ويرى المذهب الطبيعي ثانيا أن هذا النظام الواحد للحقيقة يتألف من كل الأشياء والحوادث الموجودة في المكان والزمان، ومن هذه وحدها. ولهذه المسلمة بدورها نتائج سلبية هامة، فهي تؤدي إلى استبعاد إمكان الكلام عن ألوهية «خارج الزمان» أو عن عالم علوي «بمعزل عن المكان». كما أن أية قضايا متعلقة بالموضوعات والحوادث التي لا يمكن إدراجها ضمن مقولتي الزمان والمكان تصبح في نظر ذلك المذهب قضايا لا معنى لها. (3)
وأخيرا، يرى المذهب الطبيعي أن سلوك هذا النظام الواحد للوجود - أي العملية الكونية بأسرها، وجميع الحوادث الفردية التي تتألف منها هذه العملية - يتحكم في تحديده طابع هذا النظام وحده، ومن الممكن إرجاعه إلى نسق من قوانين العلية. وهنا أيضا نجد للنتائج الضمنية أهمية قد تفوق أهمية المسلمات ذاتها، وهي قطعا تكشف عن أمور أكثر مما تكشفه هذه المسلمة؛ ذلك لأن قبول هذه المسلمة يعني تأكيد إيماننا بأن الكون منطو على ذاته، ومكتف بذاته، ومعتمد على ذاته، ومدبر لذاته. كما يعني أننا نعتقد أن الكون يوجه ذاته، دون أن يتأثر بأية فاعلية «خارجية» أو قوة «أعلى»، بل إن قبول هذه المسلمة يعني إنكار إمكان تدخل أي فاعل على أي نحو في نظام العالم، أو في سلسلة الحوادث الطبيعية. وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتعلم كيف يتحكم في الطبيعة بكشف قوانينها وتطبيقها. فلما كان الإنسان ذاته، تبعا لفرض المذهب الطبيعي، جزءا من نظام الطبيعة. فإن تدخله في هذا النظام، حتى عندما يصبح أظهر ما يكون (كما في حالة تحريك الجبال) أو أعمق ما يكون (كما في حالة الانشطار الذري)، لا يشكل تدخلا من خارج الطبيعة كتلك المعجزات أو «التجليات الإلهية» التي يفترض وقوعها. (3) المذهب الطبيعي والعلم
من الواضح أن فيلسوف المذهب الطبيعي يؤمن إيمانا تاما - كما هو متوقع - بمناهج العلم ونتائجه. أما المثالية فهي، كما رأينا من قبل، تقبل النظرة العلمية إلى العالم في حدودها الخاصة، ولكنها تنكر أنها تصل إلى حد إعطائنا معرفة نهائية قصوى. ومن جهة أخرى فإن صاحب المذهب الطبيعي ينكر من جانبه أن يكون في وسعنا تجاوز هذا التنظيم المنهجي للمعطيات التجريبية، الذي نطلق عليه اسم العلم، ونظل مع ذلك على أرض موثوق منها. ففي رأي هذا المذهب أن المعرفة (أعني أية معرفة جديرة بهذا الاسم) ينبغي إما أن تكون مستمدة من التجربة الحسية مباشرة، كما هي الحال في الموقف الطبيعي، وإما أن تكون قابلة للتحقيق الحسي عندما تتوافر الشروط اللازمة، كما هي الحال في العلم.
الخلط بين المذهب الطبيعي والمذهب الوضعي : أدى قصر المعرفة على المستوى التجريبي أو العلمي، على نحو ما رأينا، إلى سوء فهم كثير للمذهب الطبيعي، سواء من جانب خصومه المثاليين، ومن جانب المثقفين بوجه عام. ولسوء الفهم هذا جذوره التاريخية التي تمتد طوال الأعوام المائة الأخيرة من التطور العقلي. فهناك من المدارس الفرعية في المذهب الطبيعي بقدر ما في المذهب المثالي تقريبا، كما رأينا من قبل. وقد اضطرت كلتا المدرستين الكبيرتين إلى أن تدفع في بعض الأحيان ثمنا من فقدان هيبتها العقلية لقاء المواقف المتطرفة التي اتبعتها مدرسة فرعية صغيرة ما، من بين المدارس التي تسير في ركابها. وفي حالة المذهب الطبيعي، كانت الجماعة المتطرفة هي الوضعيين ولقد كان مؤسس مذهبهم الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت، الذي نشر كتابه الرئيسي منذ أكثر من مائة عام (1839-1842م). ولقد اندثرت مدرسته الآن تقريبا - وهو أمر يدعو إلى ارتياح المعتدين من أصحاب المذهب الطبيعي، الذين أرهقهم في العقود الأخيرة تبرير موقفها المتطرف. ولكن من سوء الحظ أن كثيرا من خصوم المذهب الطبيعي لا يدركون أنها اندثرت بالفعل. ومن ثم تراهم يواصلون محاسبة المذهب الطبيعي ككل على خطايا الموتى.
