ويمكن وصف النسبية، باختصار، بأنها مذهب يقف على طرفي نقيض مع كل ما هو أساسي في النزعة المطلقة. فبينما النزعة المطلقة واحدية، فإن النسبية تميل بشدة إلى التعددية. وبدلا من قانون أخلاقي واحد شامل ثابت، تقول النسبية بعدد كبير من هذه القوانين. وبدلا من «خير» واحد، نجد هنا عددا لا حصر له من حالات «الخير» فحسب. وبدلا من «القيمة» بمعناها الشامل، نجد «قيما» فقط. وبالاختصار، فهذه المدرسة ترى أن كل خير نسبي، إما تبعا لما تقول الجماعة إنه صواب، وإما تبعا لما يشعر الفرد أنه صواب. وكل قيمة نسبية تبعا للزمان والمكان والمدينة، وهي تتوقف على طبيعة النوع البشري وحاجات الكائن العضوي الفردي في داخل هذا النوع. أما الكلام عن «الخير» بوصفه شيئا مستقلا عن هذه فلا معنى له. ويرى النسبي أن من المستحيل بوجه خاص، تجاهل طبيعة النوع الإنساني والاهتمامات الفريدة المميزة للبشرية. ولذا فإن كل ما يقوله أنصار المطلق عن «الخير الكوني» الذي يفترض أنه يسري على أي نوع يمكن تصوره من المخلوقات العاقلة، وضمنها أهل المريخ أو الملائكة، إنما هو محض هراء.
الأسس التاريخية للنسبية : لعل أفضل وسيلة لتكوين صورة واضحة عن النسبية هي بحث جذورها التاريخية وحججها الحالية. فبينما هذه النزعة كانت لها أسسها الوطيدة في اليونان القديمة - إذ إن السفسطائيين ربما كانوا أكمل مفكرين نسبيين عرفتهم الفلسفة حتى الآن - فإن تطورها الحديث قد بدأ مع عصر النهضة. وقد وصف عصر النهضة أحيانا بأنه ثورة في جميع الميادين على النزعة المطلقة السائدة في العصور الوسطى. وعلى الرغم من أن في هذا الوصف تبسيطا مفرطا، فإنه ينطوي مع ذلك على قدر غير قليل من الصواب. ولكن من الغريب مع ذلك أنه، على الرغم من أهمية الحركات النسيبة في الميدانين السياسي والديني خلال فترة عصر النهضة، فلم يحدث تطور كبير للنسبية الأخلاقية حتى بعد أن توطدت فترة النسبية في سائر الميادين. فكما رأينا من قبل، ظل «كانت» حتى أواخر القرن الثامن عشر يسلم بأن هناك قانونا أخلاقيا ملزما على نحو مطلق. كذلك فقد أوضحنا السبب الذي ظهرت من أجله النسبية الأخلاقية الحقة متأخرة إلى هذا الحد: ذلك لأن الانقسام الذي طرأ على المسيحية منذ عهد لوثر لم يكن يعني أي تراجع عن عقيدة التوحيد، وما دام هناك إله مطلق ذو إرادة مطلقة يفترض دون مناقشة، فسيكون من المحتم الإيمان بمعيار أخلاقي مطلق، يسود الكون بأسره.
ومع ذلك فقد حدثت خلال الأعوام المائة والخمسين الأخيرة عدة أمور جعلت امتداد النسبية إلى ميدان الأخلاق أمرا لا يقل عن ذلك النمو الهائل في العلم. ولقد كانت النتيجة النهائية لهذا النمو هي جعل الإيمان بألوهية واحدية، أو بنظام مطلق من القيم، أصعب مما كان في أيام «كانت». والعامل الثاني الذي أدى إلى ظهور النسبية الأخلاقية هو بداية عهد علم اجتماعي وتطور علم آخر: فقد ظهرت تلك الدراسة العلمية التي نطلق عليها اسم الأنثروبولوجيا، كما أن التاريخ أصبح يرتكز على أساس متين من البحث والدراسة. وقد أدى هذان المبحثان إلى تكديس مجموعة رائعة من المعلومات حول موضوع تغير العادات البشرية والمعايير الأخلاقية، بحيث لا يجد المرء مفرا من أن يستشف نزعة من هذه الأدلة التراكمية. وثالثا فإن لنظرية التطور نتائج نسبية؛ إذ إنها توحي بأن المعايير الأخلاقية قد تطورت مع المجتمع والنظم البشرية. ومثل هذا التطور الأخلاقي ينطوي بدوره على القول بأن التغير أساسي للأخلاق مثلما أنه أساسي للبيولوجيا، والتغير يؤدي منطقيا إلى إنكار أي معيار مطلق.
