الجزء الأول: العرب في الجاهلية
1 - جزيرة العرب
2 - اتصال العرب بمن جاورهم من الأمم
3 - طبيعة العقلية العربية
4 - الحياة العقلية للعرب في الجاهلية
5 - مظاهر الحياة العقلية
مصادر هذا الباب
الجزء الثاني: الإسلام
6 - بين الجاهلية والإسلام
7 - الفتح الإسلامي، وعملية المزج بين الأمم
مصادر هذا الباب
الجزء الثالث: الفرس وأثرهم
8 - دين الفرس
9 - الأدب الفارسي
مصادر هذا الباب
الجزء الرابع: التأثير اليوناني - الروماني
10 - النصرانية
11 - الفلسفة اليونانية
12 - الأدب اليوناني والروماني
مصادر هذا الباب
الجزء الخامس: الحركة العلمية وصفها ومراكزها
13 - وصف الحركة العلمية إجمالا
14 - مراكز الحياة العقلية
مصادر هذا الباب
الجزء السادس: الحركة الدينية تفصيلا
15 - القرآن وتفسيره
مصادر هذا الفصل
16 - الحديث
أهم مصادر هذا الفصل
17 - التشريع
مصادر هذا الفصل
الجزء السابع: الفرق الدينية
18 - الخوارج
19 - الشيعة
20 - المرجئة
21 - القدرية أو المعتزلة
أهم مصادر هذا الباب
أهم الأحداث في ذلك العصر
الجزء الأول: العرب في الجاهلية
1 - جزيرة العرب
2 - اتصال العرب بمن جاورهم من الأمم
3 - طبيعة العقلية العربية
4 - الحياة العقلية للعرب في الجاهلية
5 - مظاهر الحياة العقلية
مصادر هذا الباب
الجزء الثاني: الإسلام
6 - بين الجاهلية والإسلام
7 - الفتح الإسلامي، وعملية المزج بين الأمم
مصادر هذا الباب
الجزء الثالث: الفرس وأثرهم
8 - دين الفرس
9 - الأدب الفارسي
مصادر هذا الباب
الجزء الرابع: التأثير اليوناني - الروماني
10 - النصرانية
11 - الفلسفة اليونانية
12 - الأدب اليوناني والروماني
مصادر هذا الباب
الجزء الخامس: الحركة العلمية وصفها ومراكزها
13 - وصف الحركة العلمية إجمالا
14 - مراكز الحياة العقلية
مصادر هذا الباب
الجزء السادس: الحركة الدينية تفصيلا
15 - القرآن وتفسيره
مصادر هذا الفصل
16 - الحديث
أهم مصادر هذا الفصل
17 - التشريع
مصادر هذا الفصل
الجزء السابع: الفرق الدينية
18 - الخوارج
19 - الشيعة
20 - المرجئة
21 - القدرية أو المعتزلة
أهم مصادر هذا الباب
أهم الأحداث في ذلك العصر
فجر الإسلام
فجر الإسلام
يبحث عن الحياة العقلية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الأموية
تأليف
أحمد أمين
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم أحمد أمين
يناير 1933
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب نحو أول سنة 1929، وكان ما لقيته من الباحثين من أهل العربية والمستشرقين أكبر مشجع لعملي، فقد نقدوه وقرظوه، وانتفعت بما أبدوه من آراء قيمة في نقده وتحليله، أذكر منهم الأستاذ مصطفى عبد الرازق، والدكتور عبد الوهاب عزام، والدكتور برجستراسر، والدكتور شادة، والأستاذ مرسيه، والأستاذ جعفري.
وكنت أود أن أتوسع في بعض فصوله وأزيد فيه فصولا لم تكن، وأحكي آراء الباحثين من المستشرقين فيما ذهبوا إليه أخيرا، ولكن اشتغالي في إخراج «ضحى الإسلام» منعني من تحقيق كل رغبتي فحققت من ذلك ما استطعت، وزدت في هذه الطبعة بعض أمثلة عثرت عليها أثناء قراءتي، وأوضحت بعض ما غمض، وصححت ما عثرت عليه من خطأ في الطبع أو في الرأي، والله أسأل أن ينفع به كما نفع بأصله.
الجزء
العرب في الجاهلية
الفصل الأول
جزيرة العرب
ليست جزيرة العرب وحدها هي مسكن العرب، فقد كانت لهم مساكن فيما حولها، ولكن كانت الجزيرة مسكن أكثرهم، وأهم مساكنهم، فأضيفت إليهم.
وهي إقليم في الجنوب الغربي من آسيا، يحد من الشمال ببادية الشام، ومن الشرق بالخليج الفارسي وبحر عمان، ومن الجنوب بالمحيط الهندي، ومن الغرب بالبحر الأحمر.
وهي أعلى ما تكون غربا ثم تنحدر إلى الشرق إلا عند عمان؛ وليس فيها أنهار دائمة الجريان، ولكن أودية يجري فيها الماء حينا ويجف حينا.
أكبر جزء فيها صحراؤها في وسطها، وليست طبيعة هذه الصحراء متشابهة، بل متنوعة أنواعا ثلاثة: (النوع الأول):
الصحراء المسماة بادية السماوة، وقريب من مدلولها ما يسمى اليوم «صحراء النفود»، (وهو اسم لم يكن يعرفه العرب)، وهي في الشمال، وتمتد نحو 140 ميلا من الشمال إلى الجنوب، و180 ميلا من الشرق إلى الغرب؛ ورمالها غالبا وعساء
1 ، ليس بها إلا القليل من آبار وعيون، والسير فيها شاق عسير لطبيعة أرضها، ولأن الرياح تلعب برملها فتجعل منه كثبانا ووهادا؛ تمطرها السماء شتاء فينبت في بعض بقاعها نبات صحراوي، وأزهار صغيرة مختلفة الألوان؛ وأغلب سكانها بدو يرحلون عنها صيفا إلى التخوم لجدها وقيظها، ثم يأتون إليها شتاء لرعي إبلهم وشائهم.
جنوبي بادية السماوة ما يسمى الآن جبل شمر، وهو هلالي الشكل محدودب إلى الجنوب مناخه معتدل ، وأمطاره غزيرة، وأعشابه كثيرة، نثرت فيه جملة قرى وبلدان؛ وهذا الجبل هو المعروف عند العرب بجبل طيئ، وهما: أجا وسلمى، سمي بشمر وهو فرع حديث من فروع طيئ. (النوع الثاني) من الصحراء:
صحراء الجنوب، وتتصل ببادية السماوة، وهي تمتد شرقا حتى تصل إلى الخليج الفارسي، وقد قدرت مساحتها بخمسين ألف ميل مربع؛ وأرضها غالبا مستوية صلبة، انتثرت حصباؤها، وتموجت رمالها، وإذا نزل المطر في موسمه أنبتت الأرض كلأ، فيخرج البدو بإبلهم وشائهم ونسائهم، ويقيمون نحو ثلاثة أشهر، ترعى فيها ماشيتهم، وهم يشربون من ألبانها، فإذا جاء الصيف جف الزرع فعادوا إلى مواطنهم، ويغلب على هذا القسم أيضا الجدب، وفي قليل من بقاعه أشجار وغابات نخيل، وقد سمته العرب جملة أسماء: فالجزء الأول الذي بين شرقي اليمن وحضرموت يسمى صيهدا، والذي بين شمالي حضرموت وشرقيها يسمى الأحقاف، والذي في شمالي مهرة يسمى الدهناء، ويسمى الآن جميعه بالربع الخالي. (النوع الثالث) من الصحراء:
الحرات؛ والحرة - كما في معجم ياقوت - «أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار» وهذه الحرات مقذوفات بركانية تبتدئ من شرقي حوران وتمتد منتثرة إلى المدينة، وتقع المدينة نفسها بين حرتين؛ وهي كثيرة في جزيرة العرب عد منها ياقوت في معجمه نحوا من تسع وعشرين حرة، أشهرها حرة واقم، وهي التي تنسب إليها وقعة الحرة
2 .
إذا نحن عدونا الصحراء وجدنا غربي جزيرة العرب يتألف من جزأين: الحجاز شمالا واليمن جنوبا، والحجاز يمتد من أيلة (العقبة) إلى اليمن، وسمي حجازا - فيما يقولون - لأنه سلسلة جبال تفصل تهامه - وهي الأرض المنخفضة على طول شاطئ البحر الأحمر - عن نجد، وهي الأرض المرتفعة شرقا، والحجاز قطر فقير به كثير من الأودية، تمتلئ بالسيل غب المطر، وتسير مياهه صوب البحر؛ ولكن مياهه ليست بالغزيرة؛ ومناخه في بعض بلاده معتدل كالطائف، وفيما عدا ذلك حار شديد الحرارة؛ وأغلب سكانه بدو رحل، وبدوه في أيامنا هذه يبلغون نحو خمسة أسداس السكان، والسدس فقط قار في القرى والمدن.
وأهمية الحجاز نشأت من وقوعه على الطريق التجاري الذي يربط اليمن ببلاد الشمال، وقد رحل إليه قبل الإسلام اليهود، وأنشئوا فيه مستعمرات في خيبر والمدينة وغيرهما، وأشهر مدنه: مكة وهي في واد غير ذي زرع، طولها من الشمال إلى الجنوب نحو ميلين، وعرضها من الشرق إلى الغرب نحو ميل، وليس بها ماء إلا بئر زمزم؛ والمدينة واسمها يثرب، وفي شماليها جبل أحد، وبها نخل كثير، وفي شماليها الشرقي خيبر، وأرضها لا تصلح للزرع.
وفي جنوبي الحجاز بلاد اليمن، وهي تشمل الزاوية الغربية الجنوبية من الجزيرة، قد عرفت قديما بالخصب والغنى؛ وأشهر مدنها صنعاء، وكانت مقر ملوك اليمن قديما، وبقربها قصر غمدان الشهير، وفي جنوبها الشرقي مدينة مأرب مسكن سبأ، ومن مدن اليمن كذلك نجران وعدن، وكان لسكان اليمن قديما علاقات بالهند والشرق الأدنى.
وفي شرقي اليمن صقع حضرموت، وهو صقع كثير الجبال كثير الوديان، وبه مدن خربة عليها كتابات بالخط المسند.
وفي شرقي حضرموت «ظفار»، وهي من قديم مصدر للتوابل والطيب وبخور المعابد، ولا يزال - إلى اليوم - يرسل منها إلى الهند.
وفي الزاوية الجنوبية الشرقية من الجزيرة عمان، وهو قطر جبلي على شاطئ البحر، وقد اشتهر سكانه قديما بالمهارة في الملاحة؛ وفي الشمال الغربي من عمان قطر البحرين ويمتد إلى حدود العراق.
والجزء المرتفع الذي يمتد من جبال الحجاز ويسير شرقا إلى صحراء البحرين يسمى «نجدا»، وهو مرتفع فسيح، فيه صحراوات وجبال، نثرت فيه أراض صالحة للزراعة، وهو أصح بلاد العرب وأجودها هواء.
وبين نجد واليمن «اليمامة»، وهي تتصل بالبحرين شرقا وبالحجاز غربا، وتسمى أيضا بالعروض لاعتراضها بين اليمن ونجد، وقيل: إنها بلد طسم وجديس، وبها خرج مسيلمة.
وبقرب الحد بين اليمامة وتهامة عكاظ ذات السوق المشهور.
ومناخ جزيرة العرب - على العموم - حار شديد الحرارة، يعتدل الليل في أراضيها المرتفعة صيفا ويتجمد ماؤها شتاء؛ وأحسن هوائها الرياح الشرقية وتسمى الصبا، وكثيرا ما تغنى الشعراء بمدحها وعلى العكس من ذلك ريح السموم؛ وأحسن أيامها أيام الربيع، وهي تعقب موسم المطر فينبت الكلأ والعشب، ترعى الإبل والماشية. •••
يسكن هذه الجزيرة العرب ، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن العرب ومن حولهم كانوا من أصل واحد، ثم تحضر من حولهم وتخلفوا هم، وقد تحضر سكان الفرات، وتحضر وادي النيل، وظل العرب تغلب عليهم البداوة لما حاصرتهم جبالهم وبحارهم.
وسواء صح هذا أم لم يصح فقد تأخر العرب عمن حولهم في الحضارة، وغلبت عليهم البداوة، وعاش أكثرهم عيشة قبائل رحل، لا يقرون في مكان، ولا يتصلون بالأرض التي يسكنونها اتصالا وثيقا كما يفعل الزراع، بل هم يتربصون مواسم الغيث، فيخرجون بكل ما لهم من نساء، وإبل يتطلبون المرعى، لا يبذلون جهدا عقليا في تنظيم بيئتهم الطبيعية كما يفعل أهل الحضر، إنما يعتمدون على ما تفعل الأرض والسماء فإن أمطروا رعوا، وإلا ارتقبوا القدر، وليس هذا النوع من المعيشة بالذي يرقي قومه ويسلمهم إلى الحضارة، إنما يسلم إلى الحضارة عيشة القرار واستخدام العقل في تنظيم شئون الحياة.
هذه العيشة البدوية هي التي كانت سائدة في جزيرة العرب، وإن كان هناك أصقاع ممدنة كصقع اليمن.
وهؤلاء البدو وأشباههم ينقسمون إلى قبائل، والقبيلة هي الوحدة التي تبنى عليها كل نظامهم الاجتماعي، وهذه القبائل في نزاع دائم، وقد تتحالف القبيلة مع قبيلة أو قبائل أخرى للإغارة على حلف آخر أو لرد غارة، أو نحو ذلك من الأغراض، وقد تمر الأجيال وتنسى القبائل المتحدة أسماءها وشخصياتها، وتنضم تحت اسم واحد هو اسم أقواها، ثم قد يزعمون فيما بعد أنهم من أب واحد وأم واحدة.
وقد عني المؤرخون بنسب القبائل وتفرعها، وألفوا فيها الكتب الكثيرة، ولكن هذه الأنساب في مجموعها كانت ولا تزال مجالا للشك الكبير، «سئل مالك رحمه الله عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك وقال: من أين يعلم ذلك؟ فقيل له: فإلى إسماعيل، فأنكر ذلك وقال: ومن يخبره به؟»
واعتاد النسابون أن يقولوا: إن عرب الشمال من نسل إسماعيل بن إبراهيم، وعرب الجنوب من نسل يقطان المسمى أيضا قحطان؛ وترجع هذه العقيدة إلى ما ورد في التوراة في سفر التكوين، ويسمى أهل الجنوب عادة اليمنيين أو القحطانيين، وأهل الشمال العدنانيين أو النزاريين أو المعديين، ولسنا الآن بصدد البحث في صحة هذا التقسيم، وكل الذي نريد أن نذكره أن هناك فوارق حقيقية بين القسمين من وجوه: (الأول):
أن القسم الجنوبي كان يعيش عيشة قرار، وتغلب عليه الحضارة،
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ، وأهل الشمال تغلب عليهم البداوة وعدم القرار. (الثاني):
أنهم مختلفون أيضا في اللغة، فلغة اليمن كانت تخالف لغة الحجاز في أوضاعها وتصاريفها كما سنشير إليه بعد، وكانت لغة اليمن أكثر اتصالا باللغة الحبشية والأكادية، ولغة الحجاز أكثر اتصالا باللغة العبرية والنبطية. (الثالث):
أنهم مختلفون في درجة الثقافة العقلية تبعا لما هم عليه من عيشة بدوية أو حضرية، وتبعا لاختلافهم في اللغة والأمم المخالطة.
ولسنا نعني بما ذكرنا أن هذين القسمين كانا منفصلين تمام الانفصال، وأن كل قسم كان يسكن بلاده ولا يرحل عنها إلى الآخر، بل كان الأمر على عكس ذلك؛ فهم يحدثوننا أن كثيرا من أهل اليمن قبل الإسلام رحلوا إلى بلاد الحجاز، وقليل من أهل الحجاز رحلوا إلى اليمن؛ فأما رحلة اليمن إلى الحجاز فعللوها بانهيار سد مأرب في اليمن، وتفرق سكان البلاد إلى أنحاء الجزيرة، ويظن بعض المؤرخين أن من بين الأسباب التي بعثت على هذه الهجرة ما أصاب اليمن من السقوط والضعف في التجارة بين القرن الثالث والرابع قبل الميلاد، على إثر النشاط التجاري الذي قام به الرومانيون في البحر الأحمر في ذلك العهد، فكان ذلك ضربة شديدة لتجارة اليمن، وأما هجرة أهل الشمال إلى الجنوب فقد ترجع إلى كثرة نسل القبيلة وضيق موطنها بها فيضطرها ذلك إلى الرحلة.
على كل حال ذكر النسابون أن التنقل بين القبائل كان من قبل الإسلام كثير الوقوع وقد كان العداء مستحكما بين العدنانيين والقحطانيين من قديم، حتى رووا أن كلا منهم اتخذ لنفسه شعارا في الحرب يخالف شعار الآخر؛ فاتخذ المضريون العمائم الحمر والرايات الحمر، واتخذ أهل اليمن العمائم الصفر، قال الجوهري: سمعت بعض أهل العلم يفسر بذلك قول أبي تمام يصف الربيع:
محمرة مصفرة فكأنها
عصب تيمن في الوغى وتمضر
وأصل هذا العداء على ما يظهر هو ما بين البداوة والحضارة من نزاع طبيعي، وكان توالي الحوادث والوقائع الحربية يزيد في العداء ويقوي بينهم روح الشر؛ ومن أوضح المثل على هذا ما كان من العداء الشديد بين أهل المدينة - الأوس والخزرج - وهم على ما يذكر النسابون يمنيون، وأهل مكة وهم عدنانيون، وقد استمر هذا التنافس بينهم بعد الإسلام، وكان بين القومين حزازات ومفاخرات، وكل يدعي أنه أشرف نسبا، وأعز نفرا، وكان اليمنيون أحق بالفخر لما لهم من حضارة قديمة وملك راسخ، فلما جاء النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو عدناني، وكانت الخلافة في قريش وهم عدنانيون، رجحت كفة العدنانيين، ويظهر أن اليمنيين أرادوا أن يعيدوا شيئا من التوازن في المفاضلة، فسلكوا في ذلك جملة طرق: منها أن رواتهم وقصاصهم لونوا تاريخهم القديم بلون زاه جميل، وزعموا أن قحطان ابن هود عليه السلام، ومنها أنهم وصلوا نسبهم بالعدنانيين بطرق شتى، كالذي ذهب إليه بعضهم من أن إسماعيل أبو العرب كلهم حتى قطحان؛ وربما كانوا هم الواضعين كذلك لنظرية تقسيم العرب إلى عرب بائدة وهم قحطان وعاد وثمود وطسم ... إلخ، ويسمون العرب العرباء أو العرب العاربة، أما العدنانيون فعرب في المنزلة الثانية في العربية؛ إذ يسمون عربا متعربة، وبعضهم يذهب إلى تقسيم العرب إلى عاربة وهم: عاد وثمود وطسم ... إلخ، ويسمي قحطان عربا متعربة، وعدنان عربا مستعربة؛ أي: أنهم في المنزلة الثالثة في العربية.
يستمر النسابون فيقولون: إن قحطان أبو اليمنيين جميعا، وإنه نسل شعبين عظيمين، شعب كهلان وشعب حمير، فشعب كهلان تفرع من فروع كثيرة أشهرها: (1)
طيئ:
وهي تسكن الجبلين الشهيرين أجا وسلمى، وهما المعروفان الآن بجبل سمر، وقد سكنتهما طيئ من قبل الإسلام بقرون، واشتهر ذكرها حتى كان السريان والفرس يسمون كل العرب طيئا. (2)
همدان ومذحج:
وأغلبهم ظل يسكن اليمن، وإلى مذحج ينتسب بنو الحارث الذين سكنوا الجنوب الشرقي للطائف، وبجيلة التي كان لها أثر كبير في فتوح العراق في عهد عمر. (3)
عاملة وجذام:
وكانوا يسكنون بادية الشام، وإلى جذام تنتسب لخم التي أسست ملك الحيرة على الفرات، وكندة التي حكمت حضرموت، ومدت سلطانها على بني أسد في اليمامة، وإلى أسرتهم المالكة ينتسب امرؤ القيس. (4)
الأزد:
وهم قبيلة قوية حكمت عمان؛ ومنهم الغساسنة الذين أسسوا مملكتهم شرقي الشام، ومنهم أيضا خزاعة التي تسلطت على مكة قبل قريش، ومنهم كذلك سكان يثرب وهم قبيلتا الأوس والخزرج.
وأما شعب حمير فأشهر قبائله: (1)
قضاعة:
وكانت تسكن شمالي الحجاز. (2)
تنوخ:
وقد نزلوا قديما شمالي الشام. (3)
كلب:
وكانوا يسكنون بادية الشام. (4)
جهينة وعذرة:
وقد نزلوا وادي إضم بالحجاز، وقد عرف العذريون برقة عواطفهم وطهارة عشقهم.
كذلك يقسم النسابون عدنان إلى فرعين كبيرين: ربيعة ومضر.
فأما ربيعة فأشهر قبائلها: (1)
أسد:
وكانوا يسكون شمالي وادي الرمة. (2)
وائل:
وهي تنقسم إلى بكر وتغلب، وقد كانت بينهما حروب طويلة عقب قتل كليب كادت تفني القبيلتين جميعا؛ وإلى بكر بن وائل ينتسب بنو حنيفة باليمامة.
وأما مضر فأشهر قبائلها: (1)
قيس عيلان:
وهي من الشهرة بحيث يطلق اسم قيس أحيانا على من عدا اليمنيين؛ وإلى قيس تنتسب هوازن وسليم، وكانا يسكنان الجزء الغربي من نجد؛ وإلى قيس أيضا تنتسب غطفان، وغطفان تنقسم إلى القبيلتين الشهيرتين: عبس وذبيان، وكان العداء بينهما شديدا، وأشهر حروبهما الحرب المعروفة بحرب داحس والغبراء. (2)
تميم:
وكانت تسكن بادية البصرة. (3)
هذيل:
وكانت تسكن جبالا قريبة من مكة، وقد اشتهر الهذليون بكثرة شعرهم وجودته. (4)
كنانة:
وهي تسكن جنوبي الحجاز، ومنها قريش وهي التي كانت تسود هذا القسم.
وقد كان بين ربيعة ومضر عداء شديد ظل قرونا طويلة أدى إلى أن ربيعة غالبا كانت تتحالف مع اليمنيين لمقاتلة المضريين.
هذه خلاصة لأشهر القبائل العربية ومواطنها، وقد ذكرنا أن هذه الأنساب مجال للشك؛ ولكنها سواء صحت أم لم تصح قد اعتنقها العرب، ولا سيما متأخريهم، وبنوا عليها عصبيتهم، وانقسموا في كل مملكة حلوها إلى فرق وطوائف حسب ما اعتقدوا في نسبهم، وأصبحت هذه العصبية مفتاحا نصل به إلى معرفة كثير من أسباب الحوادث التاريخية، وفهم كثير من الشعر والأدب، ولا سيما الفخر والهجاء، والإسلام جاء وكان قد تم اعتقاد العرب بأنهم في أنسابهم يرجعون إلى أصول ثلاثة: ربيعة ومضر واليمن، وأخذ الشعراء يتهاجون ويتفاخرون طبقا لهذه العقيدة، واستغلها خلفاء بني أمية ومن بعدهم، فكانوا يضربون بعضا ببعض مما لا محل لشرحه الآن.
حالة العرب الاجتماعية؛ قدمنا أن العرب في الجزيرة كانوا قسمين: بدوا وحضر، وأن البدو هو القسم الغالب.
فأما البدو فكانوا ولا يزالون يحتقرون الصناعة والزراعة والتجارة والملاحة، إنما يعيشون على ما تنتجه ماشيتهم، يأكلون لحومها بعد علاج بسيط، ويشربون ألبانها، ويلبسون أصوافها، ويتخذون منها مساكنهم، وإذا اشتد بهم الضيق أكلوا الضب واليربوع والوبر؛ وهم يعتمدون في تغذية ماشيتهم على الطبيعة: يخرجون بها في مواسم المطر إلى منابت الكلأ لترعى، فإذا انتهى الموسم عادوا إلى مواطنهم ينتظرون أن يحول الحول وينزل الغيث، وإذا احتاجوا إلى غير ما تنتجه ماشيتهم تعاملوا من طريق البدل، فكانوا يستبدلون بالماشية ونتاجها ما يتطلبون من تمر ولباس.
ونوع آخر اتخذوه أيضا وسيلة من وسائل العيش: وهو الغارة والسلب، يغيرون على قبيلة معادية - وكثيرا ما تكون المعاداة - فيأخذون جمالهم ويسبون نساءهم وأولادهم، وتتربص بهم القبيلة الأخرى ذلك فتفعل ما فعلوا، بل هم إذا لم يجدوا عدوا من غيرهم قاتلوا أنفسهم؛ ولعل خير ما يمثل ذلك قول القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته
فأي رجال بادية ترانا
ومن ربط الجحاش فإن فينا
قنا سلبا
3
وأفراسا حسانا
وكن إذا أغرن على قبيل
فأعوزهن نهب حيث كانا
4
أغرن من الضباب على حلال
وضبة إنه من حان حانا
5
وأحيانا على بكر أخينا
إذا لم نجد إلا أخانا
ومن أجل هذا كثيرا ما تضطر القبيلة التي ضعفت إلى الاحتماء بقبيلة قوية تذود عنها، ولكن قل أن يدوم حلفهم أو يطول، بل سرعان ما ينتقض اجتماعهم وتنفصم وحدتهم، فينقلب المتحالفون أعداء متحاربين.
ليس في البدوي خلق يؤهله للتجارة، فإذا اشترك فيها اقتصر عمله على أن يكون سائقا أو هاديا للطريق أو حاميا من إغارة أمثاله.
أفراد القبيلة متضامنون أشد ما يكون من تضامن، ينصرون أخاهم ظالما أو مظلوما، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
إذا جنى أحدهم جناية حملتها قبيلته، وإذا غنم غنيمة فهي للقبيلة ولرئيسها خيرها، وإذا أبت قبيلته أن تحميه لجأ إلى قبيلة أخرى ووالاها، وحسب نفسه كأنه أحد أفرادها؛ فوطنية البدوي وطنية قبلية لا وطنية شعبية، وهذا الشعور بارتباطه بقبيلة يحميها وتحميه هو المسمى بالعصبية.
والممعن في البداوة منهم ضعيف الإيمان بدين، قل أن يؤمن إلا بتقاليد قبيلته وما ورثه عن آبائه
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم .
مثله الأعلى في الأخلاق تركز فيم سماه «المروءة»، تغنى بها في شعره وأدبه، ومن الصعب أن تحدها حدا دقيقا، ولكن يصح أن تقول: إنها تعتمد على الشجاعة والكرم؛ أما شجاعته فتتجلى في كثرة من نازله وقاتله، وفي مواقف دفاعه عن قبيلته، وأكثر من هذا في نجدته؛ وأما كرمه فيتجلى في نحر الجزور للضيف، وإغاثة البائس الفقير، وفوق هذا أن يعطي أكثر مما يأخذ، وأن «يغشى الوغى ويعف عند المغنم».
دعاهم الكرم أن يأكلوا كثيرا ويشربوا النبيذ كثيرا؛ ولكن بلاد البدو وأشباهها مجدبة قليلة الإنتاج، لا تسد حاجات الكريم، فاتصلوا بأهل الشام والعراق واليمن يستعينون بما يكتسبون على جدب أرضهم وقسوة إقليمهم.
والمرأة تشارك الرجل في شئون الحياة، فهي تحتطب وتجلب الماء، وتحلب الماشية وتنسج المسكن والملبس، وتحيط الثياب، وهي - على الجملة - أقرب في عقليتها إلى عقلية الرجل؛ ولكنها لا تغنى غناء الرجل في الحروب، والحروب عندهم أساس لحياتهم، فانحطت لذلك منزلة المرأة عن منزلة الرجل، وكان في بعض القبائل وأد البنات، وكان فيهم من يقول الله فيه:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون . •••
أما الحضر من العرب فهم أرقى من ذلك كثيرا، يسكنون المدن ويقرون فيها، ويعيشون على التجارة أو الزراعة، وقد أسسوا قبل الإسلام ممالك ذات مدنية كاليمن، والغساسنة في الشام، واللخميين في العراق، كما سنذكره فيما يلي.
الفصل الثاني
اتصال العرب بمن جاورهم من الأمم
شاع بين الناس أن العرب في جاهليتها كانت أمة منعزلة عن العالم، لا تتصل بغيرها أي اتصال، وأن الصحراء من جانب والبحر من جانب حصراها وجعلاها منقطعة عمن حولها، لا تتصل بهم في مادة، ولا تقتبس منهم أدبا ولا تهذيبا، والحق أن هذه فكرة خاطئة، وأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم ماديا وأدبيا، وإن كان هذا الاتصال أضعف مما كان بين الأمم المتحضرة لذلك العهد، نظرا لموقعها الجغرافي ولحالتها الاجتماعية.
وهذا الاتصال بين العرب وغيرهم كان من طرق عدة، أهمها: (1)
التجارة. (2)
إنشاء المدن العربية المتاخمة لفارس والروم. (3)
البعثات اليهودية والنصرانية التي كانت تتغلغل في جزيرة العرب، تدعو إلى دينها وتنشر تعاليمها، وسنذكر كلمة عن كل منها: (1)
التجارة:
من قديم كانت جزيرة العرب طريقا عظيما للتجارة؛ فطورا تنقل غلاتها إلى ممالك أخرى كالشام ومصر، وأهم هذه الغلات البخور الذي يكثر في الجنوب ولا سيما في ظفار؛ وطورا تنقل غلات بعض الممالك إلى البعض الآخر؛ ذلك لأن طريق البحر لم يكن طريقا آمنا، فالتجأ التجار إلى البر يسلكونه، ولكن طريق البر نفسه كان طويلا وكان خطرا، لذلك أحاطوه بشيء من العناية، كأن تخرج التجارة قوافل، وأن تسير القوافل في أزمنة محدودة وفي طرق محدودة.
وكان في جزيرة العرب طريقان عظيمان للتجارة بين الشام والمحيط الهندي: أحدهما يسير شمالا من حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي، ومن ثم إلى صور؛ والثاني يبدأ من حضرموت أيضا، وسير محاذيا للبحر الأحمر متجنبا صحراء نجد وهجيرها، ومتجنبا هضاب الشاطئ ووعورتها، وعلى هذا الطريق الأخير تقع مكة في المنتصف تقريبا بين اليمن وبطرة.
هذه الطرق التجارية أفادت العرب فائدة كبيرة، وفتحت لهم بابا للرزق كبيرا، فمنهم من كان يسكن المدن الواقعة على الطريق ويتاجر لنفسه، ومنهم من كان يستخدم في التجارة سائقا أو حارسا أو دليلا.
ومع ميل العربي للغزو والنهب، وتهديده للممالك الممدنة على التخوم، ومهاجمته لها من حين لآخر، فإن حبه للوفاء، وشعوره بالشرف وتقديره للوعد الذي يصدر منه جعله يستطيع أن يتعامل مع من حوله من الأمم، ويمهد الطريق لتجارة واسعة منظمة، فكان كثير من القبائل يحمون القوافل من تعدي قبائل أخرى في نظير جعل يأخذونه؛ وكثيرا ما يردون الجعل إذا عدا عاد على قاقلة فلم يستطيعوا رده، وزاد في نجاحها علمهم بالصحراء وسبلها، ومواضع الأمن والخوف فيها، وقدرتهم على تحمل القيظ وعناء السير.
كانت التجارة قديما في يد اليمنيين، وكانوا هم العنصر الظاهر فيها، فعلى يدهم كانت تنقل غلات حضرموت وظفار وواردات الهند إلى الشام ومصر، ثم انحط اليمنيون لأسباب أشرنا إلى بعضها من قبل، وحل محلهم في القبض على ناصية التجارة عرب الحجاز، وكان ذلك منذ القرن السادس للميلاد، فكان هؤلاء الحجازيون يشترون السلع من اليمنيين والحبشيين، ثم يبيعونها على حسابهم في أسواق الشام ومصر، وقليلا ما يبيعونها في أسواق فارس؛ لأن التجارة مع الفرس كانت في يد عرب الحيرة؛ وجعل عرب الحجاز مكة قاعدة لتجارتهم، ووضعوا الطريق تحت حمايتهم ووصل المكيون قبيل الإسلام عندما كان العداء بين الفرس والروم بالغا منتهاه؛ إلى درجة عظيمة في التجارة، وعلى تجارة مكة كان يعتمد الروم في كثير من شئونهم، حتى فيما يترفهون به - كالحرير - وحتى يستظهر بعض مؤرخي الفرنج أنه كان في مكة نفسها بيوت تجارية رومانية يستخدمها الرومانيون للشئون التجارية وللتجسس على أحوال العرب، كذلك كان فيها أحباش ينظرون في مصالح قومهم التجارية
1 .
كان أشهر من يسكن مكة قبيلة قريش، وأبوها النضر بن كنانة، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي، وقد رأى بعضهم أنها سميت قريشا لاشتغالها بالتجارة، ففي لسان العرب: «وقيل: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع، من قولهم: فلان يتفرش المال ؛ أي: يجمعه».
وفي الأغاني: «إن عمارة بن الوليد المخزومي وعمرو بن العاص وكانا كلاهما تاجرين خرجا إلى النجاشي، وكانت أرض الحبشة لقريش متجرا ووجها»
2 .
وقد ساعد قريشا على بلوغ هذه المنزلة موقعها الجغرافي، فقد ذكرنا أنها تقع في منتصف الطريق، وعين زمزم تستقي منها القوافل وتأخذ حاجتها من الماء، ولأن قريشا أهل الكعبة التي يدين العرب بعظمتها وتقديسها
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
قال الزمخشري في الكشاف: «كانت لقريش رحلتان: يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون وكانوا في رحلتهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يتعرض لهم، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم، قال تعالى:
أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون .
كان التجار يخرجون بتجارتهم قوافل عظيمة، وقد رآها «سترابو» وشبه القافلة منها بجيش، وذكر الطبري أن قافلة من هذه القوافل بلغت خمس مئة وألف بعير، وقال ابن هشام في غزوة بدر: «ثم إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص»، وكانت هذه القوافل تخرج مع عظيم استعداد وكبير حيطة، تتقدمها الكشافة تتعرف ما في الطريق، والهداة يهدون السبيل، والحراس يخفرون القافلة.
وقد كان عرب الحيرة يتعهدون بحماية قوافل التجارة الفارسية عند مرورها في العرب في نظير جعل كبير يأخذونه من الفرس، ويروون أن الفرس مرة استكثروا هذا الجعل فأبوا دفعه، فهاجم العرب قافلة فارسية وهزموا حماتها، وكان هذا اليوم أحد أيام العرب المشهورة، ويسمى يوم ذي قار، وبه تغنى الشعراء، وعدوه نصرا للعرب على الفرس.
كانت القوافل التي تذهب من بلاد العرب إلى الشام تنزل في أسواق مدينة عينتها لهم الحكومة الرومانية لتحصل منهم الضرائب المفروضة على «الصادرات »، ولتراقب الأجانب الذين يقدمون بلادها، وكانت هذه القوافل أول ما تنزل في البلاد الرومانية تنزل في أيلة، وهي المعروفة اليوم بالعقبة، ومنها تذهب إلى غزة، وهناك تتصل بتجار البحر الأبيض، ومن غزة يذهب بعض التجار إلى بصرى.
وقد رووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سافر في هذه القوافل مرتين: مرة وسنه اثنتا عشرة سنة إلى بصرى، وأخرى وسنه خمس وعشرون. •••
أترى أن هذه التجارة تقتصر على تبادل العروض والنقود، ولا تتعداها إلى الأمور المعنوية والأدبية؟ لسنا نرى ذلك، بل نرى أن العرب استفادوا فوق تجارتهم المادية شيئا من مدنية الروم والفرس وأدبهم، وهذا طبيعي، فالرحلات إلى الأمم الممدنة تجعل دائما تحت أعين الراحلين مدينة جديدة يقتبسون منها على قدر استعدادهم؛ ولا يزال عرب اليمن والحجاز أنفسهم في أيامنا هذه يستفيدون من زيارة مصر والشام، ويأخذون من مدنيتهما وعلومهما؛ بل لا نستطيع أن نصدق أن قافلة كبيرة كهذه تنتقل بتجارتها العظيمة لتتعامل مع أمة أجنبية من غير أن يكون فيها أفراد يعرفون لغة الذين يتعاملون معهم، ويكونون واسطة للتعارف بينهم، قد تقول: إنهم كانوا يعرفون اللغة الأجنبية كما يعرفها «التراجمة» اليوم، وهؤلاء ليسوا أهلا لنقل مدنية ولا أدب، فنقول: قد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما، ولكن يجب ألا ننسى أن من بين الذين كانوا ينتقلون بالتجارة أعظم قريش ثروة وعقلا؛ وقد رأينا فيما نقلناه أنه كان من بين رجال القافلة أبو سفيان ومخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص وهم سادة قومهم؛ ومنهم من كان له يد في إدارة شئون الأمة في الإسلام بعد، فهم لا يقارنون بتراجمة اليوم، وهم أكثر استعدادا لنقل مدنية بما يرون من نظام في المعيشة ومبان ضخمة ومعابد، وبما يرون من حكومة تشرف على الأسواق وتجبي الضرائب ونحو ذلك، وبما يسمعون من قصص وأدب إذا فرغوا من تجارتهم وتنادموا، ونقل من يعرف منهم اللغة حديثهم إلى من لا يعرفها، نعم إن هذا لا يكون نقلا صادقا ولا ترجمة دقيقة، ولا شبه دقيقة لتاريخ أو أدب ، ولا يستطيع أحد أن يدعي ذلك، إنما هذه النتف التاريخية والأدبية التي - تنقل وإن كانت مشوهة - لا تخلو من أثر في عقلية العرب، ودليلنا الآن على هذه الاستفادة ما أخذه العرب في جاهليتهم من كلمات كثيرة فارسية ورومانية ومصرية وحبشية، نقلها هؤلاء التجار وأمثالهم وأدخلوها في لغتهم، وجعلوها جزءا منها، وأخضعوها لقوانينها ونطق بها القرآن، وسنأتي على براهين أخرى فيما بعد. (2)
إنشاء المدن العربية على التخوم:
إذا نحن نظرنا إلى مصور آسيا وجدنا أن جزيرة العرب كانت تقع بين أعظم مدنيتين في العالم: فارس شرقا والرومان غربا، وقد حاول الفرس والروم أن يخضعوا العرب لحكمهم اتقاء لغزوهم وسلبهم، ولكنهم كانوا يعدلون عن ذلك لما يستلزمه فتح جزيرة صحراوية من ضحايا في الأنفس والأموال، ولأن طبيعة العيشة العربية جعلتهم لا يخضعون لقوة واحدة إذا تغلب عليها المحارب خضعت له الأمة، بل هناك عصابات وقوات متعددة لا بد لإخضاع البلاد من الاستيلاء عليها جميعا وليس ذلك باليسير؛ من أجل هذا رأى الفرس والروم أن خير وسيلة لدفع شر العرب أن يساعدوا بعض القبائل المجاورة على أن يقروا على التخوم يزرعون ويتحضرون، ثم يكونوا ردءا لهم يصدون غارة البدو الذين يغزون وينهبون؛ فتكونت إمارة الحيرة على تخوم الفرس وإمارة الغساسنة على تخوم الرومان.
إمارة الحيرة:
كان العرب قديما على تخوم فارس من قبل إنشاء إمارة الحيرة في تاريخ لا محل لسرده، وفي عهد سابور الأول ملك الفرس (حول سنة 240م) أسس الفرس إمارة الحيرة على نهر الفرات وأمروا عليها عمرو بن عدي.
وكان النظام المتبع أن عرب الحيرة يقدمون الطاعة لملك فارس، وهو يولي عليهم أميرا من أنفسهم، وعليهم أن يحموا فارس من كل مغير من نواحيهم، والفرس مقابل ذلك يعفونهم من دفع الإتاوة.
وقد كان نظام الفرس إذ ذاك نظاما إقطاعيا، يكاد يستقل كل وال بأمر مقاطعته، ويستمر واليا مدى حياته غالبا، ويراعي الملك رغبة المقاطعة فيمن يولى عليها، عكس النظام الروماني فقد كان نظاما مركزيا.
وفوق هذا كان عرب الحيرة أكثر استقلالا، فهم لا يرتبطون بفارس إلا بما توجبه المعاهدات عليهم، وقد اعتاد ملك الفرس أن ينصب أميرا من قبيلة لخم (وهي قبيلة من أصل يمني كما يذكر النسابون) وإذا مات الأمير عين من يختاره من بيته.
كان عرب الحيرة إذ ذاك في رخاء يحسدهم عليه غيرهم من العرب لخصب أرضهم، وغنى إقليمهم، وكانوا هم الصلة بين الفرس وعرب الجزيرة، يحملون إليهم التجارة الفارسية، ويبيعونها في أسواقهم، ويبشرون بالفرس ومدنيتهم، وفي عهد يزدجرد الأول (399-420م) أرسل الملك أكبر أبنائه (بهرام) إلى عرب الحيرة لينشأ بينهم، ويتعلم الصيد، وينعم بجودة الهواء؛ وذلك في عهد النعمان الأول، وكان بهرام جور هذا يعرف العربية كما يعرف اليونانية، وقد نازعه على الملك أخوه بعد وفاة يزدجرد، فعاونه العرب وتعصبوا له؛ فلما اعتلى عرشه لم ينس ما كان لعرب الحيرة من يد عليه فقربهم وأعلى شأنهم.
ويظهر أن الحيرة بلغت شأوها أيام المنذر الثالث، وكان معاصرا لجوستنيان، حتى روى بعض المؤرخين أنه لما عقد الصلح بين الفرس والرومان سنة 522م كان من شروطه أن يدفع الرومان قدرا من المال لملك الفرس وللمنذر، وبعد ذلك بسنين أحس المنذر بضعف الفرس فتحالف مع الرومان، ثم مال بعد إلى الفرس فأسره الرومانيون ونفوه إلى صقلية.
وبعده ولي النعمان بن المنذر الخامس زوج هند، وهو الملقب بأبي قابوس وصاحب النابغة الذبياني، وقد غضب عليه كسرى ففر هاربا ثم لجأ إليه فحبسه حتى مات، وكان ذلك حوالي 602 م، وبموته ألغت الحكومة الفارسية نظام إمارة اللخميين، وولت من قبلها حاكما فارسيا يخضع له أمراء العرب، واستمر الحال على هذا حتى سنة 633م حين فتحها خالد بن الوليد.
كان عرب الحيرة أرقى عقلا ومدنية من عرب الجزيرة لتحضرهم ولمجاورتهم مدنية الفرس العظيمة، واتصالهم بهم اتصالا وثيقا، وكان منهم من يعرف اللغة الفارسية ويجيدها؛ ففي ابن خلدون «أن عدي بن زيد (الحيري) كان من تراجمة أبرويز (ملك الفرس) وأن أباه زيدا كان شاعرا خطيبا وقارئا كتاب العرب والفرس»
3
ولا شك أن معرفة بعض هؤلاء الحيريين للغة الفرس كانت واسطة لنقل شيء من حضارتهم وآدابهم إلى العرب.
بل إن عرب الحيرة هؤلاء تسرب إليهم شيء من علوم اليونان وآدابهم؛ ذلك أن الحكومة الفارسية في عهد هرمز الأول أنشأت مستعمرات كونتها من أسرى الحرب الرومانيين، وكان من بين هؤلاء الأسرى من ثقف بالثقافة اليونانية، ومنهم من كان يفوق الفرس في الفن والهندسة والطب فاستخدموه في مهام شئونهم، ومن هؤلاء الأسرى من نزلوا الحيرة؛ ويظن بعضهم أنهم هم منبع النصرانية فيها؛ وعلى كل حال فقد كان في الحيرة مبشرون بالنصرانية داعون إليها، ولبى الدعوة منهم هند زوج النعمان الخامس وقد أنشأت ديرا سمي بدير هند كان إلى عهد الطبري.
وقد كان لعرب الحيرة وأمرائهم وتاريخهم أثر كبير في الأدب العربي والحياة العقلية للعرب عامة، فأحاديث جذيمة الأبرش وأساطير الزباء (وهما من الحيرة قبل إنشاء الإمارة التي ذكرناها) والخورنق والسدير والتغني بهما وبعظمهما، والأقاصيص حول سنمار باني الخورنق والأمثال التي ضربت فيه، ويوما النعمان: يوم نعيمه ويوم بؤسه، كل هذه وأمثالها شغلت جزءا كبيرا من الأدب العربي، وكلها تتعلق بعرب الحيرة وحياتهم، أضف إلى ذلك ما ذكره «ابن رسته» في «الأعلاق النفيسة» من أن أهل الحيرة علموا قريشا الزندقة في الجاهلية، والكتابة في صدر الإسلام.
وكان أمراء الحيرة مقصدا لشعراء عرب الجزيرة ينفحونهم بالمال الكثير ليبشروا بهم بين البدو وفي أنحاء الجزيرة، وديوان النابغة الذبياني مملوء بالقصائد التي قيلت في مدح النعمان والاعتذار إليه ونحو ذلك.
الغساسنة:
كون الغسانيون في الشام إمارة كالتي كونها اللخميون في الحيرة، ويذكر النسابون كذلك أن أصلهم من اليمن، وقد امتد حكمهم تقريبا على مقاطعتي حوران والبلقاء، ويظهر أنه لم يكن لهم مقر ملك ثابت، فأحيانا يفهم من قول الشعراء أن الجولان والجابية عاصمتهم، وأحيانا يذكرون جلق بالقرب من دمشق على أنها هي العاصمة.
وعلى العموم فتاريخ الغسانيين في الشام من الأمور الغامضة في تاريخ العرب، وإذا قارنا بين ما رواه المؤرخون عن أمراء الحيرة وما رووه عن الغسانيين وجدنا الأول واضحا مفصلا ، والثاني ناقصا متناقضا، فبينا حمزة الأصفهاني وأبو الفداء مثلا يعدان ملوك الغساسنة واحدا وثلاثين، إذا بابن قتبية والمسعودي يعدانهم عشرة أو أحد عشر، كذلك يعد حمزة مدة ملك الحارث بن جبلة عشر سنين، بينا مؤرخو الرومان المعاصرون يعدون ملكه 40 سنة؛ وهكذا، بل إذا نحن قارنا بين ما رواه العرب عن الفرس وتاريخهم وما يتصل بهم عامة، وما رووه عن الرومان وما يتصل بهم، وجدنا أن ما ذكروه عن الأولين أدق وأقرب إلى الصحة، وما ذكروه عن الآخرين ناقص مضطرب غير صحيح - في كثير من الأحيان - ولعل السبب في هذا أن الفرس أنفسهم دونوا ملكهم وملك الحيرة، وعنهم أخذ مؤرخو العرب وإن لم تصل إلينا الأصول التي نقلوا عنها، وقد جاء في تاريخ الطبري ما نصه: «وقد حدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة (الحيريين) ومبالغ أعمال من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ نسبهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها»
4 .
أما المؤرخون المعاصرون للغسانيين فكانوا يونانيين يكتبون باللغة اليونانية، وكان العرب أقل اتصالا باليونانيين منهم بالفرس.
أضف إلى ذلك أن من دخل في الإسلام من موالي الفرس كانوا أكثر عددا من الموالي اليونانيين، وكان موالي الفرس يتعصبون لقومهم ويرون أن في حفظ تاريخهم ونشره رفعة لشأنهم.
وعلى كل حال فقد كان للغسانيين إمارة بالشام، وكان بينهم وبين إمارة الحيرة عداء شديد، وكثيرا ما وقعت بينهم الحروب الهائلة.
