ولما غزا الفرس الروم وأخذوا منهم أورشليم ودمشق (613-614م) انحط شأن الغساسنة وضعف أمرهم، ويذكر مؤرخو العرب «أن آخر ملوكهم هو جبلة بن الأيهم، وأن الإسلام جاء وهو على ملكه، ولما فتح المسلمون الشام أسلم جبلة واستشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته، لكرم وفادته، وأحسن عمر نزله وأحله بأرفع رتب المهاجرين، ثم غلب عليه الشقاء ولطم رجلا من بني فزارة وطيئ فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر في القصاص فأخذته العزة بالإثم، فقال له عمر: لا بد أن أقيده منك ... فهرب إلى قيصر، ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة 20ه»
5 .
وكان هؤلاء الغسانيون - على ما يظهر - أرقى عقلية حتى من عرب الحيرة؛ لأنهم كانوا أقرب اتصالا بالثقافة اليونانية والمدنية الرومانية، وكان شعراء العرب يفدون إليهم فيحسنون وفادتهم؛ فقد وفد عليهم، فيما نعرف، النابغة الذبياني والأعشى والمرقش الأكبر وعلقمة الفحل؛ وفيهم يقول حسان:
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
كذلك الأدب العربي مملوء بالقصص والأساطير والأمثال التي قيلت في هؤلاء الغساسنة، كالذي ذكروا من حكاية امرئ القيس وإيداعه مئة درع عند السموءل، فطلبها ملك من ملوك غسان فأبى أن يعطيها إياه فذبح ابنه، إلى كثير من أمثال ذلك.
ويروي لنا أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني «أن حسان بن ثابت دعي إلى مأدبة سمع فيها غناء رائقة وصاحبتها، فلما عاد إلى بيته قال: لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم ... لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، وكان (جبلة) إذا جلس للشراب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحائف الفضة والذهب، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيا، وإن كان صائفا بطن بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكساء صيفية، ينفصل
6
هو وأصحابه بها، وفي الشتاء بفراء الفنك
7
صفحه نامشخص