كانت الوضعية توحد بين المعرفة وبين العلم توحيدا تاما. فلم يكن العلم في نظرها هو السلطة الوحيدة في كل أمور الحقيقة أو المعرفة فحسب، بل إن أية تجربة لا تقبل التحقيق العلمي كانت ترد إلى فئة الأقوال المنعدمة المعنى، بل إلى فئة اللاوجود. ولقد أدت وجهة النظر القطعية هذه، وهي نظرة لم يكن من الممكن أن تنشأ إلى عندما كان العلم الحديث في عنفوان الثقة بالنفس، التي تتصف بها فترة المراهقة - أدت بطبيعة الحال إلى استثارة سخط كل أولئك الذين تبدو لهم تجارب الإنسان الأخلاقية أو الفنية أو الدينية تجارب حقيقية، بل تجارب لها مغزاها ودلالتها. ومن ثم هوجمت الوضعية بعنف، وامتد عنف الهجوم، في كثير من الأحيان، بحيث شمل كل رفاق الطريق من أصحاب المذهب الطبيعي. ولكن أغلب الظن أننا لن نجد اليوم أي مفكر بارز يؤيد هذا الموقف الوضعي المتطرف، بل إن الاتجاه اليوم قد تحول إلى المسار العكسي: ففي نصف القرن الأخير، كان هناك تطوير فلسفي مطرد، داخل الحدود العامة للمذهب الطبيعي في عمومه، لمدرسة يطلق عليها اليوم عادة اسم «المذهب الطبيعي النقدي». وتحاول وجهة النظر هذه، التي ربما كانت تمثل موقف المذهب الطبيعي في أعمق اتجاهاته الفكرية، أن تتجنب تطرف الوضعية وتطرف مادية القرن التاسع عشر، بأن تجد مكانا لكل الظواهر، وضمنها الظواهر الاجتماعية والأخلاقية والجمالية.
3
فالمذهب الطبيعي النقدي، مع تعريفه لكل شيء (وضمنه الذهن) من خلال العالم الطبيعي، ومثابرته على مهاجمة النزعة فوق الطبيعة بكل أشكالها، لا يوجد بين مجال الواقع العلمي وبين مجال التجربة البشرية الكاملة. والأهم من ذلك أنه يرفض تعريف الطبيعة من خلال المادة والحركة وحدهما، أو من خلال الحوادث التي تقع في الزمان- المكان من جهة أخرى. فهو يعد هذه مفاهيم منهجية ضرورية لعمل العلم، ولكنه يأبى أن يعزو إليها مركزا ميتافيزيقيا بوصفها الوسائل الوحيدة لتحديد طابع الطبيعة أو الواقع.
أما الأمر الذي يقبله المذهب الطبيعي النقدي - وهو هنا يتحدث باسم جميع أنصار المذهب الطبيعي - فهو الموقف أو الاتجاه العلمي، ولا سيما الإطارات العامة المستخدمة في صياغة المبادئ العامة للعلم. فهو يوافق على أن هذه المبادئ ينبغي أن تكون مبنية على وقائع تجربتنا المشتركة؛ أعني ذلك العالم الموضوعي القابل للتحقيق المفتوحة أبوابه لكل الملاحظين - وينبغي ألا تتجاهل هذه الوقائع أو تدعي العلو عليها بطريقة ما.
قانون الاقتصاد في الفكر : ينبغي لنا، لكي ندرك الدلالة الكاملة لوجهة النظر الأخيرة هذه، أن نبحث واحدا من المبادئ العامة للعلم، وهو المبدأ المعروف «بقانون الاقتصاد في الفكر
Law of Parsimony ». هذا المبدأ، الذي صاغه في الأصل وليام الأكامي
صفحه نامشخص