وأهم أمراء الغسانيين وأول من يثق محققو المؤرخين بإمارتهم الحارث بن جبلة، وقد عينه الإمبراطور جوستنيان سنة 529م أميرا على جميع قبائل العرب في سوريا ومنحه لقب «فيلارك وبطريق
» وهو أعلى لقب بعد الإمبراطور، وكان الحارث نصرانيا على مذهب اليعاقبة، وكان يعد حاميا من حماة كنيستها، وقضى أكثر أيام حكمه في محاربة المنذر الثالث أمير الحيرة، وفي يونيه سنة 554 انتصر الحارث نصرا عظيما على المنذر في قنسرين، وربما كانت هذه الوقعة هي التي عرفت عند العرب بيوم حليمة والتي ورد فيها المثل المشهور: «ما يوم حليمة بسر»، وقد سافر الحارث هذا سنة 563م إلى القسطنطينية ليفاوض الإمبراطور في شئون الحرب التي بينه وبين الحيرة، وفي من يخلفه على كرسيه، ومات سنة 569 أو 570م.
وخلفه ابنه المنذر فغزا عرب الحيرة فانتصر عليهم في وقعة «عين أباغ»، ولم يكن الإمبراطور جوستين الثاني - وهو الذي خلفه جوستنيان - يميل إليه، فحاول اغتياله فلم يفلح، وعلم المنذر بمكيدته فثار وأبى محالفته، وظل كذلك ثلاث سنين، ثم هدد عرب الحيرة تخوم الرومانيين، فاضطروا لمصالحة المنذر والتعاقد معه في سنة 580، وبعد موت الإمبراطور جوستين سافر المنذر بولديه إلى القسطنطينية فاستقبلوا استقبالا حافلا وألبسه الإمبراطور التاج، ثم ساءت العلاقة بين الغساسنة والروم لأسباب يطول شرحها.
ولما غزا الفرس الروم وأخذوا منهم أورشليم ودمشق (613-614م) انحط شأن الغساسنة وضعف أمرهم، ويذكر مؤرخو العرب «أن آخر ملوكهم هو جبلة بن الأيهم، وأن الإسلام جاء وهو على ملكه، ولما فتح المسلمون الشام أسلم جبلة واستشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته، لكرم وفادته، وأحسن عمر نزله وأحله بأرفع رتب المهاجرين، ثم غلب عليه الشقاء ولطم رجلا من بني فزارة وطيئ فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر في القصاص فأخذته العزة بالإثم، فقال له عمر: لا بد أن أقيده منك ... فهرب إلى قيصر، ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة 20ه»
5 .
وكان هؤلاء الغسانيون - على ما يظهر - أرقى عقلية حتى من عرب الحيرة؛ لأنهم كانوا أقرب اتصالا بالثقافة اليونانية والمدنية الرومانية، وكان شعراء العرب يفدون إليهم فيحسنون وفادتهم؛ فقد وفد عليهم، فيما نعرف، النابغة الذبياني والأعشى والمرقش الأكبر وعلقمة الفحل؛ وفيهم يقول حسان:
لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول
كذلك الأدب العربي مملوء بالقصص والأساطير والأمثال التي قيلت في هؤلاء الغساسنة، كالذي ذكروا من حكاية امرئ القيس وإيداعه مئة درع عند السموءل، فطلبها ملك من ملوك غسان فأبى أن يعطيها إياه فذبح ابنه، إلى كثير من أمثال ذلك.
ويروي لنا أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني «أن حسان بن ثابت دعي إلى مأدبة سمع فيها غناء رائقة وصاحبتها، فلما عاد إلى بيته قال: لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم ... لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، وكان (جبلة) إذا جلس للشراب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحائف الفضة والذهب، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيا، وإن كان صائفا بطن بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكساء صيفية، ينفصل
6
هو وأصحابه بها، وفي الشتاء بفراء الفنك
7
وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يوما قط إلا وخلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل وضحك وبذل من غير مسألة، على حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خنا قط ولا عربدة، ونحن يومئذ على الشرك»
8
وهذه القصة إن صحت دلتنا على قدر من الحضارة والترف - عند الغسانيين - غير يسير. •••
وهنا يستوقف نظرنا شيء يظهر لنا غريبا: ذلك أنا نرى اللخميين في الحيرة والغسانيين في الشام عمروا قرونا، وبلغوا من المدنية شأوا بعيدا - إذا قيس بحالة العرب في الجزيرة - وكان منهم من يخالط الفرس والروم ويتكلم بلغتهم، ودينهم كان أرقى على العموم من دين غيرهم من العرب، فهم إما نصارى أو مجوس؛ وهذا كله كان داعيا إلى خصب الذهن وتفتق القريحة بالشعر، وكان من المعقول أن تخرج بلادهم فحولا من الشعراء يفتحون فيه أبوابا جديدة، ومعاني جديدة، مع رشاقة في اللفظ تتناسب مع حياتهم الحضرية، ولكننا - على غير المعقول - لم نظفر منهم بشعر ذي خطر، فهم مثلا يحدثوننا عن عدي بن زيد الحيري، وهو شاعر ضعيف، كان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان فيه: «عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم: يعارضها ولا يجري معها»، وقل أن يحدثونا بعد عن شاعر فحل، وجامع «شعراء النصرانية في الجاهلية» مع تلمسه كل وسيلة لعد الشاعر نصرانيا والإشادة بذكر كل شاعر نصراني ، لم يذكر لنا شيئا عن غسان، ولم يحدثنا عن شاعر واحد غساني، وكل الذي يرويه لنا الأدباء إنما هو رحلة شعراء من الجزيرة - كالنابغة والأعشى وحسان - إلى أمراء الحيرة وغسان، فما السر في هذا؟
قلبنا الأمر على وجوه مختلفة من النظر، فقلنا: لعل السر أن البادية هي منبع الشعر، وهي التي تحرك العربي وتغذي خياله، وتنطق لسانه، يشعر فيها باستقلاله وعظمته، لا ترهقه سلطة، ولا يقيده قانون، تنبسط أمامه رقعة الأرض فينعم بمنظرها، فيجيش صدره، وينطق بالشعر لسانه، فإذا تحضر ذل، وعقلت من لسانه قوانين المدنية وتقاليد الحضارة، وحرم منظر الصحراء الجميل، فحرم الشعر الجميل، لهذا لم يك للعراقي شعر قيم، ولا للغساني شعر ما، ولكن رأينا أن هذا التعليل غير صحيح، فما عهدنا أن الحضارة تميت الشعر، فحضارة الفرس والروم، وحضارة المسلمين في الدولة الأموية والعباسية لم تضيق خيالهم، ولم تعقل من لسانهم، والحضارة اليوم في أوروبا بعثت على الشعر، ولم تقف في وجهه! إنما كل ما يصح أن يقال: إن الحضارة تميت أنواعا من الشعر لا تعيش إلا في البادية، كما تحيا أنواعا من الشعر لا تعيش إلا في نعيم الحضر.
والتعليل الصحيح في نظرنا أن هؤلاء الحيريين والغسانيين كان فيهم شعراء، ولكن كانت لهم أيضا لغة خاصة بهم غير لغة قريش التي سادت الحجاز، ولم تستطع أن تسود الحيرة وغسان لبعد موطنها، ولأن الحيريين والغسانيين أرقى ممن حولهم من العرب، فأنفوا أن يخضعوا للسان غير لسانهم، وقد يستتبع ذلك أن تكون لهم في الشعر أوزان خاصة تتفق مع لغتهم وعقليتهم، فلما جاء الإسلام، ونزل القرآن بلغة قريش أهمل الرواة ما كان خارجا عن هذه اللغة وقواعدها وأوزانها.
ولا يطعن في هذا الرأي ما يروى من شعر لعدي بن زيد، وما يروى لنا من رحلة شعراء الجزيرة إلى الحيرة وغسان وتفاهمهم، فإن عدي بن زيد - كما يحدثنا الرواة - له نسب في عرب الجزيرة، ورحلة الشعراء ليست اعتراضا وجيها؛ لأنا نرى أن لغة الحيرة والغسانيين مع اختلافها عن لغة الحجاز قريبة منها لاتفاق الأصل الذي تفرعت عنه لغات العرب ولهجاتها؛ فليس ببعيد أن يكون للحيريين والغسانيين لغة خاصة وهم مع ذلك يستطيعون أن يفهموا لغة قريش إذا حدثوا بها.
ودليلنا على صحة هذا الرأي أن النسابين - كما ذكرنا - يذهبون إلى أن اللخميين والغسانيين من أصل يمني، وثقات المؤرخين قديما وحديثا يؤكدون أن لغة اليمن كانت غير لغة قريش؛ وفي ذلك يقول ابن خلدون: «ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة، وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته، تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا، خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول، وكثير من أشباه هذا، وليس هذا بصحيح؛ ولغة حمير مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها»
9 .
فلو جارينا النسابيين فيما قالوا في أصل لخم وغسان كان الأمر في اختلاف اللغتين واضحا، بل أكبر ظننا أن اللخميين والغسانيين كانوا نبطا لا يمنيين ولا عربا خلصا، وأنه كان لهم شعرهم وآدابهم باللغة النبطية. (3)
اليهودية والنصرانية:
من عوامل نشر الثقافة الأجنبية في جزيرة العرب انتشار اليهودية والنصرانية.
اليهودية:
انتشرت اليهودية في جزيرة العرب قبل الإسلام بقرون، وتكونت فيها مستعمرات يهودية، وأشهرها يثرب، وهي التي سميت بعد بالمدينة، ولكن من هم هؤلاء اليهود في جزيرة العرب؟ هل هم من عنصر يهودي أم هم عرب تهودوا؟ وإذا كان الأول فمن أين أتوا: هل أتوا من فلسطين أو من غيرها؟ اضطربت الأخبار في ذلك، ويظهر أن الصنفين كانا موجودين في الجزيرة، يهود نزحوا وعرب تهودوا، فياقوت في معجمه يذكر أن يهود يثرب عرب تهودوا، ويقول صاحب الأغاني: «إنه لما ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعا في الشام فوطئوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم خرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل هاربين منهم إلى من بالحجاز لما غلبتهم الروم على الشام»، وليس هنا موضع تحقيق ذلك.
وعلى كل حال فقد كان في القرون الأولى للميلاد مستعمرات يهودية: في تيماء ، وفي فدك، وفي خيبر، وفي وادي القرى، وفي يثرب وهي أهمها، وكان يهود يثرب ثلاث قبائل: بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة.
وقد اشتهر اليهود في جزيرة العرب حيث حلوا بمهارتهم في الزراعة كما اشتهروا في يثرب أيضا بصناعاتهم المعدنية كالحدادة والصياغة وصنع الأسلحة.
وقد كان بيثرب قبيلتا الأوس والخزرج نزحتا إليها من اليمن - كما يذكر النسابون - حوالي سنة 300م بعد أن سبقهم اليهود إلى استعمارها، وكانت العلاقة بين اليهود والأوس والخزرج حسنة في أول الأمر، ثم ساءت قبل الهجرة لأسباب يختلف الباحثون فيها.
كذلك عمل اليهود على نشر ديانتهم جنوبي الجزيرة، حتى تهود كثير من قبائل اليمن، ومن أشهر هؤلاء المتهودين ذو نواس، وقد اشتهر بتحمسه لليهودية، واضطهاده لنصارى نجران، وذكروا في سبب ذلك أن يهوديا كان بنجران عدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلما، فرفع أمره إلى ذي نواس وتوسل إليه باليهودية، واستنصره على أهل نجران وهم نصارى فحمى له ولدينه وغزاهم
10 .
ويظن بعض المؤرخين أن حركة ذي نواس هذه كانت حركة وطنية، ذلك أن نصارى نجران كانوا على ولاء مع الحبشة، وكانت الحبشة تعد حامية النصرانية في نجران، وقد اتخذت النصرانية وسيلة للتدخل في شئون اليمن، فأراد ذو نواس وقومه محو هذا النفوذ الحبشي؛ ولذلك لما قتل ذو نواس نصارى نجران استنجد بقيتهم بالحبشة فأنجدوهم، وكانت بينهم حروب، وكان عام الفيل مما لا محل لذكره هنا.
نشر اليهود في البلاد التي نزلوها في جزيرة العرب تعاليم التوراة وما جاء فيها: من تاريخ خلق الدنيا، ومن بعث وحساب وميزان، ونشروا تفاسير المفسرين للتوراة وما أحاط بها من أساطير وخرافات كالتي أدخلها - بعد - من أسلم من اليهود مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وأضرابهما، وكذلك كان لليهود أثر كبير في اللغة العربية، فقد أدخلوا عليها كلمات كثيرة لم يكن يعرفها العرب، ومصطلحات دينية لم يكن لهم بها علم، مثل جهنم والشيطان وإبليس ونحو ذلك.
أضف إلى هذا أن اليهودية حلت بجزيرة العرب بعد أن تأثرت بالثقافة اليونانية تأثرا كبيرا؛ لأنها ظلت قرونا تحت الحكم اليوناني الروماني، ولأنها كانت منتشرة في الإسكندرية وعلى شواطئ البحر الأبيض حيث الثقافة اليونانية، وكان من أحبار اليهود من تعلم الفلسفة اليونانية وتأدب بآدابها، فتسربت تلك الثقافة إلى اليهودية، كما تسرب إليها بعض مبادئ من القانون الروماني.
وقال بلدوين في كتابه معجم الفلسفة: «إن الشرق والغرب اختلطا في الإسكندرية، وامتزجت آراء رومة واليونان والشام في المدنية والعلوم والدين بآراء الشرق الأقصى في ذلك، فنشأت قضية جديدة عمل على إيجادها بحث الغرب وإلهام الشرق، واتصل الدين بالفلسفة اتصالا وثيقا، كان من نتائجه ظهور عقائد دينية لا هي من الفلسفة المحضة ولا من الدين الخالص؛ بل أخذت بطرف من كل، وجاء ذلك من عاملين: أحدهما ميل اليهود إلى التوفيق بين معتقداتهم الدينية والعلم الغربي الذي كان متأثرا بالعلم اليوناني؛ وثانيهما أن المفكرين الذين استمدوا آراءهم من الفلسفة اليونانية رأوا أن يوفقوا بين معتقداتهم الفلسفية والقضايا الدينية المحضة التي جاء بها المشارقة، ومن أي الجهتين نظرنا رأينا أن النتيجة كانت فلسفة دينية لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص»، فلما انتقلت اليهودية إلى العرب كانت تحمل في ثناياها شيئا من ذلك.
النصرانية:
انقسمت النصرانية في ذلك العهد إلى جملة كنائس؛ وإن شئت فقل إلى جملة فرق، تسرب منها إلى جزيرة العرب فرقتان كبيرتان: النساطرة، واليعاقبة، فكانت النسطورية منتشرة في الحيرة، واليعقوبية في غسان وسائر قبائل الشام؛ كذلك كانت هناك صوامع في وادي القرى.
وأهم موطن للنصرانية في جزيرة العرب كان (نجران)، وكانت مدينة خصبة عامرة بالسكان، تزرع وتصنع الأنسجة الحريرية، وتتاجر في الجلود وفي صنع الأسلحة، وكانت إحدى المدن التي تصنع الحلل اليمانية التي تغنى بها الشعراء، وكانت قريبة من الطريق التجاري الذي يمتد إلى الحيرة.
وكان يتولى أمورها رؤساء ثلاثة: السيد، والعاقب، والأسقف، ويظهر أن السيد كان اختصاصه كاختصاص رؤساء القبائل، فهو رئيسهم في الحرب، وهو الذي يدير أمورهم الخارجية، ويتولى أمور العلاقات بينهم وبين القبائل الأخرى؛ والعاقب يتولى الأمور الداخلية الدنيوية؛ والأسقف الأمور الدينية، وهم الثلاثة يتشاورون في المسائل الهامة، قال ياقوت في المعجم: «ووفد على النبي
صلى الله عليه وسلم
وفد نجران وفيهم السيد واسمه وهب، والعاقب واسمه عبد المسيح، والأسقف وهو أبو حارثة، وأراد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مباهلتهم فامتنعوا وصالحوا النبي
صلى الله عليه وسلم
فكتب لهم كتابا، فلما ولي أبو بكر أنفذ ذلك لهم، فلما ولي عمر أجلاهم واشترى منهم أموالهم».
وكان بنجران كعبة، قال ياقوت: «وكعبة نجران هذه - يقال - بيعة، بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة معتمون»، ويستظهر بعض الباحثين أنها كانت كعب للعرب تحج إليها قبل مجيء النصرانية، ثم اتخذها النصارى بعد انتشار النصرانية فيها.
وكان نصارى نجران - على ما يستظهر (أوليرى) - على مذهب اليعاقبة، وهذا يعلل اتصالهم بالحبشة (لأنهم كانوا يعاقبة أيضا) أكثر من اتصالهم بالرومان.
واشتهر بين العرب من رؤسائها قبل الإسلام قس بن ساعدة، ويذكر أدباء العرب أنه كان أسقف نجران، ويقطع «لامانس» - في كتابه عن يزيد - ببطلان ذلك ويذكر أنه لم يكن له صلة بنجران.
وقد أوقع ذو نواس بأهل نجران وقتلهم - كما ذكرنا ذلك عند الكلام على اليهودية - ويروي بعض المؤرخين أنه نزل في ذلك قوله تعالى:
قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ؛ وذلك بعيد؛ لأن كلا من اليهود والنصارى يؤمن بالله العزيز الحميد، وقد استنجد النصارى بالحبشة فأنجدوهم، وغزوا بلاد العرب سنة 522م ثم سنة 525م وهزموا ذا نواس، وأنشئوا مستعمرة حبشية على شاطئ البحر الأحمر، وحكموا تهامة واستمر حكمهم إلى سنة 575م حيث غزا الفرس بلاد اليمن واحتلوها وطردوا الحبشة منها، واستمرت النصرانية في نجران إلى عهد عمر فأجلاهم عنها وذهب أكثرهم إلى العراق.
وقد نشرت المسيحية تعاليمها بين العرب، وأوجدت فيهم من يميل إلى الرهبنة ويبني الأديرة ؛ فهم يحدثوننا أن حنظلة الطائي فارق قومه ونسك، وبنى ديرا بالقرب من شاطئ الفرات ، ويعرف هذا بدير حنظلة، وترهب فيه حتى مات، ويذكرون أن قس بن ساعدة «كان يتقفر القفار، ولا تكنه دار، يتحسى بعض الطعام، ويأنس بالوحوش والهوام»، ويقولون: «إن أمية بن أبي الصلت كان قد نظر في الكتب وقرأها، ولبس المسوح تعبدا، ويذكرون أن عدي بن زيد نصح النعمان ملك الحيرة حتى حبب إليه النصرانية، ثم وضع تاجه، وخلع أطماره، ولبس أمساحه، فلزما عبادة الله في الجبال حتى مات النعمان»
11 .
وكان القسس والرهبان يردون أسواق العرب، ويعظون ويبشرون، ويذكرون البعث والحساب، والجنة والنار، وقد ورد في القرآن كثير من الآيات تحكي أقوالهم وتفند مذاهبهم، مما يدل على انتشار هذه التعاليم بينهم.
وكان من هؤلاء النصارى شعراء كقس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد، وهؤلاء لهم مسحة خاصة في شعرهم، عليها طابع الدين ومتأثرة بتعاليمه، تزهد في الدنيا وشئونها، وتدعو إلى النظر في الكون والاعتبار بحوادثه، وهذه الأشعار وإن قلد أكثرها فقد أحكم تقليدها، حتى ليدلنا تقليدها على منهاج أصلها.
كذلك أدخلوا على اللغة العربية ألفاظا وتراكيب لم تكن تعرفها العرب، فهم يذكرون أن أمية بن أبي الصلت علم العرب (باسمك اللهم)، وقس أول من قال: (أما بعد)؛ وكان أمية يستعمل في شعره ألفاظا مجهولة لا تعرفها العرب، كان يأخذها من الكتب القديمة، فمنها قوله: «قمر وساهور يسل ويغمد»، وكان يسمي الله «السلطيط»، وسماه في موضع آخر «التغرور» ... إلخ.
كانت النصرانية - فوق هذا - من قبل دخولها جزيرة العرب تحمل في ثناياها شيئا من الثقافة اليونانية كما هو الشأن في اليهودية، فإنها إحدى الديانات التي ولدت في الشرق، وانتشرت في الإمبراطورية الرومانية - معهد الثقافة اليونانية - وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وفي العصور المسيحية الأولى كان كثير من آباء الكنيسة فلاسفة قبل أن يكونوا رجال دين؛ لأنهم رأوا من الضروري أن يؤيدوا أنفسهم وعقائدهم أمام الوثنيين، فلجئوا إلى الفلسفة يستمدون منها التعليل والبرهان، فتسربت إلى النصرانية فلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، وقد امتاز الشرق بأن أنشئت فيه مدارس لاهوتية متأثرة بالفلسفة اليونانية تقليدا للأكاديميات اليونانية، وأشهر ذلك مدرسة الإسكندرية التي كانت في بدء القرن الثالث للميلاد، وأنشأ ملكيون سنة 270م مدرسة في أنطاكية، وأنشئت في نصيبين مدرسة أخرى سنة 297م وهذه كانت تعلم السريانية واليونانية معا.
وكان النساطرة على الأخص أكثر إلماما بعلوم اليونان، وقد ترجموا كثيرا من الكتب اللاهوتية والفلسفية عن اليونانية، كما اشتهروا بالطب والعلوم الطبيعية، وكان من رجال الدين النساطرة أطباء في بلاد فارس، ومنهم كثيرون انتشروا في الحيرة، ولعل هذا هو السبب في أنه بعد ضعف شأن الحيرة وانتشار الإسلام في هذه البقاع كان أول حامل للواء العلم في الإسلام «البصرة والكوفة» لجوارهما الحيرة، وكان أول كتب استخدمت لبث الثقافة اليونانية هي المكتوبة باللغة السريانية والتي خلفتها هذه المدارس النسطورية، وعلى العموم فقد كان هؤلاء النساطرة هم الصلة بين اليونان والعرب. •••
هذه الأمور الثلاثة: التجارة، والإمارات على التخوم، واليهودية والنصرانية؛ كانت وسائل لتسرب المدنيات المجاورة إلى العرب ونفوذ ثقافتها إليهم؛ قال الهمداني في كتابه «الوشي المرقوم»: «لم يصل إلى أحد خبر من أخبار العرب والعجم إلا من العرب (كذا)؛ وذلك لأن من سكن مكة أحاط بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس، وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم علم أخبارهم وأيام حمير وسيرها في البلاد، وكذلك من سكن الشام خبر بأخبار الروم وبني إسرائيل واليونان، ومن وقع بالبحرين وعمان فعنه أتت أخبار السند وفارس، ومن سكن اليمن علم أخبار الأمم جميعا؛ لأنه كان في ظل الملوك السيارة»، ولكن لم تكن معرفتهم بذلك معرفة وافرة، إنما كانت تتسرب هذه المدنيات من مجرى ضيق، وقد ينال التحريف ما ينقلون من غيرهم، كالذي نراه في بعض أمثال العرب المنقولة عن أمثال سليمان، وفي بعض القصص المنقولة عن الفرس والروم، فلم يكن العرب يأخذون ممن حولهم علما منظما كما نأخذ نحن من المدنية الغربية ؛ لأن هناك عوائق كانت تحول دون ذلك؛ منها: الحوائل الطبيعية بين العرب وغيرهم من بحار وجبال وصحراوات؛ ومنها: البعد الكبير بين العرب والفرس والروم من حيث الحالة الاجتماعية والدرجة العقلية؛ وأكثر ما يكون اقتباس الحضارة والمدنية إذا تقاربت العقليتان؛ ومنها: انتشار الأمية بين العرب إذ ذاك، حتى ندر أن تجد فيهم القارئ الكاتب، إنما كان المخالطون للفرس والروم ينقلون حكما أو قصصا أو أمثالا أو حوادث تاريخية مما يخف حمله على الناقل، ومما يستطيع البدوي ومن في حكمه أن يهضمه.
ولعله ظهر لك مما ذكرنا أنه قد كانت هناك صلة بين العرب وغيرهم من الأمم أثرت في حياتهم المادية والأدبية، وهو ما أردنا إثباته.
الفصل الثالث
طبيعة العقلية العربية
تختلف الشعوب عقليا ونفسيا اختلافا كبيرا، فعقلية الإنجليزي غير عقلية الفرنسي، وهما غير عقلية المصري؛ وهكذا، وهذه العقليات والنفسيات تختلف تبعا لاختلاف البيئة الطبيعية والاجتماعية التي تحيط بالأمة، فالشعوب تقف في العالم على درجات متسلسلة الرقي، وكل درجة لها مميزاتها العقلية والنفسية.
وأفراد الأمة الواحدة وإن اختلفوا في المدارك والتربية والتعليم ونحو ذلك فإن بينهم جميعا وحدة مشتركة، وهذه الوحدة تدركها في الملامح الجسمية حتى لتستطيع بعد قليل من المران أن تحكم بأن هذا إنجليزي أو فرنسي أو مصري، وهناك وحدة عقلية بين أفراد الأمة الواحدة تشبه الوحدة الجسمية تماما، فما هي هذه الوحدة العقلية والنفسية للعرب؟ وبعبارة أخرى: إذا اخترت عربيا ليكون نموذجا يمثل العرب في نفسيتهم فما تكون صفاته؟
اختلفت آراء الباحثين في هذا اختلافا كبيرا، ونحن نستعرض لك بعضها: (1)
يقول بعض الشعوبية في العرب: «لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض لها ملوك تحميها ومدائن تضمها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل: صنعة الديباج ولعبة الشطرنج، ورمانة القبان، ومثل: فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والأصطرلاب، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة ، إلا ما كان من الشعر، وقد شاركتها فيه العجم، وذلك أن للروم أشعارا عجيبة قائمة الأوزان والعروض»
1 . (2)
ويقول الجاحظ في الرد عليهم والمقارنة بين العرب وغيرهم: «إن الهند لهم معان مدونة، وكتب مجلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة؛ ولليونان فلسفة ومنطق، ولكن صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان ولا موصوف بالبيان؛ وفي الفرس خطباء، إلا أن كل كلام وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر ... وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب»
2 . (3)
رأي ابن خلدون في العرب: ولابن خلدون رأي في العرب منثور في مواضع عدة من تاريخه نلخصه فيما يلي بألفاظه:
يرى ابن خلدون أن حالة العرب حالة اجتماعية طبيعية، يمر عليها الإنسان في نشوئه وارتقائه؛ وعبر عن ذلك بقوله: «إن جيل العرب في الخلقة طبيعي»، ويقول: إنهم لطبيعة التوحش الذي هم فيه أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر، والقبائل الممتنعة عليهم - بأوعار الجبال - بمنجاة من عبثهم وفسادهم، وأما البسائط متى اقتدروا عليها بفقدان الحامية وضعف الدولة؛ فهي نهب لهم يرددون عليها الغارة والنهب إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم، ثم يتعاورونهم باختلاف الأيدي وانحراف السياسة إلى أن ينقرض عمرانهم
3 .
وهم إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب؛ لأنهم أمة وحشية، فينقلون الحجر من المباني ويخربونها لينصبوه أثافي للقدر، ويخربون السقف ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، وليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد؛ إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهبا أو مغرما؛ فإذا توصلوا إلى ذلك أعرضوا عما بعده من تسديد أحوالهم والنظر في مصالحهم، وهم متنافسون في الرياسة وقل أن يسلم واحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض، وانظر إلى ما ملكوه من الأوطان من لدن الخليفة كيف تقوض عمرانه وأقفر ساكنه، فاليمن - قرارهم - خراب إلا قليلا من الأمصار، وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك
4 .
وهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، من أجل ذلك لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة
5 .
والمباني التي يختطونها يسرع إليها الخراب لقلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن، في المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي، فإنه بالتفاوت في هذا تتفاوت جودة المصر ورداءته، والعرب بمعزل عن هذا، وإنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، لا يبالون بالماء طاب أو خبث، ولا قل أو كثر، ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية، وانظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظعن، فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، ولم تكن لهم مادة تمد عمرانهم من بعدهم، وكانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس، فلأول وهلة - من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجا لها - أتى عليها الخرب والانحلال
6 .
وهم أبعد الناس عن الصنائع؛ لأنهم أعرق في البدو وأبعد عن العمران الحضري وما يدعو إليه من الصنائع وغيرها، ولهذا نجد أوطان العرب وما ملكوه في الإسلام قليل الصنائع بالجملة حتى تجلب من قطر آخر
7 .
وهم أبعد الناس عن العلوم؛ لأن العلوم ذات ملكات، محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع، والعرب أبعد الناس عنها كما قدمنا، فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها، والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي، ولذلك كان حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم أو المستعجمون باللغة والمربى، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم
8 .
وهم مع ذلك أسرع الناس قبولا للحق والهدى، لسلام طباعهم من عوج الملكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة، المتهيئ لقبول الخير
9 .
وهم أقرب إلى الشجاعة؛ لأنهم قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم دائما يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية، ونجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأسا ممن تأخذه الأحكام
10 .
وهم لا يزالون موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام، والفصاحة في النطق، والذلاقة في اللسان، والبيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا
11 . (4)
ويقول «أوليرى»
12 : «إن العربي الذي يعد مثلا أو نموذجا مادي، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقومها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيار ولا للعواطف، لا يميل كثيرا إلى دين، ولا يكثرث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية، حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته وقائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه، ولو كان صديقا حميما له من قبل؛ من أحسن إليه كان موضع نقمته؛ لأن الإحسان يثير فيه شعورا بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجبا لمن أحسن إليه»، يقول لامانس: «إن العربي نموذج الديمقراطية ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورته على كل سلطة - تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته - هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تاريخ العرب ، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء، وحملهم كثيرا من الضحايا كان يمكنهم الاستغناء عنها، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية؛ ويبلغ حب العربي لحريته مبلغا كبيرا، حتى إذا حاولت أن تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته؛ ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب، كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصا في أدائها حسب ما رسمه العرف ... وعلى العموم فالذي يظهر لي أن هذه الصفات والخصائص أقرب أن تعد صفات وخصائص لهذا الطور من النشوء الاجتماعي عامة من أن تعد صفات خاصة لشعب معين، حتى إذا قر العرب وعاشوا عيشة زراعية مثلا تعدلت هذه العقلية» انتهى مختصرا. (5)
وهناك غير هذا كثير من أقوال الكتاب في كتب الأدب تنسب للعرب كل فضيلة، وتنفي عنها كل رذيلة، كالذي ذكره الألوسي في بلوغ الأرب، فقد قال بعد كلام طويل: «والحاصل أن العرب لما كانوا أتم الناس عقولا وأحلاما، وأطلقهم ألسنة، وأوفرهم أفهاما، استتبع ذلك لهم كل فضيلة، وأورثهم كل منقبلة جليلة»
13
ويقول ابن رشيق في العمدة: «العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم» ... إلخ.
مناقشة هذه الآراء:
لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعبأ بمثل هذا النمط من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص؛ لأن هذا النمط من القول ليس نمط البحث العلمي؛ إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتاريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخامس لا يستحق مناقشة ولا جدلا؛ كذلك يخطئ الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يتطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانونا كقانون الرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالأصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطأ؛ لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحضارة، لا بين أمة متبدية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، وكل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات، أما إن كان يقارن العرب بعد حضارتها فقد كان لها قانون وكان لها علم وإن كان قليلا - كما سيأتي - إنما الذي يستحق البحث والمناقشة هو رأي ابن خلدون وأوليري.
أما رأي ابن خلدون فخلاصته أن العربي متوحش نهاب سلاب، إذا أخضع مملكة أسرع إليها الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علما ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، سليم الطباع، مستعد للخير شجاع.
وخلاصة رأي (أوليري) أن العربي مادي ضيق الخيال، جامد العواطف، شديد الشعور بكرامته وحريته، ثائر على كل سلطة، كريم مخلص لتقاليد قبيلته.
فهما متفقان في وصف العرب بالمادية وثورتهم على كل سلطة، أما الوصف الثاني فلا مجال للشك فيه، وقد صدق (أوليري) في قوله: «إن هذه الصفة هي التي تفسر لنا الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تاريخ العرب»، أما المادية فكثير من المستشرقين يوافقون ابن خلدون وأوليري على وصف العرب بها كالأستاذ «برون» في كتاب «تاريخ الأدب عند الفرس»، ويعنون بهذا الوصف أنهم لا يقدرون إلا المادة وإلا الدرهم والدينار، فأما المعنويات فلا قيمة لها في نظرهم، وحقا أنك لتدرك هذا المعنى بجلاء في بعض سكان البادية اليوم، ولكن هل هذا الوصف يصح أن يعمم في عرب الجاهلية؟ ذلك ما نشك فيه، فإنه لو صح ما يروى لنا في كتب الأدب من حكايات الكرم والوفاء، وبذل النفس عن سماحة في المحافظة على تقاليد القبيلة لتنافي تمام المنافاة مع المادية، لذلك يظهر لنا أن كلا من أوليري وابن خلدون أخطأ في عدم تحديد «العربي» الذي يصفه، فنحن نعتقد أن عربي الجاهلية يخالف في أمور كثيرة عربي الإسلام، بل عربي الجاهلية نفسه متحضرا غيره باديا، وبدو اليوم يخالفون في أمور كثيرة بدو الجاهلية، وابن خلدون - مع دقته في بحثه - لم يحدد بالضبط معنى العربي الذي يصفه، وهذا ما جعله يضطرب في قوله؛ فإنك إذا قرأت قوله في بعض المواضع تفهم أنه إنما يريد العربي البدوي كالذي يهدم القصور ليستعمل حجارتها في الأثافي وخشب ثقفها في الأوتاد، فإنما ذلك ينطبق على البدوي الممعن في البداوة، لا العربي المتحضر في الدولة الأموية أو العباسية؛ ثم تراه يذكر العربي في أنه لا يحسن اختيار مواقع البلاد، كما فعل عند تخطيط البصرة والكوفة، وهذا كما تعلم ليس هو العربي البدوي الممعن في البداوة، إنما هو عربي صدر الإسلام الذي فتح فارس والروم؛ وليس العربي الذي يخطط المدن هو الذي يهدم القصور لأثافيه؛ ثم هو يذكر أنه لا يحسن علما وأن الموالي هم السابقون في هذا المضمار، وهذا ليس عربي البدو ولا عربي صدر الإسلام، إنما هو عربي الدولة العباسية وآخر الأموية، وقد ناقض ابن خلدون نفسه؛ إذ يقرر في موضع آخر من مقدمته ما يفهم منه استعداد العربي بطبيعته للتحضر والاستفادة ممن يخالطه ويعاشره، قال: «ومثل هذا وقع للعرب لما كان الفتح، وملكوا فارس والروم، واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة، فقد حكي أنه قدم لهم المرقق فكانوا يحسبونه رقاعا، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا، وأمثال ذلك؛ فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم، واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم، واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليه، أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتفنن فيه، فبلغوا الغاية في ذلك وتطوروا بطور الحضارة، واستجادوا المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية»
14 .
فترى من هذا أن ابن خلدون في حكمه على العربي خلط بين العربي في عصوره المختلفة، وأصدر عليه أحكاما عامة، مع أنه هو نفسه القائل بأن العربي يتغير بتغير البيئة.
ثم يقول (أوليري): «إن العربي ضعيف الخيال جامد العواطف»، أما ضعف الخيال فلعل منشأه أن الناظر في شعر العرب لا يرى فيه أثرا للشعر القصصي ولا التمثيلي، ولا يرى الملاحم الطويلة التي تشيد بذكر مفاخر الأمة، كإلياذة هوميروس وشاهنامة الفردوسي، ثم هم في عصورهم الحديثة ليس لهم خيال خصب في تأليف الروايات ونحو ذلك، ونحن مع اعتقادنا قصور العرب في هذا النوع من القول، نرى أن الضرب أحد مظاهر الخيال لا مظهر الخيال كله، فالفخر والحماسة والغزل والتشبيه والمجاز كل هذا ونحوه مظهر من مظاهر الخيال، والعرب قد أكثروا القول فيه كثرة استرعت الأنظار وإن كان الابتكار فيه قليلا.
كذلك ما ملئ به شعر العربي من الغزل، وبكاء الأطلال والديار، وذكرى الأيام والحوادث، وما وصف به شعوره ووجدانه، وصور به التياعه وهيامه، لا يمكن أن يصدر عن عواطف جامدة.
أما رأي الجاحظ فيتلخص في أنه يسلم بقول الشعوبية في أن ليس لهم علم ولا فلسفة ولا كتب موروثة، ويرى أن العرب عوضوا عن هذا بميزتين واضحتين: طلاقة اللسان، وحضور البديهة؛ والحق أنهما صفتان ظاهرتان فيهم، ويكفي أن تلقي نظرة على ما خلفوه من آدابهم لتعترف بما منحوا من لسان ذلق وبديهة حاضرة، ولعلك من هذه المناقشة تلمح رأينا في العرب، فهم ليسوا في جاهليتهم وإسلامهم في درجة واحدة من الرقي العقلي والخلقي، فلنقتصر الآن على وصف العربي الجاهلي:
العربي عصبي المزاج، سريع الغضب يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجا إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته، وإذا اهتاج أسرع إلى السيف واحتكم إليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف، وحياتهم اليومية المعتادة.
والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يفجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وإن شئت فقل: إن لسانه أمهر من عقله.
خياله محدود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرا من عيشته، وحياة خيرا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف «المثل الأعلى »؛ لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته كلمة واحدة دالة عليه، ولم يشر إليه فيما نعرف من قوله، وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يسقي منه معنى جديدا، ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب.
أما ناحيتهم الخلقية فميل إلى حرية قل أن يحدها حد، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الاجتماعية، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تاريخهم في الجاهلية - حتى وفي الإسلام - سلسلة حروب داخلية، وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي؛ لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية، ولأنه رضي الله عنه منح فهما عميقا ممتازا لنفسية العرب.
والعربي يحب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب، وفقر وغنى، وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود، هذا وصف موجز تجد تفصيله في الفصل الآتي.
من هذا الذي ذكرنا مما للعرب من عقلية طبيعية، ومن ذلك الذي شرحنا من اتصال العرب بغيرهم من الأمم المتحضرة، نبع ما لهم من حياة عقلية مظهرها اللغة والشعر والمثل والقصص.
الفصل الرابع
الحياة العقلية للعرب في الجاهلية
أشرنا فيما تقدم إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدوا، وأن طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم أثناء سيرها إلى الحضارة، وتزيد الآن أن هذا الطور الطبيعي له مظاهر عقلية طبيعية.
ففي مثل هذا الطور الذي كانت تمر به العرب في الجاهلية يتجلى ضعف التعليل، أعني عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهما تاما، يمرض أحدهم ويألم من مرضه فيصفون له علاجا، فيفهم نوعا ما من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره؛ لهذا لا يرى عقله بأسا من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي الكلب، أو أن سبب المرض روح شرير حل فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى، إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئا من ذلك ما دامت القبيلة تفعله؛ لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول.
هذا الضعف في التعليل هو الذي يشرح لنا ما ملئت به كتب الأدب من خرافات وأساطير كانت العرب تعتقدها في جاهليتها، فهم يحدثوننا أن سد مأرب كان بين ثلاثة جبال تحصر ماء السيل والعيون، وليس للماء مخرج إلا من جهة واحدة، فسد الأوائل تلك الجهة بالحجارة الصلبة والرصاص، فكانوا إذا أرادوا سقي زرعهم فتحوا من ذلك السد بقدر حاجتهم بأبواب محكمة، وحركات مهندسة، فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه إذا أرادوا؛ ثم يحدثوننا أن سبب خرابه جرذان حمر كن يحفرن السد الذي يليها بأنيابها، فتقتلع الحجر الذي لا يستقله مئة رجل ثم تدفعه بمخاليب رجليها حتى تسد الوادي من الناحية التي يجتمع فيها الماء، ويفتح من ناحية السد! وقد عجزوا عن أن يفهموا أن ليس هناك ارتباط صحيح بين هذه الجرذان الخرافية وخراب السد، وأن السبب الصحيح إهمال تعهد السد حتى لم يعد يقوى على تحمل السيل.
وكالذي قالوا: إن الذي بنى الخورنق النعمان بن امرئ القيس، بناه له رجل من الروم يقال له: سنمار، فلما أتمه قال له سنمار: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله، فقال النعمان: أيعرفها أحد غيرك؟ قال: لا، قال: لا جرم لأدعنها وما يعرفها أحد؛ ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع، فضربت به المثل
1 ، وقد صدقوا بهذه الخرافة مع استحالة تركيز القصر كله على آجرة واحدة، ويطول بنا القول لو عددنا ما ذكر في كتب الأدب والتاريخ من هذا القبيل مما يتعلق بأنظار العرب للحوادث، وبخاصة الحوادث التي تتعلق بالقبائل البائدة كعاد وطسم وجديس، أو بالحوادث البعيدة التاريخ عن زمن الهجرة كجذيمة والزباء. ونستخلص من هذا كله أنهم لم يكونوا يحسنون تعليل الحوادث، ولا يربطون المسببات بأسبابها ربطا محكما، ولم يكن هذا شأن العرب وحدهم، بل شاركهم فيه غيرهم من الأمم في طور مثل طورهم كاليونان، وأصبحت هذه الأشياء وغيرها موضوعا لما يسمى «علم الميثولوجيا».
وهذا أيضا يعلل لنا التجاءهم في تعرف الحوادث الماضية والمستقبلة إلى الكهانة والعرافة وزجر الطير والعيافة؛ وهي أمور ليست منطقية في تعرف العلة للمعلول والسبب للمسبب.
نعم كل أمة فيها مخرفوها مهما رقيت ومهما تفلسفت، ولكن كتب الأدب العربي تدلنا على أن هذه العقائد كانت عقائد الشعب عامة لا أفراد شواذ، وأن الكهانة وأمثالها تكاد تكون نظاما مقررا لكل قبيلة من قبائلهم.
قد نجد في بيت من الشعر الجاهلي أو في مثل من أمثالهم أو قصة من قصصهم فكرة راقية، وربطا للأسباب بالمسببات، ولكن حتى هذه يعوزها العمق في التفكير، كما يعوزها الشرح والتعليل؛ جاء في سيرة ابن هشام: أن حيا من ثقيف فزعوا للرمي بالنجوم، فجاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج - وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا - فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: «بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها؛ وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراده الله بهذا الخلق، فما هو؟»
ألست ترى معي دقة نظر عمرو هذا في تفريقه بين نجوم يتوقف على بقائها نظام هذا العالم وأخرى ليست لها هذه القيمة وهي الشهب؟ ولكن شيئا من ذلك ليس الشرح الفلسفي للنجوم والشهب، ولا التعليل الواضح الجلي للارتباط بين السبب والمسبب.
لاحظ بعض المستشرقين أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك، وقبله لاحظ هذا المعنى بعض المؤلفين الأقدمين من المسلمين، فقد جاء في «الملل والنحل» للشهرستاني عند الكلام على الحكماء: «الصنف الثاني حكماء العرب وهم شرذمة قليلة، وأكثر حكمتهم فلتات الطبع وخطر الفكر» وقال في موضع آخر: «إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد ... والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات، والغالب عليهم الفطرة والطبع، وإن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفية الأشياء، والحكم بأحكام الطبائع، والغالب عليهم الاكتساب والجهد».
فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني مثلا، لقد ألقى اليوناني - أول ما تفلسف - نظرة عامة على العالم، فساءل نفسه: كيف برز هذا العالم إلى الوجود؟ إني أرى هذا العالم جم التغير كثير التقلب! أفليس وراء هذه التغيرات أساس واحد ثابت؟ وإذا كان فما هو؟ آلماء أم الهواء أم النار؟ وأرى العالم كله كالشيء الواحد يتصل بعضه ببعض وهو خاضع لقوانين ثابتة، فما هذا النظام، وكيف نشأ، ومم وجد؟
هذه الأسئلة وأمثالها وجهها اليوناني إلى نفسه فكانت أساس فلسفته، ومبناها كلها النظرة الشاملة، أما العربي فلم يتجه نظره هذا الاتجاه، ولا بعد الإسلام، بل كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له، وجاش صدره بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل، فقال مثلا:
منع البقاء تقلب الشمس
وطلوعها من حيث لا تمسى
وطلوعها بيضاء صافية
وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كما
يجري حمام الموت في النفس
اليوم أعلم ما يجيء به
ومضى بفصل قضائه أمس
فأما نظرة شاملة، وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه، فذلك ما لا يتفق والعقل العربي، وفوق هذا، هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها؛ وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه «الفوتوغرافيا»، إنما يكون كالنحلة يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة.
هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما ترى في أدب العرب - حتى في العصور الإسلامية - من نقص، وما ترى فيه من جمال.
فأما النقص فما تشعر به حين تقرأ قطعة أدبية - نظما أو نثرا - من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلا دقيقا، وقلة ارتباط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، حتى لو عمدت إلى القصيدة - وخاصة في الشعر الجاهلي - فحذفت منها جملة أبيات أو قدمت متأخرا أو أخرت متقدما، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك - وإن كان أديبا - ما لم يكن قد قرأها من قبل.
وهذا النقص تلمحه فيما يكتب في الموضوعات الأدبية، فأنت إذا قارنت بين ما يكتبه الجاحظ أو ابن عبد ربه أو أبو هلال العسكري في الخطابة أو الوصف، وما يكتبه أرسطو في ذلك رأيت الطبيعتين مختلفتين تمام التخالف، فأرسطو يحلل الخطابة مثلا، ويبين منزلتها من البلاغة، وأقسام الخطابة وأجزاء الخطبة؛ وكيف يتكون الخطيب ... إلخ بنظر شامل بحيث تدرك الخطابة صورة كاملة؛ أما كتاب العرب فيكتبون جملا رشيقة ودررا منثورة في الخطابة، لا يتكون منها شكل تام.
ويجب أن تعني - إذا أردت المقارنة الصحيحة - باستبعاد من تأثر طبعه وعقله بالفلسفة اليونانية كالسكاكي وأمثاله.
وهذا النقص أيضا تلمحه في كتب الأدب؛ لأنها تأثرت بطبيعة الأدب نفسه، فإذا نظرت في كتاب كالأغاني أو العقد الفريد أو البيان والتبيين أو الحيوان للجاحظ لا تجد موضوعا واحدا ألقيت عليه نظرة عامة دفعة واحدة، ثم وضع في مكان واحد، ولكن هنا لمحة وهناك لمحة، وتدخل من باب فيسلمك إلى باب آخر لأقل مناسبة، حتى يعيا الباحث إذا أراد أن يقف على كل ما كتب في موضوع معين، مع اعترافنا بما في هذا التنقل من لذة وطلاوة.
وهذا النوع من النظر هو الذي قصر نفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، ولا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا.
أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالا خاصا، فذلك أن هذا المنظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة ولا شمول، فامتلأ أدبهم بالحكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة، وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غني به عقلهم، وانطلقت به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معان كثيرة تركزت في حبة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة، ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيرا من حكم الفرس والهند والروم مما سنعرض له في موضع آخر، وعلى الجملة فالعقل اليوناني مثلا إن نظر إلى شيء نظر إليه ككل، يبحثه ويحلله؛ والعقل العربي يطوف حوله فيقع منه على درر مختلفة الأنواع لا ينظمها عقد. •••
والآن وقد علمنا طبيعة نظر العربي ننظر: هل هذا النوع من النظر طور طبيعي تمر به الأمم جميعا أثناء سيرها إلى الكمال، أو هو عقلية خاصة للجنس السامي؟ ذلك أمر جدير بالبحث، وليس لدينا مجال لبسط القول فيه، ولكنا نقول إجمالا: إننا أميل إلى القول بأنه طور طبيعي، نشأ من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وإن ما يسمى «الوراثة» ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، ولو كانت هناك أية أمة أخرى في مثل بيئتهم لكان لها مثل عقليتهم، وأكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذا كان العرب سكان صحاري كان لهم شبه كبير بسكان الصحاري في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق، ولنشرح لك الآن العوامل التي عملت في نفوس العرب. •••
يعمل في تكوين عقلية الشعوب عاملان قويان: البيئة الطبيعية ، ونعني بها ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك؛ والبيئة الاجتماعية، ونعني بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية، كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك، وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية، لذلك كان خطأ ما ذهب إليه «هجل» من إنكار ما للبيئة الطبيعية من أثر في العقل اليوناني والثقافة اليونانية، مستدلا بأن الأتراك احتلوا أراضيهم وعاشوا في بلادهم، ولم تكن لهم ثقافتهم وعقليتهم، ووجه الخطأ أن ذلك يكون صحيحا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذا لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، وينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول، وقد حاول علم الاجتماع توضيح ما لهذه العوامل من أثر في الأمم المختلفة، ونحن لا يعنينا هنا إلا تأثيرها في العرب.
