وزحف الجيش بثورته، فانطوت صفحة وانبثقت صفحة جديدة. وتفجرت ينابيع الأمل وتضاربت الخواطر. وباتت جماعتنا ركن المقهى الركين وقاعدته الثابتة. وكالمنتظر تسلل إلى الأركان شباب صاعد، واشتبكت حباله بحبالنا بحكم الجوار والعشرة. ومع تتابع الأمجاد اعترضت أزمات كما عودنا التاريخ، وحملقت أعين الأمن تطارد الخوارج، ونادى أهل الحكمة بيننا: حذار من السياسة وحديثها يا محبي السلام والسلامة. وعقدنا العزم على ذلك، ولكن اجتاحنا الإغراء وألح علينا كحكة الجرب. وقبض على نفر منا لتهور التعبير ونزقه، فتعلمنا التفاهم بالهمس والإشارة والرمز ونحن نستعيذ بالله من المهالك. وكلما بدا وجه غريب رمقناه بحذر، وإذا طرح شاب سؤالا محرجا تساءلنا: ترى ماذا وراءه؟ وحدثونا عن أجهزة التسجيل التي تلتقط الخواطر من بعيد، حتى اقترح البعض أن نقبع في دورنا آمنين. وعجزنا عن تنفيذ ذلك، وقلنا: إنه لا غنى لنا عن سلوى اللقاء، وأن الأمان متاح لمن يصون لسانه. وكدر صفونا الشباب الصاعد بتعاليه علينا، وتجاهله لماضينا، وازدرائه لأمجادنا. نحن لا ننكر المعجزات التي تقع، ولا الانتصارات التي تتحقق، ولا انطلاق الأيدي القوية لتحرير الشرق والغرب. ولكن ما الداعي إلى إنكار أمجاد سلفت وانتصارات سبقت؟! وتجنبنا مع ذلك الخصام، وتراجعنا عن العناد، واستبشرنا خيرا بالغد وما بعده. وكنا إذا تحدانا سؤال مستفز مثل: «من يكون سعد زغلول؟» أجبنا بكل تواضع: «كان محاميا ناجحا»، أو «من يكون مصطفى النحاس»؟ قلنا بمنتهى اللطف: «كان تاجر مني فاتورة بالغورية». قلنا: لا داعي لتكدير الصفو بالجدل العقيم، ولنترك للتاريخ ما ينفرد بتصحيحه عندما يشاء، ولنشارك في الفرحة الشاملة بكل بناء يقوم أو عدالة ترسخ. •••
ودهمنا ونحن في غفلة يوم 5 يونيو الأسود. تطايرت آمالنا أشلاء وشظايا ثم سقطت في أعماق بئر من رماد عفن، تحول سكان المقهى إلى أشباح تهيم في وادي الظلام مهمهمة في هذيان متواصل. الحزن شامل، الحزن باك، الحزن ساخر. لم يخل حزننا من تمرد أما حزن الأصدقاء الجدد فتلقفته دوامة الضياع. قالوا لنا بنبرة جديدة: «حدثونا عن دنياكم كيف كانت؟» ليكن، فالحديث هو السلوى المتاحة، ولكن ما جدواه؟ وسألونا أيضا: «ما حكمة خلق الإنسان في هذا الوجود؟» وتراكمت الإجابات مثل تل من الهواء. واستمر الحديث واستمر الزمن. تراجعنا إلى ركن الشيوخ وانبسطوا في كل مكان، وحدثت أمور، وواصلت الحياة العطاء والموت الإفناء. وارتفع شعار الانفتاح، فريق هاجر بلا أسف، وفريق ارتفع تحوطه الريب، وفريق عوى عواء الذئاب. لم نكن نفرح بالنصر إلا يوما أو بعض يوم، ولا بالسلام إلا ساعة أو بعض ساعة. وانصبت الأحاديث على الخيار والطماطم والرغيف، وزاغ البصر بين الغيم الداكن والبرق الخاطف اللامع. •••
وذات مساء قال لنا الشافعي صاحب المقهى: آسف يا حضرات، تم الاتفاق على بيع المقهى!
لم نصدق أول الأمر، حتى تأكد لدينا أنه سيقوم مقامه سوبر ماركت. يا ألطاف الله! إنه خبر كطعنة خنجر. مقهى العمر والذكريات والآباء، المقهى الذي داعب صبانا وآوى شبابنا وكهولتنا، وشهد حبنا وزواجنا وإنجابنا وهزيمتنا ونصرنا. وتساءلنا: أين نتلاقى كل مساء؟ قال أحدنا: أقرب مقهى إلى حينا مقهى الانشراح في أول الظاهر .
قال آخر: لكنه مقهى الحرفيين، غاية في الفقر والقذارة.
فقال الأول: اصح، حقا ما زال مقهى الحرفيين، ولكنهم يذهبون إليه اليوم في سياراتهم الخصوصية الملاكي، وقد تجدد المقهى بتجددهم، فأصبح انشراحا بالمعنى الصحيح.
ثم وهو يضحك: سنمثل فيه الطبقة الكادحة الجديدة!
عندما يقول البلبل: لا
تطاير في جو المدرسة نبأ هام بأن الناظر الجديد حضر. تلقت النبأ في غرفة المدرسات وهي تلقي نظرة أخيرة على دروس اليوم. لا مفر من أن تهنئه مع المدرسات، وأن تصافحه أيضا. سرت في بدنها قشعريرة ولكن لا مفر. قالت زميلة: ينوهون بكفاءته، ويتحدثون أيضا عن صرامته.
كان دائما احتمالا متوقعا وها هو قد وقع. شحب وجهها الأنيق ولاحت في عينيها السوداوين النجلاوين نظرة شاردة. وأزفت الساعة فذهبن طابورا في أرديتهن المحتشمة إلى حجرته المفتوحة. وقف وراء المكتب يستقبل الوافدات والوافدين. متوسط القامة، مائل إلى البدانة، ذو وجه كروي وأنف أقنى وعينين جاحظتين، يتقدمه شارب غليظ منتفخ مقوس كموجة محملة بالزبد، تقدمت في خطى خفيفة مركزة عينيها على صدره متحاشية عينيه، ثم مدت يدها. ماذا تقول؟ مثلما قلن؟ لكنها خرست فلم تنبس بكلمة. ترى ماذا تجلى في عينيه؟ صافح يدها الرقيقة بيده الغليظة، وقال بصوته الخشن: شكرا.
صفحه نامشخص