فقال المرشد بصرامة: التدخين ممنوع أيضا، اذهبا.
ولاح القهر في وجهي الرفيقين، ولكنهما أذعنا لأمره مرغمين، فرجعا إلى السيارة يجران ذيول الخيبة.
وقال بوضوح: واجبي لا يتضمن أي تساهل مع المتسيبين أو الكسالى أو المنحرفين.
وعند الضحى أوشك أن ينهكنا التعب، وفترت قوانا في الملاحظة والمتابعة، ووضح لنا أنها رحلة شاقة بكل معنى الكلمة وامتحان قاس للكرامة، وإن جرت في إطار الرياضة. وتراءت لكثيرين لهوا ولعبا. واشتد الوقت وغلظ، وتاقت أنفسنا إلى لمسة من الراحة، وإذا بالمرشد ينفخ في الصفارة ليشد الانتباه إليه، ثم يصيح بنا: عليكم أن تفعلوا مثلي.
واندفع يجرى جريا هادئا مع رفع الساقين وتحريك الذراعين. حلمنا بدعوة إلى الراحة لا إلى مضاعفة الجهد. واضطررنا إلى محاكاته بقلوب حانقة ووجوه مكفهرة. وارتفعت الشمس نحو كبد السماء مرسلة أشعة ساخنة رغم عذوبة الهواء. وتعثر شاب فندت عنه آهة، وتوقف مغلوبا على أمره، فصاح المرشد: إلى السيارة!
هكذا خرج سيئ الحظ من السباق، وأمدنا خروجه بشيء من الصلابة والصبر، ولاحت عن بعد صخرة عاتية كأنها صغيرة، تشبه إلى حد ما رأس أبي الهول من الخلف، فاتجه الرجل نحوها، ولما بلغها نفخ في الصفارة مرة أخرى ووقف، فوقفنا ونحن نلهث ونكاد نسقط إعياء، والتفت نحونا وقال: جلسة للراحة وتناول الغداء.
افترشنا الرمال، ووزع علينا رجال السيارة لفافات وقارورة صغيرة من المياه. وفي صمت جعلنا نحل أربطة اللفافات، فوجدنا رغيفا وبطاطس وقطعة من الطماطم وشريحة من اللحم البارد وبرتقالة. التهمنا الطعام بشهية عظيمة، وارتوينا ثم استلقينا على ظهورنا طلبا للاسترخاء أو النوم، وسأل أحدنا المرشد ببراءة: هل يمكن أن أدخن سيجارة هنا؟
فقال الرجل بهدوء: اذهب إلى السيارة!
وجم الشاب، وندت عن جار له ضحكة ساخرة فقال المرشد للضاحك: وأنت معه فورا!
ونظر الرجل نحوهما بتحد فلم يجدا بدا من الإذعان لمشيئته. وقام قبل أن ننال كفايتنا من الراحة فنفخ في الصفارة، وعد ثلاثا، ثم واصل السير. تبعناه ساخطين وصامتين. أيكون هذا الرجل مثاليا أم ساديا؟! وقلت لنفسي: صدق من قال إن السلطة تكشف في صاحبها عن أحسن ما فيه وأسوأ ما فيه معا. وتذكرت من نصحوني بعدم الاشتراك في هذا السباق، ولكني لم أنس كيف يتباهى الفائز فيه بما أحرز على مدى العمر. وأعملت في الملاحظة والاستذكار جماع ما أملك من قوة ومعرفة. حقا إنه سباق يتطلب قوة في الملاحظة، وصلابة في الإرادة وصفاء في الذاكرة، وتألقا في الذكاء، بالإضافة إلى ما يحتاجه من شدة الصبر والاحتمال والشجاعة وضبط النفس، وحسن السياسة مع مرشدنا الجبار. وسارع إلينا التعب، وساورتنا الهواجس، وتوقعنا من ناحية المرشد مفاجأة جديدة تفوق سابقتها في عنفها، ومع ميل الشمس نحو الأفق انخفضت درجة الحرارة ونضح الهواء ببرودة غير مؤذية، وزادت سرعته فأنذر بهبوب عاصفة، ووهنت عزيمة شابين فتخلفا عن السباق باختيارهما ولاذا بالسيارة في كآبة واضحة. وتساءلت فيما بيني وبين نفسي ألا يجوز على هذا الرجل ما يجوز علينا من التعب؟ لماذا يبدو وكأنما قد من عجينة غير عجينة بقية البشر؟! وحدث ما توقعناه فغير الرجل إيقاع السير، واندفع يجري بسرعة جديدة مضاعفة. بدأنا الجري والليل يهبط، وخضنا الظلام على ضوء النجوم الخافت، معرضين طوال الوقت لشيء نرتطم به أو شيء يرتطم بنا، أو حفرة نقع فيها أو منحدر ننزلق عليه، وتعذر علينا الاستمرار في الملاحظة والتفكير، حتى خيل إلي أن الحظ وحده كان وراء من فاز في هذا السباق في الأعوام السابقة. وأخيرا وبعد الإشفاء على اليأس انطلقت الصفارة وارتفع صوت المرشد آمرا بالوقوف. وقفنا ونحن من الإرهاق في حال. ولعلنا لم نعد نطمح إلى الجائزة مؤثرين السلامة. وقال الرجل: العشاء، ثم النوم، نستأنف السير عند منتصف الليل، وبعد مرور ساعتين من التحرك تجمع البطاقات مسجلة عليها الأجوبة، نبلغ هدفنا بمشيئة الله عند طلوع الشمس.
صفحه نامشخص