5 .
ولعلك من قراءة مذهبهم تشعر بما كان لهم من أثر كبير في المسلمين، وسيتضح ذلك تمام الوضوح عند الكلام على المذاهب الدينية، إلا أنه يصح لنا أن نذكر هنا إجمالا أن عقيدة العامة من المسلمين في الصراط بهذا النمط الذي يحكيه زردشت، وفي الأعراف على هذا الوجه، وتحليق الروح على الجسد، وإقامة الشعائر لذلك ثلاثة أيام، كل هذه عقائد تشبه مشابهة تامة ما في الديانة الزردشتية، وقول المعتزلة في الجبر والاختيار، وقول الصوفية في أقسام النفس، كله مأخوذ عن هذه الديانة، وسنعرض لهذا الموضوع في موضعه إن شاء الله. (ب)
ماني والمانوية
6 : من أشهر المذاهب الدينية التي كثر أتباعها، المانوية، وقد ولد ماني - مؤسسها - حسبما يقول البيروني في كتابه «الآثار الباقية» سنة 215 أو 216 م، وعاش مذهبه - برغم ما لقي من اضطهاد - إلى القرن السابع الهجري، والثالث عشر الميلادي، وكان له أتباع كثيرون في آسيا وفي أوروبا، وكان له أثر كبير في الآراء الدينية، وكانت تعاليمه مزيجا من الديانة النصرانية والزردشتية، وهي - كما يقول الأستاذ برون - أن تعد زردشتية منصرة أقرب من أن تعد نصرانية مزردشة، وقد كتبت عنه مصادر عربية وأخرى أوروبية، وقد وثق الأستاذ برون المصادر العربية وقال: إنها أقرب إلى الصحة، وأهم المصادر العربية في هذا: الفصل في الملل والنحل لابن حزم، والملل والنحل للشهرستاني، وفهرست ابن النديم، وتاريخ اليعقوبي، والآثار الباقية للبيروني وسرح العيون لابن نباتة.
وخلاصة مذهبه أن العالم كما قال زردشت نشأ عن أصلين وهما: النور والظلمة، وعن النور نشأ كل خير، وعن الظلمة نشأ كل شر، والنور لا يقدر على الشر، والظلمة لا تقدر على الشر؛ وما يصدر عن الإنسان من خير فمصدره إله الخير، وما يصدر من شر فمصدره إله الشر، فإن هو نظر نظرة رحمة، فتلك النظرة من الخير والنور، ومتى نظر نظرة قسوة فتلك النظرة من الشر والظلمة، وكذلك جميع الحواس، وقد امتزج الخير والشر في هذا العالم امتزاجا تاما؛ وقد أطال هو وأصحابه في كيفية هذا الامتزاج بما يشبه الخرافات.
وهو في هذا لا يخرج كثيرا عن تعاليم زردشت - كما ترى - ولكن يخالفه بعد في أمر جوهري: وهو أن زردشت كان يرى أن هذا العالم الحاضر عالم خير، لما فيه من مظاهر نصرة الخير على الشر، في حين أن ماني يرى أن نفس الامتزاج شر يجب الخلاص منه، وزردشت يرى أن يعيش الإنسان عيشة طبيعية، فيتزوج وينسل، ويعنى بزرعه ونسله وماشيته ويقوي بدنه ولا يصوم، وأنه بهذه المعيشة ينصر إله الخير على إله الشر؛ وأما ماني فنزع منزعا آخر هو أشبه ما يكون بالرهبنة، وقد كان ماني - كما يقولون - راهبا بحران، فرأى أن امتزاج النور بالظلمة في هذا العالم شر، ومن أجل هذا حرم النكاح حتى يستعجل الفناء؛ ودعا إلى الزهد، وشرع الصيام سبعة أيام أبدا في كل شهر، وفرض صلوات كثيرة، يقوم الرجل فيمسح بالماء ويستقبل الشمس قائما، ثم يقوم ويسجد وهكذا، اثنتي عشرة سجدة، يقول في كل سجدة منها دعاء، ونهى أصحابه عن ذبح الحيوان لما فيه من إيلام، وأقر بنبوة عيسى وزردشت وقال: إني (ماني) النبي الذي بشر به عيسى.
وقد ذكر أن هرمز ملك الفرس اعتنق مذهبه وأيده، وأنه دخل في دينه كثير من الناس، فلما مات هرمز وخلفه بهرام الأول لم يرتح إلى تعاليمه وقتله وشرد أصحابه، ولكن لم تمت تعاليمه، كان لدينه أئمة يتعاقبون، وكان مركز الإمام أولا في بابل، ثم تحول إلى سمرقند، وقد قال ابن النديم: «إنه لما انتشر أمر الفرس وقوي أمر العرب عادوا إلى هذه البلاد - ولا سيما في فتنة الفرس، وفي أيام ملوك بني أمية - فإن خالد بن عبد الله القسري كان يعنى بهم، وآخر ما انجلوا من أيام المقتدر، فإنهم لحقوا بخراسان خوفا على نفوسهم، ومن بقي منهم ستر أمره، وقد قالوا في المواضع الإسلامية، فأما مدينة السلام فكنت أعرف منهم أيام معز الدولة نحو ثلاث مئة، وأما في وقتنا هذا فليس بالحضرة منهم خمسة أنفس» ثم عد بعضا من رؤسائهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، فعد منهم الجعد بن درهم، وكان مؤدبا لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ وكان خالد بن عبد الله القسري يرمى بالزندقة، وصالح بن عبد القدوس، وبشار بن برد، وسلم الخاسر، وقال: «قيل: إن البرامكة بأسرها إلا محمد بن خالد بن برمك كانت ترمى بالزندقة؛ وقرأت بخط بعض أهل المذاهب أن المأمون كان منهم وكذب في ذلك، وقد أصبحت رياستهم الآن في سمرقند».
وكذلك انتشرت في أوروبا إلى فرنسا الجنوبية، وقد ذكروا أن «سانت أوغسطين
St. Augustine » ظل مانويا عهدا طويلا قبل أن يعتنق النصرانية.
وكان للمانوية حركة أدبية في التأليف، وأثاروا كثيرا من المسائل جادلوا فيها من نشأتهم، فقد حكوا أن موبذ موبذان (قاضي القضاة) ناظر (ماني) فقال الموبذ: أنت الذي تقول بتحريم النكاح لتستعجل فناء العالم؟ فقال ماني: واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل؛ فقال الموبذ: فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه، وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم، فبهت ماني، فأمر بهرام به فقتل، كذلك حكوا أن المأمون ناظر أحد المانوية فقال : هل ندم مسيء على إساءته؟ قال: بلى، قد ندم كثير، قال: فخبرني عن الندم على الإساءة إساءة هو أم إحسان؟ قال: إحسان، قال: فالذي ندم هو الذي أساء؟ قال: نعم، قال: فأرى صاحب الخير هو صاحب الشر؛ وقد بطل قولكم إن الذي ينظر نظرة الوعيد غير الذي ينظر نظرة الرحمة؛ قال: فأزعم أن الذي أساء غير الذي ندم؛ قال: فندم على كل شيء كان من غيره أو على شيء كان منه؟ فقطعه بهذه الحجة.
صفحه نامشخص