهي تذهب إلى أن قوام الذهن هو أوجه نشاط وقدرات معينة للكائن العضوي. فالذهن هو، إلى حد بعيد، ما يفعله الكائن العضوي. وهناك، إلى جانب أوجه نشاطنا الجسمي، أوجه نشاط ذهنية، كالتفكير والشعور والتذكر. والذهن هو مجموع أوجه النشاط هذه؛ ومن هنا فهو وجه من أوجه النشاط الكلي للكائن العضوي، أو سلوكه. ومع ذلك ينبغي أن يلاحظ أن هذا الرأي الوظيفي لا ينظر إلى الذهن على أنه «شيء» يقوم بأوجه النشاط الخاصة أو غير الجسمية هذه. فليس ثمة لب مركزي أو فاعل موحد أو «شخصية» تقف من وراء أوجه النشاط هذه، كما لو كانت مشجبا تعلق أوجه النشاط هذه عليه. ذلك لأن الشخصية ليست بأقل وظيفة من الذهن، بل إننا نستطيع تعريف الشخصية بأنها الأوجه الاجتماعية للذهن؛ فهي مجموع أوجه الذهن القاهرة «للشخصيات» الأخرى. وفي الفرد السوي، تتكامل هذه الأوجه المتباينة أو تتوحد، غير أن «الشخص» أو «الذات» لا ينبغي النظر إليه على أنه فاعل مستقل له هذه الأوجه أو يقوم بهذا النشاط. فهو وهي شيء واحد. ومرة أخرى، فلنقل إن الذهن هو ما يفعله. (4) مشكلة الذهن والجسم
من المنطقي أن ننتقل من هذه المشكلة الشائكة، مشكلة طبيعة الذهن، إلى بحث العلاقة بين الذهن والجسم. وعلى الرغم من أن علم النفس قد أخذ على عاتقه، جزئيا، بحث هذا الميدان الخاص، فإن الفلسفة ما زالت تهتم بهذه المسألة اهتماما كبيرا. كذلك فإن التطورات التي طرأت على علم النفس لم تفلح في حل المشكلة؛ ولذا فلا يزال هناك مجال للفيلسوف ليدلي بدلوه، ويتقدم بنظرياته وتأملاته، في هذا الميدان.
والقسمان الواضحان اللذان تتشعب إليهما الآراء المتعددة حول هذه العلاقة هما النمط الواحدي والنمط الثنائي. ولقد كانت الآراء الثنائية هي الأقوى تأثيرا بكثير، من الوجهة التاريخية، من بين هاتين الفئتين. وهذا أمر غير مستغرب؛ إذ إن الثنائية، كما أوضحنا من قبل، تعبر عن وجهة نظر الموقف الطبيعي. وفضلا عن ذلك فإن المسيحية تستتبع القول بنزعة ثنائية واضحة، ومن المعروف، بالنسبة إلى الفلسفة الغربية، أن أكثر الآراء عن الذهن تمشيا مع تعاليم المسيحية هي التي كانت تتفوق على غيرها عادة. وبالنسبة إلى الموقف الطبيعي، فإنه يبدو لنا من الواضح تماما أننا مكونون من جسم وذهن مجتمعين، بحيث إن إرجاع أحدهما إلى الآخر (على النحو الذي يقتضيه أي مذهب واحد) يبدو أمرا لا يتصور. لذلك فإننا سنبدأ بعرض النظريات الثنائية، محاولين بذلك الانتفاع من وجهة نظر الموقف الطبيعي، ومن تجربة الطالب في آن واحد.
نظرية التأثير المتبادل : تعد نظرية التأثير المتبادل
Interactionism
صفحه نامشخص