وأتمت دراستها. وأرادت أن تملأ الفراغ بالعمل، فاشتغلت مدرسة. وواتتها فرص الزواج تباعا فأعرضت عنها جميعا، حتى سألتها أمها: ألا يعجبك أحد؟
فقالت برقة: إني أعرف ما أفعل. - ولكن الزمن يجري؟ - فليجر الزمن كيف شاء، أنا راضية.
ويتقدم بها العمر يوما بعد يوم. تتجنب الحب وتخافه، تأمل بكل قواها أن تمضي الحياة في هدوء، مطمئنة أكثر منها سعيدة. تلح على إقناع نفسها بأن السعادة لا تنحصر في الحب والأمومة. ولم تندم قط على قرارها الصلب. ومن يدري ماذا يخبئ الغد؟ حقا إنها تأسف لظهوره في حياتها من جديد، وأنها ستتعامل معه يوما بعد يوم. وأنه سيجعل من الماضي حاضرا حيا أليما. وعندما خلا إليها في حجرته لأول مرة، سألها: كيف حالك؟
أجابت ببرود: على خير ما يكون.
فتردد قليلا ثم سأل: ألم ... أعني تزوجت؟
فقالت بنبرة من يقصد قطع هذا الحديث: قلت: إنني على خير ما يكون.
العجوز والأرض
لفت نظري منظر جديد في أثناء مسيرتي اليومية على شاطئ النيل بشارع الجبلاية. الساعة السابعة صباحا، أوائل الربيع، الطريق تكاد تخلو تماما من أي عابر، رأيت على سفح المنحدر نحو النهر رجلا وامرأة. الرجل عجوز يقارب الثمانين، طويل القامة مع احديداب خفيف، أبيض الشعر خفيفه، عتيق القسمات، يرتدي بدلة متهدلة من التيل السنجابي، والمرأة فوق الستين، امحت من صفحة وجهها أمارات الأنوثة وحل الجفاف والخشونة. على الأرض بينهما انطرحت خيمة مطوية، وتناثرت حلل نحاسية وآنية شاي وموقد غاز. خطر لي أنهما جاءا يمضيان يوما على شاطئ النيل تسلية عن الوحدة والكبر، فأشفقت على صفوهما من حصا المنحدر والقاذورات المتراكمة فوق أديمه. في اليوم التالي أدهشني أن أرى الاثنين بنفس موضع الأمس. وضاعف من دهشتي أن أراهما منهمكين في رفع الحصا وكنس القاذورات على مدى مسافة غير قصيرة من الشاطئ. ترى ما شأنهما؟ هل يبغيان إقامة طويلة؟ وتمهلت في السير ممعنا النظر. انتبها إلي فتطلعا نحوي بأعين متوجسة مرتابة ، فلم أر بدا من الإسراع في الخطو دفعا للحرج. هل داخلهما شك في نيتي؟ هل حسبا أنني أراقبهما من موقع مسئوليتي عن الشاطئ؟ شعرت نحوهما بالعطف والرثاء، وتمنيت على الله ألا يخيب لهما رجاء. في صباح اليوم الثالث رأيت الأرض قد خططت فأصبحت أحواضا متتابعة على هيئة مستطيلات، على حين ركب أسفل المنحدر شادوف لرفع المياه، وغير بعيد جلس الزوجان يحتسيان الشاي. ولما رأياني مقبلا رفعا رأسيهما نحوي في قلق فاق قلق الأمس. مررت مسرعا مشفقا متحاشيا التقاء الأعين. إنه الخوف عليه اللعنة. يطاردهما في مهجرهما الجديد ولا شك. وثمة سبب يمكن تخمينه رغم جهلي بتلك الأمور. إنهما يسيئان الظن بمسيرتي الصباحية، ويتوهمان أنها تدور من أجل مراقبتهما. كيف أعفيهما من جرعة النكد اليومية التي أصبحهما بها؟ لا غناء لي عن الطريق، ولكن بوسعي أن أتجاهلهما أو أشعرهما بذلك. ويوما بعد يوم أرى - بلحظ العين - المياه وهي تغمر الحقل، والخيمة وهي تنتصب في رشاقة. ويوما بعد يوم تغير وجه الأرض، فآذن بمولد حياة جديدة. ويوما بعد يوم ذرت القرون الخضراء كالأغاريد الخفيفة مبشرة بالبهجة المشرقة. تمنيت لو كان في قدرتهما أن ينشرا العمران في الشاطئ كله، ويريحا البصر من سوء مطلعه. ولم يكدر صفوي إلا إصرارهما على التوجس والحذر. حتى قررت يوما أن أحيي وأبتسم. وما كدت أفعل حتى لوح إلي العجوز بيده، وصعد نحوي حتى وقف أمامي، ثم سألني: حضرتك موظف؟
فأجبت بالإيجاب فعاد يسأل: في المحافظة؟
فقلت بوضوح: كلا، لا علاقة لي بالمحافظة ولا الداخلية ولا ما شاكل ذلك.
صفحه نامشخص