فالعرب - كما أسلفنا - كانوا يسكنون بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، إلا كلأ مبعثرا هنا وهناك، وأنواعا من الأشجار والنبات مفرقة، استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ والجو الجاف، فهزلت حيواناتهم، ونحلت أجسامهم - وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور - فلم يستطع السير فيها إلا الجمل، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجار ضيقة معوجة عن طرق مختلفة بيناها قبل.
وشيء آخر لا بد من النظر إليه، وهو تأثير هذه الصحراء في النفوس؛ ذلك أن الحياة في الصحراء قليلة إذا قيست بحياة الخضر، سواء في ذلك حياة النبات أم الحيوان أم الإنسان، قد عريت أرضها - غالبا - من آثار البشر، فلا أبنية ضخمة، لا مزروعات واسعة، ولا أشجار باسقة؛ فابن الصحراء يقابل الطبيعة وجها لوجه، لا شيء يحول دون التفاته إليها، تطلع الشمس فلا ظل، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية وادعة فتبهر لبه، وتتألق النجوم في السماء فتملك عليه نفسه، وتعصف الرياح العاتية تدمر كل ما أتت عليه! أمام هذه الطبيعة القوية ، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، وإلى بارئ مصور، إلى حفيظ مقيت، إلى الله! ولعل هذا هو السر في أن الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم؛ وهي اليهودية والنصرانية والإسلام، نبعت من صحراء سينا وفلسطين وصحراء العرب.
الحق أن السكون المخيم على الصحراء يملأ النفوس المستعدة روعة، ويكسبها صفاء، شيء في الصحراء من صنع الإنسان، بل الكل من صنع الله، لا يقع نظر الناظر على شمس تسطع، ونجوم تناغي، وقمر يحدث، ورياح تلعب في جو فسيح مفتوح، الملك يستولي على النفس الصافية حالة لا يفقهها ساكن المدن.
للصحراء موسيقى ذات نغمة واحدة متكررة، موسيقى عابسة قاسية، رهيبة أليمة، فلا عجب أن ترى أهلها قد استولى عليهم نوع من انقباض النفس أو الكآبة أو الوجد، أو ما شئت فسمه، ولا عجب أيضا أن يتغنى شعراؤها بنوع واحد من القول ونغمة واحدة؛ لأن الصحراء توقع على نفوسهم صوتا واحدا، فيشعرون - كما تلقوا - شعرا واحدا.
هم نتيجة إقليم طليق؛ لا يصد هواءه بناء، ولا يحجب شمسه غيم، ويحبس أمطاره وسيوه سد، كل شيء فيه حر على الفطرة، فهم كذلك أحرار كإقليمهم، لم يحبسهم زرع يتعهدونه، ولا صناعة يعكفون عليها، كذلك تحررت نفوسهم من قيود حكومة ونظام، اللهم إلا شيئين قيدا عقولهم ونفوسهم: قيد دينهم الوثني وما يتطلبه من شعائر وتكاليف، وقيد تقاليد القبيلة وما يستلزمه من واجبات شاقة، وقد كانوا لتقاليد قبيلتهم أشد إخلاصا وأقوى إيمانا. •••
هذا النوع من البيئة حدد نوع معيشتهم، فهم رحل، يتطلبون الكلأ، وهم فقراء ثروتهم في كثرة ماشيتهم، وهذه الثروة تحت رحمة الطبيعة، فقد تنفق الماشية، وينضب ماء الآبار، ويقل المطر فيقل المرعى، ويسوء العيش، وبحق سموا المطر غيثا؛ وهذا النوع من البيئة أيضا حدد نوع أخلاقهم وعقليتهم؛ أليس البؤس هو الذي جعل الكرم وإطعام الطعام، وإيقاد النيران يهتدي بها الضيفان في مقدمة الفضائل؟! أوليس هذا الفقر هو الذي حبب إليهم الإغارة فأشادوا بذكر حمى القبيلة، وعيروا من قصر في الدفاع عنها، واسترخصوا النفوس في سبيل حمايتها؟! وإذا كانت الحياة بين إغارة ودفع مغير، والسبل كلها غير آمنة، ولا حكومة تقتص من جان أو تحمي طريقا؛ أفليسوا إذا في حاجة لأن يعدوا الشجاعة والوفاء والعفو من كبريات الفضائل؟ وهكذا قل في عقليتهم، فالعدل والظلم والخير والشر وما يذم وما يمدح، كله تابع لما تواضعوا عليه، وما تواضعوا عليه تابع لنوع معيشتهم.
وأنت إذا نظرت إلى اللغة العربية، والأدب العربي في ذلك العهد رأيته نتيجة طبيعية لتلك الحياة، وصورة صادقة لهذه البيئة، فألفاظ اللغة - مثلا - في منتهى السعة والدقة، إذا كان الشيء الموضوع له اللفظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وهي قليلة غير دقيقة فيما ليس كذلك، فالإبل هي عماد الحياة البدوية، هي خير مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومركبهم، فحياة العرب في الصحراء تكاد تكون مستحيلة لولا فضل الجمل، من أجل هذا ملئت اللغة العربية بالإبل، فلم يترك العرب صغيرة ولا كبيرة - مما يتعلق بها - إلا وضعوا لها اللفظ أو الألفاظ؛ فوضعوا الألفاظ لها، ولحملها ونتاجها، ووضعوا الأسماء لأسنانها (أعمارها) وحلبها، ورضاعها وفطامها، ونعوتها في طولها وقصرها، وسمنها وهزالها، وأصواتها وأوبارها، وعلفها واجترارها، ورعيها وبروكها، وأبوالها وحركة أذنابها، وأنواع سيرها ورياضتها، والرحال وما فيها، وكل ما يشد عليها، وقيودها ونزع قيودها، وسماتها وعيوبها، وجربها وأمراضها، وأدوائها ... إلخ، ولم يقتصروا على اللفظ الواحد للمسمى الواحد، بل وضعوا له الأسماء المتعددة، فإذا أنت انتقلت من الجمل إلى السفينة رأيت اللغة العربية في غاية القصور، فهم لم يوفوها حقها كما وفوا حق الجمل، ولم يصفوا كل أجزائها، ولم يضعوا أسماء لكل نوع من أنواعها، نعم هناك ألفاظ تتعلق بذلك، ولكنها لا تكاد تذكر - إذا قيست بالألفاظ الموضوعة للإبل وشئونها - بل إنك إذا فحصت الألفاظ المستعملة في السفن ومتعلقاتها وجدت كثيرا منها معربا غير عربي، كالسيابجة واليماسرة والأنجر، وكثير منها لا نشك في أنه وضع بعد العصر الجاهلي.
هذا مثل واضح، وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، فالأرض الصحراوية بما فيها من رمال ونجود ووهاد، وما فيها من كلأ وأعشاب وحشرات وهوام، كل ذلك وصفه العرب، ووضعوا له الأسامي المختلفة؛ فالأرض الصلبة والغليظة والمستوية، والواسعة والمطمئنة، والمجدبة والمخصبة، والهضاب والوديان، قد شرح كل نوع منها ووضع له اسم وأسماء، أما البحار وما حوته من أنواع الأسماك والأصداف والأمواج، ومختلف المياه، فليست اللغة غنية فيها، إلى كثير من الأمثلة، وحسبك دليلا على هذا أنك إذا نظرت في كتاب كالمخصص لابن سيده - وميزته أنه يجمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد - أمكنك أن تقارن هذه المقارنة بوضوح، فقد استغرق فيه الكلام على الإبل وما يتعلق بها 176 صفحة كبيرة عدا ما ذكر متفرقا في مواضع أخرى منه، على حين أن السفينة استغرقت منه أقل من سبع صفحات، وبعبارة أخرى: إن الكلام على الإبل أخذ نحو جزء من أجزاء الكتاب السبعة عشر، فأنت إذا قلت: إن ما ورد في كلام العرب مما يتعلق بالإبل جزء من سبعة عشر جزءا من مجموع اللغة العربية، لم تكن بعيدا عن الحقيقة، وهي نسبة جد كثيرة، ولكنه الجمل عماد الحياة العربية البدوية.
هذا في المحسات، وإنك تجد مثله في المعنويات فكلمات السرور واللهو واللعب والمزاح، أقل من كلمات البؤس والقتال والحزن والويل، ألم ترهم تفننوا في الداهية، فصاروا يخترعون لها من الأسماء ما أتعب اللغويين؟! حتى جمع حمزة من أسمائها ما يزيد على أربع مئة، وحتى قالوا: إن كثرة أسماء الدواهي من الدواهي! ذلك لأن طبيعة البيئة تستدعي ذلك، فهي بيئة شقاء وفقر، لا بيئة رخاء ونعيم.
وإن أنت نظرت إلى الأدب العربي في الجاهلية رأيت هذا بعينه، فكم استغرق الجمل والناقة من الشعر وخيال الشاعر! وكم استغرق وصف الأرض سهلها وحزنها! وكذلك إنما كان يمدح الشعراء ممدوحهم؛ ويرثون ميتهم بالأخلاق الفاشية لعهدهم، من كرم وشجاعة؛ وكان للبطولة ووصف عاطفة الحماسة، والتمدح بشن الغارة ورد العدو، المنزلة العالية، وكذلك قل في تشابيههم وأمثالهم، فكلها منتزعة من نوع معيشتهم وصورة صادقة لحياتهم. •••
ومظاهر الحياة العقلية في الجاهلية هي اللغة والشعر والأمثال والقصص، وهي - فقط - مظاهر عقلهم ، أما العلم والفلسفة فلا أثر لهما عندهم؛ لأن الطور الاجتماعي الذي أبناه لا يسمح لهم بعلم ولا فلسفة، نعم كان عندهم معرفة بالأنساب، ومعرفة بالأنواء والسماء، ومعرفة بشيء من الأخبار، ومعرفة بشيء من الطب، ولكن من الخطأ البين أن تسمى هذه الأشياء علما كما يفعل الألوسي وغيره فيقول: ومن علومهم علم الطب، وعلم الأنواء، وعلم السماء، ثم يشيدون بذكر ذلك حتى يوهموك أنه كان عندهم علم منظم بأصول وقواعد؛ فإن ما كان عندهم من هذا القبيل لا يتعدى معلومات أولية، وملاحظات بسيطة، لا يصح أن تسمى علما ولا شبه علم، أما القواعد والبحث المنظم الذي يسمى علما؛ فلا عهد للعرب الجاهليين به، وأصدق تعبير عن ذلك ما قاله ابن خلدون في مقدمته - عند كلامه على علم الطب - قال:
وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثة عن مشايخ الحي وعجائزه وربما يصح منه البعض؛ إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج، وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره
2 .
ومثل هذا يقال فيما ورد عنهم من الكلام في الأنواء والسماء؛ فهي معلومات بنيت على تجربة ناقصة تصيب حينا وتخطئ أحيانا؛ ويتناقلها الناشئون على آبائهم، كذلك لا أثر للمذاهب الفلسفية عندهم - لما بينا من قبل - ولا تعتد بقول الذين يبحثون عن أبيات من الشعر الجاهلي وجدت فيها خطرات فلسفية، فيزعمون أنها مذاهب فلسفية، فإذا قال الأعشى:
استأثر الله بالوفاء وبالعد
ل وولى الملامة الرجلا
قالوا: إنه مذهب فلسفي يراد به رفع التبعة عن الإنسان، وكذلك قالوا في مثل قول الآخر:
حياة ثم موت ثم بعث
حديث خرافة يا أم عمرو
وقول زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهزم
فإن هناك فرقا كبيرا بين مذهب فلسفي، وخطرة فلسفية، فالمذهب الفلسفي نتيجة البحث المنظم ، وهو يتطلب توضيحا للرأي، وبرهنة عليه، ونقضا للمخالفين؛ وهكذا، وهذه منزلة لم تصل إليها العرب في الجاهلية، أما الخطرة الفلسفية فدون ذلك؛ لأنها لا تتطلب إلا التفات الذهن إلى معنى يتعلق بأصول الكون، من غير بحث منظم وتدليل وتفنيد، وهذه درجة وصل إليها العرب.
الفصل الخامس
مظاهر الحياة العقلية
سنتكلم كلمة عن كل مظهر من مظاهر الحياة العقلية، وهي اللغة والشعر والمثل والقصص، لا من حيث جماله الفني وأسلوبه البلاغي، فهذا لا علاقة له بموضوعنا، ولكن من حيث دلالته على العقل.
وقبل ذلك يجب أن نقف قليلا لنبين رأينا في حجية هذه الأمور؛ ذلك لأن الشك قد يطوح بكل هذه المظاهر، أليس الشعر الجاهلي قد ظل غير مكتوب نحو قرنين، وظلت تتناقله الرواة شفاها، ونحن نعلم ما في هذا من تعرض للخطأ والتغيير، ثم أليس هناك دواع تحمل رواة الشعر وغيرهم على الانتحال؛ من دينية وسياسية وجنسية، وقد بين النقاد الثقات أن كثيرا من الشعر الجاهلي موضوع مختلق، فكيف يصح بعد أن يعتمد عليه في تعرف الحياة العقلية؛ وقل مثل ذلك في سائر المظاهر.
فنقول: إن أحدا لم ينكر الشعر الجاهلي كله جملة، بل الباحثون فيه منهم من يبالغ في الشك، ومنهم من يبالغ في اليقين، ومنهم من يقتصد، ومذهبنا نحن أن نسلك في الشعر الجاهلي مسلكنا في سائر ما يروى من الحوادث التاريخية، وما يروى من أحاديث، ففي هذه الأشياء نمتحنها من ناحيتين: من ناحية السند - أعني الرواة الذين رووا الحادثة أو الحديث - ومن ناحية المتن - أعني القول المنقول نفسه - فإذا كانت الناحيتان صحيحتين، وجب علينا أن نصدق ما قيل حتى يظهر وجه للنقد جديد، فلنفعل كذلك في الشعر، فإذا كان الراوي كاذبا أو ليس بثقة لم نعتمد على ما روى، وكذلك إذا قام برهان على ضعف المتن: كأن يتشبب الشاعر بموضع ثبت تاريخيا أنه لم يذهب إليه، ولم يكن له به علاقة أو نحو ذلك؛ فإذا لم يكن شيء من هذين صح الاستدلال بالشعر المروي، فالثقات مثلا ضعفوا ما يروي ابن إسحاق من الشعر، وطعنوا في حماد الراوية وخلف الأحمر، فلندع ما يرويه هؤلاء ما لم يشاركهم غيرهم من الثقات في روايته، ولكنهم وثقوا أبا عمرو بن العلاء والأصمعي وأمثالهما، فلنأخذ بما رووا ما لم يقم دليل من ضعف المتن على كذبه، ولعله يسلم لنا - بعد ذلك - جملة صالحة نستطيع أن نتبين منها الحياة العقلية.
على أن هناك وجها آخر للنظر، وهو أن الشعر المزيف يصح أن يكون مثلا للحياة العقلية الجاهلية متى كان المزيف عالما بفنون الشعر خبيرا بأسالبيه، فمثلا يقول ابن سلام في خلف الأحمر: «أجمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر وأصدقه لسانا»، ويعني بالفراسة في الشعر العلم به والبصر فيه، فإذا وضع خلف قصيدة فقد كان يلبس فيها على الناس، وينحو نحو الجاهليين ويقلدهم في مهارة وحذق، حتى ليصعب على الناقد أن يفرق بين قوله وقول الجاهلي، فلا علينا بعد إذا استفدنا من علم خلف بأمور الجاهلية، أليس إذا حدثك خلف عن شئون الجاهلية - وهو الخبير بها - كان لقوله قيمة كبرى؟ فهو كذلك إذا وضع شعرا يمثل الحياة الجاهلية. (1) اللغة
تدل اللغة على الحياة العقلية من ناحية أن لغة كل أمة في كل عصر مظهر من مظاهر عقلها، فلم تخلق اللغة دفعة واحدة، ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة، إنما يخلق الناس في أول أمرهم ألفاظا على قدر حاجتهم، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلقوا لها ألفاظا جديدة، وإذا اندثرت أشياء قد تندثر ألفاظها، وهكذا اللغة في حياة وموت مستمرين، وكذلك الاشتقاقات والتعبيرات فهي أيضا تنمو وترتقي تبعا لرقي الأمة، هذا ما ليس فيه مجال للشك، وإذا كان هذا أمكننا - إذا حصرنا معجم اللغة الذي تستعمله الأمة في عصر من العصور - أن نعرف الأشياء المادية التي كانت تعرفها والتي لا تعرفها، والكلمات المعنوية التي تعرفها والتي لا تعرفها، اللهم إلا إذا كانت المعاجم أثرية، كمعاجم اللغة العربية التي نستعملها نحن اليوم، فإنها لا تدل علينا؛ لأنها ليست معاجمنا، ولم تسر معنا ولم تمثل عصرنا ، ولذلك يخرج عليهم كتابنا وشعراؤنا، وإنما كانت معاجم صحيحة للعصر العباسي أو نحوه؛ أما معاجم كل أمة حية الآن فهي دليل عليها، فإذا أمسكت معجما منذ مائة عام للأمة الفرنسية ولم تجد كلمة للتغراف والتليفون فمعنى ذلك أن الأمة لا تعرفهما، وإذا لم تجد كلمة تدل على معنى من المعاني دلك ذلك على أنهم لم ينتبهوا إلى هذا المعنى؛ وهكذا.
فنستطيع إذا إذا حصرنا الكلمات العربية المستعملة في الجاهلية أن نعرف ماذا كانوا يعرفون عن الماديات، وماذا كانوا يجهلون، وماذا كانوا يعرفون من المعاني والعواطف والملكات النفسية، وماذا كانوا يجهلون، فإذا لم تجد - مثلا - كلمة ملكة أو عاطفة أو شعور في اللغة الجاهلية دل ذلك على أنهم لم ينتبهوا إلى تلك المعاني، فلم يضعوا لها ألفاظا، وهذا وأمثاله يحدد لنا مقدار رقيهم العقلي، ولكن مع الأسف لم يوضع معجم كهذا، وهل نستطيع ذلك؟ إنه يقف في سبيلنا جملة عقبات. (الأولى):
أن أكثر الشعر والنثر الجاهليين قد ضاع، قال أبو عمرو بن العلاء: «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير»، فمن أجل هذا نستطيع أن نثبت ولا نستطيع أن ننفي، نستطيع إذا صح عندنا بيت من الشعر الجاهلي أن نقول: إن ألفاظه ومعانيه تعرفها العرب، ولكن لا نستطيع إذا لم نجد أن نقول: إن العرب لا تعرف هذا اللفظ ولا هذا المعنى، وبذلك ينهدم جزء كبير من مظهر الحياة العقلية. (الثانية):
أن العرب في الجاهلية كانوا يعيشون قبائل، وهذه القبائل تختلف فيما بينها - كثرة وقلة - في اللغة وفي اللهجة، فقد تستعمل قبيلة كلمة ولا تستعملها القبيلة الأخرى، أو تستعمل غيرها، فقد روي «أن أبا هريرة لما قدم من دوس عام خيبر لقي النبي
صلى الله عليه وسلم - وقد وقعت من يده السكين - فقال له: ناولني السكين، فالتفت أبو هريرة يمنة ويسرة، ولم يفهم ما المراد باللفظ، فكرر به القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها فقيل له: نعم، فقال: أوتسمى عندكم السكين ؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ»، وهذه اللغات بدأ توحيدها قبل الإسلام واستمر هذا العمل في الإسلام، فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصا وأن بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تخالف ما للقبيلة الأخرى؛ فقبيلة على الساحل وأخرى في جبل، وثالثة في سهل وهكذا، فإذا لا يصح لنا إذا عثرنا على كلمة في شعر شاعر أن نستدل بها على الحياة العقلية للعرب أجمعين. (الثالثة):
أن كثيرا من الألفاظ العربية خلق في العصر الإسلامي، قال ابن جني في الخصائص: «إن العربي إذا قويت فصاحته، وسمت طبيعته، تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه، فقد حكي عن رؤبة وأبية أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها ولا سبقا إليها»، وهناك ألفاظ تغيرت معانيها في الإسلام كأن يكون المعنى عاما في الجاهلية وخصص في الإسلام، كالصلاة والزكاة والحج والبيع والمزارعة ونحو ذلك، بل إن اللفظ الواحد قد يتغير مدلوله في عقل السامع بانتقاله من طور إلى طور في الحضارة، فلفظ الكرسي والمائدة والخوان والمطبخ والكانون والملهى له مدلول في ذهن البدوي غير مدلوله في ذهن الحضري؛ فالكرسي في ذهن البدوي أبسط شكل يطلق عليه اسم كرسي، وفي ذهن الحضري أشكال مختلفة من الكراسي لم يكن يتخيلها البدوي، إن شئت فانظر إلى ما نفهمه نحن الآن من مؤتمر وصحافة وجريدة ومطبعة وما كان يفهمه البدوي في الجاهلية من هذه الألفاظ، بل وما يفهمه العربي في العصر العباسي منها.
فما معجم الألفاظ للجاهليين قبل الإسلام؟ وهب أنك عثرت عليها، فما مدلولها بالدقة عندهم؟ ذلك مطلب عسير المنال.
قد تقول: إن في القرآن غناء عن ذلك، فقد نزل بلغة العرب وفهمه العرب وقت نزوله، ونصه لا يحتمل الشك، فنستطيع أن نتعرف منه لغة الجاهليين، فنقول: صحيح أن القرآن نزل بلغة العرب، ونصه لا يحتمل الشك، وهو يفيدنا في تعرف كثير من حياة الجاهلية العقلية فيما يحكي من أقوال المعاندين، وفيما يصور من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ولكن ألفاظه وتعبيراته ومعانيه لا تمثل لغة الجاهليين بأكملها؛ لأن القرآن استعمل ألفاظا لم يكن يستعملها الجاهليون، وخصص ألفاظا لمعان لم يكن يخصصها الجاهليون، واستعمل استعارات ومجازات خارجة عن الدائرة التي كان يستعملها الجاهليون، وله أسلوب أخاذ كان بعيدا عن أسلوب الجاهليين، وله معان كذلك؛ قال السيوطي في المزهر: «قال ابن خالويه: إن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة، والمنافق اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية، وقال ابن الأعرابي: لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسق ... إلخ»، فلا تستطيع بعد ذلك أن تقول: إن معجم القرآن ومعانيه وأمثاله تمثل الحياة العقلية من الناحية اللغوية.
وبعد؛ فمع كل هذه العقبات نرى أن ما يسلم من شعر ومثل صحيحين يدلنا - نوعا ما - على حياتهم العقلية، كما يدلنا كم ثوب عثر عليه على طول الثوب نفسه وسعته، على اختلاف في الصعوبة بين الماديات والمعنويات.
وهذا الباقي يدلنا على غنى معجم اللغة قبل الإسلام، وخاصة فيما يتصل بنوع معيشتهم، وقد عبر عن ذلك الأستاذ «نولدكه» خير تعبير إذ يقول: «إنا ليتملكنا الإعجاب بغنى معجم اللغة العربية القديم، إذا ذكرنا مقدار بساطة الحياة العربية وشئونها، وتوحد مناظر بلادهم واطرادها اطرادا يدعو إلى السآمة والملل، وهذا يستتبع حتما ضيق دائرة التفكير، ولكنهم في داخل هذه الدائرة الضيقة وضعوا لكل تغير - وإن قل - كلمة تدل عليه؛ ويجب أن نقر بأن معاجم اللغة العربية قد تضخمت كثيرا بكلمات استعملها الشعراء وصفا لأشياء فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، فمثلا إذا أطلق شاعر كلمة «الهيصم» على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر «الهراس» من الهرس وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد، وقد أدخل باب الهجاء - على الأخص - في اللغة وفي الأدب العربي - وهو باب ذهب أكثر ما قيل فيه - تعبيرات كثيرة صاغها قائلوها في صور مبتكرة وأحيانا غريبة، وقد انتقص اللغويون - على ما يظهر - كلمات وردت في بعض الأشعار على قلة، ولم تكن مستعملة إلا في قبائل معينة ، ولكن رغما عن هذا كله يجب أن نعترف بأن معجم اللغة العربية غني غنى رائعا، وسيبقى دائما مرجعا هاما لتوضيح ما غمض من التعبيرات في جميع اللغات السامية الأخرى.
وليست اللغة العربية غنية بكلماتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضا، فجموع التكسير وأحيانا أسماء الأفعال كثيرة زائدة عن الحاجة» ا.ه باختصار.
ونحن نوافقه في غنى اللغة العربية غنى مفرطا في الحدود التي ذكرناها من قبل، وهي الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل وما إليه، والصحراء وما فيها، وألفاظ العواطف المحدودة التي تجيش في صدورهم؛ ولكن ليست غنية فيما خرج عن هذه الحدود كالبحر وعالمه، ولا بأنواع الترف التي ينعم بها المنغمسون في الحضارة، يعرفون القبيلة وما تفرع منها، ويضعون لكل اسما؛ لأن نظام القبيلة نظامهم؛ ولكن لا يعرفون نظام الحكومات ولا أنواع الدواوين، فلم يضعوا لها بالضرورة اسما فلما عرفوا معنى الديوان أخذوا اسمه عمن يعرفه؛ وهكذا، ولم يكن يتطلب منهم في الجاهلية أن يضعوا كلمات لما لم يمس حياتهم، فذلك محال، وحسب الأمة فضلا أن تسمي ما تشعر به الاسم والأسماء، ولكن حسبها مذلة أن تتحضر وتتسع حياتها من جميع نواحيها، ثم لا تريد إلا أن تبقى - من حيث اللغة - في حدود الدائرة الضيقة التي رسمها لهم آباؤهم الأولون.
كذلك مما لا شك فيه أن اللغة العربية غنية باشتقاقها وتصريف كلماتها؛ فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يشعرنا شعورا تاما بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء.
وللغة دلالة أخرى على الحياة العقلية من حيث ما تستخدم فيه اللغة من شعر ومثل وقصص ... وسيتجلى ذلك في الفصول التالية. (2) الشعر
يذهب بعض الباحثين
1
إلى أن الشعراء في الجاهلية كانوا «هم أهل المعرفة»، يعنون بذلك أن طبقة الشعراء في الجاهلية كانوا أعلم أهل زمانهم، وليسوا يعنون بالضرورة أي نوع من أنواع العلم المنظم، إنما يعنون أنهم أعلم بما يتطلبه نوع معيشتهم، كمعرفة الأنساب ومثالب القبيلة ومناقبها؛ وقد يساعد على هذا الرأي اشتقاق المادة، فشعر في الأصل معناه علم، تقول شعرت به: علمت؛ وليت شعري ما صنع فلان: أي ليت علمي محيط بما صنع؛
وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون : ما يدريكم، وشعر بكذا: فطن كما في اللسان، فالمادة كلها معناها العلم أو المعرفة، وعليه فيكون الشاعر معناه العالم، والشعراء: العلماء، ثم خصصوا الشعر بهذا الضرب من القول، قال في اللسان: «والشعر منظوم القوم، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرا من حيث غلب الفقه على علم الشرع» اه. وربما ساعد على هذا أيضا ما جاء فيه: قال الأزهري: «الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر؛ لأنه يشعر ما لا يشعر غيره؛ أي: يعلم» اه. ولكن يرى بعض المستشرقين أن كلمة شعر مأخوذة من اللغة العبرية ففيها «شير» بمعنى الترتيلة أو التسبيحة القدسية، ويرجحون ذلك بأنه لم يرد في اللغة العربية شعر بمعنى ألف البيت أو القصيدة، وكل ما فيها شعر بمعنى قال الشعر، وفرق بينهما.
وبعد؛ فهل حق أن الشعراء أعلم الطبقات في الجاهلية؟ نحن نشك في هذا كثيرا؛ لأنا نرى أنه كان في الجاهلية طبقة أخرى هي طبقة الحكام، وهؤلاء كانوا يحكمون بين الناس إذا تشاجروا في الفضل والنسب، وغير ذلك، وكان لكل قبيلة حاكم أو أكثر، واشتهر منهم كثيرون كأكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، وعامر بن الظرب؛ وما روي عنهم في كتب الأدب من أقوالهم وأحكامهم يدلنا على أنهم أرقى عقلية، وأصدق رأيا من الشعراء، وإن كان الشعراء أوسع خيالا وأكثر في القول افتنانا.
نعم، إن الشعراء كانوا من أرقى الطبقات عقلا، بدليل ما صدر عنهم من شعر، وبدليل أحاديث مبعثرة تراها تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، كالذي جاء في سيرة ابن هشام «أن الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها، فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله، قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ، ثم قلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني رجل لبيت شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته».
أضف إلى ذلك أنا نجد أكثر الشعراء في الجاهلية من أكرم الناس على قومهم؛ لأن موقف الشاعر في قبيلته كان التغني بمناقبها، ورثاء موتاها، وهجاء أعدائها، وقل أن تجد في أول أمرهم من كان صعلوكا يتخذ الشعر حرفة كما فعل الحطيئة بعد.
ومع هذا فإنا نرى أن الشعراء كانوا من أرقى طبقاتهم عقلا، ولكن ليسوا أرقاهم.
دلالة الشعر على الحياة العقلية: قديما قالوا: «إن الشعر ديوان العرب»، يعنون بذلك سجل سجلت فيه أخلاقهم وعاداتهم، وديانتهم وعقليتهم، وإن شئت فقل: إنهم سجلوا فيه أنفسهم؛ وقديما انتفع الأدباء بشعر العرب في الجاهلية، فاستنتجوا منه بعض أيامهم وحروبهم، وعرفوا منه أخلاقهم التي يمدحونها والتي يهجونها، واستدلوا به على جزيرة العرب وما فيها من بلاد وجبال وسهول ووديان ونبات وحيوان، وما كانوا يعتقدون في الجن، وما كانوا يعتقدون في الأصنام والخرافات، وألفوا في ذلك جميعه الكتب المختلفة.
وكانت الطريقة المثلى للانتفاع بهذا «الديوان» أن يعنى العلماء بجمع ما صح عندهم من الشعر الجاهلي، مع نقد السند والمتن، وإبعاد ما لم يصح، كما فعل المحدثون في الحديث، فليس لدينا مجموعة من الشعر الجاهلي ذكر سندها، وعني ببيان رجالها عناية تامة، كالذي عندنا من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما، وكان يجب أن يعنى بالشعر الجاهلي هذه العناية متى عددناه «ديوانا» نسجل فيه الحوادث والعادات ونظرنا إليه كأنه وثائق تاريخية، ولكن يظهر أن هذا النظر إلى الشعر الجاهلي لم يكن سائدا عند الرواة والأدباء، إنما كان السائد عندهم أو عند أكثرهم النظر إليه كمادة لتعليم اللغة، أو كأنه طرفة وملهى ومادة لحسن المحاضرة؛ فلم يكن يعنى به هذه العناية التي بذلت في الحديث، ولم ير من يتعمد الكذب فيه أن يتبوأ مقعده من النار.
نعم، إن بعض الأدباء سار في الأدب سيره في الحديث، فكان يروي الخبر معنعنا، ووضع بعضهم مصطلحات لرواية الأدب على نمط مصطلح الحديث، ولكن يظهر لنا أنها كلها محاولات أولية لم تنضج، ولم يسيروا فيها إلى النهاية.
كذلك أكثر ما روي لنا قد عني فيه بالمختارات أكبر عناية، وهم في هذا ينظرون نظرة الأديب لا نظرة المؤرخ، فالقصيدة التي لم يحكم نسجها، ولم تهذب ألفاظها ولم يصح وزنها، قد يعجب بها المؤرخ أكثر من إعجابه بالقصيدة الكاملة من جميع نواحيها، ويرى فيها دلالة على الحياة العقلية أكثر من قصيدة راقية، ولعل هذا هو السبب في أنا مع اعتقادنا أن الشعر كان خاضعا للنشوء والارتقاء، قل أن نرى فيما يروى لنا منه المحاولات الأولية التي بدأ بها الشعراء شعرهم، ثم تدرجوا منها إلى ما وصل إلينا من الرقي، ذلك أن الأديب لم يكن يروقه ذلك فيهمله، أو يستضعف وزنه فيصلحه، وبذلك يضيع كثير من معالم التاريخ. •••
لو كان عندنا هذه المجموعة التي لا يقصد فيها إلى الاختيار، ولكن يقصد فيها إلى الصحة، لكان لنا مادة صادقة للدلالة على أشياء كثيرة، منها الحياة العقلية.
ومع هذا فما لدينا يمثل بعض الشيء - وإن لم يكن وافيا كما ذكرنا من قبل - وأشهر المجموعات التي لدينا مما نسب إلى الجاهليين - عدا دواوين الشعراء - هي: (1)
المعلقات السبع، ويغلب على الظن أن جامعها حماد الراوية. (2)
المفضليات، وجامعها المفضل الضبي، وتشتمل على نحو 128 قصيدة. (3)
ديوان الحماسة لأبي تمام، وفيه مقطعات كثيرة صغيرة من الشعر الجاهلي. (4)
ومثله حماسة البحتري. (5)
وفي كتاب الأغاني، والشعر والشعراء لابن قتيبة أشعار ومقطعات كثيرة للجاهليين. (6)
مختارات ابن الشجري. (7)
جمهرة أشعار العرب لمن يسمى أبا زيد القرشي.
والشعر الذي وصل إلينا عن الجاهلية لم يعد تاريخ أقدمه 150 سنة قبل البعثة؛ ونظرة عامة إليه تدلنا على أنه ليس متنوع الموضوعات كثيرا، ولا غزير المعاني، فما روي لنا من القصائد موسيقاه واحدة، يوقع على نغمة واحدة، والتشابيه والاستعارات تكرر غالبا في أكثر القصائد: قلة في الابتكار، وقلة في التنوع، ولنستعرض كثيرا منها، فماذا نرى؟
يتخيل الشاعر أنه راحل على جمل ومعه صاحب أو أكثر، وقد يعرض له في طريقه أثر أحبة رحلوا فيستوقف صحبه ويبكي معهم على رسم دارهم، ويذكر أياما هنيئة قضاها معهم، وأن العيش بعدهم لا يحتمل، ثم يصف محبوبته إجمالا وتفصيلا، ويخرج من هذا إلى وصف ناقته أو فرسه ويقارنها بالوعل أو النعامة أو الغزال، وقد يطفر من ذلك إلى وصف الصيد ومنظره ومنازلته؛ وبعد هذا كله يتعرض للموضوع الذي من أجله أنشأ القصيدة، فيتمدح بشجاعته أو يتغنى بفعال قبيلته، أو يعدد محاسن ممدوحه ويصف كرمه، أو يفتخر بموقعة انتصر فيها قومه، أو يهجو قبيلة عدت على قبيلته، أو يحمل قومه على الأخذ بالثأر أو يرثي راحلا؛ وهذه - تقريبا - كل الموضوعات التي قيل فيها الشعر الجاهلي، وهي موضوعات كما ترى محدودة ضيقة، هي ظل حياة الصحراء، وصورة صادقة لعيشة البداوة، والحق أنهم في البيان واللعب بالألفاظ كانوا أقدر منهم على الابتكار وغزارة المعنى، فترى المعنى الواحد قد توارد عليه الشعراء فصاغوه في قوالب متعددة تستدعي الإعجاب، ولكن لا يستدعي إعجابنا خلقهم للمعاني، وابتكارهم للموضوعات، وقد عبر عنترة عن ذلك بقوله:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم
وزهير إذ يقول:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من لفظنا مكرورا
ولكن ما أنصفوا، فقد غادر الشعراء كثيرا، والناس من قديم يشعرون ولا يزال مجال القول ذا سعة، ولا يزال الخيال الخصب ينتج ويجدد، ويخلق موضوعات لم تكن ومعاني لم يسبق بها؛ ولكن ضيقوا على أنفسهم، أو قل ضيقت عليهم بيئتهم فلم يجدوا إلا أن يقول معادا أو معارا.
اللهم إلا أبياتا قليلة مبعثرة تشعر فيها بمعنى جديد، وترى فيها أثر الابتكار واضحا، وإلا شعراء نادرين كانت لهم مناح خاصة وشخصية واضحة، وتسمع لقولهم نغمة جديدة، كالذي تراه في زهير، فقد عني بأخلاقية قومه، وعبر عنها تعبيرا صادقا.
وكذلك تشعر حين تقرأ الشعر الجاهلي - غالبا - أن شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر لنفسه بوجود خاص؛ وإنك لتتبين هذا بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم؛ وقل أن تعثر على شعر ظهرت فيه شخصية الشاعر، ووصف ما يشعر به وجدانه، وأظهر فيه أنه يحسن لنفسه بوجود مستقل عن قبيلته.
ولما انتشرت اليهودية والنصرانية بين العرب ظهرت نغمة دينية جديدة، تراها في مثل شعر عدي بن زيد في الحيرة، ثم في أمية بن أبي الصلت في الطائف.
وخلاصة القول أن الشعر الجاهلي لا يدلنا على خيال واسع متنوع، ولا على غزارة في وصف الشاعر والوجدان بقدر ما يدلنا على مهارة في التعبير وحسن بيان في القول. (3) الأمثال
يقول علماء اللغة العربية: إن كلمة المثل مأخوذة من قولك هذا مثل الشيء ومثله كما تقول: شبهه وشبهه؛ لأن الأصل فيه التشبيه، ثم جعلت كل حكمة سائرة مثلا، ويرى غيرهم أن الكلمة مأخوذة من العبرية، ففيها كلمة «مشل» تدل على هذا المعنى أوسع منه، فهم يطلقونها على الحكمة السائرة، وعلى الحكاية القصيرة ذات المغزى، وعلى الأساطير.
وعلى كل حال فسنبحث في الأمثال - فقط - من ناحية دلالتها العقلية، فمن أمثال الأمة نستطيع أن نتفهم الدرجة التي وصلت إليها، ونستطيع أن نعرف كثيرا من أخلاقها وعاداتها.
وللأمثال من هذه الناحية ميزة على الشعر، ذلك أن الشعر تعبير طبقة من الناس يعدون في مستوى أرقى من مستوى العامة، فالشعراء يعبرون عن شئون القبيلة التي ارتسمت في أذهانهم الراقية - نوعا من الرقي - وهم يعبرون بألفاظ مصقولة صقلا يستوجبه الشعر، أما الأمثال فكثيرا ما تنبع من أفراد الشعب نفسه، وتعبر عن عقلية العامة، ولذلك تجد كثيرا منها غير مصقول، أعني أنه لم يتخير لها ألفاظ الأدباء ولا العقلاء الراقين، مثل قولهم: «أول ما أطلع ضب ذنبه»، وقولهم: «أم قبيس وأبو قبيس، كلاهما يخلط خلط الحيس»، وربما كان هذا هو السبب في أن بعض الأمثال العربية يفهم معناها إجمالا لا تفصيلا، قال أبو هلال العسكري في كتابه جمهرة الأمثال في شرح «بعين ما أرينك»: «إن معناه (أعجل)، وهو من الكلام الذي قد عرف معناه سماعا من غير أن يدل عليه لفظه، وهذا يدل على أن لغة العرب لم ترد علينا بكمالها، وأن فيها أشياء لم تعرفها العلماء» اه.
وأنا أرى أنه يدلنا أيضا على أن ما وصل إلينا من الشعر والخطابة ونحو ذلك هو لغة الأدباء المصقولة، لا لغة الشعب والعامة، ولم يصل إلينا من لغة العامة إلا بعض الأمثال.
ولست أعني أن كل الأمثال ساقطة التعبير غير مصقولة الألفاظ، ولكن أعني أنها تمثل الشعب بأجمعه، فقد ينبع المثل من طبقة راقية فيكون راقيا مصقولا، وقد ينبع من العامة فلا يكون كذلك، أما الشعر فلا ينبع إلا من طبقة الشعراء، وهم عادة أرقى من الشعب، وهم إن فات بعضهم رقي المعنى فلن يفوته صقل اللفظ، ومن أجل هذا عبر بعضهم عن المثل بأنه «صوت الشعب»، ومن أجل هذا أيضا كانت دلالة الأمثال على لغة الشعب أصدق من دلالة الشعر.
رأى الباحثون في الأمثال أن هناك نوعا منها يكاد يكون شائعا بين الشعوب كلها، ونوعا آخر تختلف فيه الأمة عن الأخرى، فالنوع الأول موضوع البحث: كيف اتفقت الأمم في هذه الأمثال، وخصوصا في اللغات ذات الأصل الواحد كاللغات السامية ففيها أمثلة متقاربة، وفي بعض الأمثال العربية مشابهة قريبة لأمثال سليمان، لا تختلف عنها إلا في صوغها في القالب العربي، وتحويرها تحويرا طفيفا لتتفق والذوق العربي، والنوع الثاني موضع البحث: لم كان كذلك في هذه الأمة وكان غير ذلك في الأمة الأخرى؟ فالأمة الزراعية لها أمثال مشتقة من زراعتها، والتجارية لها أمثال مشتقة من تجارتها؛ وهكذا، وإنك لتستطيع أن تطبق ذلك على العرب باستعراضك أمثالهم، فقد أكثروا من الأمثال المتعلقة بالإبل وشئونها، فقالوا: «استنوق الجمل»، و«إنما يجزي الفتى ليس الجمل»، و«أغدة كغدة البعير؟»، وهكذا أمثالهم في اللبن والجزور، وإن أنت استعرضت أمثال قريش رأيت فيها ما يدل على أنهم قبيلة تجارية، كقولهم: «لا في العير ولا في النفير» ونحو ذلك.
وقد عاق عن الاستفادة من الأمثال العربية من هذه الناحية أمران: (الأول):
اختلاط الأمثال الجاهلية بأمثال الإسلام اختلاطا كبيرا، حتى ليصعب التفريق بينهما، وهذه أول خطوة يجب التحقق منها قبل الاستدلال بالأمثال على الحياة العقلية؛ وقد رووا أن «علاقة الكلابي» جمع الأمثال في عهد يزيد بن معاوية، وقد كان هذا يفيدنا كثيرا لو وصل إلينا؛ إذ لا يكون قد ذكر فيه إلا أمثال الجاهلية وصدر الإسلام، ولكنه لم يصل.
نعم، إن هناك دلائل تدلنا أحيانا على مصدر المثل من طرق عدة: (1)
إن هناك عدة أمثال قيلت في حوادث تاريخية كجزاء سنمار، ومواعيد عرقوب، ولا في العير ولا في النفير، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وهذه دلالة صحيحة متى ثبت صحة الحادثة التاريخية التي قيل فيها المثل. (2)
الاستدلال من حياة الجاهلية الاجتماعية على أن المثل جاهلي، كالذي قالوا: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فإن ذلك هو الخلق الجاهلي لا الإسلامي. (3)
إن كثيرا من الأمثال قد نص المؤلفون على قائليها عند ذكر مضرب المثل، فهم في كثير من الأحيان يذكرون القصة التي قيل فيها المثل، فنستدل بذلك - ولو على وجه التقريب - على زمنه، ولكنا نشك في كثير من هذا؛ لأن القصة في كثير من الأحيان يبدو عليها أثر الصنعة، وأنها عملت فرشا ينطبق عليه المثل، بدليل أن المؤلفين كثيرا ما يذكرون قصصا مختلفة متباينة لمضرب المثل الواحد؛ أضف إلى ذلك أن أكثر الأمثال في الأمم يصعب تعيين قائليها، حتى الأمثال قريبة العهد؛ لأن الأمثال ليست إلا جملا قصيرة نتيجة تجارب طويلة، وهي عندما تقال لا تكون مثلا، وإنما يجعلها مثلا شيوعها بعد لموافقتها لذوق الجمهور، ويغلب عندئذ أن يكون قد نسي قائلوها. (الأمر الثاني):
من وجوه الصعوبة: أن أكثر جامعي الأمثال رتبوها على حسب حروف الهجاء، فجعلوا ما أوله ألف، ثم ما أوله باء وهكذا، ولم نر فيما نعلم أحدا رتبها على حسب أصولها الاجتماعية كأن يجمع الأمثال التي تتعلق بالغنى والفقر، وبالعمر وأطواره، وبالزواج والأسرة، وبالعمل والتجارة، وبالحظ وما إليه، وبالأصدقاء والجيران، وبالمرأة وأخلاقها، وبالصحة والمرض؛ إلى نحو ذلك، ولو فعلوا ذلك - كما فعل بعض مؤلفي الفرنج في أمثالهم - لأفادونا فائدة كبرى من ناحية موضوعنا. •••
وقد شاع بين العرب في الجاهلية ذكر لقمان، واتخذوه شخصية هي مثال الحكمة، ينسبون إليه من الأمثال كثيرا مما لم يعرف قائله، وسمعت في القرآن سورة باسمه، وزعم بعض العلماء أن هناك لقمانين: لقمان الحكيم، ولقمان عاد، وأن لكل وردت أمثالا.
فقالوا عن الثاني، ورد: «إحدى حظيات لقمان»، و«آكل من لقمان»، ورووا للأول حكما كثيرة، ويظهر أن حكمه كانت متداولة بين العرب لدرجة كبيرة، ذكر ابن هشام في السيرة: «أن سويد بن صامت قدم مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشرفه ونسبه ... فتصدى له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : اعرضها علي، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي، هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن» ... إلخ
2 .
ولكن من لقمان هذا؟ ما هويته؟ وما قومه؟ وأية مدنية تمثلها حكمته؟ وفي أي عصر كان؟ لم يصل العلم إلى تحقيق ذلك بعد، وقد اضطربت الأقوال فيه اضطرابا كبيرا، فقيل: كان نوبيا من أهل أيلة، وقيل: كان حبشيا، وقيل: كان أسود من سودان مصر، وزعم وهب بن منبه أنه يهودي، وأنه ابن أخت داود؛، وقيل: ابن خالته وكان في زمنه، وفي تفسير البيضاوي: «إنه لقمان بن باعورا من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته، وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم»، ويقول ياقوت في معجمه في مادة طبرية: «وفي شرق بحيرة طبرية قبر لقمان الحكيم وابنه، وله في اليمن قبر، والله أعلم بالصحيح منهما» اه.
ويروي بعضهم حديثا عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال : «سادة السودان أربعة: لقمان، والنجاشي، وبلال، ومهجع»، وظاهر أن كلمة السودان لا يراد بها السودان بالمعنى الذي نصطلح عليه الآن، إنما يراد بها الجنس الأسود.
وعلى كل حال، فالذي نستنتجه من هذا أنهم مجمعون على أنه ليس عربيا، وأنه أدخل على العرب حكمة أمة أخرى، ويرجح بعضهم أنها العبرية، ويزعمون أن كلمة لقمان تعريب من العرب لكلمة بلعم، وبلعم بن باعورا يهودي معروف، وقد ذكر الإمام مالك في موطئه كثيرا من حكمه؛ وجمعت له جملة أمثال قصصية في كتاب اسمه: «أمثال لقمان» ويدل ضعف أسلوبه، ونزول عبارته، وكثرة الخطأ النحوي والصرفي فيه، على أنه موضوع من عهد قريب، ولم يرد ذكر هذا الكتاب في كتب العرب القديمة فيما نعلم، ورأى بعض الباحثين وجوه شبه بين بعض الأمثال المنسوبة للقمان، وقصص «إيزوب» اليونانية، وأخذوا يفترضون الفروض في منشأ ذلك مما ليس هذا محله.
وبعد؛ فإن نحن نظرنا إلى أمثال العرب التي نسبت إلى الجاهليين وجدنا بعضها سخيفا يستخرج منك ابتسامة الاستهزاء، كالذي ذكرنا من قبل من أقوال ساقطة التعبير، وبعضها قبيح اللفظ في فحش، وبعضها نظرات للحياة متناقضة، مثل: «سمن كلبك يأكلك»، «وأجع كلبك يتبعك»؛ وكثير منها نتيجة تجربة صادقة ونظر هادئ حكيم، مثل: «أخو الظلماء أعشى بليل»، و«إن من الحسن لشقوة»، و«أم الصقر مقلات نزور»، و«تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها»، و«التمرة إلى التمرة تمر»، و«الثكلى تحب الثكلى»، و«الحرب مأيمة»، و«بئس العوض من جمل قيده»، و«بينهم داء الضرائر»، و«ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل» ... إلخ.