الحجج المنطقية : وهناك، بالإضافة إلى هذه الحجج العلمية والتاريخية المؤيدة للنسبية، حجج أخرى متعددة ذات طابع منطقي بحت. فهناك أولا تلك الحقيقة القائلة إن كل أخلاقية تبدو مبنية على استجابة انفعالية - أو بعبارة أدق، على تفضيل انفعالي. وتشكل وجهة النظر هذه هجوما حادا على النزعة العقلية المطلقة عند مفكرين مثل «كانت». وعلى الرغم من أن هذا الرأي المبني على فكرة الانفعال ليس مقبولا لدى جميع النسبيين، فإنه قام بدور هام في جعل النزعة المطلقة تقف موقف الدفاع؛ ومن هنا يستحق عرضا موجزا. هذا الرأي يقول باختصار أن كل ما ينظر إليه الناس بعين الموافقة، أو كل ما يثير استجابة انفعالية سارة، يسمى «خيرا». وكل ما يثير البغضاء أو الغيرة أو الاشمئزاز يرفض بوصفه «خطأ» أو «شرا». ومع ذلك، فلما كانت الانفعالات متغيرة، سواء من فرد إلى فرد، أو من لحظة إلى لحظة في الفرد الواحد، فإنه يترتب على ذلك أن تكون التقويمات الأخلاقية بدورها متغيرة وشخصية. فالشيء الذي يبعث التقزز في شخص معين، قد لا يؤثر في شخص آخر؛ ومن هنا فإن ما يراه الأول لا أخلاقيا أو «شريرا» لن يراه الثاني أمرا أخلاقيا على الإطلاق. وقد يحدث بالمصادفة أن يراه المشاهد الثاني أمرا طريفا، لا أمرا يدعو إلى التقزز، وعندئذ يؤدي إلى حدوث استجابة «طيبة»، أو «خيرة»، ما دام الشعور بطرافة شيء ما هو قطعا تجربة سارة.
أما الحجة المنطقية الثانية للنسبي فربما كان جميع أنصار هذا المذهب يقبلونها. هذه الحجة تشير إلى أن أي قانون أخلاقي مطلق ينطوي على التزام مطلق بأن من الواجب إطاعة القانون. فهناك دائما أمر موجود ضمنا في أية صورة من صور النزعة المطلقة في الأخلاق. كما رأينا من قبل، فليس في المذهب المطلق أي عنصر شرطي؛ فهو لا يقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك إذا أردت أن تعيش سعيدا»، وإنما هو أمر مطلق يقول «ينبغي لك أن تؤدي واجبك». ولهذه الصيغة نفس تأثير الأمر «أد واجبك!» غير أن كل الأوامر تنطوي على مصدر للسلطة، وكل إلزام يقتضي شخصا يلزم.
7
وهكذا فسرعان ما نجد أنفسنا غارقين في المشكلة الصعبة المتعلقة بمصدر الإلزام الخلقي أو أساسه. وحسبنا الآن أن نشير إلى أن النسبي ينكر وجود أية سلطة أو أي أمر كهذا. فهو لا يمل أبدا من الإشارة إلى أن أحدا لم يتمكن، تاريخيا، من أن يكتشف أساسا موضوعيا للإلزام الأخلاقي. ومن المؤكد أن صاحب المذهب المطلق أصبح، منذ انهيار سلطة العقيدة الدينية، يجد من الصعب محاولة إثبات مصدر للأمر المطلق. ذلك لأنه لم يكن من الصعب تحديد الفاعل الآمر، ما دام الناس جميعا يقبلون سلطة الكنيسة ويؤمنون بإله قادر على كل شيء، ذي إرادة مطلقة. ولكن، أمن الممكن إيجاد أساس دنيوي مماثل، يحل محل هذا الأساس الديني؟ هذا هو السؤال الذي يحاول نصير فكرة المطلق أن يجيب عنه بالإيجاب، وإن يكن النسبي يؤكد أنه لا يجاب عليه إلا بالنفي. (6) نتائج النسبية
من المرجح أن كل ما قلناه عن النسبية حتى الآن يجد قبولا لدى معظم القراء. ومع ذلك فإننا لم نكشف حتى الآن إلا عن الجانب الإيجابي لوجهة النظر هذه. ومن سوء الحظ أن للموقف النسبي نتائج معينة تحول بين معظم المفكرين وبين قبوله حتى بعد أن يكونوا غير راضين عن النزعة المطلقة.
8
ولا بد من فهم بعض هذه النتائج قبل أن نحاول الاختيار بين الموقفين، أو قبل أن نشرع في وضع صيغة معينة توفق بينهما.
صفحه نامشخص