148

فجر اسلام

فجر الإسلام

ژانرها

بجانب هذه الحياة الجليلة الوقورة، التي تصفها لنا كتب طبقات المحدثين والفقهاء والمفتين، كانت تسود في الحجاز حياة أخرى، هي حياة فرح ومرح وطرب وشراب، تصفها لنا كتب الأدب وخاصة كتاب الأغاني، فمن الحق أن نصور هذا العصر من جميع جهاته كما كان، بالحجاز زهد وورع وتقوى وحديث وفقه؛ وكان بالحجاز شراب وتشبيب بالنساء - حتى في موسم الحج - ولهو ولعب كثير، وكما أنتجت الحياة الأولى علما كثيرا، أنتجت الحياة الثانية فنا بديعا من غناء وتنادر وأدب، ومن العجب أن يفوق هذا الفن في الحجاز مثيله في العراق والشام - على ما يظهر لنا - فقد امتلأت مكة والمدينة وضواحيهما بالمغنين والمغنيات، حتى روى لنا أبو الفرج أن المغنين كانوا يخرجون إلى الحج قوافل؛ واشتهر في عصر واحد أربعة من كبار المغنين: ابن سريج، والغريض، ومعبد، وحنين، وكان الثلاثة الأولون بالحجاز، والأخير وحده بالعراق، فاجتمع الأولون فتذاكروا، وكتبوا لحنين يقولون: نحن ثلاثة وأنت وحدك فأنت أولى بزيارتنا! فشخص إليهم ... واجتمعوا بمنزل سكينة، فلما دخلوا أذنت للناس إذنا عاما فغصت الدار بهم ... وازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه، فسقط الرواق على من تحته ومات حنين تحت الهدم

4 ، واجتمع في زمن واحد من مشهوري المغنين والمغنيات في الحجاز جميلة وهيت وطويس والدلال وبرد الفؤاد ونومة الضحى ورحمة وهبة الله ومعبد ومالك وابن عائشة ونافع بن طنبورة وعزة الميلاء وحبابة وسلامة وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء ... إلخ، ويرون أن هؤلاء حجوا فتلقاهم في مكة سعيد بن مسجح وابن سريج والغريض وابن محرز، وخرج أبناء أهل مكة من الرجال والنساء ينظرون إلى حسن هيئتهم ... إلخ

5 ، ويقول أبو الفرج: «إن الناس قد اجتمعوا عند جميلة فضربت ستارة، وأجلست الجواري كلهن، فضربن، وضربت، فضربن على خمسين وترا فتزلزلت الدار، ثم غنت على عودها، وهن يضربن على ضربها» ... إلخ

6 .

وكان لمغني مكة مذهب في الغناء ولمغني المدينة مذهب، وكان بين الفريقين مفاخرة، وأقبل الناس على الغناء يسمعونه، حتى يروي لنا أبو الفرج أيضا أنه نمى إلى عبد الملك أن رجلا أسود بمكة يقال له سعيد بن مسجح أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم، فكتب إلى عامله أن اقبض ماله وسيره

7 ، وحتى يروى لنا أن الإمام مالك بن أنس قال: «نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي عز وجل ما ترى»

8 .

وإلى الغناء كان التنادر والفكاهة الحلوة، فكان الناضري مندر أهل المدينة ومضحكهم، ثم خلفه أشعب، فملأ الحجاز ملحا ونوادر، كما أمتع أهله بحسن صوته، وخلف لنا في كتب الأدب نوادر ممتعة، أضحك بها أهل المدينة في مجالسهم.

والحق أن الحجاز كان غنيا بفني الغناء والمنادرة ، كما كان غنيا بالفقه والحديث، وكان أكثر المغنين في قصور أمراء بني أمية وخلفائهم ممن تخرجوا في مدرسة الحجاز، وليس عجيبا أن يكثر الفقه والحديث في الحجاز لما بينا، إنما كان عجيبا أن يبز الحجاز العراق والشام في الغناء وما إليه، فقد كان أقرب إلى الذهن أن يكون العراق وارث المدنيات المتتابعة، أو الشام - وقد تحضر بحضارة الرومانيين - أسبق من الحجاز في إجادة الغناء وما يحيط به من لهو ومجون، والحجاز كما قدمنا أقرب إلى البداوة، وهو إذا قورن بالعراق أو الشام كان فقيرا مجدبا، فما السر في ذلك؟

لعل السبب ما نراه في ثنايا الكتب من ظرف أهل الحجاز ورقة شعورهم، وأنهم في ذلك العصر فاقوا أهل العراق والشام، حتى لقد كان فقهاء الحجاز أوسع صدرا وأكثر تسامحا في الغناء والمجون من أهل العراق، وقد رأينا قبل أن ما لأهل العراق من تشدد في الدين كان وليد الفرس؛ جاء في الأغاني أن عبيد الله بن عمر العمري قال: «خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها: يا أمة الله! ألست حاجة؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ثم قالت: تأمل يا عمي فإني ممن عنى العرجي بقوله:

صفحه نامشخص