والعرب حقا أجادوا في هذا النوع من الأدب، وخلفوا لنا ما يدل على عقليتهم أكثر مما يدلنا الشعر والقصص، ويظهر أن سبب ذلك أنه يوافق مزاجهم العقلي، وهو النظر الجزئي الموضعي لا الكلي الشامل؛ لأن المثل لا يستدعي إحاطة بالعالم وشئونه، ولا يتطلب خيالا واسعا، ولا بحثا عميقا، إنما يتطلب تجربة محلية في شأن من شئون الحياة.
تدلنا الأمثال على حياة الغرب الاجتماعية التي أجملناها من قبل، فنظرة إلى مجموعة الأمثال التي قيلت في المرأة، تدل على انحطاط منزلتها في نظرهم؛ والتي قيلت في الحياة الاقتصادية، تدل على فقر البلاد وإجدابها، ويطول بنا القول لو عرضنا لك كل الأمثال التي قيلت في كل باب وما يستنتج منها، ولكنا نحيلك في ذلك على أمثال الميداني، وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، وأمثال المفضل الضبي، بعد أن أبنا لك وجهة نظرنا في كيفية بحثها.
وهناك نوعان آخران يلحقان بالأمثال، ولها قيمة كبيرة في الدلالة على الحياة العقلية؛ ولكن يظهر أن المؤلفين لم يعنوا بهما العناية الكافية فلم يجمعوهما ويرتبوهما كما فعلوا في الأمثال، إنما تراهما منثورين مبعثرين في الكتب، وهما: (الأول):
الأحاجي أو الألغاز، كالذي زعموا أنه اجتمع يوما عبيد بن الأبرص وامرؤ القيس، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال: قل ما شئت تجدني كما أحببت، قال عبيد:
ما حية ميتة قامت بميتتها
درداء ما أنبتت نابا وأضراسا؟
فقال امرؤ القيس:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها
قد أخرجت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد:
ما السود والبيض والأسماء واحدة
لا يستطيع لهن الناس تمساسا؟
فقال امرؤ القيس:
تلك السحاب إذا الرحمن أنشأها
روى بها من نحو الأرض أيباسا
إلى آخر القصة، وهي طويلة.
وكالذي زعموا أن امرأ القيس آلى على نفسه ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنين، فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن له: أربعة عشر، فبينما هو يسير إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة كأنها البدر ليلة تمه، فأعجبته، فقال لها: يا جارية! ما ثمانية وأربعة واثنان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنان فثديا المرأة، فخطبها من أبيها ... إلخ.
ولم نسق هذين المثلين لاعتقادنا بصحتهما، فإن أثر الصنعة الإسلامية واضح في قوله: تلك السحاب إذا الرحمن أنشأها، وفي قوله بعد:
تلك الموازين والرحمن أرسلها
رب البرية بين الناس مقياسا
هذا فضلا عن ضعف الشعر وإسفافه، وإنما سقناهما للدلالة على ما نريد من الألغاز والأحاجي؛ وترى كثيرا منها قد نثر في كتب الأدب كأمالي القالي، والحيوان للجاحظ، والمثل السائر لابن الأثير، وأمثال الميداني ، لو جمع وامتحن لدلنا على ناحية خاصة من نواحي الخيال. (الثاني):
قصص الحيوانات، كالذي زعموا أن النعامة ذهبت تطلب قرنين، فرجعت بلا أذنين، وفي ذلك يقول بشار:
طالبها قلبي فراغت به
وأمسكت قلبي مع الدين
فكنت كالهقل
3
غدا يبتغي
قرنا فلم يرجع بأذنين!
وزعموا أنه لذلك يسمى بالظليم، وكالذي زعموا أن الغراب ذهب يتعلم مشية القطاة فلم يتعلمها، ونسي مشيته، فلذلك صار يحجل؛ وأن الضفدع كان بلا ذنب؛ لأن الضب سلبه إياه.
وكانوا يقولون: إن الهدهد لما ماتت أمه أراد أن يبرها، فجعلها على رأسه يطلب موضعا، فبقيت في رأسه، فالقنزعة التي في رأسه هي قبرها؛ وإنما أنتنت ريحها لذلك
4 ، وزعموا أن الهديل فرخ كان على عهد نوح؛ فصاده جارح، فما من حمامة إلا وهي تبكيه وتدعوه فلا يجيبها؛ قال بعضهم:
وما من تهتفين به لنصر
بأسرع جابة لك من هديل
وقولنا في هذا النوع كقولنا في سابقه. (4) القصص
كان للعرب قصص، وهو باب كبير من أبواب أدبهم، وفيه دلالة كبيرة على عقليتهم، وهذا القصص في الجاهلية أنواع، منها:
أيام العرب:
وهي تدور حول الوقائع الحربية التي وقعت في الجاهلية بين القبائل، كيوم داحس والغبراء، ويوم الفجار، ويوم الكلاب؛ أو بين بعض العرب وأمم أخرى كيوم ذي قار، وكان بين شيبان والفرس، وانتصر فيه العرب، وكانت هذه القصص موضوع العرب في سمرهم في جاهليتهم وفي إسلامهم، «قيل لبعض أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا»، وترى هذه الأيام وأخبارها مجموعة في العقد الفريد، وأمثال الميداني؛ وقد زاد القصاص في بعضها وشوهوا بعض حقائقها، كالذي تراه في أخبارهم التي حكوها في موت الزباء، إذا قارنت بين ما قصوه وما ذكره ثقات المؤرخين عن زنوبيا
Zenobia
فخبر الزباء المروي في الكتب العربية عن هشام بن محمد الكلبي، رواية خيالية موضوعة لا تتفق والتاريخ، ولسنا ندري هل أفسدها العرب في جاهليتهم، أو أفسدها رواة الأدب في الإسلام.
أحاديث الهوى :
وهذا كثير في كتب الأدب، كالذي رووا من قصة المنخل اليشكري المتجردة زوج النعمان، وما كان بينهما من علاقة، وما قيل في ذلك من قصص، وما روي من أشعار
5 .
وهناك نوع من قصص العرب، أخذوه من أمم أخرى، وصاغوه في قالب يتفق وذوقهم، كقصة شريك مع المنذر، وأنه أتاه في يوم بؤسه رجل يقال له حنظلة فأراد قتله فطلب منه أن يؤجله سنة، فقال: ومن يكفلك؟ فكفله شريك بن عمرو؛ فلما كان من القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة فلم يأت، فأمر بشريك فقرب ليقتله، فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليه فتأملوه فإذا هو حنظلة، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما؛ وأبطل تلك السنة
6 ... إلخ، فإن لهذه القصة أصلا يونانيا معروفا، وكقصة أنه كان لرجل من بني ضبة في الجاهلية بنون سبعة فخرجوا بأكلب لهم يقتنصون، فأووا إلى غار فهوت عليهم صخرة فأتت عليهم جميعا، فلما استراث أبوهم أخبارهم اقتفى آثارهم حتى انتهى إلى الغار، فانقطع عنه الأثر، فأيقن بالشر، فرجع وأنشد شعرا
7 ، فإن لها شبها بقصة من قصص المسيحية الأولى.
وقد عرفت العرب في الجاهلية قصصا كثيرة عن الفرس؛ وكانوا يروونها ويتسامرون بها، جاء في سيرة ابن هشام أن النضر بن الحارث كان من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار؛ فكان إذا جلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مجلسا فذكر بالله وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم إلي، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه! ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: «سأنزل مثل ما أنزل الله»
8 . •••
ولعله بعد الذي ذكرنا؛ من علاقات العرب بمن حولهم من الفرس والروم تجاريا! وسياسيا ودينيا، وما ذكرناه عن لقمان من أنه حبشي أو يهودي أو مصري، ومن إجماعهم على أنه ليس بعربي، وما كان من شبه بين أمثال سليمان والأمثال العربية، وما أشرنا إليه من وجوه الشبه بين بعض قصصهم وقصص الأمم الأخرى، وما كانوا يتحدثون به من أقاصيص الفرس؛ يتضح لك أن العرب لم يكونوا - كما يفهم كثير من الناس - مستقلين عن غيرهم من الأمم استقلالا تاما، لا في وسائلهم الاقتصادية، ولا السياسية ولا الأدبية؛ فلما جاء الإسلام كان الاتصال أتم، وأثر الامتزاج أكبر، كما سيتضح إن شاء الله.
مصادر هذا الباب
ذكرنا في ثنايا هذا البحث كثيرا من الكتب التي رجعنا إليها، ونزيد عليها أننا استفدنا أيضا كثيرا من الكتب الآتية: (1)
دائرة المعارف الإسلامية في مادة «عرب» و«خمير» و«كهلان» وغير ذلك من مواد أخرى متفرقة. (2)
كتاب «العرب قبل الإسلام»
Arabia before Mohammad
تأليف
O’leary . (3)
دائرة المعارف البريطانية في مادة اللغة السامية. (4)
سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب. (5)
أمثال الميداني، وأمثال أبي هلال العسكري، وأمثال المفضل الضبي.
الجزء
الإسلام
الفصل السادس
بين الجاهلية والإسلام
كان للإسلام أثران كبيران في عقلية العرب من ناحيتين مختلفتين: (الأولى):
ناحية مباشرة، وهي تعاليمه التي أتى بها مخالفا عقائد العرب. (الثانية):
ناحية غير مباشرة، وهي أن الإسلام مكن العرب من فتح فارس ومستعمرات الروم، وهما أمتان عظيمتان تحملان أرقى مدنية في ذلك العهد، فكان من أثر الفتح وضع البلاد وما فيها من نظم وعلم وفلسفة تحت أعين العرب، فتسربت مدنيتهما إلى المسلمين، وتأثرت بهما عقليتهم، وسنتكلم كلمة عن كلتا الناحيتين.
لفظ الإسلام ومعناه: إذا تتبعنا مادة «س ل م» ونشوء كلمة الإسلام رأينا أن معنى السلام المسالمة، وضد المسالمة الحرب والخصام، جاء في القرآن:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، ولعل هذه الآية هي المفتاح الذي نصل به إلى معرفة السبب في تسمية العهد الذي قبل محمد
صلى الله عليه وسلم
جاهلية، وعهده إسلاما؛ والجاهلية ليست من الجهل الذي هو ضد العلم، ولكن من الجهل الذي هو السفه والغضب والأنفة؛ جاء في حديث الإفك: «ولكن اجتهلته الحمية»، أي حملته الأنفة والغضب على الجهل؛ وفي الحديث أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لأبي ذر وقد عير رجلا بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية»؛ أي: فيك روح الجاهلية؛ وقريب من هذا المعنى استعمالهم استجهله الشيء؛ أي: استخفه، ومنه قوله: «وقاك الهوى واستجهلتك المنازل»
وفي معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فترى من هذا كله أن كلمة الجاهلية تدل على الخفة والأنفة والحمية والمفاخرة، وهي أمور أوضح ما كانت في حياة العرب قبل الإسلام، فسمي العصر الجاهلية؛ ويقابل هذه المعاني هدوء النفس والتواضع والاعتداد بالعمل الصالح لا بالنسب وهي كلها نزعة سلام، فمعنى الآية كما قال الطبري: «أن عباد الله هم الذين يمشون على الأرض بالحلم، لا يجهلون على من جهل عليهم».
ثم انتقلت الكلمة إلى معنى آخر قريب من هذا، وهو استعمال أسلم المشتق من السلام بمعنى الخضوع والانقياد، لما كان الخضوع أدعى إلى السلام، وفي هذا المعنى جاءت الآية:
وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ،
فقل أسلمت وجهي لله ؛ وقد أطلقها القرآن بهذا المعنى أحيانا على المؤمنين والكافرين جميعا؛ لأنهم خاضعون لله، ومنقادون له بحكم خلقتهم؛ رضوا أو كرهوا، تسري عليهم قوانين العالم ولا يستطيعون الخروج عليها،
وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ، فكل من في السماوات والأرض مسلم بهذا المعنى؛ أي: خاضع لأمر الله، مطيع لما وضع في العالم من قوانين.
ثم قصرت في الاستعمال على من أسلم وجهه لله طوعا، فكأن المسلم هو الذي رضي بإطاعة الله، فاجتمعت له الطاعة الطبيعية والطاعة بالإرادة، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى:
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وبهذا المعنى تطلق كلمة «مسلم» على كل من خضع لله وأطاع أي نبي من الأنبياء، فأتباع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد مسلمون:
قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ،
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وفي سورة يوسف:
توفني مسلما وألحقني بالصالحين ؛
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .
ثم خصت في الاستعمال بالدين الذي أتى به محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبهذا المعنى ورد قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ،
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه .
فهذا الإسلام عماده الخضوع لله، والانقياد له، ولعل هذا الاسم أنسب اسم للرد على العقلية الجاهلية، عقلية الأنفة والحمية. •••
تعاليم الإسلام: إذا نظرنا إلى تعاليم الإسلام وجدناها تنقسم قسمين: عقائد وأعمال، وقد تضمن أهم النوعين قوله تعالى:
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون .
ونحن نفصل ما جاء فيها بعض التفصيل فنقول:
العقائد: أهم أصل من أصول الإسلام الاعتقاد بالله، والاعتقاد بالله يكاد يكون عاما بين الشعوب، فلا تكاد تخلو أمة متبدية أو متحضرة من اعتقاد بإله، ولكن فكرة الألوهية وأوصاف الإله تختلف اختلافا كبيرا بين الأمم، والإسلام يصف الله بأوصاف نلخصها مما ورد في القرآن؛ فهو ليس إله قبيلة، ولا إله أمة العرب وحدهم، ولا إله الناس وحدهم، بل هو إله كل شيء
رب العالمين ، وكل شيء في الوجود مخلوق له، وخاضع لأمره،
لله ما في السماوات وما في الأرض ،
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ،
الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ،
الله ربكم ورب آبائكم الأولين .
وكل شيء من مظاهر الكون فعنه صدر:
لله الذي سخر لكم البحر ،
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ،
لله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ،
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ،
والله جعل لكم الأرض بساطا ،
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ،
والله أنبتكم من الأرض نباتا .
قد أحاط علمه بكل شيء، وأحاطت قدرته بكل شيء،
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ،
إن الله بكل شيء عليم ،
إن الله عليم بذات الصدور ،
والله على كل شيء قدير ،
إن ربك هو القوي العزيز ،
وهو إله واحد؛ فليس هناك إله للخير وإله للشر، وليس هناك إله للجمال وإله للرياح، وليس هناك من يشاركه في ألوهيته،
فاعلم أنه لا إله إلا الله ،
وما من إله إلا إله واحد ،
وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد ،
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا .
ليس لأي مخلوق ولا لأية طائفة سلطان على الناس في عقائدهم، ولا لأية صفة من صفات الربوبية:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، حتى الرسول نفسه ليس إلا مبلغا،
فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ، وعلى الجملة فالله واحد بأتم معاني الوحدانية، وأبسط أشكالها، وليس يرضى الإسلام عن أي نوع من التعدد، ولا أي رمز يشعر بالتعدد.
قد اختار أفرادا من خلقه واتصل بهم بما يسمى «الوحي»، ومن هؤلاء إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ، والغرض من هذا الوحي تعليم الرسول الناس ما يعلمه الله له لهدايتهم إلى الخير:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ،
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وهذا الوحي لم يكن عن طريق تجسد الله، إنما هو من طريق روحي لم نعلمه حق العلم:
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ،
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .
وأصول الأديان السماوية كلها واحدة، وكلها تدعو إلى توحيد الله وعدم الشرك به ثم دخل بعض تعاليمها التغيير والتبديل:
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ،
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك .
وهناك وراء هذه الحياة حياة أخرى، ويومها يوم القيامة، واليوم الآخر، يوم الحساب، ويوم الدين:
ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ، وهذا اليوم هو يوم المثوبة على العمل الصالح، والعقوبة على العمل السيئ، وكل عمل أتاه الإنسان يسجل عليه، ثم يقدم له يوم القيامة:
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ،
يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، وقد جعل للمثوبة والعقوبة داران: دار المثوبة وهي الجنة، ودار العقوبة وهي النار، وقد جعل في الجنة نوعان من الثواب: نوع من اللذائذ الجسمية:
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ؛ ونوع روحي وهو رضاء الله والقرب منه:
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية ،
ورضوان من الله أكبر ، وكذلك دار العقوبة نار حامية، وسخط من الله وغضبه.
وراء هذا العالم المادي عالم آخر روحي وفيه نوعان من الأرواح: نوع خير يطيع الله ما أمره، ويجذب نفوس الناس إلى الخير ويسمى الملائكة؛ ونوع شرير يستغوي النفوس إلى الشر ويسمى الشياطين.
الأعمال: هناك أعمال يجب على المسلم أداؤها، وهي أساسية كالعقائد، وهي : الصلاة، ويقصد بها أن تكون مظهرا من مظاهر الإخلاص لله، وتعبيرا دينيا يشرح عاطفة الإجلال له :
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ؛ والزكاة: وهي أن يؤخذ من مال الغني للفقير وللصالح العام، وقد أكد القرآن هذين الفرضين أكثر من توكيده سواهما، وقرنهما ببعض في أكثر المواضع، ثم صوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.
الأخلاق: في القرآن من الأخلاق نوعان: نوع هو تعليم لآداب اللياقة:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ،
لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ؛ ونوع آخر هو أسمى ما تدعو إليه الأخلاق: وفاء بالوعد، وصبر في الشدائد، وعدل مع من أحببت أو كرهت، وعفو عند المقدرة، وعفة من غير غلو:
والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ،
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ،
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ،
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ،
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
هدم الإسلام الوحدة القبلية، والوحدة الجنسية، وكره التفاضل بشرف القبيلة أو شرف الجنس، وعلم أن معتنقي الإسلام كلهم كتلة واحدة، لا تفاضل بين أفرادها إلا بطاعة الله وتنفيذ أمره:
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ،
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وفي الحديث: «ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية».
حتم الطاعة لله، والطاعة للرسول، والطاعة لأولي الأمر في الأمة ما أطاع ولي الأمر أوامر الله:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وفي الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
أثر هذه التعاليم عند العرب: لا شك أن هذه التعاليم رفعت المستوى العقلي للعرب إلى درجة كبرى، فهذه الصفات التي وصف الإسلام بها الله نقلتهم - من عبادة أصنام وأوثان، وما يقتضيه ذلك من انحطاط في النظر وإسفاف في الفكر - إلى عبادة إله وراء المادة
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، كان الإله عند أكثرهم إله قبيلة، وإن اتسع سلطانه فإله قبائل أو إله العرب، فأبانه الإسلام إله العالمين ومدبر الكون، وبيده كل شيء، وعالما بكل شيء، فاستطاع العربي بهذه التعاليم أن يرقى إلى فهم إله لا مادة له، واسع السلطان، واسع العلم؛ وأفهم الإسلام أن دينهم خير الأديان، وأن العالم حولهم في ضلال، وأن نبيهم هادي الناس جميعا، وأنهم ورثته في هداية الأمم، فكان ذلك من البواعث على غزو هذه الأمم يدعونها إلى دينهم، ويبشرون به، فمن دخل فيه كان كأحدهم؛ وكان لعقيدة اليوم الآخر ودار الجزاء، والجنة والنار، أثر عظيم في بيع كثير منهم نفوسهم في سبيل نشر الدعوة:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .
كان للإسلام أثر كبير في تغيير قيمة الأشياء والأخلاق في نظر العرب، فارتفعت قيمة أشياء، وانخفضت قيمة أخرى، وأصبحت مقومات الحياة في نظرهم غيرها بالأمس، وقد لاقى النبي
صلى الله عليه وسلم
صعوبات كبرى - في نقلهم من عقليتهم الجاهلية إلى عقليتهم الإسلامية - تجدها مبسوطة في كتب السيرة؛ كما احتمل المسلمون السابقون من العذاب كثيرا، فعن ابن عباس: «والله إن كان المشركون ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، وحتى يقولوا له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم ... إلخ»، حتى اضطر كثير منهم بعد خمس سنوات من الدعوة أن يهاجروا إلى قطر نصراني، وهو الحبشة يلجئون إليه، فهاجر نحو مئة ممن أسلم، وتركوا النبي
صلى الله عليه وسلم
في مكة مع عدد قليل من أصحابه، ولم ينتشر الإسلام، وبعبارة أخرى لم تنتشر العقلية الجديدة إلا بعد الهجرة إلى المدينة وانهزام قريش حربيا، وحقا أن هذا النزاع بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وقريش أولا، ثم بين المدنيين والمكيين ثانيا، ثم بين من دخلوا من العرب في الإسلام ومن لم يدخلوا، إنما هو نزاع بين عقليتين: عقلية وثنية تباح فيها اللذائذ، وتمنح فيها الحرية إلى حد بعيد، وتقدر فيها الأخلاق تقديرا خاصا؛ وعقلية أخرى موحدة تداس فيها الأصنام دوسا، وتمتهن بكل أنواع الامتهان، وتكسر من غير هوادة، ولا تباح فيها اللذائذ إلا بمقدار، وتدفع فيها الضرائب ليصرف منها للفقراء وللصالح العام، وتقيد فيها الحرية بجملة قيود: عبادات في أوقات خاصة، واحترام ملكية، واحترام نفوس، وتقلب فيها قيمة الأخلاق قلبا: فالانتقام والأخذ بالثأر لم يعد خير الخصال، وهلم جرا، وقد عبر خير تعبير عن الفرق بين الحالتين ما روي أن جعفر بن أبي طالب - وكان أحد الذين هاجروا إلى الحبشة - قال للنجاشي، وقد سألهم عن حالهم: «كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان؛ وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء؛ ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة؛ وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به ... فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث؛ فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادكم»
1 .
وهذه القصة وإن كان يغلب على الظن أنها موضوعة، بدليل أن الصيام ورد فيها، وهو لم يشرع إلا بعد الهجرة إلى الحبشة، وبغير ذلك من الأدلة، فهي تمثل النزاع بين العقليتين أصدق تمثيل.
وقد عقد الأستاذ «جولد زيهر» فصلا في نقط النزاع بين الإسلام والفضائل عند العرب في الجاهلية عنونه «بالدين والمروءة»، وهو يتلخص في «أن الإسلام رسم للحياة مثلا أعلى غير المثل الأعلى للحياة في الجاهلية؛ وهذان المثلان لا يتشابهان وكثيرا ما يتناقضان، فالشجاعة الشخصية، والشهامة التي لا حد لها، والكرم إلى حد الإسراف، والإخلاص التام للقبيلة، والقسوة في الانتقام، والأخذ بالثأر ممن اعتدى عليه أو على قريب له أو على قبيلته بقول أو فعل، هذه هي أصول الفضائل عند العرب الوثنيين في الجاهلية؛ أما في الإسلام فالخضوع لله والانقياد لأمره، والصبر، وإخضاع منافع الشخص ومنافع قبيلته لأوامر الدين، والقناعة وعدم التفاخر والتكاثر، وتجنب الكبر والعظمة هي المثل الأعلى للإنسان في الحياة».
إن شئت أن تقارن بين ما رسمه الإسلام من مثل أعلى في الحياة، وما رسمته الجاهلية من ذلك فاقرأ قوله تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
ثم اقرأ ما جاء في معلقة طرفة:
إذا القوم قالوا من فتى؟ خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت
وقد خب آل الأمعز المتوقد
2
فذالت كما ذالت وليدة معشر
ترى ربها أذيال سحل ممدد
3
ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
4
وإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
5
متى تأتني أصبحك كأسا روية
وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد
وإن يلتق القوم الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
نداماي بيض كالنجوم وقينة
تروح علينا بين برد ومجسد
6
إلى أن يقول:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقى العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الخباء المعمد
7
كأن البرين والدماليج علقت
على عشر أو خروع لم يخضد
8
وكزى إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا ذي السورة المتورد
9
وهكذا المثل الأعلى للحياة الجاهلية ؛ فخر بالنجدة، وفخر بالكرم، وفخر بمجالسة علية القوم، وفي حانات الخمر، وتمتع بالشراب حوله الندامى والقيان ؛ وهذا كل شيء في الحياة.
وبعد؛ فإلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟ وهل امحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء فالنزاع بين القديم والجديد، وقل أن يتلاشى بتاتا؛ وهذا ما كان بين الجاهلية والإسلام، فقد كانت النزعات الجاهلية تظهر من حين إلى حين وتحارب نزعات الإسلام، وظل الشأن كذلك أمدا بعيدا، ولنقص طرفا من مظاهر هذا النزاع:
جاء الإسلام يدعو إلى محو التعصب للقبيلة، والتعصب للجنس، ويدعو إلى أن الناس جميعا سواء:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وفي الحديث: «المؤمنون إخوة، تتكافأ دماؤكم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم أعلى يدا على من سواهم»، وخطب النبي
صلى الله عليه وسلم
في خطبة الوداع: «أيها الناس! إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء؛ كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى»، وروى مسلم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «من قاتل تحت راية عمية
10
يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل قتل قتلة جاهلية»، وآخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار بعد ما كان بين المكيين والمدنيين من عداء.
ومع كل هذه التعاليم لم تمت نزعة العصبية، وكانت تظهر بقوة إذا بدا ما يهيجها، انظر إلى ما روي في غزوة بني المصطلق أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خرج في جماعة من المهاجرين والأنصار، فكسع
11
رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فكان بينهما قتال، إلى أن صرخ: يا معشر الأنصار، وصرخ المهاجر: يا معشر المهاجرين؛ فبلغ ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال: «ما لكم ولدعوة الجاهلية؟»، فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «دعوها فإنها منتنة». فقال عبد الله بن أبي بن سلول:
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
12 .
أفلست ترى أن نزاعا تافها لسبب تافه، هيج النفوس ودعاهم إلى النزعة الجاهلية، وتذكر العصبية المكية والمدنية؟!
ولما ولي الأمويون الخلافة عادت العصبية إلى حالها كما كانت في الجاهلية، وكان بينهم وبين بني هاشم في الإسلام كالذي كان بينهم في الجاهلية؛ فخر الأمويون بالدهاء والحلم وكثرة الخطباء والشعراء، ورد عليهم بنو هاشم يكاثرونهم في ذلك، وكان جدالهم ومفاخرتهم صورة صادقة للمنافرة في الجاهلية
13
وعاد النزاع في الإسلام بين القحطانية والعدنانية، فكان في كل قطر عداء وحروب بين النوعين، واتخذوا في كل صقع أسامي مختلفة؛ ففي خراسان كانت الحرب بين الأزد وتميم، والأولون يمنيون والآخرون عدنانيون، وفي الشام كانت الحرب بين كلب وقيس، والأولون يمنيون والآخرون عدنانيون، ومثل ذلك في الأندلس، ومثل ذلك في العراق؛ حكى ابن أبي الحديد «أن أهل الكوفة في آخر عهد علي كانوا قبائل، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل قبيلة أخرى، فينادي باسم قبيلته: يا للنخع، أو يا لكندة، فيتألب عليه فتيان القبيلة التي مر بها فينادون: يا لتميم ويا لربيعة، ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه، فيفضي إلى قبيلته فيستصرخها، فتسل السيوف وتثور الفتنة»
14
وحكى الأغاني قال: «كان طويس ولعا بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم، وكان يريد بذلك الإغراء، فقل مجلس اجتمع فيه هذان الحيان فغنى فيه طويس إلا وقع فيه شيء ... فكان يبدي السرائر، ويخرج الضغائن»
15
ويطول بنا القول لو أنا شرحنا ما كان من حروب بين القبائل يرجع أصلها إلى العصبية الجاهلية.
وأنت إذا نظرت للشعراء في بني أمية، وجدت فيهم هذا المعنى واضحا جليا، فالشعراء انحازوا إلى قبائل، ثم أخذوا يشيدون بذكر قبائلهم، ويهجون غيرهم شأن شعراء الجاهلية، ولعل أصدق مثل لذلك ما ترى في هجاء جرير والفرزدق والأخطل.
ليست ناحية العصبية هي وحدها ما يظهر لنا في عهد الإسلام من نزعات جاهلية، نزعات أخرى لا تقل عنها وضوحا.
من ذلك: حروب الردة، وذلك أن كثيرا من قبائل العرب عدوا دفع الزكاة للخليفة ضريبة عليهم ومذلة لهم، ونظروا إليها نظرهم إلى قبيلة تتسلط على أخرى، وتضرب عليها الإتاوة؛ فانتهزوا موت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وعبروا عن شعورهم الجاهلي برفض دفعها لأبي بكر؛ وفي هذا يقول قرة بن هبيرة لعمرو بن العاص: «يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة؛ فإن أعفيتموها من أخذ أموالها فتسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم»، وقد عجزوا عن أن ينظروا إلى الزكاة كجزء من المال يؤخذ للصرف في الصالح العام، وهو ما يرمي إليه الإسلام.
أضف إلى ذلك، أن بعض المسلمين - وخاصة من سكان البادية - كانوا ينزعون في معيشتهم الاجتماعية النزعة الجاهلية من مهاجاة وحمية وشراب ونحو ذلك، روي أن عمر بن الخطاب حبس الحطيئة؛ لأنه كان يقول الهجر ويمدح الناس، ويذمهم بما ليس فيهم، ثم أطلقه، فلما ولى ناداه فرجع، فقال عمر: كأني بك يا حطيئة عند فتى من قريش، قد بسط لك نمرقة
16
وكسر لك أخرى، ثم قال: غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس! قال زيد بن أسلم: ثم رأيت الحطيئة يوما بعد ذلك عند عبيد الله بن عمر، قد بسط نمرقة وكسر له أخرى، ثم قال: تغنينا يا حطيئة وهو يغنيه، فقلت: يا حطيئة، أما تذكر قول عمر؟! ففزع وقال: رحم الله ذلك المرء، أما لو كان حيا ما فعلنا هذا!
بل كثير من شبان بني أمية، وبعض شبان بني هاشم كانوا يعيشون عيشة هي إلى الجاهلية أقرب منها إلى الإسلام، شراب وصيد وغزل، كيزيد بن معاوية وصحبه، فقد حكى المسعودي «أنه كان صاحب طرب وجوارح وكلاب (للصيد) ومنادمة على الشراب، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله».
إن شئت فاقرأ سيرة الوليد بن عقبة الأموي، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه، وكان من فتيان قريش وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم، وولي الكوفة لعثمان، ترى حياة لم يؤثر فيها الإسلام كثيرا، يتهتك في الشراب، ويتخذ بيته ملجأ للمراق من أهل العراق، إلى غير ذلك من كرم جاهلي، وعصبية جاهلية
17 ، وروى الأغاني «أن الحارث بن خالد المخرومي ولاه عبد الله بن مروان مكة، وكان الحارث يهوى عائشة بنت طلحة، فأرسلت إليه: أخر الصلاة حتى أفرغ من طوافي؛ فأمر المؤذنين فأخروا الصلاة حتى فرغت من طوافها، وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه، فعزله»
18 .
بجانب هذا ترى قوما صبغهم الإسلام صبغة جديدة، حتى انقطعت الصلة بينهم جاهليين وبينهم مسلمين، كالذي ترى في سيرة أبي بكر وعمر وكثير من الصحابة: ورع وزهد وتواضع والتزام شديد لأوامر الدين، وحياة تستطيع أن ترى فيها مأخذا جاهليا ينافي الإسلام، وتجد في خطبهم وكتبهم وأقوالهم أثر الإسلام بينا، حتى كأنهم خلقوا في الإسلام خلقا جديدا.
الحق أن النزاع بين النفسية الإسلامية والنزعات الإسلامية، والنفسية الجاهلية والنزعات الجاهلية كان شديدا، وكان عهده طويلا، وأن الإسلام لم يصبغ العرب صبغة واحدة على السواء، بل إن خير من تأثر به هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، أولئك وصل الدين إلى أعماق نفوسهم، وأخلصوا له وأنفذوا أوامره؛ فأما من أسلموا يوم الفتح أو بعده وظلوا على كفرهم وعنادهم حتى رأوا النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ينتصرون، فلم يسعهم إلا الإسلام، فهؤلاء كان دين كثير منهم رقيقا،
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ، وبحق قسم المؤرخون الصحابة إلى طبقات حسب مراتبهم، أوصلها بعضهم إلى اثنتي عشرة طبقة آخرهم من أسلم يوم الفتح
19 .
كذلك كان سكان المدن والقرى، بل من دخل في الإسلام بعد من الأمم الأخرى أكثر تدينا، وأعرف بأحكام الإسلام من كثير من سكان البادية، جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، وهو يحدث أصحابه - وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند - فقال: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني (يريد أنه يخشى أن تكون قد قطعت في سرقة)، فقال زيد: وما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري أليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان صدق الله:
الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، ويقول الطبري في هذه الآية : «الأعراب، وهم من نزلوا البادية، أشد جحودا لتوحيد الله، وأشد نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار، وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبا، وأقل علما بحدود الله».
فكثير من هؤلاء الأعراب كانت معرفتهم بالإسلام سطحية، كانوا يعكفون على الشراب، ويتبعون تقاليد قبائلهم الجاهلية، ويعقدون ألويتهم ويحاربون القبائل المعادية لهم في الإسلام كما كانوا يفعلون قبله؛ فأما الإسلام الحق والعقلية المسلمة فكانت أظهر في المدن، وخاصة فيمن أسلموا قبل الفتح، وكانت كذلك فيمن أخلص للدين من أهل المدن التي فتحها المسلمون.
إذا كان في العصور الأولى للإسلام نزعات جاهلية، ونزعات إسلامية، كانتا تسيران جنبا إلى جنب، والذي يظهر لنا أن النزعة الجاهلية أثرت في الأدب الأموي - وخاصة الشعر - أكبر أثر، فالمعاني الجاهلية، والهجاء الجاهلي، والفخر الجاهلي، والحمية الجاهلية، كلها واضحة أجل وضوح في الشعر الأموي، فأما النزعة الإسلامية فظهرت في العلوم الشرعية، فقد أقبل المسلمون على القرآن يتدارسونه، والحديث يجمعونه، ويستمدون منهما الأحكام، ويستخرجون المواعظ، وهذا هو موضوعنا، وهو ما سنبينه بعد، وسنذكر عند الكلام على الحركة العلمية أثر الإسلام في العلم.
الفصل السابع
الفتح الإسلامي، وعملية المزج بين الأمم
ستجد الكلام على الفتح الإسلامي مفصلا في القسم الخاص بالحياة السياسية من كتابنا، وإنما نعرض هنا في مسألة الفتح لما كان له اتصال بحياة المسلمين العقلية والدينية، وبعبارة أخرى لما كان له تأثير في العلم أو في الدين، من طريق مباشر، أو غير مباشر.
توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولم يتعد الإسلام جزيرة العرب، وكان قد بدأ بدعوة الأمم المجاورة ومناوشتها، ثم تتابعت الفتوح بعد، ففتح العراق وكان يسكنه بعض قبائل عربية من ربيعة ومضر، وبعض من الفرس - عدا سكان البلاد الأصليين - كان منهم نصارى، ومنهم مزدكية وزرادشتية، وأنشأ العرب مدينتي البصرة والكوفة، أمر عمر بن الخطاب بإنشائهما «لما رأى أن مناخ المدائن والقادسية لم يوافق مزاج العرب، فأمر أن يرتاد موضع لا يفصله عن جزيرة العرب بر ولا بحر»؛ وكان الغرض منهما أن يكونا معسكرين يشم العرب منهما هواء الصحراء، ويتجنبون بهما وخم المدن، فأنشئت البصرة نحو سنة 15ه، والكوفة سنة 17ه/سنة 638م.
وفتحت فارس، وكان يسكنها الفرس، وقليل من اليهود، وبعض الروم «الرومانيين» الذين أسروا في الحرب الفارسية الرومانية.
وفتح الشام، وكان - قديما - قد تداولت عليه الأمم المختلفة والمدنيات المختلفة من فينيقيين وأموريين وكنعانيين، وغزاه فراعنة مصر واليونان والرومان وعرب غسان، وأخيرا كان إقليما رومانيا يتثقف بثقافة الرومانيين ويتدين بالنصرانية دينهم، ففتحه الإسلام، وقد ورث كثيرا من مدنيات الأمم الغابرة.
وكان يسكن هذه البلاد عند الفتح السوريون - أهل البلاد - والأرمن واليهود، وبعض من (الروم) الرومان، وبعض قبائل عربية، وكان من أشهر هذه القبائل: «غسان، ولخم، وجذام، وكلب، وقضاعة، وطائفة من تغلب، وكانوا في القسم الجنوبي من الشام أكثر منهم في القسم الشمالي، بحكم الجوار لبلادهم، وكان هؤلاء العرب يتكلمون لغة هي مزيج من الآرامية والعربية، وكانوا يعدون أنفسهم شاميين، لا تربطهم بعرب الحجاز إلا العلاقات التجارية، وقد وقفوا بجانب الرومان في محاربة المسلمين عند الفتح»
1 .
وفتحت مصر مهد المدنية القديمة، والوارثة لحضارة قدماء المصريين واليونان والرومان، وبها الإسكندرية مجمع المذاهب الفلسفية والطوائف الدينية، وملتقى الآراء الشرقية والغربية؛ وكان يسكنها المصريون ومزيج من أمم أخرى كاليهود والرومان، وفتحت بلاد المغرب من برقة وتونس والجزائر ومراكش إلى مضيق جبل طارق، وكانت كذلك في يد الرومان.
وفي عهد الوليد بن عبد الملك فتحت السند وبخارى وخوارزم وسمرقند إلى كاشغر، وفتحت كذلك الأندلس، ولكن لم يظهر أثر فتحها في عصرنا الذي اخترناه لبحثنا.
سبب فتح العرب لهذه الممالك عملية مزج قوية بين الأمة الفاتحة والأمم المفتوحة: مزج في الدم ومزج في النظم الاجتماعية، ومزج الآراء العقلية، ومزج في العقائد الدينية، وقد عمل على هذا المزج جملة أمور أهمها: (1)
تعاليم الإسلام في الفتح. (2)
دخول كثير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام. (3)
الاختلاط بين العرب وغيرهم في سكنى البلاد، وسنقول كلمة مختصرة عن كل منها:
تعاليم الإسلام في الفتح:
تقضي تعاليم الإسلام بأنه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب عليهم - أولا - أن يدعوا أهله إلى الدخول في الإسلام، فإن أسلموا كانوا هم وسائر المسلمين سواء، جاء في الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»؛ وإن لم يسلموا دعوهم إلى أن يسلموا بلادهم للمسلمين يحكمونها، ويبقوا على دينهم - إن شاءوا - ويدفعوا الجزية
2 ، فإن قبلوا ذلك كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكانوا في ذمة المسلمين يحمونهم ويدافعون عنهم، ومن أجل هذا يسمون «أهل الذمة»
3
وإن لم يقبلوا الإسلام ولا الدخول تحت حكمه ودفع الجزية أعلنت عليهم الحرب وقوتلوا، وفي أثناء القتال يحل للمسلمين أن يقتلوا المحاربين، أو من يعين على الحرب، فأما المرأة والطفل والشيخ الفاني والأعمى والمقعد ونحوهم فلا يجوز قتلهم، ما لم يكن أحدهم ذا رأي في الحرب يؤلب على المسلمين، كما فعل رسول الله بدريد بن الصمة فقد قتله يوم حنين، وهو شيخ كبير ضرير؛ لأنه كان يدبر لقومه ويؤلبهم على المسلمين، وإن طلب المحاربون صلحا أثناء الحرب أجيبوا إليه متى رأى الإمام ذلك،
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، ووجب إذ ذاك تنفيذ الشروط حسب ما تعاقدوا؛ وإن لم يكن صلح وانتصر المسلمون وفتح البلد، فهناك أسرى حرب، وهناك أهل البلد المفتوح الذين لم يكونوا في الجيش المحارب، فأما الأسرى فإنا نجد أنه ورد فيهم في القرآن
حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء ، وهي تدل على أن ليس للإمام في الأسرى إلا أن يمن عليهم ويطلقهم، أو يأخذ منهم مالا فدية لهم، أو يفتدي الرجل المسلم بالرجل المحارب؛ ولكنا نجد من ناحية أخرى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يفعل أحد هذين الأمرين أحيانا، وكان يقتل الأسير أحيانا، ويسترق أحيانا؛ ففي يوم بدر قتل عقبة بن أبي معيط وقد أتي به أسيرا ، وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد، وفادى بجماعة من المشركين أسارى المسلمين الذين أسروا ببدر، ومن على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، واسترق ذراري قريظة، واسترق نساء هوازن وذراريهم، كل هذا جعل أئمة الفقهاء يختلفون في حكم الأسرى؛ والذي يظهر لي أن هذه الأمور الأربعة متروكة للإمام يتصرف في كل حالة حسب ما يحيط بها من ظروف مشددة أو مخففة، روى رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز، قال: ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك، كان جيء بأسارى من الترك، فأمر بهم أن يسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا - يشير إلى أحدهم - وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم! فقال عمر: فدونك فاقتله، فقام إليه فقتله
4 .
وأما أهل البلد المفتوح غير المحاربين، فالإمام مخير بين استرقاقهم وتركهم أحرارا يدفعون الجزية، ولكن عمر - وإليه المرجع في كثير من هذه المسائل - ترك أهل سواد العراق أحرارا، وفرض على كل شخص من الموسرين في العام ثمانية وأربعين درهما، وعلى غير الموسرين أربعة وعشرين
5 .
وإذا استرق الأسرى أو أهل البلد المفتوح وزعت توزيع الغنائم، فتخمس، ومعنى التخمس أن يعطى خمسها لليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس تعطى للغانمين: للراجل سهم وللفارس سهمان.
فترى من هذا الفتح الإسلامي كان يستتبع رقا، وهذا الرق هو الذي كان له الأثر الأكبر في عملية المزج، ولهذا كان لا بد فيه من كلمة خاصة.
كان الرق نظاما شائعا في العالم، وكل ما كانت تختلف فيه الأمم حسن معاملة الرقيق أو سوءها؛ فكان اليهود يسترقون، وقد أمرت الديانة اليهودية بحسن معاملة الرقيق، وحددت زمن الاسترقاق بسبع سنين يصبح الرقيق بعدها حرا، واسترق اليونان في تاريخ يطول شرحه؛ واسترق الرومان، وقد منح القانون الروماني للمالك الحق في إماتة عبده أو استحيائه، وجعله مستبدا غير مسئول عن تصرفه في عبده، وكثر الرقيق في عهدهم، حتى ذكر بعض مؤرخيهم: أن الأرقاء في الممالك الرومانية يبلغون في العدد ثلاثة أمثال الأحرار، وأخذت أحوال الأرقاء تتعدل من حيث المعاملة، ومن حيث القانون من القرن الثاني للمسيح.
وكان العرب في جاهليتهم يغزو بعضهم بعضا، ويستولون على رجال بعضهم ونسائهم فيكونون أرقاء، وكان لهم أسواق يباع فيها الرقيق؛ جاء في «أسد الغابة» أن زيد بن حارثة مولى رسول الله كان من قضاعة وأمه من طيئ، أصابه سباء في الجاهلية؛ لأن أمه خرجت تزور قومها «بني معن» فأغارت عليهم خيل «بني القين بن جسر» فأخذوا زيدا فقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وهي وهبته لرسول الله فأعتقه، إلى آخر ما ذكره.
وفي الحديث عن علي رضي الله عنه قال: «خرج عبدان إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم الحديبية قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم يقولون يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وإنما هربوا من الرق، فقال ناس ردهم إليهم، فغضب
صلى الله عليه وسلم
من ذلك ... وأبى أن يردهم»
6
وكان هؤلاء الأرقاء في الجاهلية وعلى عهد رسول الله منهم عرب كما بينا، ومنهم غير ذلك سود وبيض، وكان هؤلاء البيض من الممالك التي حول جزيرة العرب، وكثير من الصحابة جرى عليه الرق كبلال وكان حبشيا، وسلمان وكان فارسيا، وصهيب وكان يلقب بالرومي «لأن الروم أسرته من الأيلة ونشأ بالروم ... إلخ»، وأهدى رسول الله حسان بن ثابت «سيرين» وكانت أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
وقد اتبع نظام الاسترقاق في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، فكان من أسر في الغزوات يجوز استرقاقه، كالذي كان في غزوة بني المصطلق، جاء في سيرة ابن هشام «أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصاب منهم - من بني المصطلق وهم عرب من خزاعة - سبيا كثيرا فشا قسمه في المسلمين».
ولما انتشر الإسلام لم يعد يقبل من العربي إلا الإسلام أو القتال، فأصبح غير محل للاسترقاق، حتى لو وقع أسيرا فإما أن يسلم وإما أن يقتل.
ولما كثرت الفتوح كثر الاسترقاق من الأمم المفتوحة كثرة هائلة، ووزع المسترقون رجالا ونساء وذراري على العرب الفاتحين، حتى يرى المسعودي أن الزبير بن العوام كان له ألف عبد وألف أمة.
وهذا الرقيق يعد مملوكا للسيد كالمتاع، له الحق في بيعه وهبته، وإذا كان أمة جاز للسيد أن يستمتع بها.
ولا يقيد الملك بعدد، فيصح أن يكون للرجل عدد كبير من العبيد، كما يصح أن يكون في بيته عدد من الإماء، وإذا ولدت الأمة من سيدها فالولد ابنه وتسمى هي «أم ولد» له، وتبقى ملكا له بعد ولادتها يستمتع بها، ولكن لا يجوز له أن يبيعها أو يهبها، وإذا مات عنها فهي حرة.
وقد أوجب الإسلام حسن معاملة الرقيق، وحبب إلى المالك العتق، وجعله كفارة عن كثير من الجرائم.
وللمالك أن يعتق عبده أو أمته؛ أي: أن يرد له حريته، ولكن تبقى هناك صلة بين المعتق والمعتق؛ وهذه الصلة تسمى «الولاء» ويظل المعتق ينسب إلى من أعتقه، فيقولون: زيد بن حارثة مولى رسول الله؛ أي: عتيقه، وإن كانت أنثى فهي مولاته، والجمع موال، وإذا كان المعتق من قبيلة، فقد ينسبون المولى إلى هذه القبيلة، فيقولون مولى بني هاشم، أو مولى ثقيف؛ وأحيانا يعبرون عن ذلك بقولهم: الهاشمي بالولاء، أو الأموي بالولاء؛ وهكذا، ويظهر أثر هذه الصلة فيما إذا مات المعتق من غير وارث فإن المعتق يرثه.
وقد كانوا أحيانا يبيعون الولاء مع بقاء الرق، جاء في الأغاني في ترجمة (سائب خاثر) «أن أصله من فيء كسرى؛ وقد اشترى عبد الله بن جعفر ولاءه من مواليه»
7 .
وهناك نوع آخر من الولاء ليس سببه العتق، وإنما سببه أن يسلم رجل على يد رجل آخر، ويتعاقد معه فيكون ولاؤه له
8 .
