هل تلزم المادية عن التجريبية المنطقية؟
هناك نتيجة رئيسية ثانية للتجريبية المنطقية ينبغي بحثها، على الرغم من أن أفراد المدرسة ونقادهم ليسوا متفقين بشأنها. هذه النتيجة، بالاختصار، هي: إذا كان التجريبي يشترط أن تكون كل القضايا ذات المعنى قابلة للتحقيق عن طريق الملاحظة، أليس معنى ذلك أنه، على الرغم من كل تبرئة من المذاهب الميتافيزيقية، يقول ضمنا بنظرية ميتافيزيقية، هي المادية؟ لا يمكن أن يكون هناك شك في أن شرط التحقيق التجريبي الذي يدعو إليه، يعني بالتأكيد المستمد من الحواس. وإن كان نادرا ما يقول ذلك. ولما كانت حواسنا لا تستجيب إلا للظواهر الفيزيائية، فهلا يعني ذلك بالضرورة أن معيار الواقعية (أو «الدلالة» أو «المعنى») في المذهب التجريبي، هو معيار ذو طابع مادي؟ وبالاختصار، ألا تفترض التجريبية المنطقية ضمنا نظرة إلى العالم تتميز بأنها، مهما كانت دقتها وقدراتها على التحليل وتعمقها الإبستمولوجي، هي في أساسها نفس المذهب المادي الذي كان يجد قبولا واسعا بين العلماء والفلاسفة المجددين خلال القرن التاسع عشر؟
وعلى الرغم من أنه يكاد يكون من المستحيل أن نضبط التجريبي وهو في غفلة إلى حد يكفي لكي يعترف بأن نظريته في المعنى بوصفها القابلية للتحقيق تنطوي على نتائج ميتافيزيقية، فإن بعض الأفراد البارزين في هذه المدرسة، كانوا على استعداد للأخذ بوجهة نظر يسمونها بالفيزيائية
ومع ذلك فإنهم يفضلون كثيرا أن يعرضوا هذه النظرية على أنها نظرية في اللغة والاتصال، مما يجعلها تبدو معرفية أكثر منها ميتافيزيقية. ولكن من سوء الحظ أن مفهوم الفيزيائية يرتبط ارتباطا وثيقا بالهدف الأكبر للتجريبية المنطقية، وهو وحدة العلم؛ ومن هنا كان لزاما علينا أن نزيد العرض الذي نقدمه تعقيدا ببحث المسألتين معا في آن واحد.
المذهب الفيزيائي ووحدة العلم : أعلن التجريبيون المنطقيون منذ وقت مبكر أن هدفهم الرئيسي هو ضمان أساس عقلي راسخ للعلم. وفضلا عن ذلك فقد توقعوا أن يؤدي هذا الأساس المتين (الذي يتحقق بالتحليل المنطقي لكل القضايا والمفاهيم، سواء تلك المستخدمة في العلوم وفي اللغة اليومية) إلى إيجاد إطار لعلم موحد. ويعني التجريبي بالعلم الموحد، نسقا شاملا من المفاهيم والألفاظ المشتركة بين كل العلوم المختلفة، دون أن ينفرد بها علم واحد أو اثنان فقط. مثل هذه اللغة تكون في واقع الأمر لغة عالمية للعلم، تتيح لنا الجمع بين عبارات تنتمي إلى ميادين متباينة في قضايا ذات معنى. ويقدم إلينا أوتو نويرات
Otto Neurath ، وهو أحد مؤسسي التجريبية المعاصرة، مثلا للحاجة التي يراها شديدة إلى وجود نسق كهذا، وهو النسق الذي يتيح لنا التنقل بحرية في جميع أرجاء عالم المعرفة العلمية: «إن اللغة العالمية للعلم تصبح مطلبا واضحا بذاته إذا ما تساءلنا: كيف يمكن استخلاص تنبؤات فردية معينة، مثل «حريق الغابة سيخمد سريعا». فلكي نفعل ذلك نحتاج إلى جمل تنتمي إلى مجال علم الأرصاد الجوية وعلم النبات، فضلا عن جمل تتضمن ألفاظ «الإنسان» و«السلوك البشري». فمن الواجب أن نتحدث عن طريقة رد فعل الناس إزاء النار، وأي النظم الاجتماعية هي التي ستستخدم في هذه الحالة. وهكذا فإننا نحتاج إلى جمل من مجالي علم النفس وعلم الاجتماع. ولا بد أن يكون من الممكن الجمع بين هذه الجمل وغيرها في استنباط تكون نهايته هي الجملة: «وإذن، فحريق الغابة سوف يخمد سريعا».
6
وهذا يعني أن التجريبية المنطقية تحاول صياغة طريقة للاتصال تؤدي بالفعل إلى تحويل ما نسميه الآن «علوما» فحسب إلى «علم» واحد. صحيح أنه يشيع بيننا الآن استخدام لفظ «العلم » وكأن لدينا بالفعل نسقا موحدا للفكر والمعرفة. ومع ذلك فإن كل عالم (أي كل مشتغل في ميدان علمي محدد) يعلم جيدا أنه لا يوجد حتى الآن بناء متكامل كهذا. ويرى التجريبي المعاصر أنه لا يمكن وجود علم شامل ما لم يتم إيجاد وسيلة فعالة للاتصال المتبادل بين الميادين الخاصة للعلم. فلا بد من أن تكون هناك لغة مشتركة؛ أي منطق مشترك ومجموعة من الرموز المشتركة - تتيح لنا أن نربط، كلما دعت الحاجة، بين مختلف أنواع القوانين بعضها ببعض بوصفها عناصر في نسق واحد.
ولكن ماذا يكون طابع مثل هذه اللغة الشاملة الخاصة بالعلم الموحد؟ إن المنطقي التجريبي يعتقد أنها لا يمكن أن تكون رياضية خالصة، بغض النظر عن مدى قيمة الرياضيات بوصفها أداة علمية. وإنما هو يعتقد بدلا من ذلك أنها ينبغي أن تكون تطويرا وتهذيبا للغتنا التي نستخدمها بالفعل في المواقف اليومية. تلك هي «لغة الأشياء» التي نستخدمها في الفيزياء والهندسة والحياة اليومية كلما تحدثنا عن أمور مادية. فإذا بدأنا بهذه اللغة الجاهزة - والتي يفتقر استخدامها مع ذلك إلى الدقة - كانت مهمتنا بعد ذلك هي أن نضع قواعد تكوين هذه اللغة وتحويلها حتى يصبح من الممكن التعبير عن جميع القضايا والمفاهيم فيها. والغاية هنا، كما هي في جميع حالات توحيد العلم، هي إنقاص عدد النسق الاستنباطية إلى الحد الأدنى - والمثل الأعلى لذلك هو إنقاصها إلى نسق واحد. ولنستمع إلى ما يقوله في هذا الموضوع، رودلف كارناب
Rudolph Carnap »، الذي ربما كان أشهر ممثلي هذه الحركة:
صفحه نامشخص