هذا هو نظام الولاء من الوجهة القانونية، أما تاريخيا، فيظهر أن الولاء لم يكن له هذا المعنى عند العرب في الجاهلية، وإنما كان يطلق «موالي الرجل» على حلفائه وعلى ورثته من بني عمه وإخوته وسائر عصبته؛ جاء في تفسير الطبري: «قال ابن زيد في قوله تعالى:
ولكل جعلنا موالي ، قال: الموالي العصبة، هم كانوا في الجاهلية الموالي؛ فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسما، فقال تبارك وتعالى:
إن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ، فسموا الموالي، قال: والموالي اليوم موليان: مولى يرث ويورث، فهؤلاء ذوو الأرحام؛ ومولى يورث ولا يرث، فهؤلاء العتاقة»، فظاهر من قوله أن إطلاق الموالي على هذه الأعاجم معنى مستحدث في الإسلام، والظاهر أنه استعمل في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
بهذا المعنى، فقد كانوا يطلقون على زيد بن حارثة مولى رسول الله؛ ووردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى مثل: «نهى رسول الله عن بيع الولاء»، و«الولاء لحمة كلحمة النسب...» إلخ، فلما كثر الرق والعتق كثر استعمال الموالي بمعنى المعتقين: وقد تأثر الموالي بالعصبية العربية، فكان موالي كل قبيلة ينتسبون إليها، ويحاربون معها، ويستخدمون في شئونها، ومع أن الإسلام يدعو إلى أن المسلمين كلهم سواء، فقد كان العرب - وخاصة في الدولة الأموية - ينظرون إليهم نظرة فيها شيء من الازدراء مما أدى إلى كراهية الموالي للأمويين، وتكوين عصبية لهم؛ جاء في تاريخ الطبري في ثورة المختار: «التقى أشراف الناس بالكوفة فأرجفوا بالمختار، وأخذوا يقولون: «والله لقد تأمر علينا هذا الرجل بغير رضا منا، ولقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا فحرب
9
بذلك أيتامنا وأراملنا ... ثم قال: إنهم بعثوا إليه شبث بن ربعي، فقال له: عمدت إلى موالينا وهم فيء أفاءه الله علينا وهذه البلاد جميعا، فأعتقنا رقابهم، نأمل الأجر في ذلك والثواب والشكر، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاء في فيئنا» ... إلخ، ولعل هذه القصة أصدق ما يرينا نظرة العربي إذ ذاك إلى مواليه، وقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد «أن معاوية قال: إني رأيت هذه الحمراء (يعني الموالي من الفرس والروم) قد كثرت ... وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فقد رأيت أن أقتل شطرا، وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق ... ثم عدل عن ذلك»
10 .
هذا النظام الذي ذكرت من رق وولاء ، كان له أكبر الأثر في الحياة العقلية، فكثير من رجال البلاد المفتوحة ونسائهم وزعوا - كأنهم غنائم - على الجيش العربي ، فكان لكل جندي تقريبا عبيد وإماء يستخدمهم في حوائجه، ويستولد الإماء إن شاء، فنتج من هذا أن البيت العربي دخلت فيه عناصر أخرى فارسية أو رومانية أو سورية أو مصرية أو بربرية، فلم يعد البيت العربي بيتا عربيا، بل بيتا مختلطا، ورب البيت هو العربي؛ أضف إلى هذا أن هؤلاء الإماء كن يلدن أولادا يحملون الدمين معا: الدم العربي من جهة الأب، والدم الأجنبي من جهة الأم، وكان عدد هذا النوع كثيرا لكثرة الفتوح التي فتحها المسلمون في عهد عمر ومن بعده، وكثير من هذه البلاد فتحت عنوة، فكان أهلها وغزاتها عرضة للأسر والسبي، حتى أكبر الأسر وأعظمها جاها؛ ذكر «الزمخشري» في كتابه «ربيع الأبرار»: أن الصحابة رضي الله عنهم لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلاقة عمر بن الخطاب كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد (ملك الفرس) فباعوا السبايا، وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضا؛ فقال علي بن أبي طالب: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة، فقال: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ قال: يقومن، ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن، فقومن، فأخذهن علي بن أبي طالب، فدفع واحدة لعبد الله بن عمرو، وأخرى لولده حسين، وأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق؛ فأولد عبد الله ولده سالما؛ وأولد الحسين زين العابدين؛ وأولد محمد ولده القاسم؛ فهؤلاء الثلاثة بنو خالة وأمهاتهم بنات يزدجرد، ويشك بعض الباحثين في نسبة هؤلاء البنات إلى يزدجرد، ولكن يظهر أن ليس هناك شك في أنهن من خيرة بنات الفرس؛ جاء في كتاب الكامل للمبرد: «وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى نشأ فيهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا، فرغب الناس في السراري».
هؤلاء الأرقاء والموالي أنتجوا في الجيل الثاني لعهد الفتح عددا عديدا، منهم من يعد من سادات التابعين، وخير المسلمين، ومن حملة لواء العلم في الإسلام؛ وسنبين ذلك عند الكلام على الحركة العلمية.
دخول البلاد المفتوحة في الإسلام:
هذا هو العامل الثاني من عوامل المزج، فقد دخل في الإسلام كثير من أهل البلاد المفتوحة، وامتزجوا بالعرب كأنهم منهم، جاء في فتوح البلدان للبلاذري: «أن أبرويز كان وجه إلى الديلم فأتي بأربعة آلاف وكانوا خدمه وخاصته، ثم كانوا على تلك المنزلة بعده، وشهدوا القادسية مع رستم، فلما قتل وانهزم المجوس اعتزلوا، وقالوا: ما نحن كهؤلاء، ولا لنا ملجأ، وأثرنا عندهم غير جميل! والرأي لنا أن ندخل معهم في دينهم، فنعز بهم، فاعتزلوا، فقال سعد: ما لهؤلاء؟ فأتاهم المغيرة بن شعبة فسألهم عن أمرهم، فأخبروه بخبرهم، وقالوا: ندخل في دينكم؛ فرجع إلى سعد فأخبروه فأمنهم، فأسلموا وشهدوا فتح المدائن مع سعد، وشهدوا فتح جلولاء، ثم تحولوا فنزلوا الكوفة مع المسلمين»
11
إلى كثير من أمثال ذلك، وقد كان الباعث للناس على الدخول في الإسلام مختلفا؛ فمنهم من دخل فيه مؤمنا بحسن مبادئه وصدقها، وساعد على ذلك بساطة العقيدة الإسلامية وسهولة فهمها، ومنهم من دخل فيه فرارا من الجزية، لما علمت أن من رضي أن يبقى على دينه تضرب عليه الجزية، فإذا أسلم رفعت عنه، حتى لقد هال بعض الأمراء دخول الناس في الإسلام فرارا من الجزية، وكتب عمال الحجاج إليه: «إن الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار» فأخذ الحجاج منهم الجزية مع إسلامهم، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون
12 ، ومنهم من كان يسلم فرارا مما يشعر به من المهانة، فالإسلام هو دين الحكام والولاة ورجال الدولة، وهو الدين الذي يعتز به من انتسب إليه، وغيره من الأديان كان مكروها ممقوتا في الدولة، وإن أبيح لمعتنقيه أن يأتوا بشعائره، أضف إلى ذلك أن بعض الولاة لم يكن يراعي تعاليم الدين وتسامحه في الذميين، فكان يسومهم سوء العذاب، فاضطروا أن يفروا من دينهم إلى الإسلام.
الاختلاط في السكنى:
هذا هو العامل الثالث في الامتزاج، بعد الفتح صارت البلاد مسكونة بالفاتحين والمفتوحين جميعا ، واشتركوا في الحركة الاجتماعية والاقتصادية؛ يقول (ولهوسن
Wellhausen ): «إن أكثر من نصف سكان الكوفة كانوا من الموالي، وكان هؤلاء الموالي يحتكرون الحرف والصناعة والتجارة، وكان أكثرهم فرسا في جنسهم وفي لغتهم، جاءوا الكوفة أسرى حرب ثم دخلوا في الإسلام ثم أعتقهم مالكوهم العرب، فكانوا موالي لهم، وبذلك صاروا أحرارا، ولكنهم ظلوا في حاجة إلى حماية سادتهم، فهم حاشية العرب وأتباعهم في السلم والحرب»، وكذلك سائر البلاد أصبح فيها العنصر العربي والعنصر الأجنبي ممتزجين تمام الامتزاج، في فارس والشام ومصر والمغرب، حتى جزيرة العرب نفسها لم تعد جزيرة العرب، بل صارت جزيرة المسلمين جميعا؛ فقد كانت «المدينة» مقر الخلافة في عهد الفتوح الكبرى - عهد عمر - فكان يقصدها الرسل وذوو الحاجات من الأمم الأخرى، ويأتي إليها الأسرى؛ لأن تعاليم عمر كانت تقضي ألا توزع الغنائم والسبي في البلاد المفتوحة، إنما يأتى بها إلى مقر الخلافة ثم توزع، فامتلأت المدينة وما حولها بالعناصر غير العربية؛ وكانت مكيدة قتل عمر مدبرة من بعض سكانها من الفرس، ومنفذها أبو لؤلؤة الفارسي، أضف إلى هذا أن مكة والمدينة كانتا مقصد الحجاج والزائرين من الداخلين في الإسلام من بقاع الأرض، وهكذا جعل جزيرة العرب شائعة بين المسلمين، تختلط فيها العناصر المختلفة، وشأنها في ذلك شأن الممالك الأخرى المفتوحة، ليس من فارق إلا أن العنصر العربي في جزيرة العرب أكثر، والعنصر الأجنبي في الممالك المفتوحة أعظم.
كل هذه العوامل التي ذكرناها كان لها أثرها في الامتزاج، فالعادات الفارسية والرومانية امتزجت بالعادات العربية، وقانون الفرس والقانون الروماني امتزجا بالأحكام التي أوضحها القرآن والسنة، وحكم الفرس وفلسفة الروم امتزجت بحكم العرب، ونمط الحكم الفارسي ونمط الحكم الروماني امتزجا بنمط الحكم العربي؛ وبالإجمال كل مرافق الحياة والنظم السياسية والاجتماعية والطبائع العقلية تأثرت تأثرا كبيرا بهذا الامتزاج.
وإذا كانت هذه الأمم المفتوحة أرقى من العرب مدنية وحضارة وأقوى نظما اجتماعية كان من الطبيعي أن تسود مدنيتهم وحضارتهم ونظمهم؛ وإذا كان العرب هم العنصر القوي الفاتح عدلوا هذه النظم بما يتفق وعقليتهم، فسادت في البلاد المفتوحة النظم التي كانت متبعة من قبل الفتح، كنظام الدواوين ونحوه، وأقر على ما كان عليه، حتى لغة الدواوين نفسها ظلت باللغة الأصلية إلى عهد عبد الملك بن مروان، وليس موضوعنا هنا هذه النظم الاجتماعية والسياسية، وإنما موضوعنا «الحياة العقلية» وكان شأنها شأن النظم، فهذا الامتزاج كان لقاحا بين العقل العربي والعقل الأجنبي، أنتج بعد قليل من الزمان.
دخل كثير من هؤلاء المغلوبين في الإسلام، ولهم حكمة وأمثال وشعر وأدب، وبعضهم لهم علوم مدونة وكتب مطولة، قد مرنوا على تدوين العلوم والبحث العلمي، فلما استقروا في الإسلام واطمأنوا إليه أخذوا هم وأبناؤهم يطبقون منهاجهم العلمي الذي ألفوه وألفه آباؤهم كما سنوضحه بعد.
حتى العقيدة الإسلامية لم تخل من تأثر بهذا الامتزاج، أتظن أن الفارسي أو السوري النصراني أو الروماني أو القبطي إذا دخل في الإسلام امحت منه كل العقائد التي ورثها من آبائه وأجداده قرونا، وفهم الإسلام كما يريد الإسلام من تعاليمه؟ كلا! لا يمكن أن يكون ذلك، وعلم النفس يأباه كل الإباء، فللفارسي صورة للإله غير صورة النصراني الروماني، وهما غير صورة النصراني المصري، وللألفاظ المستعملة في الديانات كجهنم والجنة وإبليس والملائكة والآخرة والنبي ونحو ذلك من معان عند كل من هؤلاء تخالف المعاني التي يتصورها الآخر، فلا تظن أن هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام من الأمم الأخرى فهموه بحذافيره كما فهمه العرب، حتى المخلصون منهم في اعتناقهم الإسلام، إنما فهمه كل قوم مشوبا بكثير من تقاليدهم الدينية القديمة، وفهموا ألفاظه قريبة من الألفاظ التي كانت تستعمل في ديانتهم؛ والشواهد على ذلك كثيرة، كالذي رواه الأزدي في كتابه فتوح الشام من أن رجلا من مسلمي الشام تصالح مع آخر على أن يرعى له غنمه في نظير أن يهبه زوجته تبيت عنده، وقد دعاهما عمر بن الخطاب فأقرا بأن ليس عندهما علم بحرمة ذلك؛ وكالذي ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد من تشدد الموالي في الدين تشددا لا يعرفه عرب البادية
13 ، وقد ظهر تأثير هؤلاء القوم في أواخر القرن الأول للهجرة بظهور المذاهب المختلفة كما سنبين ذلك إن شاء الله، ولعل هذا المعنى هو الذي أخاف عمر بن الخطاب عند الفتح، فقد روى أبو حنيفة الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال»: «أن المسلمين أصابوا يوم جلولاء غنيمة لم يغنموا مثلها قط، وسبوا سبيا كثيرا من بنات أحرار فارس، فذكروا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من أولاد سبايا الجلوليات! فأدرك أبناؤهن قتال صفين»، نعم إنه استعاذ بالله وحق له أن يستعيذ منهم، ومن كل الموالي ونسلهم، فقد كانت لهم عصبية سياسية غير العصبية العربية وضدها، ولها تقاليد دينية لا بد أن ينزعوا إليها ويخالفوا بهذه النزعة الإسلامية العربية في بساطتها.
الحق أن الامتزاج كان قويا شديدا، وأن الموالي وأشباههم كان لهم أثر في كل مرافق الحياة، وأنه كانت هناك حروب في المسائل الاجتماعية، كالحروب البدنية بين الجنود، ولكن لم يعن المؤرخون بتفصيلها وهي أولى بالعناية، فقد كانت حرب بين الإسلام والديانات الأخرى، وكانت حرب بين اللغة العربية واللغات الأخرى، وكانت حرب بين الآمال العربية وآمال الأمم الأخرى، وكانت حرب بين النظم الاجتماعية العربية البسيطة، وبين النظم الاجتماعية الفارسية والرومية، ولئن كانت الحروب البدنية قد انتهت تقريبا بفتوح أبي بكر وعمر وعثمان، فإن الحروب الأخرى ظلت قائمة بعد ذلك طويلا وأصبحت المملكة الإسلامية مجالا فسيحا لهذه الحروب تتنازع فيها الآمال، ففرس يحنون إلى مملكتهم القديمة، ويعتقدون أنهم أرقى من العرب؛ وروم كذلك؛ والمغرب ومصر يودون الاستقلال، كما أن النظم السياسية فيها متضاربة: فرس لهم نظام خاص، وروم لهم نظام مغاير، وقانون روماني كان يسود المستعمرات الرومانية، وقانون فارسي كان يسود المملكة الفارسية، وإسلام يستمد منه قانون يوافقهما أحيانا ويخالفهما أحيانا، وفرس مجوس ظلوا مجوسا، وفرس أسلموا، وروم نصارى، وروم أسلموا، ومصريون نصارى، ومصريون أسلموا، ويهود في هذه البلاد ظلوا يهودا، ويهود أسلموا، ولغة عربية وفارسية وقبطية ويونانية وعبرية؛ كل هذه النزعات واللهجات كانت في حروب مستمرة، وكانت المملكة الإسلامية كلها هي موطن القتال ، ولم يصلنا مع الأسف من وقائعها إلا النزر اليسير، فلم تعد الأمة الإسلامية أمة عربية، لغتها واحدة ودينها واحد وخيالها واحد، كما كان الشأن في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم ، بل كانت الأمة الإسلامية جملة أمم، وجملة نزعات، وجملة لغات تتحارب، وكانت الحرب سجالا، فقد ينتصر الفرس، وقد ينتصر العرب، وقد ينتصر الروم.
والحق أن العرب وإن انخذلوا في النظم السياسية والاجتماعية وما إليها من فلسفة وعلوم ونحو ذلك، فقد انتصروا في شيئين عظيمين: اللغة والدين؛ فأما لغتهم فقد سادت هذه الممالك جميعها، وانهزمت أمامها اللغات الأصلية للبلاد، وصارت هي لغة السياسة وهي لغة العلم، وظل هذا الانتصار حليف العرب في أكثر هذه الممالك إلى اليوم؛ وكذلك الدين، فقد ساد هذه الأقطار واعتنقوه، وقل من بقي من سكان هذه البلاد على دينه الأصلي، ومع انتصار هذين العنصرين - اللغة والدين - فقد تأثر كل منهما أثناء هذه الحروب؛ فاللغة لم تعد سليقة وفشا فيها اللحن، حتى احتاجت إلى قوانين تضبطها، قال أبو عبيدة: «مر عبد الله بن الأهتم بقوم من الموالي وهم يتذاكرون النحو فقال: لئن أصلحتموه إنكم لأول من أفسده، قال أبو عبيدة: ليته سمع لحن صفوان وخاقان ومؤمل بن خاقان»
14
وكذلك غلبت على اللغة كلمات أعجمية، وتراكيب أعجمية، وخيال أعجمي، ومعان أعجمية، وقل مثل ذلك في الدين، فهو وإن انتصر فقد تأثر، فتفرق المسلمون فرقا ووضعت المذاهب المختلفة، وشرح القرآن نفسه بما ورد في الكتب الأخرى من أقاصيص بدء الخليقة وما إلى ذلك، وظلت هذه الفرق تتجادل بالقول أحيانا، وبالسيف أحيانا.
والآن نريد أن نتعرض بشيء من التفصيل لبيان ما يتصل بموضوعنا من هذه الحركات، وهي الحركة العقلية، بأوسع معانيها من علم ودين؛ لقد كان للفرس دين، وكان لهم حكمة، وكان لهم عقلية، وكان للروم دين وعلم وعقلية، وقد أثر هذان العاملان أثرا كبيرا في الأمة الإسلامية، فلنشرحهما ونبين أثرهما.
مصادر هذا الباب
اعتمدنا في الفصل الأول من هذا الباب على: (1)
القرآن. (2)
تاريخ الطبري جزء 2، 3. (3)
Spirit of Islam
للسيد أمير علي. (4)
Literary History of Persia
للأستاذ برون.
عدا ما ذكرناه من الكتب أثناء البحث.
وفي الفصل الثاني على: (1)
كثير من كتب الفقه أهمها الأم للإمام الشافعي، والمبسوط للسرخسي، وفتح القدير في باب السير، والأحكام السلطانية. (2)
دائرة المعارف الإسلامية في مادة «عبد». (3)
فتوح البلدان للبلاذري. (4)
الأخبار الطوال للدينوري.
عدا ما أشرنا إليه في ثنايا الفصل من الكتب.
الجزء
الفرس وأثرهم
الفصل الثامن
دين الفرس
ضاع استقلال فارس بالفتح الإسلامي كما أسلفنا، وأصبحت ولاية إسلامية، ووقع كثير من الفرس في أيدي العرب أسرى، واسترق بعضهم ووزع على العرب، ودخل كثير من الفرس في الإسلام، وتعلم كثير منهم العربية، حتى كان منهم في الجيل الثاني من يتكلم العربية كأحد أبنائها؛ ولكنهم برغم هذا كله لم يصبحوا في جملتهم كالعرب في عقيدتهم، ولا كالعرب في مطامعهم وطموحهم ونزعاتهم، ولا كالعرب في عقليتهم، بل اعتنقوا الإسلام فصبغوه بصبغة الفارسية، ولم يتجردوا من كل عقائد الدين القديم وتقاليده، ففهموا الإسلام بالقدر الذي يسمح به دين قديم اعتنقه قومه أجيالا، ونشأ فيه ناشئهم وشب عليه؛ كذلك تعلم الكثير منهم العربية، ولكن لم يترك خياله الفارسي، ولم ينس ما كان لقومه من شعر ومثل وحكمة، كان من أثر ذلك طبيعيا أن تدخل تعاليم في الإسلام جديدة، ونزعات دينية جديدة، ظهر أثرها فيما بعد، وأظهرها في الإسلام التشيع والتصوف، وكان من أثر ذلك أيضا أن يغمر الأدب العربي بالحكم الفارسية، والقصص الفارسية، والخيال الفارسي.
إذا كان للفرس دين ذو أثر، وأدب ذو أثر؛ فلندرس باختصار دينهم وأدبهم، لنستطيع بعد أن نفهم أثر ذلك؛ ولسنا ندرس دينهم منذ نشأتهم، ولا نعرض لأصل أدبهم وتدرجه في الرقي، فذلك ما لا يهمنا كثيرا، وإنما نتعرض لدينهم وطرف من أدبهم في الدولة الساسانية التي حكمت الفرس قبل الإسلام، واستمرت في الحكم من سنة 226م إلى سنة 651م حين تسلمها العرب من أيديهم وحكموها بولاتهم، فهذه الدولة الساسانية هي التي كان لها الأثر المباشر في المسلمين من الناحية الدينية والأدبية جميعا.
دين الفرس: اشتهر الفرس - والجنس الآري عامة - بأنهم ميالون إلى عبادة المظاهر الطبيعية؛ فالسماء الصافية، والضوء، والنار، والهواء، والماء ينزل من السماء؛ جذبت أنظارهم وجعلتهم يعبدونها على أنها كائنات إلهية، حتى سموا الشمس «عين الله» والضوء «ابن الله»، كما أن الظلمة والجدب ونحوهما كائنات إلهية شريرة ملعونة.
ومن أول أمرهم وقفوا الإنسان أمام آلهة الخير يستمد منهم المعونة، ويصلي لهم ويسبح بحمدهم، ويقدم الضحايا إليهم.
ورأوا أن آلهة الخير في نزاع دائم مع آلهة الشر، وأعمال الإنسان من صلاة ونحوها تعين آلهة الخير في منازلتها آلهة الشر؛ واتخذوا النار رمزا للضوء، وبعبارة أخرى رمزا لآلهة الخير يشعلونها في معابدهم، وينفخونها بإمدادهم، حتى تقوى على آلهة الشر وتنتصر عليها، وقد كانت هذه النار منبعا عندهم لخيال شعري خصب. (أ)
زردشت (Zoroaster) : ثم جاء بعد زردشت - نبي الفرس - فدعا إلى تعاليم جديدة أسست على الديانة القديمة بعد إصلاحها.
وقد كان وجود زردشت نفسه موضع شك عند كثيرين، وموضع جدل طويل بين النافين والمثبتين، واختلف المثبتون في تاريخ وجوده على أقوال تتردد بين سنة 6000 قبل الميلاد و600 ق م، وقد ألف الأستاذ «جاكسن
Jackson » كتابا قيما في حياته
1
كان له أثر كبير في ترجيح كفة المثبتين لوجوده، وقد وصل في بحثه إلى أن زردشت شخص تاريخي لا خرافي، وأنه كان من قبيلة ميديا (في الجزء الغربي الشمالي من فارس)، وأنه ظهر أمره نحو منتصف القرن السابع قبل الميلاد، ومات نحو سنة 583ق.م بعد أن عمر 77 سنة وأن موطنه كان أذربيجان، ولكن أول نجاح ناله كان في بلخ، وعلى أثر دخول الملك «بشتاسب»
2
في دينه، وأن دينه انتشر من بلخ إلى فارس كلها.
ومع هذا فلا تزال بعض هذه النتائج التي وصل إليها جاكسن مجالا للبحث، ويروي أهل دينه كثيرا عما صحب ولادته من المعجزات وخوارق العادات والإشارات، وأنه انقطع منذ صباه إلى التفكير، ومال إلى العزلة، وأنه في أثناء ذلك رأى سبع رؤى، ثم أعلن رسالته فكان يقول: إنه رسول الله بعثه ليزيل ما علق بالدين من الضلال، وليهدي إلى الحق، وقد ظل يدعو الناس سنين طوالا فلم يستجب لدعوته إلا القليل، فأوحي إليه أن يهاجر إلى بلخ، فنشر دعوته في بلاط الملك، فاستجاب له أولا أبناء الوزير ثم الملكة نفسها، وقاومه رجال البلاط وجادلوه، ولكنه انتصر عليهم بدخول الملك نفسه وهو بشتاسب في دينه، وقد تحمس الملك لهذا الدين الجديد، فتتابع للدخول فيه أفواجا.
تعاليمه: نلاحظ فيما ذكرنا أن الفرس قبل زردشت بنوا دينهم على أساسين: (1)
أن لهذا العالم قانونا يسير عليه، وأن له ظواهر طبيعية ثابتة. (2)
وأن هناك نزاعا وتصادما بين القوى المختلفة، بين النور والظلمة، والخصب والجدب ... إلخ، فجاءت تعاليم زردشت مبنية على هذين الأساسين أيضا، إلا أن من قبله كانوا يعبدون الأرواح الخيرة وهي كثيرة، فوحدها زردشت في إله واحد هو «أهرامزدا»، وكذلك فعل في قوى الشر، فحصرها في شيء واحد سمي «دروج أهرمن»، وبذلك كانت عنده قوتان فقط: قوة الخير وقوة الشر.
ولزردشت كتاب مقدس يسمى «أفستا
Avesta » وعليه شرح يسمى «زندافست»؛ قال المسعودي: «واسم هذا الكتاب «ألايستا»، وإذا عرب أثبتت فيه قاف فقيل «الايستاق»
3
وعدد سوره إحدى وعشرون سورة تقع كل سورة في مئتي ورقة ... وأنه كتب باللغة الفارسية الأولى وأن أحدا اليوم لا يعرف معنى تلك اللغة، وإنما نقل لهم إلى هذه الفارسية شيء من السور في أيديهم يقرءونها في صلواتهم، في بعضها الخبر عن مبتدأ العالم ومنتهاه، وفي بعضها مواعظ» ا.ه مختصرا.
وأصل الأفستا ومؤلفو سوره لا يزال موضع جدال بين الباحثين، كما هو الشأن في زردشت نفسه، ويقول «البرسيون»: «إن الأفستا كان في عهد الدولة الساسانية مؤلفا من إحدى وعشرين سورة لم يبق منها في عهدنا إلا سورة كاملة وبعض آيات من سور مختلفة»، وهذا الذي وصل إلينا لا يحتوي إلا على مقطعات في الشعائر الدينية، وفي قوانين للمعابد الزردشتية.
وقد عاملهم المسلمون في الفتح معاملة أهل الكتاب، وعدوا كتابهم كأنه كتاب منزل، وجرى عمر على ذلك لما روي له الحديث: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب...» إلخ.
والمشهور من تعاليمه أنه كان يقول : إن للعالم أصلين أو إلهين: أصل الخير وهو «أهور» أو أهورامزدا، وأصل الشر وهو «أهرمن»
4
وهما في نزاع دائم، ولكل من هذين الأصلين قدرة الخلق، فأصل الخير هو النور وقد خلق كل ما هو حسن وخير ونافع، فخلق النظام وخلق الحق وخلق النور وكلب الحراسة والديك ونحو ذلك من الحيوانات النافعة، والواجب على المؤمن العناية بها؛ وأصل الشر هو الظلمة، وقد خلق كل ما هو شر في العالم، فخلق الحيوانات المفترسة والحيات والأفاعي والحشرات والهوام، وعلى المؤمن قتلها، والحرب بين هذين الروحين سجال، ولكن الفوز النهائي لروح الخير؛ والناس في الحرب ينحازون إلى الروحين، فمنهم من ينصر «أهورا» ومنهم من ينصر «أهرمن»، وليس الروحان يباشران الحرب بأنفسهما بل بمخلوقاتهما.
وكان الإنسان موضع نزاع بين الروحين؛ لأنه مخلوق مزادا، ولكنه خلقه حر الإرادة، فكان في الإمكان أن يخضع للقوى الشريرة، والإنسان في حياته تتجاذبه القوتان، فإن هو اعتنق دينا حقا، وعمل عملا صالحا، وطهر بدنه ونفسه، فقد أخزى روح الشر، ونصر روح الخير واستحق الثواب من «مزدا»، وإلا قوى روح الشر وأسخط عليه «مزدا».
كذلك من أهم مبادئه: أن أشرف عمل للإنسان الزراعة والعناية بالماشية، فحبب إلى الناس أن يزرعوا، وأن يعيشوا مع ماشيتهم، وأن يجدوا ويعملوا، حتى حرم على أتباعه الصوم؛ لأنه يضعفهم عن العمل، وهو يريدهم أقوياء عاملين.
وعلم أن الماء والهواء والنار والتراب عناصر طاهرة يجب ألا تنجس، وكان من مظاهر هذا تقديس النار واتخاذها رمزا، وتحريم تنجيس الماء الجاري، وتحريم دفن الموتى في الأرض، ونحو ذلك:
وللإنسان حياتان: حياة أولى في الدنيا، وحياة أخرى بعد الموت، ونصيبه في حياته الآخرة نتيجة لأعماله في حياته الأولى، قد أحصيت أعماله في كتاب، وعدت سيئاته ديونا عليه؛ وفي الأيام الثلاثة التي تعقب الموت تحلق نفس الإنسان فوق جسده، وتنعم أو تشقى تبعا لأعماله، ومن أجل هذا تقام الشعائر الدينية في هذه الأيام إيناسا للنفس، وعند الحساب تمر النفس على صراط ممدود على شفير جهنم، وهو للمؤمن عريض سهل المجاز، وللكافر أرق من الشعرة؛ فمن آمن وعمل صالحا جاز الصراط بسلام؛ ولقي «أهورا» فأحسن لقاءه، وأنزله منزلا كريما، وإلا سقط في الجحيم وصار عبدا لأهرمن، وإن تعادلت سيئاته وحسناته ذهب الروح إلى الأعراف إلى يوم الفصل.
وقد غيب على الإنسان في حياته الدنيا ما أعد له بعد موته، ولم يعلم الخير من الشر، فكان من رحمة الله أن أرسل رسولا يهدي به الناس؛ وفي الأساطير الزردشتية أن النبوة نزلت أولا على جمشيد ملك الفرس، ولكن لم يستطع حملها، فحملها زردشت، فكان الله يكلمه وينزل عليه الوحي.
ويعلم زردشت أن يوم القيامة قريب، وأن نهاية هذه الحياة ليست بعيدة وسيستجمع «مزدا» قوته، ويضرب إله الشر ضربة قاضية، ويعذبه بالجحيم هو ومن أطاعه.
فلسفته: بجانب هذه التعاليم الدينية نرى للديانة الزردشتية أبحاثا فيما وراء المادة، ولكن لم يكن بحثهم فيها شاملا - كالذي كان عند اليونان - بل كان بحثا جزئيا مفرقا؛ كذلك نرى لهم في هذا خاصية تشبه التي كانت للعرب بعد الإسلام، وهي امتزاج أبحاثهم - فيما وراء المادة - بالدين والتوفيق بينهما، ولم يبحثوا فيها بحثا مستقلا كما فعل اليونان مثلا.
فمن أبحاثهم الفلسفية بحثهم في النفس، فالديانة الزردشتية ترى أن نفس الإنسان قد خلقها الله بعد أن لم تكن، وتستطيع أن تنال الحياة الأبدية السعيدة إذا حاربت الشرور في العالم الأرضي، وقد منحها الله حرية الإرادة، فهي تستطيع أن تختار الخير أو الشر، وللنفس الإنسانية قوى مختلفة: (1)
الضمير أو الوجدان. (2)
القوة الحيوية. (3)
القوة العقلية. (4)
القوة الروحية. (5)
القوة الواقية ... إلخ.
وبعد؛ فهل دين زردشت ثنوي يرى أن العالم يحكمه إلهان: إله الخير وإله الشر وأن لكل إله ذاتا مستقلة؟ أو هو موحد يرى أن العالم يحكمه إله واحد، وأن ما في العالم من خير وشر، وما فيه من قوتين متنازعتين ليستا إلا مظهرين أو أثرين لإله واحد؟ اختلف الباحثون في الإجابة عن هذا السؤال، فيرى كثيرون أنه ثنوي كما يدل عليه ظاهر كلامه، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض كتاب الفرنج ومنهم من كتب في دائرة المعارف البريطانية مادة زردشت؛ ومنهم من يرى أنه موحد، وإلى ذلك ذهب الشهرستاني والقلقشندي في صبح الأعشى وغيرهما، ويقول الأستاذ هوج
Haug : «إن زردشت كان من الناحية اللاهوتية موحدا، ومن الناحية الفلسفية ثنويا»، ولعله يرد من قوله هذا أنه من ناحية العقيدة الدينية كان يرى أن للعالم إلها واحدا، ولكن إذا تعرض لشرح فلسفة العالم وما فيه من خير وشر يتطاحنان وما إلى ذلك فهو ثنوي يرى أن في العالم قوتين. •••
والديانة الزردشتية كانت هي الديانة السائدة في فارس وما حولها في عهد الكيانيين
Achaemenian ، فلما انتصر الإسكندر سنة 331ق.م كان ذلك ضربة لهذه الأسرة ولديانتها، ثم انتعشت في عهد الأسرة الساسانية التي بدأت حكمها سنة 226م وظلت هي ديانة الفرس إلى الفتح الإسلامي فاعتنق كثير منهم الإسلام، وفر بعضهم أولا إلى جزائر في الخليج الفارسي ثم إلى الهند، ولا تزال منهم طائفة في بمباي يسمون بالفرسيين
يتمسكون بهذا الدين إلى اليوم؛ وبقيت طائفة في فارس تستمسك بدينها بعد الفتح، واستمرت معابد النار قائمة في كل ولاية من ولايات فارس تقريبا في القرون الثلاثة الأولى بعد الفتح
5 .
ولعلك من قراءة مذهبهم تشعر بما كان لهم من أثر كبير في المسلمين، وسيتضح ذلك تمام الوضوح عند الكلام على المذاهب الدينية، إلا أنه يصح لنا أن نذكر هنا إجمالا أن عقيدة العامة من المسلمين في الصراط بهذا النمط الذي يحكيه زردشت، وفي الأعراف على هذا الوجه، وتحليق الروح على الجسد، وإقامة الشعائر لذلك ثلاثة أيام، كل هذه عقائد تشبه مشابهة تامة ما في الديانة الزردشتية، وقول المعتزلة في الجبر والاختيار، وقول الصوفية في أقسام النفس، كله مأخوذ عن هذه الديانة، وسنعرض لهذا الموضوع في موضعه إن شاء الله. (ب)
ماني والمانوية
6 : من أشهر المذاهب الدينية التي كثر أتباعها، المانوية، وقد ولد ماني - مؤسسها - حسبما يقول البيروني في كتابه «الآثار الباقية» سنة 215 أو 216 م، وعاش مذهبه - برغم ما لقي من اضطهاد - إلى القرن السابع الهجري، والثالث عشر الميلادي، وكان له أتباع كثيرون في آسيا وفي أوروبا، وكان له أثر كبير في الآراء الدينية، وكانت تعاليمه مزيجا من الديانة النصرانية والزردشتية، وهي - كما يقول الأستاذ برون - أن تعد زردشتية منصرة أقرب من أن تعد نصرانية مزردشة، وقد كتبت عنه مصادر عربية وأخرى أوروبية، وقد وثق الأستاذ برون المصادر العربية وقال: إنها أقرب إلى الصحة، وأهم المصادر العربية في هذا: الفصل في الملل والنحل لابن حزم، والملل والنحل للشهرستاني، وفهرست ابن النديم، وتاريخ اليعقوبي، والآثار الباقية للبيروني وسرح العيون لابن نباتة.
وخلاصة مذهبه أن العالم كما قال زردشت نشأ عن أصلين وهما: النور والظلمة، وعن النور نشأ كل خير، وعن الظلمة نشأ كل شر، والنور لا يقدر على الشر، والظلمة لا تقدر على الشر؛ وما يصدر عن الإنسان من خير فمصدره إله الخير، وما يصدر من شر فمصدره إله الشر، فإن هو نظر نظرة رحمة، فتلك النظرة من الخير والنور، ومتى نظر نظرة قسوة فتلك النظرة من الشر والظلمة، وكذلك جميع الحواس، وقد امتزج الخير والشر في هذا العالم امتزاجا تاما؛ وقد أطال هو وأصحابه في كيفية هذا الامتزاج بما يشبه الخرافات.
وهو في هذا لا يخرج كثيرا عن تعاليم زردشت - كما ترى - ولكن يخالفه بعد في أمر جوهري: وهو أن زردشت كان يرى أن هذا العالم الحاضر عالم خير، لما فيه من مظاهر نصرة الخير على الشر، في حين أن ماني يرى أن نفس الامتزاج شر يجب الخلاص منه، وزردشت يرى أن يعيش الإنسان عيشة طبيعية، فيتزوج وينسل، ويعنى بزرعه ونسله وماشيته ويقوي بدنه ولا يصوم، وأنه بهذه المعيشة ينصر إله الخير على إله الشر؛ وأما ماني فنزع منزعا آخر هو أشبه ما يكون بالرهبنة، وقد كان ماني - كما يقولون - راهبا بحران، فرأى أن امتزاج النور بالظلمة في هذا العالم شر، ومن أجل هذا حرم النكاح حتى يستعجل الفناء؛ ودعا إلى الزهد، وشرع الصيام سبعة أيام أبدا في كل شهر، وفرض صلوات كثيرة، يقوم الرجل فيمسح بالماء ويستقبل الشمس قائما، ثم يقوم ويسجد وهكذا، اثنتي عشرة سجدة، يقول في كل سجدة منها دعاء، ونهى أصحابه عن ذبح الحيوان لما فيه من إيلام، وأقر بنبوة عيسى وزردشت وقال: إني (ماني) النبي الذي بشر به عيسى.
وقد ذكر أن هرمز ملك الفرس اعتنق مذهبه وأيده، وأنه دخل في دينه كثير من الناس، فلما مات هرمز وخلفه بهرام الأول لم يرتح إلى تعاليمه وقتله وشرد أصحابه، ولكن لم تمت تعاليمه، كان لدينه أئمة يتعاقبون، وكان مركز الإمام أولا في بابل، ثم تحول إلى سمرقند، وقد قال ابن النديم: «إنه لما انتشر أمر الفرس وقوي أمر العرب عادوا إلى هذه البلاد - ولا سيما في فتنة الفرس، وفي أيام ملوك بني أمية - فإن خالد بن عبد الله القسري كان يعنى بهم، وآخر ما انجلوا من أيام المقتدر، فإنهم لحقوا بخراسان خوفا على نفوسهم، ومن بقي منهم ستر أمره، وقد قالوا في المواضع الإسلامية، فأما مدينة السلام فكنت أعرف منهم أيام معز الدولة نحو ثلاث مئة، وأما في وقتنا هذا فليس بالحضرة منهم خمسة أنفس» ثم عد بعضا من رؤسائهم الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، فعد منهم الجعد بن درهم، وكان مؤدبا لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ وكان خالد بن عبد الله القسري يرمى بالزندقة، وصالح بن عبد القدوس، وبشار بن برد، وسلم الخاسر، وقال: «قيل: إن البرامكة بأسرها إلا محمد بن خالد بن برمك كانت ترمى بالزندقة؛ وقرأت بخط بعض أهل المذاهب أن المأمون كان منهم وكذب في ذلك، وقد أصبحت رياستهم الآن في سمرقند».
وكذلك انتشرت في أوروبا إلى فرنسا الجنوبية، وقد ذكروا أن «سانت أوغسطين
St. Augustine » ظل مانويا عهدا طويلا قبل أن يعتنق النصرانية.
وكان للمانوية حركة أدبية في التأليف، وأثاروا كثيرا من المسائل جادلوا فيها من نشأتهم، فقد حكوا أن موبذ موبذان (قاضي القضاة) ناظر (ماني) فقال الموبذ: أنت الذي تقول بتحريم النكاح لتستعجل فناء العالم؟ فقال ماني: واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل؛ فقال الموبذ: فمن الحق الواجب أن يعجل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه، وتعان على إبطال هذا الامتزاج المذموم، فبهت ماني، فأمر بهرام به فقتل، كذلك حكوا أن المأمون ناظر أحد المانوية فقال : هل ندم مسيء على إساءته؟ قال: بلى، قد ندم كثير، قال: فخبرني عن الندم على الإساءة إساءة هو أم إحسان؟ قال: إحسان، قال: فالذي ندم هو الذي أساء؟ قال: نعم، قال: فأرى صاحب الخير هو صاحب الشر؛ وقد بطل قولكم إن الذي ينظر نظرة الوعيد غير الذي ينظر نظرة الرحمة؛ قال: فأزعم أن الذي أساء غير الذي ندم؛ قال: فندم على كل شيء كان من غيره أو على شيء كان منه؟ فقطعه بهذه الحجة.
وقد شغلت تعاليمهم جزءا غير قليل من علم الكلام عند المسلمين، يذكرون آراءهم ويعنون بالرد عليها، فضلا عن أن هؤلاء المانوية أثاروا مسائل كثيرة كالبحث في المعاد، هل هو بالأجسام أو بالأرواح، أخذ المسلمون يتجادلون فيها وينحازون إلى طوائف.
هناك مسألتان جديرتان بالبحث: (الأولي):
لم اضطهدت المانوية قبل الإسلام وفي الإسلام؟
وقد أشرنا إلى الجواب عنها فيما تقدم، فالذي دعا بهرام إلى قتله هو وأصحابه الناحية العملية؛ فقد كان زردشت يدعو إلى العمل، وكان في تعاليمه مؤيدا للقومية والنزعة الحربية، مما يتفق وميول فارس إذ ذاك، وعلى العكس من ذلك تعاليم ماني، فهي أميل إلى الزهد والرغبة عن ملاذ الحياة واستعجال الفناء، وهي - لا شك - في منتهى الخطورة لمملكة حربية كفارس، ويؤيد هذا ما جاء في الآثار الباقية: «أن بهرام قال: إن هذا خرج داعيا إلى تخريب العالم، فالواجب أن نبدأ بتخريب نفسه قبل أن يتهيأ له شيء من مراده»، أضف إلى ذلك أنهم فوق تعاليمهم هذه كانوا - على ما يظهر - جادين في الدعوة إلى مذهبهم، يتسترون بالإسلام أو النصرانية لتتسنى لهم الدعوة، ويكونوا بمأمن من الاضطهاد. (المسألة الثانية):
أنا نرى كلمة الزندقة كثيرا ما يوصف بها أتباع ماني، فهل هي خاصة بهم؟
الظاهر من عبارات ابن النديم أن الزنادقة كلمة تطلق على أصحاب ماني ومعتنقي مذهبه، وليست كلمة عامة تطلق على كل كافر أو ملحد، ونرى الخياط المعتزلي في كتابه «الانتصار» يستعملها للدلالة على فرقة خاصة قرينة لليهود والنصارى، فيقول مثلا: «قال ابن الراوندي: وزعم ثمامة أن أكثر اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة والدهرية يصيرون في القيامة ترابا، ولا يدخلون الجنة ... إلخ»، وقد استعمل الخياط هذه الكلمة في كتابه نحو خمس مرات كلها في مثل هذا التعبير.
ويقول ابن قتيبة في كتابه «المعارف» عند كلامه على أديان العرب في الجاهلية: «كانت النصرانية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة؛ وكانت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة؛ وكانت المجوسية في تميم منهم زرارة، وحاجب بن زرارة ومنهم الأقرع بن حابس، كان مجوسيا؛ وكانت الزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة» وظاهر من تعبيره هذا أن الزندقة التي يعنيها دين خاص من أديان الفرس بدليل قوله: إنهم أخذوها من الحيرة، والحيرة كانت تحت حكم الفرس كما علمت، وقريب من هذا ما قاله الجوهري في الصحاح: «الزنديق من الثنوية وهو معرب، والجمع الزنادقة، وقد تزندق، والاسم الزندقة»، فظاهر من هذا أن الزندقة مذهب خاص كاليهودية والنصرانية، وأن استعماله في معنى الإلحاد على العموم إنما هو معنى حدث بعد، جاء في لسان العرب: «الزنديق القائل ببقاء الدهر، فارسي معرب «زندكر» أي: يقول ببقاء الدهر، وقال أحمد بن يحيى: ليس في كلام العرب زنديق، فإذا أرادت العرب معنى ما تقوله العامة، قالوا: ملحد ودهري»، ولكن هل هو يطلق على كل الثنوية أو على مذهب خاص من الثنوية كالمانوية فقط؟ الظاهر من كلام ابن قتيبة أنه يطلق على مذهب خاص، بدليل أنه قابلها في كلامه بالمجوسي، فذكر أن تميما تمجست، وقريشا تزندقت، ولو كان يريد من الزندقة الثنوية على العموم لما كان هناك معنى للمقابلة، ويؤيده ما في الصحاح: «الزنديق من الثنوية» ولم يقل «الزنادقة الثنوية»، ولكن هل يطلق اللفظ على المانوية فقط؟ حكى الألوسي عن ابن الكمال أنه يطلق على المزدكية، وأن مزدك ألف كتابا اسمه «زند» وأن المزدكية غير المانوية، وهذا خطأ، فإن مزدك لم يضع، «زند»، وإنما شرح كتاب «افستا» لزردشت.
ويقول بعضهم: إن كلمة زنديق في الأصل، معناها بالفارسية الذي يتبع زند، ثم أطلق على المانوية؛ لأنهم كانوا يأخذون زند وغيره من الكتب المقدسة، ويشرحونها على مذهبهم بطريقة التأويل، ويقول الأستاذ «بيفان»: إنا نرى من كلام الفهرست، والبيروني أن المانوية يطلقون كلمة «السماعين» على من لم يرقوا إلى الدرجة العليا من المانوية، ولم يلتزموا أن يؤدوا كل الواجبات التي تفرضها الديانة من رهبانية وزهد ... إلخ، ويقابلهم «الصديقون» وهم الراقون الملتزمون بأداء تلك الواجبات، يفضلون الفقر على الغنى، ويزهدون في العالم وشئونه، وكلمة صديق عربية، ولها أصل آرامي وهو صديقي
Saddiqai
فقد أخذها الفرس فحوروها إلى زنديق فوضعوا ند
nd
موضع
dd
كما قالوا شنباذ
Shanbath
في سباذ
Sabbath
7
وعلى قوله تكون الكلمة وضعت لطائفة خاصة من المانوية ثم استعملت في المانوية جميعا، ثم استعملت في الإلحاد على العموم؛ كالذي روي عن أبي يوسف أنه قال: ثلاثة لا يسلمون من ثلاثة، من طلب النجوم لم يسلم من الزندقة، ومن طلب الكيمياء لم يسلم من الفقر، ومن طلب غرائب الحديث لم يسلم من الكذب
8 . (ج)
مزدك : حول سنة 487م ظهر في فارس مزدك، ويقول الطبري: إنه من أهل نيسابور، ودعا إلى مذهب ثنوي جديد، فكان يقول أيضا بالنور والظلمة؛ ولكن أكبر ما امتاز به «تعاليمه الاشتراكية»، فكان يرى أن الناس ولدوا سواء فليعيشوا سواء؛ وأهم ما تجب فيه المساواة المال والنساء، قال الشهرستاني: «وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ»، وقال الطبري: «قال مزدك وأصحابه: إن الله إنما جعل الأرزاق في الأرض ليقسمها العباد بينهم بالتآسي؛ ولكن الناس تظالموا فيها، وزعموا أنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأن من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة فليس هو بأولى به من غيره، فافترض السفلة ذلك واغتنموه، وكاتفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، وحملوا «قباذ» على تزيين ذلك وتوعدوه بخلعه، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى صاروا لا يعرف الرجل منهم ولده، ولا المولود أباه، ولا يملك الرجل شيئا مما يتسع به»، وقال في موضع آخر: «وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه، والتآسي في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به وحثهم عليه من الدين، كان مكرمة في الفعال، ورضا في التفاوض» ... إلخ
9 .
فترى من هذا أن تعاليمه اشتراكية من أسبق الاشتراكيات في العالم، ويقول الأستاذ «نولدكه»: «إن الذي يميز مزدك عن الاشتراكية الحديثة ما لتعاليمه من الصبغة الدينية» وكانت له تعاليم روحية أخرى، فقد كان يعلم القناعة والزهد، وحرمة الحيوان فلا يذبح.
وقد اعتنق مذهبه آلاف من الناس ولكن قباذ نكل به وبقومه، ودبر لهم مذبحة سنة 523م كاد يستأصلهم بها.
ومع هذا فقد ظل قوم يتبعون مذهبه، حتى إلى ما بعد الإسلام، وذكر الإصطخري وابن حوقل أن سكان بعض قرى كرمان كانوا يعتنقون المزدكية طول عهد الدولة الأموية.
ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذر الغفاري وبين رأي مزدك في الناحية المالية فقط، فالطبري يحدثنا أن أبا ذر: «قام بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء! واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس»، ثم بعث به معاوية إلى عثمان بن عفان بالمدينة حتى لا يفسد عليه أهل الشام، ولما سأله عثمان: ما لأهل الشام يشكون ذربك؟ قال: لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا، فترى من هذا أن رأيه قريب جدا من رأي مزدك في الأموال، ولكن من أين أتاه هذا الرأي؟ يحدثنا الطبري أيضا عن جواب هذا السؤال فيقول: «إن ابن السوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك، وأن ابن السوداء هذا أتى أبا الدرداء وعبادة بن الصامت فلم يسمعا قوله، وأخذه عبادة إلى معاوية وقال له: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر»
10
ونحن نعم أن ابن السوداء هذا لقب لقب به عبد الله بن سبأ، وكان يهوديا من صنعاء، أظهر الإسلام في عهد عثمان، وأنه حاول أن يفسد على المسلمين دينهم، وبث في البلاد عقائد كثيرة ضارة قد نعرض لها فيما بعد، وكان قد طوف في بلاد كثيرة: في الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر، فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق أو اليمن، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقادها، وصبغها بصبغة الزهد التي كانت تجنح إليها نفسه، فقد كان من أتقى الناس وأورعهم وأزهدهم في الدنيا، وكان من الشخصيات المحبوبة التي أثرت في الصوفية. •••
ومما كان يتصل بعقائد الفرس الدينية وكان له أثر في بعض المسلمين أنهم كانوا ينظرون إلى ملوكهم كأنهم كائنات إلهية اصطفاهم الله للحكم بين الناس، وخصهم بالسيادة وأيدهم بروح من عنده، فهم ظل الله في أرضه، أقامهم على مصالح عباده، وليس للناس قبلهم حقوق، وللملوك على الناس السمع والطاعة، وهو معنى يشبه ما عرف في أوروبا بنظرية «الحق الإلهي
Divine right
وسادت فيها في القرنين السادس عشر والسابع عشر»، ويقول الأستاذ «برون»: «لم تعتنق نظرية الحق الإلهي بقوة كما اعتنقت في فارس في عهد الملوك الساسانية»، وقد كان الأكاسرة يزعمون أن لهم الحق وحدهم أن يلبسوا تاج الملك بما يجري في عروقهم من دم إلهي، ويستدل الأستاذ «نولدكه» على اعتناق الفرس لهذه النظرية بحكاية وردت في كتاب «الأخبار الطوال»: «وهي أن «بهرام جوبين» - ولم يكن من بيت الملك، وقد طلب الملك وحارب كسرى أبرويز فهزمه كسرى فهرب - مر في طريقه بقرية، فنزلها في أصحاب له، ونزلوا في بيت عجوز، فأخرجوا طعاما لهم فتعشوا، وأطعموا فضلته العجوز، ثم أخرجوا شرابا، فقال بهرام للعجوز: أم عندك شيء نشرب فيه؟ قالت: عندي قرعة صغيرة ، فأتتهم بها فجبوا رأسها وجعلوا يشربون فيها، ثم أخرجوا نقلا، وقالوا للعجوز: أم عندك شيء يجعل عليه النقل؟ فأتتهم بمنسف
11
فألقوا فيه ذلك النقل، فأمر بهرام فسقيت العجوز: ثم قال لها: ما عندك من الخبر أيتها العجوز؟ قالت: الخبر عندي أن كسرى أقبل بجيش من الروم فحارب بهرام فغلبه، واسترد منه ملكه، قال: فما قولك في بهرام؟ قالت: جاهل أحمق يدعي الملك وليس من أهل بيت المملكة! قال بهرام: فمن أجل ذلك يشرب في القرع، ويتنقل من المنسف! فجرى مثلا في العجم يتمثلون به» اه.
وهو استدلال ليس بالقوي فيما نرى، فإن كل أسرة مالكة متى استمرت في الحكم أجيالا أكسبها ذلك الحق في الملك عند عامة الناس في كل أمة، وإن لم يقدسوا ملوكها.
وربما كان خيرا من هذا في تأييد هذا الرأي ما جاء في كتاب «التاج»: «من أن ملوك آل ساسان لم يكنها أحد من رعاياها قط، ولا سماها في شعر ولا خطبة ولا تقريظ ولا غيره، وإنما حدث هذا في ملوك الحيرة»
12 .
فالظاهر من هذا أن هؤلاء الملوك ترفعوا ورفعهم الشعب، حتى لم يكن من الأدب أن يجري على لسانه اسمهم ولا كنيتهم حتى ولا في الشعر. •••
هذه مذاهب الفرس الدينية، وقد ذابت في المملكة الإسلامية بعد الفتح، وكثير منهم أسلموا ولم يتجردوا من كل عقائدهم التي توارثوها أجيالا، وبمرور الزمان صبغوا آراءهم القديمة بصبغة إسلامية، فنظرة الشيعة في علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين من الملوك الساسانين، وثنوية الفرس كانوا منبعا يستقي منه «الرافضة» في الإسلام، فحرك ذلك المعتزلة لدفع حجج الرافضة وأمثالهم؛ أضف إلى ذلك أن تعاليم زردشت، وماني، ومزدك، كانت تظهر من حين لآخر بين المسلمين في أشكال شتى، في أواخر الدولة الأموية والدولة العباسية، واضطر المسلمون أن يجادلوهم ويدفعوا حججهم، ويؤيدوا دينهم بالمنطق والبرهان.
وكانت إثارة هذه المسائل أحيانا تقسم المسلمين أنفسهم إلى فرق، فينحازون إلى مذاهب ويتجادلون فيما بينهم، مما أدى إلى نشأة علم الكلام في الإسلام كما سنبينه بعد.
الفصل التاسع
الأدب الفارسي
كانت لغة الفرس في عهد الدولة الساسانية هي اللغة الفهلوية، و«زند» الذي هو شرح للأفستا مكتوب بهذه اللغة، وكان لهذا الكتاب الديني أثر في حفظها، ولكن لم يصل إلى عصرنا هذا كثير من ثروة الفرس الأدبية الفهلوية التي كانت منتشرة في الدولة الساسانية وصدر الإسلام، والسبب في ذلك أن دين الإسلام ظفر بدين زردشت وحل محله، كما حلت اللغة العربية والحروف العربية محل اللغة الفهلوية والحروف الفهلوية، فذهاب الحكومة الفارسية ودينها، وحكمها بالعرب، وتحولها من مملكة إلى ولايات إسلامية، ودخول كثير من الفرس في الإسلام، واضطرارهم إلى تعرف اللغة العربية، للدين أو للدنيا أو لهما معا، وازدراء المسلمين لبيوت النيران التي هي شعائر الثنوية؛ كل هذا عرض الديانة الفارسية واللغة الفهلوية للاضمحلال ثم الفناء.
ومع هذا فقد وصلت إلينا بقية قليلة من اللغة الفهلوية، فهناك أحجار صخرية عليها نقوش فهلوية تتضمن أسماء ملوك ونبذا من تاريخ حياتهم، يرجع عهدها إلى أوائل الملوك الساسانيين، وهناك كتب فهلوية فر بها البرسيون إلى الهند عند الفتح الإسلامي كما أسلفنا، وأكثرها ديني، وهذا هو السر في بقائها في يدهم.
وكذلك بقي - من غير الكتب الدينية - قطعة كبيرة من قانون فارس في عهد الدولة الساسانية، تتضمن الكلام على الأحوال الشخصية كالزواج، وعلى الملكية وعلى الرق، وغير ذلك؛ وكتاب في صناعة تحرير المراسلات وما يحسن في بدئها وفي ختامها، وآداب المراسلات الرسمية؛ ومعجم للغة الفهلوية القديمة؛ وتاريخ خيالي للشطرنج؛ وسير لبعض ملوك الفرس.
ولم يصل إلينا شيء من شعر الدولة الساسانية - على عظمة كثير من ملوكها وحاجتهم إلى من يتغنى بمدائحهم - فهل اكتفى الفن بتعبيراته بالحفر والنقش والبناء والغناء، أو عبر أيضا بالشعر، ولكن عدا عليه الشعر العربي فقتله؟ نحن إلى الثاني أميل.
ومع قلة ما وصل إلينا من الأدب الفارسي، فالظاهر أنه وصل إلى المسلمين في العصور الأولى الإسلامية كتب كثيرة فارسية؛ فكثيرا ما يقول ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار: «وفي كتب العجم كذا» و«قرأت في كتاب «إبرويز» إلى ابنه «شيرويه» وهو في حبسه»؛ وكثيرا ما ينقل صاحب كتاب التاج في أخلاق الملوك عن الفرس وآدابهم وكتبهم.
وقد أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي من وجوه : (الأول):
أن كثيرا ممن دخلوا في الإسلام اضطروا - كما أسلفنا - إلى تعلم اللغة العربية، وسرعان ما ظهر منهم ومن نسلهم شعراء؛ وقد ظهر منهم في الدولة الأموية عدد ليس بالقليل، ومن أشهرهم «زياد الأعجم» وأصله ومولده ومنشؤه بأصبهان، ثم انتقل إلى خراسان ولم يزل بها حتى مات
1 ، وكان شاعرا جزل الشعر؛ وسمي الأعجم لهذا الذي ذكره في الأغاني: وهو أنه كان يجري على لغة أهل بلاده؛ ولم يكن يطاوعه لسانه أن ينطق بالحروف العربية، فكان يقول: «ما كنت تسنأ» في (ما كنت تصنع)؛ وإذا كان يقول الشعر عن تعلم لا عن سليقة، فقد كان كثير اللحن في شعره كقوله:
إذا قلت قد أقبلت أدبرت
كمن ليس غاد ولا رائح
وكان ينبغي أن يقول غاديا ولا رائحا
2 .
ومن أشهر هؤلاء الشعراء الفرس أيضا أسرة ابن يسار النسائي
3 ، فهي أسرة فارسية شاعرة، اشتهر منها إسماعيل بن يسار، ومحمد، وإبراهيم؛ وللثلاثة شعر يغنى به؛ وكلهم ذو نزعة فارسية، يتعصب للعجم وينقم من العرب.
ومنهم أبو العباس الأعمى، وأصله من أذربيجان، وموسى شهوات، وأصله كذلك من أذربيجان، إلى كثير غيرهم.
هؤلاء وأمثالهم نشئوا نشأة فارسية، وتأدبوا بالأدب الفارسي، ثم صاغوا أدبهم في القالب العربي فأحكموا التقليد؛ فألفاظهم عربية وتراكيبهم عربية وأوزانهم عربية، ولكن هذا لا يمنع أن بعض المعاني الفارسية والخيال الفارسي والروح الفارسي، كان يتسرب إلى نفوسهم ثم إلى شعرهم، ولو أنا عثرنا على نماذج من الأدب والشعر الساساني، لأمكن بوضوح المقارنة بين الأدبين، وشرح الاقتباس كيف كان؛ ولكن مع فقد الأدب الفارسي، فإنا نلمح في شعر هؤلاء الذين سمينا معاني جديدة، ونزعات جديدة، نذكر لك أمثلة منها، فقد سجعت حمامة بجانب زياد فقال:
تغني أنت في ذممي وعهدي
وذمة والدي إن لم تطاري
وبيتك أصلحيه ولا تخافي
على صفر مزغبة صغار
فإنك كلما غنيت صوتا
ذكرت أحبتي وذكرت داري
فإما يقتلوك طلبت ثأرا
له نبأ؛ لأنك في جواري
وذكروا أن حبيب بن المهلب لما سمع هذا الشعر قتل حمامته، فاستعدى زياد عليه المهلب فحكم له بدية جارته، أفلست ترى معي أن هذا الشعور
4
على هذا النحو جديد لم أعرفه للعرب قبل؟ ولعل عليه مسحة مانوية من حماية الحيوان.
وقد أسلفنا أن ابن يسار وإخوته كانوا شعوبيين، يقول أبو الفرج في إسماعيل بن يسار: «إنه كان مبتلى بالعصبية للعجم والفخر بهم، فكان لا يزال مضروبا محروما مطرودا»، فخليق بمثل هذه الأسرة أن تتعصب أيضا للأدب الفارسي، كما كانت تنزع النزعة الفارسية، فمن قول إسماعيل يفخر على العرب:
رب خال متوج لي وعم
ماجد مجتدى كريم النصاب
إنما سمي الفوارس بالفر
س مضاهاة رفعة الأنساب
فاتركي الفخر يا أمام علينا
واتركي الجور وانطقي بالصواب
واسألي - إن جهلت - عنا وعنكم
كيف كنا في سالف الأحقاب
إذ نربي بناتنا وتدس
ون سفاها بناتكم في التراب
ولإسماعيل هذا قصيدة طويلة لطيفة، تقرأ فيها روح القصص الفارسي وجودة التسلسل المنطقي، مطلعها:
كلثم أنت الهم يا كلثم
وأنتمو دائي الذي أكتم
أكاتم الناس هوى شفني
وبعض كتمان الهوى أحزم
قد لمتني ظلما بلا ظنة
وأنت فيما بيننا ألوم
وفيها يقول:
لا تتركيني هكذا ميتا
لا أمنح الود ولا أصرم
أوفي بما قلت ولا تندمي
إن الوفي القول لا يندم
ثم يقول:
أخافت المشي حذار العدى
والليل داج حالك مظلم
ودون ما حاولت إذ زرتكم
أخوك والخال معا والحم
وليس إلا الله لي صاحب
إليكم والصارم اللهذم
حتى دخلت البيت فاستذرفت
من شفق عيناك لي تسجم
ثم انجلى الحزن وروعاته
وغيب الكاشح والمبرم
إلى آخر الأبيات
5 ، ولإبراهيم أخيه كذلك شعر يعتز فيه العجم، ويفخر به على العرب.
أضف إلى هذا أن كثيرا من الشعراء والأدباء والشعراء من العرب كانوا ينزلون فارس أو العراق، ويخالطون أهله، ويرون مدنيته فيكون لها الأثر في شاعريتهم، فكان ينزل العراق الطرماح والكيمت وأبو النجم الراجز، وجرير، والفرزدق، وكان ينزل خراسان نهار بن توسعة وثابت قطنة وابن مفرغ الحميري والمغيرة بن حبناء وغيرهم، ولا يخفى ما للبيئة من تأثير في النفس والخيال. (الثاني):
من وجوه تأثير الأدب الفارسي: الناحية اللغوية، فقد علمت أن العرب في جاهليتها كانت غنية في شئون الحياة البدوية وما يتصل بها، فلما فتحوا فارس وكثيرا من بلاد الروم رأوا من أدوات الزينة والترف ما لم يكونوا قد رأوا، ورأوا من الحرف الدقيقة والفنون الجميلة ما لم يعهدوه، كما رأوا من تنظيم الحكومة وتدوين الدواوين ما لم يكن يخطر لهم على بال، فاضطروا أن يقتبسوا من الأمم المفتوحة ألفاظا يدخلونها في لغتهم، وكانت اللغة الفارسية أقرب منبع يستمدون منه ما يحتاجون إليه، فأخذوا منهم الكوز والجرة والإبريق والطست والخوان والطبق والقصعة والخز والديباج والسندس والياقوت والفيروز والبلور والكعك والفالوذج واللوزينج والفلفل والزنجبيل والقرفة والنرجس والنسرين والسوسن والعنبر والكافور والصندل والقرنفل والبستان والأرجوان والقرمز والسراويل والإستبرق والتنور والجوز واللوز والدولاب والميزان والزئبق والباشق والجاموس والطيلسان والمغنطيس والمارستان والصك وصنجة الميزان والصولجان والكوسج ونوافج المسك والفرسخ والبند - وهو العلم الكبير - والزمرد والآجر والجوهر والسكر والطنبور
6 ... إلخ، ونظرة عامة إلى هذه الأسماء تريك أن العرب اضطروا إلى أخذ كلمات فارسية في كل مرفق من مرافق الحياة، ولا بد أن يكونوا قد أخذوا منهم تراكيب للجمل جديدة ومعاني جديدة وخيالا جديدا، ولكن من العسير تعيين ما أخذوه من هذا النوع بالدقة؛ لأن المعاني والخيال وما إليهما مما يسرق وقل أن يضبط، ولم تسجل أمة معانيها وخيالاتها كما تسجل ألفاظها. (الثالث):
الحكم: كان للفرس أثر كبير في الأخلاق الإسلامية والآداب من ناحية حكمهم، ذلك أن الأخلاق الإسلامية تأثرت بثلاثة مؤثرات: أولها - التعاليم الدينية كالتي وردت في القرآن:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ،
اعدلوا هو أقرب للتقوى ،
لا تظلمون ولا تظلمون ،
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، إلى كثير من أمثال ذلك، وكالتي وردت في الأحاديث: «أحب لأخيك كما تحب لنفسك»، وكما روي من تعاليم الديانات السابقة كالتوراة والإنجيل وأمثال سليمان ونحو ذلك، ثانيها - فلسفة اليونان، وذلك بما نقل منها في العصر العباسي، ومن الأمثلة على ذلك ما تقرؤه في كتاب ابن مسكويه من شرح نظرية أرسطو في أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، ومن نظرية أفلاطون في أسس الفضائل الأربعة، وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدل، ونحو ذلك، ثالثها - وهو الذي يهمنا هنا - نوع من الحكم والجمل القصيرة تصاغ صوغ الأمثال، أو حكايات تنقل فيها أخبار الملوك ووزرائهم ووعاظهم والحكماء في زمنهم، وما جرى على ألسنتهم، وهذا النوع غمر كتب الأدب، وتأثرت به الأخلاق في الإسلام أكثر من تأثرها بالفلسفة اليونانية؛ ذلك لأنه أقرب إلى العقل العربي؛ فقد أبنت لك قبل أن العقل العربي لا يميل كثيرا إلى البحث المنظم المفصل، ويفضل أن تركز تجارب السنين الطويلة في الكلمات القصيرة، وتؤلف من ذلك جمل، كل جملة في معنى خاص، فكلمة في الشجاعة، وكلمة في الكرم، وثالثة في الوفاء، فأما أما تذكر الشجاعة وتفصل وينظر إليها من جميع نواحيها وفي الأسباب الباعثة عليها ونحو ذلك، فهذا بعيد عن الذوق العربي والعقل العربي وهو بالعقل اليوناني أشبه، ومن أجل هذا لما عثر العربي على هذا النوع من الحكم أعجب به ونقله وأضافه إلى ما كان له في الجاهلية، وكان للفرس في ذلك الشيء الكثير، إما مبتكر من عند أنفسهم، أو منقول من الهند عن طريقهم؛ وأوضح مثل لذلك الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع الفارسي، هذا في العصر العباسي، وقبله في العصر الأموي كانت هذه الحكم تنقل ويتداولها العلماء، ويتأدب بها الناس، كما ترى في كثير من كلمات الحسن البصري الفارسي، وتجد كثيرا منها في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، وسراج الملوك للطرطوشي، والتاج والعقد الفريد.
ومما يلاحظ هنا أن الذوق العربي في هذا النوع من الحكم يشبه مشابهة تامة الذوق الفارسي؛ فالحكم التي تنسب لأكثم بن صيفي في الجاهلية والإمام علي في الإسلام، والتي تنسب لسادات العرب كالأحنف بن قيس، وروح بن زنباع، تشبه في قوالبها وصيغها واتجاه النظر فيها ما يروى في كتب الأدب عن بزرجمهر، وإبرويز، وموبذ موبذان ونحوهم، حتى لقد عقد ابن عبد ربه فصلا في كتابه العقد الفريد تحت عنوان: «أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر»، ولم يبين ما لكل منهما، فكان من الصعب التمييز في أكثرها بين ما هو لأكثم وما هو لبزرجمهر
7 .
والآن أقص عليك نموذجا صغيرا من هذه الحكم الفارسية: (1)
قال بزرجمهر: «إذا اشتبه عليك أمران، فلم تدر في أيهما الصواب فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه». (2)
كتب إبرويز إلى ابنه شيرويه: «اجعل عقوبتك على اليسير من الخيانة كعقوبتك على الكثير منها، فإذا لم يطمع منك في الصغير لم يجترأ عليك في الكبير، وأبرد البريد في الدرهم ينقص من الخراج، ولا تعاقبن على شيء كعقوبتك على كسره، ولا ترزقن على شيء كرزقك على إزجائه، واجعل أعظم رزقك فيه، وأحسن ثوابك عليه، حقن دم المزجي وتوفير ماله، من غير أن يعلم أنك أحمدت أمره حين عف واعتصم من أن يهلك». (3)
قال كسرى ليوشت المغني وقد قتل فهلوذ: «في رواية الأغاني فهليذ» حين فاقه وكان تلميذه: «كنت أستريح منه إليك ومنك إليه، فأذهب شطر تمتعي حسدك، ونغل صدرك»، ثم أمر أن يلقى تحت أرجل الفيلة، فقال: «أيها الملك إذا قتلت أنا شطر طربك وأبطلته، وقتلت أنت شطره الآخر وأبطلته، أليست تكون جنايتك على طربك كجنايتي عليه؟»، قال كسرى: «دعوه! ما دله على هذا الكلام إلا ما جعل له من طول المدة». (4)
قال كسرى: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع». (5)
قال أردشير بن بابك: إن للآذان مجة، وللقلوب مللا، ففرقوا بين الحكمتين. (6) «في سير العجم: أن رجلا وشى برجل إلى الإسكندر، فقال: أتحب أن نقبل منه عليك ومنك عليه؟ قال: لا، قال: فكف الشر يكف عنك الشر».
إلى كثير من أمثال ذلك شحنت بها كتب الأدب. (الرابع):
هناك أمر آخر فارسي، كان له أثر كبير في حياة الأدب العربي، ذلك هو الغناء؛ فالظاهر أن العرب أخذوا كثيرا من النغمات الفارسية، ووقعوا عليها شعرهم العربي، قال أبو الفرج في كتابه الأغاني: «إن الغناء العربي لم يكن يعرف في زمان عمر بن الخطاب، إلا ما كانت العرب تستعمله من النصب والحداء، وذلك جار مجرى الإنشاد، إلا أنه يقع بتطريب وترجيع يسير ورفع للصوت»
8 .
وقال: «سعيد بن مسجح ... مولى بني جمح ... مكي أسود مغن متقدم، من فحول المغنين وأكابرهم، وأول من صنع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية، وانقلب إلى فارس، فأخذ بها غناء كثيرا وتعلم الضرب، ثم قدم إلى الحجاز، وقد أخذ محاسن تلك النغم، وألقى منه ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في نغم غناء الفرس والروم، خارجة عن غناء العرب، وغنى على هذا المذهب، فكان أول من أثبت ذلك، ولحنه وتبعه الناس بعده».
وحكى رواية أخرى وهي: «أن مسجع مر بالفرس وهم يبنون المسجد الحرام فسمع غناءهم بالفارسية فقلبه إلى شعر عربي:
ألمم على طلل عفا متقادم ... الأبيات».
وحكى «أن مولى ابن مسجح سمعه يتغنى، فسأله: أنى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تتغنى بالفارسية فثقفتها وقلبتها في هذا الشعر، قال له: فأنت حر لوجه الله، فلزم مولاه وكثر أدبه، واتسع في غنائه ومهر بمكة».
وفي رواية ثالثة عن صفوان الجمحي عن أبيه قال: «أول من نقل الغناء الفارسي إلى الغناء العربي سعيد بن مسجح مولى بني مخزوم، وذلك أن معاوية بن أبي سفيان لما بنى دوره ... جعل لها بنائين فرسا من العراق، فكانوا يبنونها بالجص والآجر، وكان سعيد بن مسجح يأتيهم فيسمع من غنائهم على بنيانهم، فما استحسن من ألحانهم أخذه ونقله إلى الشعر العربي، ثم صاغ على نحو ذلك»
9 .
وذكر في موضع آخر: «أن ابن محرز كان أبوه من سدنة الكعبة، أصله من الفرس، وكان أصفر أجنأ طويلا، وكان يسكن المدينة مرة ومكة مرة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلم الضرب من عزة الميلاء، ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر، ثم يشخص إلى فارس فيتعلم ألحان الفرس، ثم صار إلى الشام فتعلم ألحان الروم وأخذ غناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها فمزج بعضها ببعض، وألف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع بمثله، كان يقال له: صناج العرب، وهو أول من غنى بزوج من الشعر، وعمل ذلك بعده المغنون اقتداء به، وكان يقول: الأفراد لا تتم بها الألحان، وذكر أنه أول ما أخذ الغناء أخذه عن ابن مسجح»
10 .
وقال ابن خرداذبه: «كان عبد الله بن عامر اشترى إماء نائحات، وأتى بهن إلى المدينة، فكان لهن يوم في الجمعة يلعبن فيه، وسمع الناس منهن؛ ثم قدم رجل فارسي يعرف بنشيط فغنى، فأعجب عبد الله بن جعفر به، فقال له: «سائب خاثر» وهو مولى أيضا من فيء كسرى: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسي، وقد صنع «لمن الديار رسومها قفر»، قال ابن الكلبي: «وهو أول صوت غني في الإسلام من الغناء العربي»
11 .
ترى من هذا كيف كان للفرس أثر كبير في النغمات العربية وفي التوقيع، وليس هذا يهمنا كثيرا الآن؛ لأنه ألصق بالفن، ولكن الذي يهمنا فوق هذا أن العرب نقلوا أيضا عن الفرس صورة مجالس الغناء والاجتماع لسماعه، فكانت - عدا أنها مجالس للغناء - مجالس للأدب يصفى لها الشعر ويرقق حتى يتفق والذوق الموسيقي: أضف إلى هذا ما كانت تستتبعه هذه المجالس من محاضرات أدبية، وقصص جميل، وفكاهات رائقة وتنادر ممتع، وتسابق بين الشعراء والأدباء للظهور فيها، ونيل الحظوة، وناهيك بما كان لهذه المنتديات الأدبية من فضل على الأدب، ومباراة في تهذيبه وتجديده.
ودليلنا على نقل هذه المجالس عن الفرس ومحاكاة العرب لهم ما ذكره صاحب التاج (أخلاق الملوك) من حديث طويل نقتصر منه على ما يهمنا؛ فقد عقد بابا سماه باب المنادمة قال فيه: ولنبدأ بملوك الأعاجم إذ كانوا هم الأول في ذلك، وعنهم أخذنا قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية وإلزام كل طبقة حظها، والاقتصار على جديلتها (شاكلتها). ثم ذكر ما كان يفعله ملوك العجم مع الندماء من تقسيمهم إلى طبقات ومراتب، ومجلس كل طبقة من هؤلاء، وقال: «وكانت ملوك الأعاجم من لدن أردشير بن بابك إلى يزدجرد تحتجب عن الندماء بستارة، فكان يكون بينه وبين أول الطبقات عشرون ذراعا؛ لأن الستار من الملك على عشرة أذرع، والستار من الطبقة الأولى على عشرة أذرع، وكان يأتيهم الأمر من الملك بما يفعلون وما يغنون»، ثم قال: «قلت لإسحاق بن إبراهيم: هل كانت الخلفاء من بني أمية تظهر للندماء والمغنين؟ قال: أما معاوية، ومروان، وعبد الملك، وسليمان، وهشام، ومروان بن محمد فكان بينهم وبين الندماء ستارة، وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة إذ طرب للمغني والتذه، حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه ويرقص ويتجرد حيث لا يراه إلا خواص جواريه، إلا أنه كان إذا ارتفع من خلف الستارة صوت أو نعير طرب أو رقص أو حركة بزفير تجاوز المقدار، قال صاحب الستارة: حسبك يا جارية، كفي، انتهي، أقصري، يوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري، فأما الباقون من خلفاء بني أمية فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا ويتجردوا ويحضروا عراة بحضرة الندماء والمغنين»
12
وقد ذكر بعد مجالس الخلفاء العباسيين مما ليس من موضوعنا:
إذا كان للخلفاء مجالس للغناء واللهو، وثبت أن هذه المجالس أخذت عن الفرس، وأنت إذا قرأت في كتاب الأغاني رأيت الولاة وعظماء الدولة كانت لهم كذلك مجالس هي صورة مصغرة لمجالس الخلفاء، بل تفوقها في حرية القائلين والمغنين والسامعين، وإطلاق كل منهم القول على سجيته، وأترك لك تقدير ما لهذا من تأثير في الأدب والفن. (الخامس):
يظهر لنا أنه في أواخر عهد الدولة الأموية حول الفرس الكتابة العربية إلى نمط آخر لم يكن يعرفه العرب، وهو نوع الكتابة التي اشتهر بها عبد الحميد الكاتب ومدرسته؛ فقد كان عبد الحميد كاتب مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، ويقول صاحب العقد: «إنه كتب لعبد الملك بن مروان وليزيد، ثم لم يزل كاتبا لخلفاء بني أمية حتى انقضت دولتهم»، ويقول ابن خلكان : «إنه كان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماما ... وعنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا، ولآثاره اقتفوا ... وهو أول من أطال الرسائل واستعمل التحميدات في فصول الكتب، فاستعمل الناس ذلك بعده»
13
وقال الشريشي في شرح المقامات: «إنه أول من فتق أكمام البلاغة وأسهل طرقها، وفك رقاب الشعر» ووصيته للكتاب - إن صحت - تدلنا على أنه كان الآخذ بزمامهم والراسم لهم طريقهم.
ودليلنا على أن منحاه في الكتابة ذو صبغة فارسية ما حكاه ابن خلكان من «أن عبد الحميد من الموالي وأصله من الأنبار»
14
وحكي أيضا «أنه أخذ الكتاب عن سالم مولى هشام بن عبد الملك»، وأصرح من هذا في الدلالة ما حكاه أبو هلال العسكري في كتابه «ديوان المعاني» قال: «فمن تعلم البلاغة بلغة من اللغات ثم انتقل إلى لغة أخرى أمكنه فيها من صنعة الكلام ما أمكنه في الأولى؛ وكان عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها من اللسان الفارسي، فحولها إلى اللسان العربي؛ ويدلك على هذا أيضا أن تراجم خطب الفرس ورسائلهم هي على نمط خطب العرب ورسائلها، وللفرس أمثال مثل أمثال العرب معنى وصنعة، وربما كان اللفظ الفارسي في بعضها أفصح من اللفظ العربي»
15
ثم ذكر أمثالا بنصها الفارسي وما يقابلها في اللغة العربية وفاضل بينها.
فلعلك تقر معي في هذا أن الأدب الفارسي صبغ الأدب العربي صبغة جديدة، وربما كان أدق من ذلك أن تقول إنهما «تفاعلا».
هذا مختصر النواحي التي كان لها أثر للفرس في حياة العرب الأدبية، أما أثرهم في تدوين العلوم، ومن نبغ منهم من علماء في الفروع المختلفة، فسنعرض له في موضع آخر.
مصادر هذا الباب
اعتمدنا في الفصل الأول - عدا ما ذكرنا من الكتب العربية أثناء البحث على: (1)
Browne, A Literary History of
. (2)
Sykes, A History of Persia . (3)
Levy, Bersian Literature (4)
Iqbal, The Development of Metophysics in
. (5)
دائرة المعارف البريطانية في مادة
Zoroaster
و«ماني» و«مزدك». (6)
Every man, Encyclopaedia. .
وفي الفصل الثاني اعتمدنا على ما ذكر من الكتب العربية أثناء البحث.
الجزء
التأثير اليوناني - الروماني
الفصل العاشر
النصرانية
فتح المسلمون البلاد وهي مملوءة بالنصارى في مصر وبلاد المغرب والأندلس والشام، وكانت النصرانية عند الفتح منقسمة إلى جملة طوائف، أشهرها في الشرق ثلاثة: اليعاقبة، وكانت منتشرة في مصر والنوبة والحبشة، والنساطرة
1 : وكانت منتشرة في الموصل والعراق وفارس. والملكانية: وكانت منتشرة في بلاد المغرب وصقلية والأندلس والشام، وكان بين هذه المذاهب جدال في العقائد الدينية؛ فاليعاقبة كانوا يرون أن المسيح هو الله، وأن الله والإنسان اتحدا في طبيعة واحدة هي المسيح؛ والملكانية والنساطرة قالوا: إن للمسيح طبيعتين متميزتين: الطبيعة اللاهوتية والطبيعة الناسوتية، وإن اختلفت الطائفتان فيما عدا ذلك من التفاصيل، وقد استمر الخلاف بين هذه الفرق في: هل اللاهوتية وما للناسوتية من إرادة وفعل متحدتان في المسيح، أو مختلفتان؟ قالت اليعاقبة بالأولى، وقالت النساطرة: إن للمسيح ناسوتية لها إرادة، ولها فعل يختلف كل الاختلاف عن العنصر اللاهوتي
2 ، واختلفوا في تصوير اتحاد اللاهوت بالناسوت، فقال اليعاقبة: كاتحاد الماء يلقى في الخمر فيصيران شيئا واحدا، وقالت النسطورية: كاتحاد الماء يلقى في الزيت، فكل واحد منهما باق بحسبه، وقالت الملكانية: كاتحاد النار في الصفيحة المحماة
3 .
وقد سقنا هذا لنبين أن الفرق النصرانية المنتشرة في البلاد التي فتحها المسلمون كانت مختلفة، وكانت تتجادل في العقيدة في الله جدالا شديدا، والقرآن نفسه حكى شيئا عن بعض أقوال هذه الفرق ورد عليها، فقال:
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، وقال يخاطب عيسى:
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك .
ولم يقتصر النزاع بين النصارى على العقيدة في الله، بل اختلفوا في مسائل أخرى كثيرة: هل ينزل المسيح قبل يوم القيامة أو لا ينزل؟ وهل الحشر يكون للأرواح والأبدان أو للأرواح فقط؟ وهل صفات الله زائدة عن ذات الله، أو هي هي؟ ومن النسطورية من كان يقول بالقدر خيره وشره؛ إلى غير ذلك من أقوال تسرب منها إلى المسلمين كثير وأثار بينهم الجدل، وحق قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة»، وسترى أثر ذلك واضحا في الفرق الإسلامية.
وقد لجأت النصرانية إلى الفلسفة اليونانية لتستعين بها على الجدل، ولتؤيد تعاليمها وعقائدها أمام الوثنيين - أولا - ثم أمام المسلمين أخيرا، فكان كثير من رجال الدين فلاسفة كالأب أوغسطينوس (354-430م)، وكانت الإسكندرية هي المركز الجغرافي لمزج الدين بالفلسفة ، فبعد أن كانت مدينة المتحف، والمدينة المعروف عن أهلها النقد وسعة الاطلاع، أصبحت مجمع المذاهب الفلسفية والطوائف الدينية، فسهل الاتصال والامتزاج، والتقى على ضفاف النيل رجال مختلفة آراؤهم، متباينة مذاهبهم، تبادلوا فيها الآراء كما كانت تتبادل السلع، فاتسعت دائرة الفكر، وقورن بين الآراء المختلفة، وكان من نتيجة ذلك ظهور روح جديد أسس على مبدأين متناقضين ممتزجين أحدهما الشك والنقد، والثاني سرعة التصديق، تقابلت في الإسكندرية آراء الشرقيين والغربيين «اليونان» فامتزج روح اليونان بروح المشارقة، فأنتجا عقائد ونظما دينية متأثرة بأمل الأولين وإلهام الآخرين، بما لليونان من علم، وما للمشارقة من أساطير، جاء الروح اليوناني بما له من ذكاء ودقة وقدرة على الشرح المبين، فأصابته شرارة من الشرق أشعلته وأحيته، كذلك أخرج الروح الشرقي - الذي من خصائصه الطموح إلى ما وراء عالم الشهادة - نظاما ملتئما ونظريات مرتبة لم يكن ليخرجها لولا مساعدة العلم اليوناني له، فإنه رتب مأثور الشرقيين وحل من عقد لسانهم، فاستخرجوا العقائد الدينية والنظم الفلسفية التي بلغت الذروة في مذاهب الغنوسطية والأفلاطونية الحديثة، ويهودية فيلون، ومذهب الإشراك الذي وضعه يوليان الصابي، إن الشرقي بما له من ميل إلى الغرب وخوارق العادات، وما في طبيعته من تصوف وتدين، واليوناني بما له من فحص دقيق وبحث عميق، وإن شئت فقل: إن ما للأول من شعور، وما للثاني من تحليل منطقي امتزجا، ونتج منهما فكر خاص انتشر في الإسكندرية في القرون الأولى للميلاد، وقد صبغ ذلك الفكر بصبغتين مختلفين: صبغة الكماليين والصوفيين، وصبغة أهل البحث العلمي، ولذا امتاز هذا العصر بميل الفلسفة إلى الدين، وميل الدين إلى الفلسفة
4 .
الفصل الحادي عشر
الفلسفة اليونانية
في العصور الأولى للمسيح ظهر في الإسكندرية المذهب المعروف «بالأفلاطونية الحديثة»، وكان لهذا المذهب أثر كبير في فلاسفة المسلمين وعلماء الكلام وخاصة المعتزلة والصوفية.
مؤسس هذه المذهب «أمنيوس سكاس» كان أول أمره حمالا، ثم صار معلم فلسفة في الإسكندرية، وقد ولد من أبوين نصرانين، ولكنه صبأ إلى الدين اليوناني القديم، وهو أول المعلمين الإسكندريين الذين حاولوا التوفيق بين تعاليم أفلاطون وأرسطو، ولم يؤثر عنه أي كتاب، ولذلك كانت معلوماتنا عن تعاليمه قليلة، ومات سنة 242 م، ويعد تلميذه «أفلوطين» منظم هذا المذهب وأكبر مؤيديه والمدافعين عنه، بل ربما عد هو مؤسسه، وقد ولد سنة 205م في ليكوبوليس
Licopolis (أسيوط) وتعلم في الإسكندرية ولازم أمنيوس نحو إحدى عشرة سنة، وقد التحق بحملة سارت لغزو فارس، لتعرف علوم الفرس والهنود، وسافر إلى رومة سنة 245 م، وأسس بها مدرسة للفلسفة ومات سنة 270 م، والعرب لم تعرف كثيرا عن أفلوطين هذا، ولكن تعرف مدرسته وتطلق عليها «مذهب الإسكندرانيين»، ويطلق عليه الشهرستاني «الشيخ اليوناني»، وقد نقل إليهم كثير من فلسفته معزوة خطأ إلى غيره، وقد ألف أفلوطين كتبا كثيرة حفظت عنه، ويطلق عليها اسم (التاسوعات) «إنيد
Enneads »؛ وتفرع مذهبه إلى فروع كثيرة، فكان منه فرع في الإسكندرية، وفرع في الشام، وفرع في أثينا، وله آراء في الطبيعة لا تهمنا الآن، وله آراء في الإلهيات نذكر طرفا منها:
يقول: إن هذا العالم كثير الظواهر، دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه، بل لا بد لوجوده من علة سابقة عليه هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم واحد غير متعدد، لا تدركه العقول ولا تصل إلى كنهه الأفكار، لا يحده حد، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه، فوق المادة وفوق الروح وفوق العالم الروحاني، خلق الخلق ولم يحل فيما خلق، بل ظل قائما بنفسه مسيطرا على خلقه، ليس ذاتا، وليس صفة، هو الإرادة المطلقة، لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له.
كيف نشأ عنه العالم؟ وكيف صدر هذا العالم المركب المتغير من البسيط الذي لا يلحقه تغير؟ كان هذا العالم غير موجود ثم وجد، فهل يمكن أن يصدر عن الخالق ذلك من غير أن يحصل تغير في ذاته؟ كيف يصدر هذا العالم الفاني من الله غير الفاني؟ هل صدر هذا العالم من الصانع عن روية وتفكير أو من غير روية؟ ولم وجد الشر في العالم؟ ما النفس وأين كانت قبل حلولها بالبدن وأين تكون بعد فراقه؟
هذه المسائل وأشباهها كانت من أهم المسائل التي شغلت أفلوطين ومدرسته، وثار حولها الجدل وذهبوا فيها مذاهب يخرج بنا شرحها عما رسمنا، وإنما أشرنا إليها لنبين فيم كان هذا العالم العلمي يبحث، ولنستطيع بعد أن نعرف أثرهم.
وكان هذا المذهب الإسكندري في أول أمره يميل إلى البحث والتفكير العقلي المحض، ثم أخذ يناصر الوثنية اليونانية، ويقاوم النصرانية، ثم انحدر إلى أن اقتصر على الشغف بالاطلاع على المغيبات، وخوارق العادات، والاعتداد بالسحر، والتصرف بالأسماء والطلاسم، والكهانة والتنجيم والدعوات والعزائم، ونحو ذلك.
ولما انتصرت النصرانية وجاء «جوستنيان» أغلق مدارس الفلسفة في أثينا، واضطهد الفلاسفة، فمنهم من فر (ومن هؤلاء سبعة سافروا إلى فارس فاستقبلهم كسرى أنوشروان، واحتفى بهم وأنزلهم منزلا كريما، وجعل من شروط الصلح مع حوستنيان أن يعنى بهم، وكان هؤلاء السبعة من فلاسفة الأفلاطونية الحديثة)؛ ومنهم من تنصر، وبعض المتنصرين أخرجوا كتبا في الأفلاطونية الحديثة مصبوغة بالصبغة النصرانية، ككتاب ديونيسوس، ألفه أفلاطوني مجهول - في منتصف القرن السادس للمسيح - باسم ديونيسوس، ادعى أنه من تلاميذ بولس الحواري، وقد شرح أسرار الربوبية ودرجات عالم الملكوت والكنيسة السماوية على المذهب الأفلاطوني، فصار من ذلك الوقت عمدة للنصارى في ذلك
1 ، ثم دخل هذا المذهب في الإسلام عن طريق فريق من المعتزلة والحكماء والصوفية، ومنهم أخذت جل أفكارهم جماعة «إخوان الصفا» وغيرهم.
السريانيون: قام السريانيون بنشر الفلسفة اليونانية - وخاصة مذهب الأفلاطونية الحديثة - في العراق وما حوله، وأخذوا ينقلون الكتب اليونانية إلى لغتهم السريانية، وهي إحدى اللغات الآرامية - انتشرت فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها - وكان من أهم مراكزها الرها (Edessa)
ونصيبين، وفوق هذا كانت هي لغة الأدب والعلم لجميع كتاب النصرانية في أنطاكية وما حولها، وللنصارى الخاضعين لدولة الفرس، وأنشئت في هذه الأصقاع مدارس دينية متعددة كانت تعلم فيها اللغة السريانية واليونانية جميعا في الرها وفي نصيبين وفي جنديسابور.
بل كانت اللغة السريانية أيضا لغة الوثنية وآدابها؛ وأشهر مراكز الوثنية السريانية مدينة حران (في جنوبي الرها)، وقد ظلت هذه المدينة مركزا للديانة الوثنية والثقافة اليونانية إلى ما بعد الإسلام؛ فكانوا بعد الفتح الإسلامي يدرسون الرياضة والفلك والفلسفة على المذهب الأفلاطوني، وهم الذين تسموا - بعد ذلك - في عصر المأمون وبعده بالصابئين؛ وكان منهم كثيرون من المؤلفين، ومن تولوا الترجمة بعد. •••
وقد عاشت الآداب السريانية من القرن الثالث الميلادي إلى القرن الرابع عشر؛ ولكن حياتها بعد الفتح الإسلامي كانت حياة ضعيفة لغزو اللغة العربية لها وغلبتها.
وبقي لنا من الأدب السرياني مجموعة في مختلف أنواع الكتابة، ولكن الذي بقي منها إنما هو من المدرسة النصرانية لا الوثنية؛ فهناك كتب في الصلوات والأدعية الدينية والأقاصيص التاريخية، والتاريخ العام، والفلسفة، والعلوم، وكلها مصبوغ بالصبغة الدينية؛ لأن أكثر الكتاب كانوا قسيسين ورهبانا، وهناك قليل من الآثار الأدبية نظما ونثرا.
وخدم السريانيون العلم والفلسفة بما ترجموا أكثر مما ألفوا، فلم يبتكروا كثيرا.
وحفظت اللغة السريانية بعض الكتب اليونانية التي فقد أصلها، وكانت ترجمتهم لكتب الفلسفة اليونانية هي الأساس الذي اعتمد عليه العرب والمسلمون أول أمرهم، وقد كانت الترجمة السريانية في عهدها الأول ترجمة حرفية تقريبا، ثم تحرر الكتاب المتأخرون من حرفية الترجمة.
وكان هؤلاء السريانيون ينقلون العلوم اليونانية بدقة وأمانة فيما لم يمس الدين، كالمنطق والطبيعة والطب والرياضة، أما الإلهيات ونحوها فكانت تعدل بما يتفق والمسيحية، حتى لقد حولوا أفلاطون في كتابتهم إلى راهب شرقي، فقالوا: إنه بنى لنفسه معبدا في برية بعيدا عن الناس، وظل يتعبد فيه سنين؛ وهذه هي الطريقة التي سلكها المسلمون بعد، فقد أغفلوا من الإلهيات كثيرا مما يخالف تعاليم الإسلام، ولم يقتصر السريانيون على الترجمة من اليونان، بل ترجموا كذلك من الفهلوية فترجموا منها تاريخ الإسكندر، نقله الفرس عن اليونانية، ثم نقله السريانيون من الفهلوية وكذلك ترجموا كليلة ودمنة إلى السريانية في القرن السادس الميلادي، وقصة السندباد في القرن الثامن .
ومن أشهر رجال الدين والأدب من السريانيين الذين يعرفهم المسلمون بارديصان أو ابن ديصان
Bardaisan (مات سنة 222م)، وديصان اسم نهر نسب إليه، وله مذهب ديني مزج فيه الثنوية بالنصرانية كما فعل ماني، وكان ينكر بعث الأجسام، ويقول: إن جسد المسيح لم يكن جسما حقيقيا بل صورة شبهت للناس أرسلها الله تعالى. وله تعاليم كثيرة بقيت بعد ظهور الإسلام، ومنها استمد الرافضة بعض أقوالهم، وانتسب إليه بعضهم كأبي شاكر الديصاني وأخذ علماء الكلام في الرد عليهم، وهم يكتبون عن أتباعه تحت اسم «الديصانية»،
ومن أشهرهم أيضا سرجيس الرسعني من مدينة «رأس عين»، وقد مات سنة 536 م، وهو من أشهر المتأدبين بالآداب اليونانية وترجم منها إلى السريانية كتبا كثيرة بعضها محفوظ إلى عهدنا في المتحف البريطاني، منها رسائل لأرسطو ولفورفوريوس ولجالينوس، وألف رسالة في المنطق ليست كاملة تبحث في المقولات العشر، والإيجاب والسلب، والجنس والفصل ... إلخ، وألف رسالة أخرى في تأثير القمر وفي حركة الشمس، وقد انتشرت كتبه بين اليعاقبة والنساطرة وعدوه عمدتهم في المنطق والطب.
وألف غير سرجيس كثيرون - في هذا العصر - في النفس والقضاء والقدر والنحو، وفي أن الإنسان عالم صغير وفي تركب الإنسان من جسم وروح ... إلخ.
ولما فتح المسلمون هذه البلاد في القرن السابع الميلادي أسلم بعض السريانيين، وظل بعضهم محافظا على دينه يدفع الجزية، ولكن الآداب السريانية على الجملة أخذت في الضعف، ومع ذلك فقد نبغ كثير منهم في العصر الأموي والعباسي، وظلت المدارس السرياينة مفتوحة في عهد الدولة الأموية كما كانت، ولم يكن الخلفاء والأمراء يتدخلون في شئونهم إلا عندما يحتدم النزاع الديني بينهم فيلجأ بعضهم إلى الولاة يستنصرهم.
واشتهر من هؤلاء في العصر الأموي يعقوب الرهاوي (640-708م تقريبا) وقد ترجم كثيرا من كتاب الإلهيات اليونانية، وليعقوب هذا أثر كبير الدلالة، فقد أثر عنه أنه أفتى رجال الدين من النصارى بأنه يحل لهم أن يعلموا أولاد المسلمين التعليم الراقي، وهذه الفتوى تدل من غير شك على إقبال بعض المسلمين في ذلك العصر على دراسة الفلسفة عليهم ، وتردد النصارى أولا في تعليمهم.
ولما جاء دور نقل الفلسفة والعلوم إلى العربية في العهد العباسي، كان لهؤلاء السريانيين الفضل الأكبر في الترجمة، أمثال حنين بن إسحاق، وابنه إسحاق، وابن أخته حبيش، مما نعرض إليه في موضعه إن شاء الله.
الآن نستطيع أن نفهم أن الثقافة اليونانية كانت منتشرة في العراق والشام والإسكندرية، وأن المدارس انتشرت فيها على يد السريانيين، وأن هذه المدارس وهذه التعاليم أصبحت تحت حكم المسلمين، وامتزج هؤلاء المحكومون بالحاكمين على الشرح الذي شرحته، فكان من نتائج هذا أن تشعت هذه التعاليم في الملكة الإسلامية، وتزاوجت العقول المختلفة، كما تزاوجت الأجناس المختلفة، فنتج من هذا التزاوج الثقافة العربية أو الإسلامية، ونتجت المذاهب الدينية والفلسفة الإسلامية والحركات العلمية والفنون الأدبية.
والعرب أنفسهم اتصلوا بهذه الثقافات من قديم؛ فالقفطي في كتابه «أخبار الحكماء» يحدثنا «أن الحارث بن كلدة كان من ثقيف من أهل الطائف، رحل إلى أرض فارس، وأخذ الطب عن أهل تلك الديار من أهل جنديسابور وغيرها في الجاهلية قبل الإسلام، وجاد في هذه الصناعة، وطب بأرض فارس، وعالج، وشهد أهل بلد فارس - ممن رآه - بعلمه، واشتهر طبه بين العرب، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يأمر من كانت به علة أن يأتيه فيسأله عن علته، وسمية مولاته هي أم زياد بن أبيه».
وابن أبي أصيبعة يقول في كتابه «طبقات الأطباء»: إن النضر بن الحارث بن كلدة ابن خالة النبي
صلى الله عليه وسلم
سافر البلاد كأبيه واجتمع مع الأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأحبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة أشياء جليلة القدر، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه أيضا ما كان يعلمه من الطب وغيره، وكان النضر يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي
صلى الله عليه وسلم ، واعتقد النضر أنه بمعلوماته وفضائله يستطيع أن يقاوم النبوة، «وأين الثريا من الثرى».
وبعد الإسلام استمر هذا الاتصال، فهم يحدثوننا أن خالد بن يزيد بن معاوية «كان من أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صنعة الكيمياء والطب، وكان بصيرا بهذين العلمين متقنا لهما، وله رسائل دالة على معرفته وبراعته، وأخذ الصنعة عن رجل من الرهبان يقال له مريانس المذكور، وصورة تعلمه منه، والرموز التي أشار إليها»
2
ويقول ابن النديم: «إن خالدا عني بإخراج كتب القدماء في الصنعة وكان خطيبا شاعرا فصيحا حازما، وهو أول من ترجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء، وقد رأيت من كتبه كتاب الحرارات، كتاب الكبير، كتاب الصحيفة الصغير، كتاب وصيته إلى ابنه في الصنعة»
3
ومات خالد سنة 85ه أو 704م.
من هذا جميعه نرى أن الثقافة اليونانية - كالثقافة الفارسية - كانت مبثوثة بين المسلمين في البلدان المختلفة، وكان منالها منهم قريبا، وأنهم أخذوا يستفيدون منها ويتعلمونها على المثقفين بها - ولو لم يكونوا على دينهم - كما تدلنا عليه فتوى يعقوب الرهاوي.
أضف إلى هذا أنه في ذلك العصر، وجد الاحتكاك الديني بين المسلمين والنصارى، فأخذوا يتحادثون ويتحاجون في العقائد؛ ويدلنا على ذلك أن أحد المؤلفين - في هذا العصر - واسمه يحيى الدمشقي ألف رسالة على هذا النمط: «إذا قال لك العربي كذا فأجبه بكذا».
إذا فمن الخطأ البين الفكرة الشائعة أن العرب والمسلمين جميعا كانوا بمعزل عما حولهم من الثقافات والأديان إلى العصر العباسي، وأن آراءهم وآدابهم وعلومهم نبتت وحدها من عقول عربية، من غير أن تغذى بغيرها؛ فقد رأينا أنهم - حتى في جاهليتهم - لم يكونوا بمعزل، وأنهم كانوا بعد الإسلام أكثر اتصالا، ولا يقدح هذا في أية أمة، فالعلم ملك شائع، ومرفق مباح يغترف منه الناس جميعا، وليس له حدود فاصلة كالتي ترسمها السياسة الدولية، وإنما الذي يقدح في الأمة حقا أن تغمض عيونها، وتسد آذانها عما حولها من نظريات وأفكار، أو أن يدفعها التعصب الأعمى أن تنسب لنفسها ما ليس لها، وتعزو إليها خلق ما لم تخلق، وابتداع ما لم تبتدع.
الفصل الثاني عشر
الأدب اليوناني والروماني
كان لليونان أدب غزير المادة متنوع الموضوع؛ فقصص خرافية عن آلهتهم الأقدمين، وشعر وصفي قصصي يصف حروبهم وأبطالهم، يسمى شعر الملاحم
Epic
كالإلياذة والأوذيسة .
وشعر غنائي
Lyric
يصفون فيه مشاعرهم، ويتعرضون فيه للمدح والفخر والحماسة والغزل والرثاء؛ ونحو ذلك مما تعرض له الشعر العربي.
وشعر تمثيلي
Dramatic
يتخيلون فيه وقعة حربية أو نحوها كما يتخيلون رجالها، ثم يعمدون إلى تصوير الحوادث، ويضعون على لسان رجالها ما يتناسب مع شخصياتهم.
ولهم في هذه الأنواع كلها الشيء الكثير، الذي أثر في الأدب العربي قديمه وحديثه، ونبغ منهم شعراء عدة في بلادهم وفي مستعمراتهم، وبقي من شعرهم إلى يومنا هذا ما يكفي لتصوير ذلك تصويرا بديعا.
ولهم غير الشعر كتابة راقية وخطابة، وأبحاث وافية منظمة في الكتابة والخطابة وعلم البيان، كالذي ترى في أبحاث أرسطو؛ ولهم مؤرخون أمثال هيرودوتس وتوسيديد، كتبوا التاريخ ونظموه بالقدر الذي يسمح به عصرهم.
ولما ذهب سلطانهم وأصبحوا إقليما رومانيا ضعفت آدابهم، ولكن ظل أهم ما وصلوا إليه محفوظا يتغذى به الرومانيون - على نحو ما كان بين الفرس والعرب - وظهر في هذا العصر أدباء ومؤرخون أمثال بلوتارك، ولوسيد.
ولكن هل تأثر العرب والمسلمون بهذه الآداب في هذا العصر - أعني العصر الأموي - كما تأثروا بالفلسفة اليونانية؟
يظهر لنا أن التأثير الأدبي كان ضعيفا، فإنا نرى الشعر العربي في العصر الأموي ظل حافظا لكيانه، يترسم الطريق الذي خطه له الشعر الجاهلي في بحوره وفي قافيته، حتى في موضوعاته؛ كانوا مقصرين في الجاهلية في شعر الملاحم وفي الشعر التمثيلي، فظلوا كذلك حتى في العصر العباسي.
ومن العسير العثور على معان يونانية وردت في شعرهم، ونفتش في هذا العصر عن شاعر أصله يوناني أو روماني تعلم العربية وشعر بها، فلا نجد، مع أنا وجدنا كثيرا - فيما سبق - من أصل فارسي أصبحوا شعراء في العربية؛ ونجد مؤرخي المسلمين في ذلك العهد تأثروا في طريقة تدوين الحوادث بالنمط الفارسي لا بالنمط اليوناني، ويتجلى ضعف التأثير اليوناني في العرب بضعف معلومات المسلمين عن الحياة الأدبية اليونانية حتى في العصر العباسي؛ فتاريخ اليونان عندهم يبتدئ بالإسكندر الأكبر أو قبله بقليل - امتلائه بالأساطير الخرافية - ولم يسمعوا كثيرا بتوسيديد؛ وقد سمعوا قليلا عن هوميروس، واستشهدوا منه بشيء قليل مقتضب مضطرب كالذي نراه في الشهرستاني، والكشكول لبهاء الدين العاملي.
وعلى الجملة يظهر لنا أن الآداب الفارسية كانت أكثر تأثيرا في الأدب العربي من الآداب اليونانية.
وعلة ذلك - على ما يبدو لنا - أن العرب وهم العنصر الحاكم كانوا متعصبين جد التعصب لشعرهم، لا يسمحون فيه بابتكار أو تحوير في الأساس؛ فنظم البيت، وبحر الشعر، وقافية القصيدة ونحو ذلك، أشياء مقدسة لا يصح أن تمس بسوء؛ بل الموضوعات التي يقال فيها الشعر كذلك، فتحرير القافية من قيودها الثقيلة، وزيادة بحر على البحور التي قال فيها الجاهليون، مهما كانت موسيقى البحور الجديدة مطربة، والقول في موضوعات جديدة لم تؤلف؛ كل هذه كانت في نظرهم انتهاكا لحرمة الأدب، بل هم كانوا حريصين في تقاليدهم على ما دون ذلك، ولعل خير ما يمثل هذا ما جاء في طبقات الشعر لابن قتيبة: «وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج على مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكي على مشيد البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة
1
والعرار، قال خلف الأحمر: قال لي شيخ من أهل الكوفة: أما عجبت من الشاعر قال: أنبت قيصوما وجثجاثا، فاحتمل له، وقلت أنا: أنبت إجاصا وتفاحا، فلم يحتمل لي؟!
وليس له أن يقيس على اشتقاقهم فيطلق ما لم يطلقوا، قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجل: ترافع العز بنا فارفنععا، فقلت: ليس هذا شيئا، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول: تقاعس العز بنا فاقعنسسا، ولا يجوز لي!»
2
فترى من هذا إلى أي حد وصل العرب في المحافظة على تقاليد من قبلهم، حتى يلجئهم ذلك إلى أن يصفوا ناقة وبعيرا، وهم إنما يركبون بغلا وحمارا؛ ويدعوا أن الأرض أنبتت قيصوما وجثجاثا، وهي إنما أنبتت إجاصا وتفاحا؛ ولا يبيحوا؛ لأنفسهم أن يشتقوا كلمة قياسا على اشتقاق مثيلها، فهؤلاء لا يكون لهم من الحرية ما يسمح لهم بأن يدخلوا ملاحم لم يكن يعرفها آباؤهم، أو شعرا تمثيليا ينبو عنه ذوقهم، والفرس إنما أثروا بشيء من معانيهم وخيالاتهم؛ لأنهم هم الذين انتقلوا للعربية ولم تنتقل العربية إليهم، وإذ كان اليونان والرومان لم ينتقلوا إلى العربية كما أسلفنا لم يكن أثرهم فيهم كبيرا.
وسبب آخر دعا إلى تأثرهم بالفارسية أكثر من اليونانية؛ ذلك أن دولة الفرس ذابت في المملكة العربية، وكانت حياة الفرس الاجتماعية تحت أعين العرب يعرفون عنها الكثير، فاستطاعوا أن يتذوقوا شيئا من أدبهم؛ أما الحياة اليونانية فكانت بعيدة كل البعد عن معيشة العرب، ولم تكن تحت أعينهم لينظروها: آلهة تخالف كل المخالفة تعاليم دينهم، ونظم سياسية واجتماعية لا عهد لهم بها، وأنواع من اللهو لم يألفوها، والأدب كما علمت إنما هو صورة منعكسة للمعيشة الاجتماعية، فكان لزاما ألا يتذوق العرب الأدب اليوناني ويتأثروا به.
ولا يفوتنا - مع هذا - أن نشير إلى أشياء ثلاثة يونانية كان لها أثر في الأدب العربي: (الأول):
كلمات أخذها العرب من اليونانية كالقسطاس (الميزان) والسجنجل (المرآة) والبطاقة (الرقعة) والقسطل (الغبار) والقنطار والبطريق والترياق والنقرس والقولنج (مرضان)، ورووا «أن عليا رضي الله عنه سأل شريحا مسألة فأجابه، فقال له: قالون: أصبت بالرومية»
3
إلى غير ذلك من الألفاظ. (الثاني):
ما كان من أثر في الشعر لشعراء النصرانية في الإسلام، أمثال الأخطل والقطامي، وحتى هؤلاء أثر النصرانية في شعرهم قليل، حتى يقول: «الأب لامانس» نفسه: «إن أثر النصرانية في ديوان الأخطل أثر ضعيف، ونصرانيته نصرانية سطحية، ككل العقائد الدينية بين البدو». (الثالث):
وهو أكثرها تأثيرا الحكم اليونانية، وهذا النوع عني به السريانيون من قبل العرب، فنقلوا منه عن اليونانية الشيء الكثير، ثم أخذه العرب لما كان يتفق وذوقهم الأدبي، فنقل إلى العرب حكم نسبت لسقراط وأفلاطون وأرسطو وأمثالهم، بعضها تصح نسبتها إليهم، وبعضها ليست من أقوالهم عزيت إليهم؛ كالذي رووا عن أفلاطون أنه قال : «إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات»، وقال: «من فضيلة العلم أنك لا تستطيع أن يخدمك فيه أحد، كما يخدمك في سائر الأشياء، وإنما تخدمه بنفسك، ولا يستطيع أحد أن يسلبه إياك كما يسلبك غيره من المقتنيات»، وقال: «لا يضبط الكثير من لا يضبط نفسه الواحدة» ... إلخ، وقال أرسطو: «اعلم أنه ليس شيء أصلح للناس من أولي الأمر إذا صلحوا، ولا أفسد لهم ولأنفسهم منهم إذا فسدوا؛ فالوالي من الرعية بمنزلة الروح من الجسد الذي لا حياة له إلا بها»، وقال: «لن يسود من يتبع العيوب الباطنة من إخوانه»، وقال سقراط: «النفس الخيرة مجتزئة بالقليل من الأدب؛ والنفس الشريرة لا ينجح فيها كثير من الأدب، لسوء معرسها»، وقال: «العقول مواهب والعلوم مكاسب».
ورووا أن أوميروس جاءه رجل فقال له: اهجني لأفتخر بهجائك؛ إذ لم أكن أهلا لمديحك، فقال له: لست فاعلا، قال: فإني أمضي إلى رؤساء اليونان فأشعرهم بنكولك، قال أوميروس مرتجلا: بلغنا أن كلبا حاول قتال أسد بجزيرة قبرص فامتنع عليه أنفة منه، فقال له الكلب: إنني أمضي فأشعر السباع بضعفك! قال له الأسد: لأن تعيرني السباع بالنكول عن مبارزتك أحب إلي من أن ألوث شاربي بدمك... إلخ، إلخ.
وزاد هذا النقل من حكم اليونان على توالي الأيام حتى أفردت لها الكتب كما فعل «ابن هندو» في كتابه، ورأيت رسالة طبعت في الجوائب جمعت فيها حكم نسبت لأفلاطون لم يذكر مؤلفها، وذكر أنها نقلت من نسخة مخطوطة سنة 893ه، وكتب الأدب مشحونة بضروب من هذه الأمثال.
الخلاصة
عقلية عربية لها طبيعة خاصة هي نتاج بيئتها، وعيشة اجتماعية خاصة يعيشها العرب في جاهليتهم، ودين إسلامي أتى بتعاليم جديدة ورسم للحياة مثلا أعلى يخالف المثل الذي كانت ترسمه تقاليد الجاهلية، وفتح إسلامي مد سلطانه على فارس وما حولها، وعلى مستعمرات رومانية كثيرة، فأذاب ما كان للفرس من دين ومدنية وعلم، وما كان للمستعمرات الرومانية من دين ومدنية وعلم، في المملكة الإسلامية جميعها؛ وكون منها مزيجا واحدا مختلف العناصر، كل هذه الأشياء التي عددناها كانت أسبابا لها نتائجها، ومن نتائجها ما كان من حركة علمية ودينية في ذلك العصر، أعني العصر الذي ينتهي بانتهاء الدولة الأموية؛ فهو الذي يعنينا الآن، وإذ كنا قد شرحنا بإيجاز هذه الأسباب، فلنشرح بإيجاز كذلك هذه النتائج، ولنقسمها قسمين: الحركة العلمية، وحركة العقائد الدينية.
مصادر هذا الباب
اعتمدنا في هذا الباب على: (1)
Boer, History of Philosophy in islam . (2)
Dresser, History of Ancient and medieval philosophy . (3)
Macdonald, Development of Muslim Theology . (4)
O’leary Arabic Thought . (5)
دائرة المعارف البريطانية في مادة «الآداب السريانية». (6)
محاضرات الأستاذ سانتلانا في الجامعة المصرية.
هذا عدا ما ذكرناه من الكتب العربية أثناء البحث.
الجزء
الحركة العلمية وصفها ومراكزها
الفصل الثالث عشر
وصف الحركة العلمية إجمالا
نستعمل هنا الحركة العلمية بأوسع معانيها، ونعني بها كل ما عني المسلمون بالتفكير فيه تفكيرا منظما نوعا ما، من تشريع وتفسير وحديث وتاريخ وسير، وما إلى ذلك، ولسنا نستثني إلا حركة العقائد الدينية، وسنفرد لها بابا خاصا؛ والحركة الأدبية وقد كتب فيها جزء خاص، والآن ننظر نظرة عامة في الحركة العلمية من عهد الإسلام إلى سقوط الدولة الأموية.
الأمية: تركنا العرب في الجاهلية، وليس لهم علم ولا فلسفة، ولم يكن من بينهم من يصح أن يسمى عالما إلا قليل، وعلى تجوز في إطلاق كلمة عالم، كالذي حكينا عن الحارث بن كلدة والنضر بن الحارث.
وقد كان الجهل فاشيا فيهم، والأمية شائعة بينهم - خصوصا في الأقطار البدوية - لما قدمنا من أن الكتابة والعلم إنما يكثران حيث يكثر العمران، ويقول ابن خلدون: «إن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، وهؤلاء تعلموا من الحميريين».
وسواء صح هذا أو لم يصح، فالحجازيون والمصريون عموما كانوا أشد بداوة وأكثر أمية، حتى يروي لنا البلاذري في كتابه «فتوح البلدان»: «أن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية، وخالد بن سعيد أخوه، وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وأبو سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت، ومن حلفاء قريش العلاء بن الحضرمي»
1
وقليل من نسائهم كن يكتبن، كحفصة وأم كلثوم من زوجات النبي
صلى الله عليه وسلم
والشفاء بنت عبد الله العدوية، وكانت عائشة أم المؤمنين تقرأ المصحف ولا تكتب
2
وكذلك أم سلمة، فإذا كانت قريش - وشأنها في الحجاز ما بينا قبل من تقدمها في الشئون التجارية - ليس فيها إلا سبعة عشر كاتبا، كان الكاتبون في غيرها من القبائل المضرية أندر، ويروي البلاذري أيضا «أن الكتاب (يريد الكتابة) بالعربية، في الأوس والخزرج كان قليلا، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون، وقد عدهم فكانوا أحد عشر»
3
ولندرة الكتابة كانوا يلقبون من جمع بين معرفة الكتابة والرمي والعوم «الكامل»، فلقبوا بهذا اللقب سعد بن عبادة، وأسيد بن حضير وعبد الله بن أبي
4 ، وقد رأيت فيما قبل أنه في الجاهلية لقب به سويد بن الصامت.
فلما جاء الإسلام استكتب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعض هؤلاء الذين يعرفون الكتابة لكتابة ما ينزل من القرآن، فكان أول من كتب له مقدمه المدينة أبي بن كعب الأنصاري، فكان أبي إذا لم يحضر دعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زيد بن ثابت الأنصاري، فكتب له؛ فكان أبي وزيد يكتبان الوحي بين يديه وكتبه إلى من يكاتب من الناس ومن يقطع وغير ذلك، وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم ارتد ... إلخ
5 ، ثم كتب له
صلى الله عليه وسلم
عثمان بن عفان، وشرحبيل بن حسنة، وأبان بن سعيد، وخالد بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، ويروي الواقدي أن حنظلة بن الربيع كتب بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مرة فسمي حنظلة الكاتب.
وحتى هؤلاء الذين كانوا يكتبون الوحي لم يكونوا مهرة في الكتابة، ولا كتابتهم سائرة على نمط واحد، ولا خاضعة لقوانين الإملاء، فكتبوا «لا أذبحنه» بزيادة ألف، وكذلك «لا أوضعوا»، وكتبوا «بأييد» بياءين، وكتبوا «امرأت فرعون» و«قرت عين لي ولك» بتاء مفتوحة، وحذفوا الألفات من مواضع دون مواضع مع تساويها في نظر الإملاء، وسبب ذلك - كما يعلله ابن خلدون - ضعفهم في صناعة الخط، وأنهم لم يبلغوا حد الإجادة فيها.
أثر الإسلام في الحركة العلمية: وجاء الإسلام فأفاد الحركة العلمية من وجوه: (الأول):
أن نشر الدين كان يستتبع الحاجة إلى القارئين الكاتبين، فقد كانت آيات القرآن تكتب ويتلوها من يعرف القراءة على من لم يعرف، وقد جاء في حديث إسلام عمر: «أنه عمد إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها «طه» يقرئها إياها»؛ فكان طبيعيا أن يشجع النبي
صلى الله عليه وسلم
على تعلم الكتابة؛ وقد ورد أنه في غزوة بدر «كان فداء بعض الأسرى الذين يكتبون أن يعلموا عشرة من صبيان المدينة الكتابة»، ورأى بعض المسلمين أنهم في حاجة إلى الكتابة ليعرفوا دينهم على الوجه الأكمل.
بل حث النبي
صلى الله عليه وسلم
بعض أصحابه أن يتعلموا لغة غير اللغة العربية، لما دعت الحاجة إلى ذلك - بعد انتشار الإسلام - ففي «البخاري» عن زيد بن ثابت قال: «أتي بي النبي
صلى الله عليه وسلم
مقدمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأت عليه فأعجبه ذلك، فقال: تعلم كتاب (كتابة) يهود، فإني ما آمنهم على كتابي، ففعلت، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إليهم؛ وإذا كتبوا إليه قرأت له»، وفي حديث آخر: «عن زيد بن ثابت قال: قال لي النبي
صلى الله عليه وسلم : إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا، فتعلم السريانية، فتعلمتها في سبعة عشر يوما».
ولما فتحت البلاد كان العنصر العربي هو العنصر الحاكم، فكان لا بد له أن يتعلم وأن يقرأ ويكتب، فكثرت القراءة والكتابة وخاصة في عهد التابعين.
كذلك هؤلاء الداخلون في الإسلام من غير العرب اضطروا إلى تعلم العربية لدينهم ولدنياهم، حتى اضطروا أن يتعلموا النحو لإصلاح لغتهم، كما نقلنا ذلك عن أبي عبيدة.
أضف إلى ذلك أن الفتح الإسلامي استتبع الحضارة، فبنيت - في عهد عثمان ومن بعده - الدور والقصور وشيدت بالكلس، وجعلت أبوابها من الساج، واقتنى كثير من الصحابة الأموال والجنان والعيون، كالزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد، وهذا من غير شك يستتبع رقي الصناعة ومنها الكتابة. (الثاني):
مما أثر به الإسلام في الحركة العلمية أنه نشر بين العرب كثيرا من التعاليم التي أبناها من قبل، فرفعت مستواهم العقلي كما نشر بينهم كثيرا من أحوال الأمم الأخرى وتاريخها، بإطناب أحيانا وبإيجاز أحيانا، حسبما يدعو إليه موقف العظة، فقص علينا قصة آدم ونوح وإبراهيم ويوسف وموسى ويونس وداود وسليمان وغيرهم عليهم السلام، وشيئا من أخبار أممهم، في أسلوب جذاب، هيج النفوس إلى الاستزادة، وتعرف ما عند الأمم الأخرى منها - كاليهود والنصارى - فكان في ذلك من الثقافة، أفاد المسلمين ووسع مداركهم.
ثم شرح أحكاما في الزواج والطلاق والشئون المدنية والجنائية، كانت قانونا نظم أمور المسلمين في معيشتهم الاجتماعية والاقتصادية، واتخذه الفقهاء والمشرعون مرجعهم يستنبطون منه الأحكام، ويستهدونه فيما يعرض من حوادث جديدة خلقتها مدنيتهم، فكان ذلك أساسا لحركة تشريعية واسعة، نعرض لوصفها فيما بعد.
ذلك عدا ما له من أثر لغوي ولساني، موضعه قسم آخر من الكتاب. (الثالث):
وشيء آخر للإسلام كان له أثر كبير في الحياة العقلية، وهو أنه سلك في دعوته إلى الإيمان بالله وصفاته من علم وقدرة ووحدانية مسلكا يثير العقل، وهو الدعوة إلى النظر إلى ما في العالم من ظواهر:
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ،
فلينظر الإنسان مم خلق ،
فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم ،
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ،
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ،
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ؛ إلى كثير من أمثال هذا.
هذا الضرب من الآيات بعث العقل على النظر في الكون، وكان له أثر في نمو الحياة العقلية.
ولعل هذا - أعني النظر في الكون للاستدلال منه على الله وصفاته - هو الذي كان يطلق عليه القرآن الحكمة، فقد قال تعالى:
ولقد آتينا لقمان الحكمة ، ونحن إذا قرآنا ما ورد في القرآن من أقوال وجدناها من هذا النوع، وقال:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وسمى موضع العظة حكمة:
ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر * حكمة بالغة فما تغن النذر ، وسمى ما أوحى الله به إلى محمد حكمة لهذا فقال:
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ... إلخ، وقد سئل مالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له
6 .
وكذلك لفظ العلم؛ فالقرآن لم يستعمل الكلمة بالمعنى الذي استعمل بعد، حين تقول: «علم النحو» أو «علم الفقه» وهو ما يقابل كلمة
Science ، وإنما استعملها - على ما يظهر - بمعنى المعرفة بأوسع معانيها:
وفوق كل ذي علم عليم ،
ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا .
وهو بهذا المعنى يطلق حتى على المعارف الدنيوية، كما ورد على لسان قارون:
قال إنما أوتيته
7
على علم عندي ؛ أي: معرفة بطرق كسب المال، ولكن أكثر ما يستعمل في هذا النوع من المعرفة الذي يوصل إلى الهداية، كأنه هو المعرفة التي يعتد الله بها، فهو في هذا قريب من معنى الحكمة الذي ذكرنا
إنما يخشى الله من عباده العلماء ،
ولقد آتينا داوود وسليمان علما ،
ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ... إلخ.
وصف الحركات العلمية وأشهر القائمين بها: إذا نظرنا إلى الحركات العلمية في صدر الإسلام إلى آخر الدولة الأموية وجدناها اتجهت ثلاثة اتجاهات: حركة دينية، ونعني بها البحث في الشئون الدينية من تفسير القرآن وحديث وتشريع؛ وما إلى ذلك؛ وحركة في التاريخ والقصص والسير ونحوها؛ وحركة فلسفية في منطق وكيمياء وطب وما إليها، ونعيد هنا ما ذكرنا قبل، من أنا إذا قلنا حركة علمية فلسنا نعني علوما منظمة لها أبواب وفصول، فذلك ما لم يصل إليه هذا العصر، وإنما نعني النواة التي تكونت حولها العلوم بعد، وسنصف هذه الحركات الثلاث وصفا إجماليا:
الحركة الدينية: : كانت هذه الحركة أكبر الحركات وأوسعها نطاقا، فقد أقبل الناس على القرآن يفهمون معانيه، ويفسرون آياته، ويستنبطون منه الأحكام، وكذلك فعلوا في الحديث.
وقد بدأت هذه الحركة في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذت في الاتساع بعده، وقام أصحابه بقسط وافر منها.
وبديهي أن أصحاب رسول الله كانوا مختلفين اختلافا كبيرا في درجتهم العلمية، كاختلافهم في الفضائل الأخرى؛ فكان بعضهم أشجع من بعض، وبعضهم أكرم من بعض، كذلك كان بعضهم أعلم من بعض، جاء في الحديث أن رسول الله قال: «إن مثل ما بعثني به الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ العشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ» ... إلخ
8 .
ويقول مسروق وهو من التابعين: «لقد جالست أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم
فوجدتهم كالإخاذ
9
فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم»
10 .
واشتهر من الصحابة ستة أو سبعة عدوا الطبقة الأولى في العلم، يختلف العادون في بعضهم، فيضعون واحدا مكان آخر، وهم عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة؛ وهؤلاء كلهم من قريش، ما عدا ابن مسعود فإنه هذلي، وزيد بن ثابت فهو من الأنصار، ويقول مسروق: «شاممت أصحاب رسول الله
11
فوجدت علمهم انتهى إلى ستة، إلى عمر وعلي وعبد الله (ابن مسعود) ومعاذ وأبي الدرداء وزيد بن ثابت، فشاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله»
12
وروى يزيد بن عميرة السكسكي، وكان تلميذا لمعاذ بن جبل: «أنه لما حضرت الوفاة معاذا أمره أن يطلب العلم من أربعة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي وأبي الدرداء»، فترى من هذا اختلافهم فيمن هو الأعلم، واختلاف النظر في هذا طبيعي في كل عصر وكل أمة.
وعلى كل حال فقد عد بضعة من الصحابة هم الطبقة الأولى في العلم، وعد عشرون من الطبقة الثانية، ونحو مائة وعشرين من الطبقة الثالثة
13
ويطول بنا القول لو عددنا أسماءهم وبينا نسبهم.
ونحن إذا ألقينا نظرة على الطبقة الأولى - بعد قراءة تاريخهم العلمي - وجدنا شخصياتهم العلمية مختلفة؛ فعمر بن الخطاب - مثلا - لا نجد له كثيرا من الأقوال في تفسير القرآن، كما لا نجده مكثرا في جمع الحديث، ولكن ميزته الكبرى - على ما يظهر لنا - قوته الفطرية في الحكم على الأشياء، وإصابته في معرفة العدل والظلم، وخبرته الواسعة بالعالم الذي يحيط به، يقول أبو ذر: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به».
وهذه الميزة تفسر لنا بوضوح مواضع كفايته، فعقله عقل قضائي، كان يفتي الناس حتى في حياة رسول الله، ورويت عنه أحكام كثيرة في مشكلات المسائل، وفراسته في الناس وفيمن يوليه الأعمال فراسة في منتهى الصدق، جاء في العقد الفريد: كان عبد الله بن عباس من أحب الناس إلى عمر بن الخطاب، وكان يقدمه على الأكابر من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم
ولم يستعمله قط، فقال له يوما: كدت أستعملك، ولكني أخشى أن تستحل الفيء على التأويل، فلما صار الأمر إلى علي استعمله على البصرة فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ، كذلك إدراته للمملكة الإسلامية على سعتها، ومواجهته لأمور عظام نشأت عن الفتح، لم تكن في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
ولا أبي بكر، تحتاج إلى عقل كبير في تصريفها والتشريع لها، كل هذا ونجاحه فيه يجعلنا - من غير شك - نقرأ في عمر سعة العلم، ويجعلنا نتصور نوع العلم الذي كان به ممتازا.
على العكس من ذلك نرى ابنه عبد الله، وهو أحد علماء الصحابة، فهو يعطينا صورة علمية غير صورة عمر: جماع للحديث، يتلمسه حيث كان، ويتحرى ألفاظ النبي
صلى الله عليه وسلم
بدقة، يقول أبو جعفر: «ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا سمع من رسول الله حديثا أجدر ألا يزيد فيه ولا ينقص منه ولا، ولا، من عبد الله بن عمر بن الخطاب»؛ ولكنه كما قال الشعبي: «كان جيد الحديث ولم يكن جيد الفقه
14 ، حمله الورع والخوف من الله ألا يكثر من الفتوى وألا يدخل في شيء من الفتن»، يقول ابن الأثير: «وكان ابن عمر شديد الاحتياط والتوقي لدينه في الفتوى، وكل ما تأخذه به نفسه، حتى إنه ترك المنازعة في الخلافة مع كثرة ميل أهل الشام إليه ومحبتهم له، ولم يقاتل في شيء من الفتن، ولم يشهد مع علي شيئا من حروبه»
15
كما اشتهر بأنه ثقة في رواية الحوادث التاريخية التي وقعت في صدر الإسلام لاتصاله برسول الله
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء من بعده واهتمامه بتعرفها، فترى من هذا أن شخصيته العلمية كانت كثرة الجمع ودقة النقل، لا كثرة الاستنباط، ولا وفرة الفتوى.
ونموذج آخر نراه في عبد الله بن عباس، كما تصوره لنا كتب السير والتفسير، فقد كان واسع الاطلاع في نواح مختلفة، يعرف الشعر والأنساب وأيام العرب، ويجتهد في تعرف ما عند الصحابة من حديث وعلم، يقول: «وجدت عامة حديث رسول الله عند الأنصار، فإن كنت لآتي الرجل فأجده نائما، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح، حتى يستيقظ متى استيقظ، وأسأله عما أريد ثم أنصرف»؛ كذلك كان يعلم ما ورد في تفسير القرآن، وأسباب نزوله، وحساب الفرائض والمغازي، ويعرف شيئا من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل، وكانت أكثر حياته حياة علمية يتعلم ويعلم، لم يشتغل بالإمارة إلا قليلا، لما استعمله علي على البصرة، وعمر طويلا، فقد مات نحو سنة 70ه عن نحو سبعين عاما؛ وكان عبد الله بن عمر يتهمه بالجرأة في تفسير القرآن ثم عدل عن ذلك
16 .
فترى من هذا صورة أخرى غير السابقتين، ترى فيها ضربا من تخصيص الحياة للعلم، وضربا من سعة الاطلاع في نواح علمية مختلفة، نعم قد أحيط اسمه ببعض المبالغات - على ما يظهر - نشأت في الدولة العباسية لما كان جد الخلفاء، ولكن لهذه المبالغات أساسا صحيحا من سعة العلم وقوة الحجة، وأكثر ما اشتهر به أقواله في تفسير القرآن.
وشخصية رابعة هي أصعب ما يكون تصويرا؛ دخلها من المبالغات والأكاذيب ما وقف المؤرخ حائرا، تلك هي شخصية علي بن أبي طالب؛ فليس هناك من الشخصيات في ذلك العصر ما دار حوله الجدل، وأفرط فيه المحبون والكارهون، واختلق حوله المختلقون، وتأسست من أجله المذاهب الدينية، كالذي كان لشخصية علي؛ فقد رووا عنه 686 حديثا مسندا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يصح منها إلا نحو خمسين
17 ، ونسبوا إليه ديوان شعر، ويقول المازني: إنه لم يصح أن تكلم بشيء من الشعر غير بيتين:
تلكم قريش تمناني لتقتلني
فلا وربك ما بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم
بذات ودقين لا يعفو لها أثر
18
ونسبوا إليه ما في نهج البلاغة، وهو يشتمل على كثير من الخطب والأدعية والكتب والمواعظ والحكم، وقد شك في مجموعها النقاد قديما وحديثا كالصفدي وهوار
Huart
19
واستوجب هذا الشك أمور: ما في بعضه من سجع منمق، وصناعة لفظية - لا تعرف لذلك العصر - كقوله: «أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير»، وما فيه من تعبيرات إنما حدثت بعد أن نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية وبعد أن دونت العلوم، كقوله: «الاستغفار على ست معان، والإيمان على أربع دعائم»، وكالذي فيه من وصف الدار وتحديدها بحدود هي أشبه بتحديد الموثقين، كقوله: «وتجمع هذه الدار حدود أربعة، الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات» ... إلخ، هذا إلى ما فيه من معان دقيقة منمقة على أسلوب لم يعرف إلا في العصر العباسي، كما ترى في وصف الطاووس؛ كما نسبوا إليه كتابا في الجفر، تذكر فيه الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم؛ وحكايته مع أبي الأسود الدؤلي في وضع النحو معروفة مشهورة؛ كل هذا ما يجعل من العسير على المؤرخ الناقد وصف شخصيته العلمية وصفا يطمئن إليه، أي ما في نهج البلاغة لعلي؟ وأيها ليس له؟ وأي ما روي عنه من الحكم والأمثال له؟ وأيها ليس له؟ وأي الأحاديث وما صدر عنه من الأحكام، وما استشاره فيه الخلفاء من الشئون يصح عنه؟ وأيها لا يصح؟ كل هذه الأشياء لا تزال مجالا للبحث.
وعلى كل حال إذا نحن رجعنا إلى كتب السير الموثوق بها، كطبقات ابن سعد، نرى أنه كان كذلك ذا عقل قضائي، فقد ولاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قضاء اليمن، وله آراء ثبتت صحتها في مشاكل قضائية عديدة، حتى قيل فيه: «قضية ولا أبا حسن لها»، وحكى علقمة عن عبد الله قال: «كنا نتحدث أن من أقضى أهل المدينة علي»، وفوق هذا كان يهتم بالقرآن يعرف معانيه، وفيم نزل حتى «زعموا أنه كتبه على تنزيله»
20
وهو في هذا كان أستاذا لعبد الله بن عباس أخذ عنه كثيرا، ويقارنون بينهما فيقولون: «إن عبد الله بن عباس كان أعلمهما بالقرآن، وكان علي أعلمهما بالمبهمات»
21 .
ويطول بنا القول لو وصفنا الميزة العلمية لكل من مشهوري الصحابة، أمثال عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر، وأبي موسى الأشعري، ولكن يمكننا أن نقول إجمالا: إن الشخصيات السابقة تبين أشهر النواحي العلمية، وهؤلاء الذين سمينا يشاكلونهم فيها أو بعضها، روي عن أبي البختري أنه قال: «أتينا عليا فسألناه عن أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم
فقال: عن أيهم؟ قال: قلنا: حدثنا عن عبد الله بن مسعود، قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى بذلك علما، قلنا: حدثنا عن أبي موسى، قال: صبغ في العلم صبغة؛ ثم خرج منه ، قال: قلنا: حدثنا عن عمار بن ياسر، فقال: مؤمن نسي وإذا ذكر ذكر، قال: قلنا: حدثنا عن حذيفة، فقال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين، قال: قلنا: حدثنا عن أبي ذر، قال: وعي علما ثم عجز فيه، قال: قلنا: أخبرنا عن سلمان، قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحر لا ينزح قعره، منا أهل البيت، قال: قلنا: فأخبرنا عن نفسك يا أمير المؤمنين، قال: إياها أردتم؟ كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتدئت»
22
لكن لا بأس أن نذكر كلمة عن عالمين لكل منهما ناحية خاصة في العلم، وهما: عبد الله بن سلام، وسلمان:
فأما عبد الله فكان يهوديا، ويظهر أنه كان مثقفا بالثقافة اليهودية، فقد عده المفسرون في أوائل الذين قال الله فيهم: «أن يعلمه علماء بني إسرائيل»، أسلم على أثر هجرة الرسول إلى المدينة - على أحد الأقوال - وصحب عمر في سفره إلى الشام، ووقف خطيبا في المتألبين على عثمان يدافع عنه ويخذل الثائرين، ومات نحو سنة 40ه، واشتهر بين الصحابة بالعلم حتى رأيت أن معاذا عده رابع أربع يطلب عندهم العلم، ونقل المسلمون عنه كثيرا يدل على علمه بالتوراة وما حولها، وتجمع حول اسمه كثير من الإسرائيليات، ونقل عنه الحديث أبو هريرة وأنس بن مالك، وينسب إليه ابن جرير الطبري في تاريخه كثيرا من الأقوال في المسائل التاريخية الدينية.
وعلى كل حال فهو يمثل لنا ناحية خاصة دخل منها على المسلمين بعض أقوال التوراة وما إليها، ولصق بعضها بتفسير القرآن وبالقصص، وسنعرض لذلك بعد.
وأما سلمان الفارسي - إن صح ما يروي محمد بن إسحاق - فإنه تنقل في أديان مختلفة قبل أن يسلم، كان مجوسيا مخلصا للمجوسية (حتى كان قاطن النار التي يوقدها أهله) ثم كان نصرانيا مخلصا للنصرانية متصلا بأتقى رجالها، ثم كان عبدا مملوكا ليهودي من بني قريظة (ولكنه لم يتهود)، ثم أسلم فأخلص في إسلامه، كذلك يروى أنه قبل أن يسلم تنقل في بلاد كثيرة، فهو من أصبهان (على رواية)، ثم انتقل في طلب النصرانية إلى الشام، ثم إلى الموصل ثم إلى نصيبين، ثم إلى عمورية من أرض الروم، ثم إلى جزيرة العرب يطلب الإسلام فنزل بوادي القرى، وهناك غدر به قوم من كلب فباعوه، ثم انتهى إلى المدينة فأسلم
23 .
فترى من هذا أن قد كان له علم بديانات مختلفة، ولعل هذا هو ما عناه علي بن أبي طالب بقوله فيه: «من لكم بمثل لقمان الحكيم، علم العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول، وقرأ الكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف».
وتدلنا سيرته على أن نزعته الدينية كانت نزعة زهد وورع، وقد مات بالمدائن في خلافة عثمان.
وقد اتخذه مسلمو الفرس مثلهم - كما اتخذ الحبشة بلالا، والروم صهيبا - وفخرت به الشعوبية، وربطه الشيعة بعلي والحسن والحسين، وعده الصوفية أحد مؤسسيها، وبالغ فيه الفرس كثيرا، ونسبوا إليه كثيرا. •••
وهذا القدر يكفينا في الدلالة على أنه كان بين الصحابة حركة علمية، وأن هذه الحركة أكثرها ديني، وأنه كان لها نواح مختلفة، وشخصيات مختلفة.
هؤلاء العلماء وأمثالهم من الصحابة تفرقوا في المملكة الإسلامية، في جميع أنحائها، وإن شئت فقل وزعوا على الأمصار قصدا إلى تعليمها؛ فعل ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مدن جزيرة العرب، فأرسل إلى اليمن وإلى البحرين وإلى مكة بعد فتحها، وكذلك فعل عمر بن الخطاب عندما اتسعت الفتوح وكثرت الأمصار. عن سالم بن عبد الله قال: «كنا مع ابن عمر يوم مات زيد بن ثابت، فقلت: مات عالم الناس اليوم، فقال ابن عمر: يرحمه الله اليوم، فقد كان عالم الناس وحبرها، فرقهم عمر في البلدان»
24 .
وعن عمر بن الخطاب أنه قال حين خرج معاذ بن جبل إلى الشام: «لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه ، فأبى علي، وقال: رجل أراد جهادا يريد الشهادة فلا أحبسه، فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه» ... إلخ
25 ، وكتب عمر إلى أهل الكوفة: «إني بعثت إليكم بعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وآثرتكم به على نفسي، فخذوا عنه؛ فقدم الكوفة ونزلها، وابتنى بها دارا إلى جانب المسجد» إلى كثير من أمثال ذلك.
هؤلاء الصحابة العلماء الذين تفرقوا في الأمصار أنشئوا حركة علمية، في كل مصر نزلوا، وكونوا مدارس
26 ، وكان لهم تلاميذ ينقلون عنهم العلم، فتخرج عليهم التابعون ثم تابعوهم، مما سنعرض له عند الكلام على مراكز الحركة العقلية.
وعندئذ دخل عنصر الموالي وأولادهم في الحركة العلمية، واتسع نطاقها، فكان منهم كثير من سادة التابعين وتابعي التابعين.
الموالي والعلم: كان سكان البلاد كما علمنا يتكونون من عنصرين: عنصر عربي، وهو العنصر الفاتح؛ وعنصر أعجمي، وكان أكثر حملة العلم في عصر الصحابة العرب؛ لأن أكثر الصحابة عرب، فلما أخذ علماء الصحابة يعلمون في الأمصار المفتوحة، اشترك العرب والعجم في تلقي العلم عنهم؛ حتى إذا كان عصر التابعين وتابعيهم كان بعض حملة العلم عربا وأكثرهم من الموالي أو أبناء الموالي، ويقول ابن خلدون في تعليل هذا: «والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقضتى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة، التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوه من صاحب الشرع وأصحابه، والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دفعوا إليه، ولا دعتهم إليه حاجة، وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين، كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله القراء؛ أي: الذين يقرءون الكتاب وليسوا أميين؛ لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة - بما كانوا عربا - فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء ... ثم صارت هذه العلوم كلها ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع، وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد عنها العرب، والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر ... لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس ... فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما؛ وكلهم عجم في أنسابهم ... وكذا حملة الحديث وعلماء أصول الفقه، وحملة علم الكلام وأكثر المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم، أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها فشغلتهم الرياسة في عهد الدولة العباسية» انتهى مختصرا.
وهو وإن كان يتكلم عن عصر التدوين، ويعني به على ما يظهر العصر العباسي، فعلته كذلك صحيحة في العصر الأموي - عصر التابعين ومن بعدهم - إلا أنه غالى في نظريته وسلب العرب ما كان لهم من حظ في المشاركة في العلوم، كان في العصر الأموي عرب من أشهر العلماء، كسعيد بن المسيب، وعلقمة، وشريح، ومسروق والنخعي وغيرهم، ولكن الأكثرين كانوا موالي أو في حكمهم؛ فكان في المدينة سليمان بن يسار، وكان من أعلم الناس وأفقههم، وأبوه مولى ميمونة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم ، ونافع مولى عبد الله بن عمر والذي روى عنه أكثر أحاديثه، وأصله من الديلم؛ وربيعة الرأي وهو شيخ الإمام مالك، وأبوه فروخ من الموالي.
ومن علماء مكة مجاهد بن جبر، وكان مولى لبني مخزوم، وهو من أكثر رواة التفسير عن ابن عباس، وعكرمة مولى ابن عباس، والذي روى عنه أكثر علمه، وعطاء بن رباح مولى بني فهر من مولدي الجند
27 ، وكان أسود، وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس مولى حكيم بن حزام، وكان من أحفظ الناس للحديث.
واشتهر من علماء أهل الكوفة: سعيد بن جبير مولى بني والبة، وكان أسود، واشتهر بالبصرة الحسن بن يسار، مولى زيد بن ثابت، ومحمد بن سيرين، وكان أبوه من سبي ميسان، وأمه صفية مولاة أبي بكر الصديق وهو من فقهاء البصرة، وكذلك الحسن البصري، وكان أبوه أيضا من سبي ميسان.
واشتهر من أهل الشام مكحول بن عبد الله وهو معلم الأوزاعي، وأبوه من أهل هراة، وأمه ابنة لملك من ملوك كابل.
واشتهر في مصر يزيد بن حبيب مولى الأزد، كان مفتي أهل مصر، وعنه أخذ الليث بن سعد، وكان يزيد بربري الأصل؛ أبوه من أهل دنقلة
28 .
وهناك غير هؤلاء كثير من العلماء من أبوين عربي وعجمي وكالذي رأيت من حكاية سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والمعروف بزين العابدين، فإن الزمخشري يروي أن أمهاتهم بنات يزدجرد، وكالشعبي علامة التابعين فإن أباه عربي وأمه سبي جلولاء.
ويطول بنا القول لو أنا أحصينا من كان من علماء هذا العصر من العرب ومن كان من الموالي؛ ولكن نظرة في أنسابهم عامة تدلنا على أن أكثرهم موال.
جاء في العقد الفريد: «وقال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى وكان ديانا شديد العصبية (أي للعرب): من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين، قال: فما هما؟ قلت: موليان، قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، ومجاهد وسعيد بن جبير، وسليمان بن يسار، قال: فما هؤلاء؟ قلت: موال، قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: زيد بن أسلم، ومحمد بن المنكدر، ونافع بن أبي نجيح، قال: فما هؤلاء؟ قلت: موال، فتغير لونه، ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن أبي الزناد، قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي، فاربد وجهه، ثم قال: فمن فقيه اليمن؟ قلت: طاووس وابنه وابن منبه، قال: فمن هؤلاء؟ قلت: من الموالي، فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدا، قال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني، قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى، فازداد وجهه تربدا واسود اسودادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول، قال: فما كان مكحول هذا؟ قلت: مولى، قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت: فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عتبة وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر ، فقلت: إبراهيم (النخغي) والشعبي، قال: فما كانا؟ قلت: عربيان، قال: الله أكبر، وسكن جأشه».
ونظير هذا ما جاء في معجم ياقوت في مادة خراسان «قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما مات العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص: صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فصار فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير، وفقيه أهل البصرة الحسن البصري، وفقيه أهل الكوفة النخغي
29 ، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي، فكان فقيه أهل المدينة غير مدافع سعيد بن المسيب».
وهناك قصص أخرى كثيرة كهذه لا تخلو من نزعة شعوبية، ولكن أساسها صحيح، وهو أن أكثر العلماء من الموالي، ولذلك سبب آخر غير الذي ذكره ابن خلدون؛ وهو أن الصحابة - كما علمت - استكثروا من الموالي يستخدمونهم في بيوتهم وفي أعمالهم، فإذا كان الصحابي تاجرا فمواليه أعوانه في التجارة، وإذا كان عالما كانت مواليه تلاميذه وأعوانه في العلم، ومتى كان عندهم حسن استعداد نبغوا فيه بحكم مخالطتهم لسادتهم في السر والعلن، وملازمتهم لهم في الإقامة والسفر، ودليلنا على ذلك نافع مولى عبد الله بن عمر، فقد أخذ عنه أكثر علمه، ويسمي المحدثون رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب؛ وعكرمة مولى ابن عباس، فقد مات عبد الله بن عباس وعكرمة على الرق، فباعه ولده علي بن عبد الله بن عباس من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عكرمة مولاه عليا فقال له: ما خير لك، بعت علم أبيك بأربعة آلاف، فاستقاله فأقاله، فأعتقه، إلى غير ذلك من الأمثلة.
وسيأتي الكلام على الحركة الدينية بشيء من التفصيل في الباب الآتي.
الحركة الثانية:
حركة تاريخية، ولسنا نعني بها حركة تأليف الكتب التاريخية، وإنما نعني ما انتشر في المملكة الإسلامية في هذا العهد من أخبار الأمم الماضية والأجيال الغابرة، والأحداث التي كانت في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء من بعده، ونظرة فيما روي في ذلك العصر تبين أنها كانت حركة واسعة، وأنها كانت الأساس الذي بنيت عليه المؤلفات التي ألفت بعد، ككتب ابن إسحاق وابن جرير وأمثالهما، يدل على ذلك أنك لو تتبعت في ابن جرير الطبري - مثلا - سلسلة روايته وجدت أن الرواة الثلاثة أو الأربعة الذين يتصلون بحياته كانوا في العصر العباسي، وهؤلاء يروون عمن قبلهم ممن كانوا في عهد الأمويين أو الخلفاء الراشدين، أعني بذلك أن الحوادث التاريخية التي دونت كانت معروفة في عصرنا الذي نؤرخه، وابن إسحاق وأمثاله إنما رووا ما كان معروفا وجمعوه.
وقد نبعت هذه الحركة التاريخية من جملة مصادر: (أولها):
شعور بعض الخلفاء بالحاجة - في سياسة الدولة - إلى تعرف أخبار الملوك في الأمم الأخرى وسياستهم ونظامهم، وهذا كان ضروريا بعد أن اتسعت المملكة الإسلامية هذا الاتساع الكبير، كانت الحركة المالية في جزيرة العرب قبل الفتح حركة ضعيفة لا تكفي لتسيير الحركة الكبرى التي كانت بعد الفتح، فكان لا بد من علم بطرق تحصيل الأموال وحفظها وصرفها، وكذلك الشأن في إدارة البلاد وتنظيمها وطرق حكمها، فلجأ بعض خلفاء المسلمين إلى الوقوف على ما كان من ذلك عند الأمم الأخرى، كالذي روى المسعودي عن معاوية أنه بعد أن يفرغ من عمله «كان يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من نسائه من الحلوى وغيرها من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها؛ فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار وأنواع السياسات» اه. ولا شك أنه تسرب بهذه الطريقة بعض المعلومات التاريخية إلى الخاصة من المسلمين. (ثانيها):
وهو أهم من الأول، أن كثيرا من الشعوب المختلفة ذوات التاريخ دخلت في الإسلام، فأخذوا يدخلون تاريخ أممهم ويبثونه بين المسلمين، إما عصبية لقومهم أو نحو ذلك، فكثير من اليهود أسلموا وهم يعلمون كثيرا من تاريخ اليهودية وأخبار الحوادث، حسبما روت التوراة وشروحها، فأخذوا يحدثون المسلمين بها؛ وهؤلاء ربطوها بتفسير القرآن أحيانا، وبتاريخ الأمم الأخرى أحيانا ؛ إن شئت فاقرأ ما في الجزء الأول من تاريخ الطبري تجد منه الشيء الكثير مثل: «حدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ بالخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة»
30
وكثير من هذا النوع روي حول ما ورد في القرآن من قصص الأنبياء، كذلك كان للفرس تاريخ وكان لهم أساطير، فلما أسلموا رووا تاريخهم، ورووا أساطيرهم، وكذلك فعل النصارى، فكانت هذه الروايات والأساطير عن الأمم المختلفة مبثوثة بين المسلمين، ومصدرا من مصادر الحركة التاريخية عندهم.
وهذان النوعان هما بالقصص أشبه منهما بالتاريخ. (ثالثها):
وهو أهمها: أن المسلمين بدءوا من أول أمرهم يجمعون الحديث، وفي الحديث مناح شتى من القول، ففيه ما كان يفعله النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه من عبادات وتشريع في المعاملات والجنايات، وفيه أقوال للوعظ والإرشاد، وفيه قسم تاريخي لا يستهان به، فأحاديث تتعلق بحياة النبي في مكة وهجرته، وحياته في المدينة وغزواته، وأعمال لأبي بكر، وفتوحات عمر ونحو ذلك، وكلها حوادث تاريخية نثرت في الحديث، وعني بها بعض الصحابة، كالذي رأيت في عبد الله بن عمر، وكانت هذه الأحاديث التاريخية أساسا لما ألف بعد من كتب السير والمغازي، فقد أفردت وأضيف إليها ما لم يتحر فيه تحري ثقات المحدثين، والدليل على أن أصل هذه السير والمغازي هو الحديث ما تجده من وجوه شبه كبير في الأسلوب وفي طريقة سرد الوقائع وحكايتها.
وقد عني المسلمون من العصر الأول بإفراد ما يتعلق بالسير والمغازي في كتب خاصة، فقد روي أن وهب بن منبه (34-110ه) ألف كتابا في المغازي، كما رووا أن عروة بن الزبير بن العوام (23-94ه) وهو من أشهر فقهاء المدينة ومحدثيها كان أقدم من ألف في سيرة رسول الله، ومثله معاصره أبان بن عثمان بن عفان (22-105ه) فقد جمع له تلميذه عبد الرحمن بن المغيرة (المتوفى قبل سنة 125ه) كتابه في سيرة الرسول.
كذلك رووا أن ابن شهاب الزهري (51-124ه) جمع كتابا في المغازي، ومثله موسى بن عقبة (المتوفى سنة 141ه)
31 .
ويظهر أن النمط الذي اتبع في تأليف هذه الكتب كان جمع الأحاديث المتعلقة بالسيرة أو المغازي لا أكثر من ذلك، وعلى الجملة فلعل هذا الباب كان أقرب من سابقيه إلى معنى التاريخ.
وكل ذلك يدلنا على ما ذكرت من انتشار حركة تاريخية واسعة، وإن لم تصبغ بالصبغة العلمية الدقيقة.
القصص: ويتصل بهذا النوع ما يعرف في ذلك العهد بالقصص، وقد استحدث في صدر الإسلام، فقد روي عن ابن شهاب أن «أول من قص في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تميم الداري، استأذن عمر أن يذكر الناس فأبى عليه، حتى كان آخر ولايته فأذن له أن يذكر الناس في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر، فاستأذن تميم عثمان بن عفان فأذن له أن يذكر يومين في الجمعة فكان تميم يفعل ذلك»، وفي رواية أخرى عن الحسن أنه سئل: متى أحدث القصص؟ قال: في خلافة عثمان، فسئل: من أول من قص؟ قال: تميم الداري.
وتميم هذا كان نصرانيا من نصارى اليمن أسلم في سنة تسع من الهجرة، وقد ذكر للنبي
صلى الله عليه وسلم
قصة الجساسة والدجال
32 ، وكان يترهب حتى قال عنه أبو نعيم: «إنه راهب أهل عصره»، وهي نزعة نصرانية بقيت عنده في الإسلام، ويذكرون أيضا أنه أول من أسرج السراج في المسجد.
وتكاد الروايات تتفق على أنه أول قاص، ولم أقف على ما كان يقصه؛ ولكن نظرة في حديث الجساسة والدجال، وفي أقوال له أخرى كثيرة منثورة ، كالذي روي أن روح بن زنباع زار تميما الداري فوجده ينقي شعيرا لفرسه وحوله أهله، فقال له روح: أما كان في هؤلاء من يكفيك؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: ما من امرئ مسلم ينقي لفرسه شعيرا ثم يعلقه عليه إلا كتب الله له لكل حبة حسنة
33 ، تدلنا على عقليته ونوع قصصه، ومنحاه فيما يروي.
وصورة هذا القصص، أن يجلس القاص في مسجد وحوله الناس فيذكرهم بالله ويقص عليهم حكايات وأحاديث وقصصا عن الأمم الأخرى وأساطير ونحو ذلك، لا يعتمد فيها على الصدق بقدر ما يعتمد على الترغيب والترهيب، قال الليث بن سعد: هما قصصان: قصص العامة وقصص الخاصة؛ فأما قصص العامة فهو الذي يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكرهم، فذلك مكروه لمن فعله ولمن استمعه؛ وأما قصص الخاصة فهو الذي جعله معاوية، ولى رجلا على القصص فإذا سلم من صلاة الصبح جلس وذكر الله عز وجل وحمده ومجده وصلى على النبي
صلى الله عليه وسلم ، ودعا للخليفة ولأهل ولايته وحشمه وجنود ودعا على أهل حربه وعلى المشركين كافة
34 .
وقد نما القصص بسرعة؛ لأنه يتفق وميول العامة، وأكثر القصاص من الكذب حتى رووا أن علي بن أبي طالب طردهم من المساجد واستثنى الحسن البصري لتحريه الصدق في قوله.
ويظهر أنه اتخذ أداة سياسية من عهد الفتن بين علي ومعاوية، يستعين بها كل على ترويج حزبه والدعوة له، يدلك على ذلك ما نقلنا عن الليث بن سعد، وما روى ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب أن عليا رضي الله عنه قنت فدعا على قوم من أهل حربه، فبلغ ذلك معاوية، فأمر رجلا يقص بعد الصبح، وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام.
وارتفع شأن القصص حتى رأيناه عملا رسميا، يعهد به إلى رجال رسميين يعطون عليه أجرا، فنرى في كتاب القضاة للكندي أن كثيرا من القضاة كانوا يعينون قصاصا أيضا، فيقول: إن أول من قص بمصر سليمان بن عتر التجيبي في سنة 38ه، وجمع له القضاء إلى القصص، ثم عزل عن القضاء وأفرد بالقصص.
ولا تهمنا هذه النواحي الرسمية، إنما يهمنا ما كان منه من صبغة تشبه العلمية، ونرى أن هذا القصص هو الذي أدخل على المسلمين كثيرا من أساطير الأمم الأخرى كاليهودية والنصرانية، كما كان بابا دخل منه على الحديث كذب كثير، وأفسد التاريخ بما تسرب منه من حكاية وقائع وحوادث مزيفة أتعبت الناقد وأضاعت معالم الحق.
ولا بد أن نشير هنا إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصص وأمثالهم، تجد ذكرهما كثيرا في رواية القصص وفي التاريخ وفي الحديث وفي التفسير، هما: وهب بن منبه، وكعب الأحبار.
فأما وهب بن منبه فيمني من أصل فارسي، وكان من أهل الكتاب الذين أسلموا وله أخبار كثيرة وقصص تتعلق بأخبار الأول ومبدأ العالم وقصص الأنبياء، وكان يقول: قرأت من كتب الله اثنين وسبعين كتابا، وقد توفي حول سنة 110ه بصنعاء، وأما كعب الأحبار أو كعب بن مانع فيهودي من اليمن كذلك، ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين، أسلم في خلافة أبي بكر أو عمر على خلاف في ذلك - وانتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثم إلى الشام، وقد أخذ عنه اثنان، هما أكبر من نشر علمه: ابن عباس - وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات - وأبو هريرة، ولم يؤثر عنه أنه ألف كما أثر عن وهب بن منبه، ولكن كل تعاليمه - على ما وصل إلينا - كانت شفوية، وما نقل عنه يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها، جاء في الطبقات الكبرى حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن عبد القيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ
35 ، وقد لاحظ بعض الباحثين أن بعض الثقات كابن قتيبة والنووي لا يروي عنه أبدا، وابن جرير الطبري يروي عنه قليلا، ولكن غيرهم كالثعلبي والكسائي ينقل عنه كثيرا في قصص الأنبياء كقصة يوسف والوليد بن الريان وأشباه ذلك، ويروي ابن جرير أنه جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام وقال له: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل في التوراة، قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك.
وهذه القصة إن صحت دلت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها هو في هذه الصبغة الإسرائيلية، كما تدلنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل.
وعلى الجملة فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم في عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح.
وقد أنحى باللوم كثير من العلماء على القصاص والوعاظ، كما فعل الغزالي في كتابه «الإحياء» فقد عد عملهم من منكرات المساجد، لما كانوا يقترفون من كذب، واستثنى الحسن البصري وأمثاله.
والحق أن الحسن البصري كان قاصا من نوع آخر، فلم يكن ينحو منحى الذين يعتمدون على الإسرائيليات والنصرانيات، إنما كان يعتمد على التذكير بالآخرة ونحوها؛ ويستخرج العظة مما يقع حوله من حوادث؛ فقد كان يجلس في آخر المسجد بالبصرة وحوله الناس يسألونه في الفقه وفي حوادث الفتن التي كانت في عهده، ويحدثهم بما صح عنده من حديث، ويقص عليهم فيعظهم ويذكرهم؛ فمما أثر من قصصه قوله: «يا بن آدم لا ترض أحدا بسخط الله، ولا تطيعن أحدا في معصية الله، ولا تحمدن أحدا على فضل الله؛ ولا تلومن أحدا فيما لم يؤتك الله، إن الله خلق الخلق فمضوا على ما خلقهم عليه، فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزدد بحرصه في عمره، أو يغير لونه أو يزد في أركانه أو بنانه»، وكقوله: «يا بن آدم لم تكن فكونت، وسألت فأعطيت، وسئلت فمنعت، فبئس ما صنعت»، ثم يكرر ذلك مرارا، وله أقوال كثيرة من هذا النحو مبثوثة في كتب الأدب.
وهنا أمر لا بد أن يكون قد استرعى نظرك، وهو أن أكثر من ذكرنا من منابع القصص كتميم الداري، ووهب بن منبه، وكعب الأحبار من أهل الكتاب من اليمن، فما السر في ذلك، ولم كان ما يروى عن يهود اليمن في هذا النوع أكثر مما يروى عن يهود الحجاز؟ لعل السبب أن اليمن كانوا أكثر حضارة كما علمت، وقد استتبع هذا وجود مدارس يهودية أرقى مما كان ليهود الحجاز - وهذه المدارس اليمنية ثابتة تاريخيا - فكان من نتيجة ذلك انتشار الثقافة اليهودية في اليمن بما فيها من شروح للتوراة وأساطير ونحو ذلك، على نمط أوسع مما كان ليهود الحجاز، فلما دخل يهود اليمن في الإسلام رووا ما تعلموا فكان لهم أكبر الأثر.
الحركة الثالثة:
الحركة الفلسفية، وهي أقل الحركات - على ما يظهر - انتشارا، وكان مظهرها - أولا - في المدارس السريانية التي كانت منتشرة في أماكن كثيرة من المملكة الإسلامية - كما بينا قبل - وعنهم أخذ المسلمون، وكان من أثر ذلك ظهور بعض المذاهب الدينية التي سيأتي تفصيلها، وقد روينا ما كان لخالد بن يزيد بن معاوية من دراسة فلسفية.
ونلاحظ أنه في هذا العصر ظهر كثير من أطباء النصارى في بلاط الخلفاء، وكان أكثرهم فلاسفة وأطباء معا، كانت دراستهم الطبية لم تكن منفصلة عن دراستهم الفلسفية، كما كان الشأن في فلاسفة المسلمين بعد - كابن سينا والكندي - ومن هؤلاء الأطباء الذين خدموا في البلاط الأموي «ابن أثال»، وكان طبيبا نصرانيا في دمشق؛ ولما ملك معاوية اصطفاه لنفسه، وكان كثير الافتقاد له، والاعتقاد فيه، والمحادثة معه ليلا ونهارا، و «عبد الملك بن أبجر الكناني» وكان طبيبا عالما ماهرا، وكان في أول أمره مقيما بالإسكندرية وكان متولي التدريس فيها ولما استولى المسلمون على البلاد وملكوا الإسكندرية أسلم ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز، وكان حينئذ أميرا قبل أن تصل إليه الخلافة، وصحبه، فلما أفضت الخلافة إليه نقل التدريس إلى أنطاكية وحران وتفرق في البلاد، وكان عمر بن عبد العزيز يستطبه ويعتمد عليه في صناعة الطب
36 .
وحكى القفطي في أخبار الحكماء: أن ماسرجويه الطبيب البصري كان إسرائيليا في زمن عمر بن عبد العزيز، وربما قيل في اسمه ماسرجيس، وكان عالما بالطب، تولى لعمر بن عبد العزيز ترجمة كتاب أهرن القس في الطب ، وهو كناش فاضل من أفضل الكنانيش القديمة، وقال ابن جلجل الأندلسي: ماسرجويه كان سريانيا يهودي المذهب وهو الذي تولى في أيام مروان في الدولة المروانية تفسير كتاب أهرن القس بن أعين إلى العربية، ووجده عمر بن عبد العزيز في خزائن الكتب فأمر بإخراجه، ووضعه في مصلاه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين لينفع به، فلما تم له في ذلك أربعون يوما أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم.
ولماسرجويه من التصانيف كتاب قوى الأطعمة ومنافعها ومضارها، وكتاب قوى العقاقير ومنافعها ومضارها.
هذا وأمثاله كون حركة ثالثة هي التي سميناها بالحركة الفلسفية، ويدخل فيها ما رأيت من الجدل بين فرق النصارى والمسلمين، ولكنها على كل حال كانت أقل من الحركتين السابقتين.
وهناك حركة رابعة، هي الحركة الأدبية موضوعها قسم خاص من كتابنا هذا. •••
وهذه الحركات جميعا كانت تتساند ويعاون بعضها بعضا، فأصحاب المذاهب الدينية اعتمدوا في تعاليمهم على الفلسفة وتعاليم الكتب والسنة، والمفسرون والمحدثون والفقهاء كانوا يستعينون بالشعر والأدب على تفهم معاني القرآن والحديث، والمؤرخون والقصاص يستمدون بعض معلوماتهم من القرآن والحديث؛ وهكذا، وقل أن تجد في هذا العصر ما نسميه الآن تخصصا، فليس هناك عالم بالتفسير فقط، أو الحديث فقط؛ لأن هذا الدور إنما يكون بعد تنظيم البحث، وهو دور لم يصلوا إليه في هذا العصر.
وكذلك كانت الدروس فيها تفسير، وفيها حديث، وفيها فقه، وفيها لغة، وفيها جدال ديني.
والذي يظهر أن الأمويين لم يشجعوا من هذه الحركات الثلاث إلا الحركة الأدبية والقصص الرسمي، ففتحوا أبوابهم للشعراء والخطباء، وبذلوا لهم الأموال، وعينوا القصاص في المساجد، ولم يفعلوا شيئا من ذلك للعلماء والفلاسفة، ولعل السبب في ذلك أمران: (الأول):
أن حكم الأمويين بني على الضغط والقهر، فكانت حاجتهم إلى الشعراء والقصاص أشد؛ لأنهم هم الذين يبشرون بهم، ويشيدون بذكرهم، ويقومون في ذلك مقام الصحافة لأحزابها؛ ومن أجل هذا لم يكن ينال الحظوة عند خلفاء بني أمية إلا من كان مادحا لهم، فأما الشعراء العلويون والزبيريون ونحوهم فيحمدون الله أن سلموا منهم . (الثاني):
أن نزعة الأمويين نزعة عربية جاهلية لا تتلذذ من فلسفة، ولا من بحث ديني عميق، إنما يلذ لها الشعر الجيد، والخطبة البليغة، والحكمة الرائعة، قال المسعودي: «كان عبد الله بن مروان يحب الشعر والفخر والتقريظ والمدح، وكان عماله على مثل مذهبه»، وشأن أكثر بني أمية شأن عبد الملك؛ نستثني منهم خالد بن يزيد بن معاوية، فقد كان له نزعة فلسفية - كما أسلفنا - فوق نزعته الأدبية، قال فيه الجاحظ في البيان والتبيين: «وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا، وفصيحا جامعا، وجيد الرأي، كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء».
كما نستثني عمر بن عبد العزيز، فقد كانت نزعته دينية وقد شقي به الشعراء؛ دخل عليه المصيب بعد ما ولي الخلافة، فقال له: إيه يا أسود أنت الذي تشهر النساء بنسيبك؟ فقال: إني تركت ذلك يا أمير المؤمنين، وعاهدت الله ألا أقول، وشهد له بذلك من حضر فأعطاه.
إذا عدونا هذين (خالدا وعمر) لم نجد كبير أثر للأمويين في تشجيع الحركة الفلسفية والدينية والتاريخية، كالذي نجده للعباسيين مثلا؛ ومع هذا فقد نشطت هذه الحركات من نفسها، أما الحركة الدينية فللباعث الديني، وكان قويا إذ ذاك؛ وأما الحركة الفلسفية فلأن الدين في آخر عهد الأمويين اضطر إلى استخدام الفلسفة لمجادلة اليهود والنصارى، ولمحاربة الفرق الإسلامية بعضها لبعض، وأما الحركة التاريخية، فلما كان لها من صبغة دينية.
في هذا العصر كان العلم - ولا سيما الديني - يدرس في المساجد، يجلس الأستاذ في المسجد وحوله الآخذون عنه على شكل حلقة، وتكبر الحلقة وتصغر تبعا لقدر الأستاذ؛ فالسيوطي في الإتقان يحدثنا أن عبد الله بن عباس كان يجلس بفناء الكعبة وقد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، ويحدثنا ابن خلكان أن ربيعة الرأي كان يجلس في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المدينة ويأتيه مالك والحسن وأشراف أهل المدينة، ويحدق الناس به، وكانت حلقته وافرة، وكذلك كان مجلس الحسن البصري في مسجد البصرة، وقد يكون في المسجد جملة حلقات تجتمع كل حلقة على شيخ، كما حدثونا أن عمرو بن عبيد ونفرا معه كانوا يجلسون في حلقة الحسن البصري، ثم اعتزلوا حلقة الحسن وحلقوا (أي: أنشئوا لهم حلقة خاصة)! وكذلك كان يفعل جعفر الصادق في المدينة، قالوا: وكان يشتغل بالكيمياء والزجر والفأل؛ ومثل هؤلاء كثيرون موزعون في الأمصار اتخذوا المساجد مدارس يعلمون فيها العلوم المختلفة، ولم أر ما يدل على أن المسلمين أنشئوا في هذا العصر مدارس خاصة للعلم إلا ما نقل المقريزي «عن الواقدي أن عبد الله بن أم مكتوم قدم مهاجرا إلى المدينة مع مصعب بن عمير، وقيل: قدم بعد بدر بقليل، فنزل دار القراء»، ولم نعلم كثيرا عن دار القراء هذه وهل خصصت للمدارسة أو لا، وحكى السيد أمير علي في كتابه «مختصر تاريخ العرب»: أن الحر بن يوسف بن الحكم بن أبي العاص بن أمية - وكان عاملا لهشام بن عبد الملك على الموصل - بنى مدرسة بالموصل، ولكن لم يذكر له مستندا، والذي في ابن الأثير أن الحر هذا بنى المنقوشة، وهي دار يسكنها، وسميت المنقوشة؛ لأنها كانت منقوشة بالساج والرخام والفصوص الملونة وما شاكلها، ولم يذكر أنه بنى مدرسة، والذي نعرفه أن بعض المدارس التي كانت في الممالك قبل الفتح ظلت على حالها بعد الفتح كبعض مدارس السريانيين، أما الأمويون فلا نعلم أنهم أنشئوا مدارس، ولكن كانت الدراسة العلمية في البيوت والمساجد.
التدوين
37 : ذهب بعضهم إلى أن تدوين العلوم والأخبار لم يحدث إلا في منتصف القرن الثاني للهجرة، وهذا على ما يظهر لنا غير صحيح، فإن التدوين بدأ من القرن الأول، بل كان قبل الإسلام تدوين، وكان هذا التدوين كثيرا في البلاد المتحضرة كاليمن والحيرة، وقليلا في بلاد الحجاز، فالحميريون في اليمن دونوا كثيرا من أخبارهم وحوادثهم، ونقشوها على الأحجار، ولا تزال آثارهم في ذلك تستكشف بين حين وحين، وقد حدثناك من قبل أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لقي سويد بن الصامت وكان معه مجلة لقمان، أعني صحيفة فيها حكم لقمان، فلما جاء الإسلام اتخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
كتبة للوحي، فكانوا يكتبون على الرقاع والأضلاع وسعف النخل والحجارة الرقاق البيض، ثم جمعت هذه الصحف في عهد أبي بكر، وعني بعض الصحابة بكتابة حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يدون ما يسمع من رسول الله، قال أبو هريرة: «ما أجد من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب»، وقال عبد الله بن عمرو: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أريد حفظه» ... (الحديث) بل قد رأيت أن النبي
صلى الله عليه وسلم
دعا بعض أصحابه أن يتعلم العبرية والسريانية ليدون بها رسائله.
فهذا تدوين للقرآن والحديث والرسائل التي كانت ترسل من النبي
صلى الله عليه وسلم ، وبعد هذا الزمن بقليل نرى أن المسلمين طرقوا موضوعات أخرى يدونونها؛ فابن النديم يحدثنا في كتابه (الفهرست) أن عبيد بن شرية الجرهمي كان في زمان معاوية وأدرك النبي
صلى الله عليه وسلم
ولم يسمع منه شيئا، ووفد على معاوية بن أبي سفيان؛ فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه إلى ما سأل، فأمر معاوية أن يدون وينسب إلى عبيد بن شرية، وعاش عبيد إلى أيام عبد الملك بن مروان، وله من الكتب «كتاب الأمثال» و«كتاب الملوك وأخبار الماضين».
ويقول في موضع آخر: إن صحارا العبدي كان خارجيا، وكان أحد النسابين والخطباء في أيام معاوية بن أبي سفيان، وروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
حديثين أو ثلاثة، وله من الكتب «كتاب الأمثال».
ويقول في موضع ثالث: إنه كان بمدينة الحديثة رجل يقال له: محمد بن الحسين جماعة للكتب، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب، والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات فأنس بي، وكان نفورا ضنينا بما عنده، خائفا من بني حمدان، فأخرج لي قمطرا كبيرا فيه نحو ثلاث مئة رطل من جلود وصكاك وقراطيس، وورق صيني وورق تهامي، وجلود أدم، فيها تعليقات عن العرب، وقصائد مفردات من أشعارهم، وشيء من النحو والحكايات والأخبار والأسماء والأنساب؛ وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم، فرأيتها وقلبتها فرأيت عجبا، إلا أن الزمان قد أخلقها وأحرفها، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج توقيع بخطوط العلماء واحدا إثر واحد، ورأيت في جملتها مصحفا بخط خالد بن أبي الهياج صاحب علي، ورأيت فيها بخط الإمامين الحسن والحسين، ورأيت عنده أمانات وعهودا بخط أمير المؤمنين علي، وبخط غيره من كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومن خطوط العلماء في النحو واللغة؛ مثل أبي عمرو بن العلاء وأبي عمرو الشيباني ... ورأيت ما يدل على أن النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته، وهي أربعة أوراق أحسبها من ورق الصين، ترجمتها: هذه فيها كلام الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علان النحوي، وتحته: هذا خط النضر بن شميل، ثم لما مات هذا الرجل فقدنا القمطر وما كان فيه، فما سمعنا له خبرا، ولا رأيت منه غير المصحف، هذا على كثرة بحثي عنه. ا.ه باختصار.
هذا في عصر الصحابة، فلما جاء عصر التابعين ومن بعدهم قويت الحركة العلمية بسبب الفتوح، ودخول الأمم المتحضرة في الإسلام، والحاجة إلى تشريع واسع يتفق وما أحدثت المدينة من أحداث لم تكن، فكثر التدوين، فابن خلكان يحدثنا أن وهب بن منبه المتوفى سنة 110ه وعمره تسعون سنة، ألف في ترجمة الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم.
وابن سعد في الطبقات يذكر لنا أن هشام بن عروة بن الزبير قال: «أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له، قال: فكان يقول بعد ذلك لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي»
38 .
ويقول في موضع آخر عن عبد الرزاق قال : «سمعت معمرا قال: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه - يقول - من علم الزهري»
39 .
ويروي الأغاني «أن عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي (وكان في العصر الأموي) قد اتخذ بيتا فجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل في الجدار أوتادا، فمن جاء علق ثيابه على وتد منها، ثم جر دفترا فقرأه، أو بعض ما يلعب به فلعب به»
40 .
وهذه كما ترى صورة لناد فيه أدوات اللعب وأدوات القراءة وفيه لعب وقراءة.
ويقول ابن خلكان أيضا إن ابن شهاب الزهري «كان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله، فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته يوما: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر»، وقد توفي سنة 124ه، «وأن أبا عمرو بن العلاء وقد ولد نحو سنة سبعين للهجرة كانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ - أي: تنسك - فأخرجها
41
كلها، فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه، وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية»؛ وقد روينا من قبل أن خالد بن يزيد بن معاوية كتب ثلاث رسائل في الكيمياء وما إليها، ذكر ابن النديم أن زياد بن أبيه ألف كتابا في علم الأنساب في مثالب العرب، وطعن فيه في أنسابهم لما طعن الناس فيه.
هؤلاء وأمثالهم كانوا في العصر الأموي، وهذه الأخبار وإن كان بعضها محلا للشك، فهي في جملتها تدلنا على أن التدوين لم ينشأ في العصر العباسي كما يزعم بعضهم، ولكنه كان قبل ذلك، ويظهر مما عثرنا عليه أن التدوين بدأ بتقييد العلم من غير أن تظهر فيه للمؤلف شخصية ما، وليس له إلا الجمع، وكانت الكتب عبارة عن صحف يكتب عليها، وقد تكون صحفا مفرقة ومبعثرة، فلما دخل الفرس والروم في الإسلام - وكانوا ذوي حضارة قديمة وكتب مؤلفة من قبل - أدخلوا على اللغة العربية بعد أن تعلموها نظام تأليف الكتب بالمعنى الذي نفهمه الآن من جمع ما يتعلق بالموضوع الواحد في كتاب واحد.
ولكن ما كتب في عصر الأمويين لم يصل إلى أيدينا منه إلا القليل، وأغلب هذه الكتب أخذت عن العلماء من طريق الرواية، وأدمجت في كتب العباسيين التي كانت أتم نظاما، وأرقى في فن التأليف؛ وبعض هذه الكتب الأموية كانت موجودة في العصر العباسي وما بعده؛ فابن النديم يقول: إنه رأى صفحات أبي الأسود الدؤلي في النحو، وإنه رأى كتاب عبيد بن شرية في الأمثال؛ وابن خلكان يقول: إنه رأى كتاب وهب بن منبه في تاريخ اليمن، ولكن في عهدنا هذا لم يصلنا شيء يصح أن يوثق به إلا قليلا.
هذا مجمل الحركة العلمية في ذلك العصر، وسيأتي بعض تفصيل لها في الأبواب التالية.
الفصل الرابع عشر
مراكز الحياة العقلية
نلاحظ أن الدين والفن والعلم والأدب تنبع دائما من المدن، وتزهر فيها، كان ذلك في القديم، وهو كذلك في الحديث؛ فأنت الآن ترى الأفكار الجديدة وآراء المصلحين إنما تنشأ في المدن أولا؛ وكذلك معاهد العلم والأدب والفن من مدارس وجامعات ومكتبات وصحف ومتاحف، إنما تعظم وتكثر في المدن لا في القرى، ولذلك أسباب أهمها: أن المدن أكثر ناسا وأوفر عمرانا، وقد نشأت كثرة الناس والعمران من وفرة المؤن، إما لسبب مباشر كخصب الأرض وجودتها وكثرة غلاتها، أو غير مباشر كأن تتبادل المدينة مصنوعاتها مع أمة أخرى خصبة الأرض كثيرة الغلات أو نحو ذلك؛ وكثرة السكان على هذا النحو تستتبع نوعا من الغنى يستطيع معه أهله أن يجدوا زمنا يصرفونه في غير كسب القوت، كما يستتبع نوعا من الرقي السياسي يستطيع الناس معه أن يتبادلوا الآراء والأفكار، وينظروا إلى الحياة غير هذا النظر المادي الوضيع، فينشأ الرأي، وينشأ العلم، ويزهو الأدب
1 .
كذلك تختلف المدن في نوع ما تمتاز به من العلوم، فقد تمتاز مدينة بعلم، وأخرى بعلم آخر، وثالثة بفن أو أدب؛ وهكذا، فأنت إذا رأيت الحديث مثلا ونوعا من التاريخ الإسلامي كان يكثر في الحجاز في ذلك العصر، وأن المذاهب الدينية نبع أكثرها في العراق، وأن النحو نبع في البصرة، فلا تظن أن ذلك كان مجرد اتفاق، بل الواقع أن هناك أسبابا اجتماعية أنتجت ذلك، ولم يكن في الإمكان أن يكون غير ما كان، واختلاف المدن في الشهرة العلمية ونوع العلم الذي تمتاز به يرجع إلى أسباب، أهمها بالنظر إلى العصر الذي نبحث فيه: تكون المدنية الإسلامية على أطلال مدنيات قديمة طبعت البلاد بطابع خاص كالذي كان في مدن العراق والشام، فلما فتحها المسلمون لم تتجرد من طابعها وعقليتها القديمة؛ ولكن أثر فيها الإسلام أثرا جديدا، فكانت العقلية الجديدة نتيجة العاملين معا؛ ومنها أن العلماء الأولين من الصحابة ومن يلحق بهم، مع اختلاف شخصياتهم العلمية التي بينا، نزلوا في البلاد المختلفة، وكونوا فيها مدارس ومذاهب تبعا لمزاجهم العقلي، فتأثرت البلاد التي نزلوا فيها بشخصياتهم، ونهجوا في العلم مناهجهم! ومنها ظهور أحداث سياسية وغير سياسية، كان لها أثر كبير في امتياز بعض المدن بنوع من العلم ونمط من التفكير! فظهور رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مكة وهجرته إلى المدينة جعل لمكة والمدينة صبغة علمية خاصة؛ وكثرة الأحداث السياسية في العراق وتلاحق الفتن فيه كان له الأثر الكبير في نشوء المذاهب الدينية به، وقرار الخلافة الأموية في دمشق لم يخل من أثر في تكييف الحياة العلمية فيها؛ وهكذا مما سنعرض لبيانه بعد، وعلى الجملة فقد كانت أهم المراكز العقلية في ذلك العصر مكة والمدينة في الحجاز، والبصرة والكوفة في العراق، ودمشق في الشام، والفسطاط في مصر.
الحجاز: قطر فقير خلا من الأنهار، وكسيت أرضه غالبا بالصخور والرمال، واشتدت حرارته فلم تسمح للنبات أن ينمو إلا في وديان بعثرت هنا وهناك، يعيش أكثر أهله عيشة بدوية، لم يتصلوا بالعالم الذي حولهم إلا بالقدر الذي أبناه - من قبل - ولم تتعاقب عليهم مدنيات مختلفة تورثهم حضارة وعلما، ولم يصل إليهم من العالم المتحضر إلا أثارة من اليهودية والنصرانية وقليل من الحكمة والفلسفة من طريق غير معبد؛ ومع هذا فإنهم وإن لم يرثوا مدنية وعلما عن أمم حكموهم وتعاقبوا عليهم، فقد أورثهم استقلالهم أنفة وعزة واعتدادا بالنفس وحرية جاوزت الحد، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين.
جاء الإسلام فكان لمدينتي الحجاز - أعني مكة والمدينة - شأن علمي كبير، ولكنه العلم الديني المطبوع بالطبع العربي؛ فأما مكة فلأنها كانت منبع الإسلام وبها كانت نشأة محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبها كانت الأحداث الأولى من دعوة قريش إلى الإسلام ومناهضتهم الدعوة، وبها كان التشريع المكي، وهو لا يفهم فهما حقا حتى يفهم ما كان يحيط به من ظروف مكية، وبعض هذا التشريع الإسلامي إنما هو إقرار لما كان يفعل في مكة قبل الإسلام ككثير من مناسك الحج.
وأما المدينة فمهاجر النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، وبها كان أكثر التشريع الإسلامي، وكانت منبعا لأكثر الأحداث التاريخية في صدر الإسلام، وبها حدث النبي
صلى الله عليه وسلم
أكثر حديثه، وهو لا يفهم تمام الفهم إلا أن يفهم ما أحاط به من ظروف مدنية، وكانت مركز الخلافة في أهم عصر من عصور الإسلام أيام أبي بكر وعمر وعثمان، وبها كان كثير من أكابر الصحابة قد شاهدوا ما فعل النبي وسمعوا ما قال، وكانوا شركاء في بعض ما وقع من أحداث كغزوات وفتوح، فهم يحدثون بما سمعوا وشاهدوا.
فلا غرو إذا أن كانت مكة والمدينة مركزين من أهم مراكز الحياة العلمية في ذلك العصر، يقصدهما طلاب الحديث وطلاب الفقه وطلاب التاريخ، وقد فاقت المدينة مكة في ذلك؛ لأن أشهر من أسلم من أهل مكة هاجر مع النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، وكان من يسلم بعد الهجرة من أهل مكة يهاجر كذلك، خصوصا إذا كان من رجالات قريش وعقلائها؛ ثم كانت المدينة مقصد من يريد الإسلام في عهد النبي من سكان جزيرة العرب، وكثير منهم كانت تدعوه الحماسة الدينية أن يقيم بجوار النبي يتعلم منه ويتعبد معه، ويسمع من قوله، ويشاركه في غزواته؛ وبعد وفاة الرسول كانت مقر الخلافة، ومركز كبار الصحابة، حتى يحرم عمر على كبار قريش أن يبرحوها إلا لحاجة ماسة، وكانت في عهد الفتوح الكبيرة موردا للأسرى، وقد رأيت أن عمر كان يحرم أن توزع الأسرى في مواطن الحروب، فكان يأتي بهم أولا إلى المدينة، وكثير من هؤلاء الأسرى من الفرس والروم وكانوا من الطبقة الأرستقراطية في قومهم، وكانوا متعلمين على النمط الذي ساد في أمتهم وعصرهم، فأقام منهم بالمدينة كثيرون، عد منهم ابن سعد في طبقاته عددا كبيرا، وكانوا موالي لكبار الصحابة وأسلموا على أيديهم فصبغوا الحياة الإسلامية بعقليتهم التي تخالف - من بعض الوجوه - عقلية العرب، وكانوا قد ألفوا في قومهم علما منظما كتبا مدونة، فأخذوا يتبعون هذا في تعاليم الإسلام، كل هذا جعل المدينة تفوق مكة من هذه الناحية العلمية؛ أضف إلى ذلك أن المهاجرين كانوا يكرهون في أول عهد الإسلام - دينا - أن يتحولوا من المدينة إلى مكة، روى ابن سعد: «قال محمد بن عمر: لا نعلم أحدا من المهاجرين من أهل بدر رجع إلى مكة - يعني بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم - فنزلها غير أبي سبرة، فإنه رجع إلى مكة بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
فنزلها، فكره ذلك له المسلمون، وولده ينكرون ذلك، ويدفعون أن يكون رجع إلى مكة فنزلها بعد أن هاجر منها، ويغضبون من ذكر ذلك»
2 .
لهذا كانت مدرسة المدينة أغزر علما وأبعد شهرة، تخرج فيها أكثر علماء ذلك العصر في التفسير والحديث والفقه والتاريخ، يقصدها طلبة العلم من أقاصي البلدان لتلقي العلم عن علمائها؛ فابن الأثير يحدثنا أن عبد العزيز بن مروان بعث ابنه «عمر» إلى المدينة للتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان أن يتعاهده، فأبطأ عمر يوما عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ فقال: كانت مرجلتي تصلح شعري، فكتب إلى أبيه بذلك، فأرسل أبوه رسولا، فلم يزل به حتى حلق شعره، ونرى محمد بن إسحاق والواقدي نشأ بالمدينة وتخرجا في مدرستها، فكان عليهما اعتماد كل من كتب بعدهما في المغازي والسير ؛ وهذا طبيعي، فمن أحفظ لحديث رسول الله وأخبر بغزواته، وأعرف بحياته وحياة خلفائه من أهل المدينة، وبين سمعهم وبصرهم كانت هذه الأحداث؟ والآن نذكر طرفا من أخبار مدرسة مكة ومدرسة المدينة وأشهر علمائهما:
مدرسة مكة:
لما فتح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مكة خلف فيها معاذا يفقه أهلها ويعلمهم الحلال والحرام ويقرئهم القرآن، وكان معاذ من أفضل شباب الأنصار علما وحلما وسخاء، وقد شهد المشاهد كلها مع رسول الله، وكان يعد من أعلم الصحابة بالحلال والحرام ومن أقرئهم للقرآن، وممن جمع القرآن على عهد الرسول، وقد روى عنه ابن عباس وابن عمر، ومات شابا في طاعون عمواس.
كذلك علم بمكة عبد الله بن عباس في أخريات أيامه، فقد علم في البصرة وعلم في المدينة، ثم لما كان الخلاف بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير ذهب إلى مكة وعلم بها، فكان يجلس في البيت الحرام، ويعلم التفسير والحديث والفقه والأدب، وإلى عبد الله بن عباس وأصحابه يرجع الفضل فيما كان لمدرسة مكة من شهرة علمية، وأشهر من تخرج في هذه المدرسة من التابعين مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح، وطاووس بن كيسان
3 ، وثلاثتهم من الموالي، فمجاهد مولى بني مخزوم، وقد اشتهر برواية أقوال ابن عباس في تفسير القرآن، وروي أنه قال: «عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقفه عند كل آية، أسأله فيما نزلت، وكيف كانت؟»
وعطاء كان من مولدي الجند؛ وكان مولى لبني فهر، وكان أسود أفطس مفلفل الشعر، ومن جلة فقهاء مكة وزهادها، وكان يعد من أعلم الناس بمناسك الحج، وكان يجلس في المسجد الحرام ويجتمع الناس حوله فيفتيهم ويحدثهم ويعلمهم.
وطاووس كان من أبناء الفرس في اليمن، وقد أدرك كثيرا من الصحابة وأخذ عنهم ثم انقطع إلى ابن عباس وكان من خاصة تلاميذه، ثم كان من سادة التابعين، ومن فقهاء مكة ومفتيها.
واستمرت هذه المدرسة قائمة تتلقى العلم فيها طبقة عن طبقة، ويطول بنا القول لو عددنا مشهوري العلماء من كل طبقة وترجمة حياتهم، غير أنا نذكر هنا أنه كان من مشهوري الطبقة الخامسة سفيان بن عيينة، ومسلم بن خالد الزنجي، وكلاهما كان من الموالي، وعليهما أخذ الإمام الشافعي القرشي علمه - في نشأته الأولى - فقد ولد بغزة، ثم حملته أمه صغيرا إلى مكة فتعلم الأدب في باديتها، يحفظ الأشعار ويتعلم اللغة، ثم نشأ في مدرستها يأخذ الحديث والفقه عمن ذكرنا من علمائها، ولما قارب العشرين من عمره تحول إلى المدينة يتم فيها دراسته.
مدرسة المدينة:
قلت: إن مدرسة المدينة كانت أكثرها علما وأوفرها شهرة، وأبنت السبب في ذلك، وقد اشتهر فيها كثير من الصحابة العلماء كعمر وعلي؛ ولكن أشهر من امتاز بالعلم فيها وتخصص للحياة العلمية وكثر بها أصحابه وتلاميذه زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ولكن كلاهما يختلف في منحاه العلمي عن الآخر؛ فزيد بن ثابت أنصاري صحب النبي
صلى الله عليه وسلم
منذ صباه، وتعلم السريانية والعبرية، ولكن لا ندري إلى أي حد كان مثقفا بثقافتهما، فهم يحدثوننا أنه تعلم اليهودية في نصف شهر والسريانية في سبعة عشر يوما، وهي أيام قليلة لا تكفي لحذق لغة والقدرة على تفهم آدابها؛ فهل استمر يتعلم حتى نال قسطا من آداب اللغتين؟ ذلك ما لا ندري، كان ضليعا في فهم تعاليم الإسلام، وله القدرة الفائقة على استخراج الأحكام من الكتاب والسنة، ومن الرأي - إذا لم يكن كتاب ولا سنة - حتى قال سليمان بن يسار: «ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحدا في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة»، وقال القاسم: «كان عمر يستخلف زيد بن ثابت في كل سفر يسافره، وكان يفرق الناس في البلدان ... ويطلب إليه الرجال المسمون (النابهون) فيقال له زيد بن ثابت، فيقول: لم يسقط على مكان زيد، ولكن أهل البلد يحتاجون إلى زيد فيما يجدون عنده فيما يحدث لهم ما لا يجدون عند غيره»؛ وقال قبيصة: «كان زيد بن ثابت مترئسا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة وبعد ذلك خمس سنين حتى ولي معاوية سنة 40ه، فكان كذلك أيضا حتى توفي زيد سنة 45»، وكان ابن عباس يأخذ بركابه ويقول: «هكذا يفعل بالعلماء والكبراء» وكان ذا عقل رياضي فكان أعلم الناس بالفرائض (المواريث وتقسيمها)، وولي قسمة الغنائم في اليرموك، وعلى الجملة فكان عالما وفقيها معا، أعني واسع الاطلاع، قادرا على استنباط المعاني، ذا رأي فيما لم يرد فيه أثر، ويروى أن حسان بن ثابت رثاه فقال:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه
ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت
وهذه «المعاني» التي وردت في هذا البيت هي الميزة التي امتاز بها عن عبد الله بن عمر، فقد كان عبد الله عالما فقط؛ يجمع الأحاديث ويرويها ويكتبها ويتحرج من الفتوى وإبداء الرأي، وهما نزعتان ظلتا تسيران جنبا إلى جنب عهدا طويلا كما سيأتي بيانه.
على هؤلاء العلماء من الصحابة في المدينة تخرج كثير من علماء التابعين، من أشهرهم سعيد بن المسيب - وكان من تلاميذ زيد بن ثابت يحفظ قضاياه وفتاويه، ويفضل قوله على قول غيره - وعروة بن الزبير بن العوام وكان من أعلم أهل المدينة وأورعهم وعن هذه الطبقة أخذ ابن شهاب الزهري القرشي، وقد حفظ فقه علماء المدينة وحديثهم، وكان من أسبق العلماء إلى تدوين العلم، واتصل بكثير من خلفاء بني أمية، وكان موضع احترامهم، كعبد الله بن مروان وهشام، واستقضاه يزيد بن عبد الملك، وقال فيه عمر بن عبد العزيز: «إنكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه».
وأخيرا أنجبت هذه المدرسة مالك بن أنس إمام دار الهجرة. •••
بجانب هذه الحياة الجليلة الوقورة، التي تصفها لنا كتب طبقات المحدثين والفقهاء والمفتين، كانت تسود في الحجاز حياة أخرى، هي حياة فرح ومرح وطرب وشراب، تصفها لنا كتب الأدب وخاصة كتاب الأغاني، فمن الحق أن نصور هذا العصر من جميع جهاته كما كان، بالحجاز زهد وورع وتقوى وحديث وفقه؛ وكان بالحجاز شراب وتشبيب بالنساء - حتى في موسم الحج - ولهو ولعب كثير، وكما أنتجت الحياة الأولى علما كثيرا، أنتجت الحياة الثانية فنا بديعا من غناء وتنادر وأدب، ومن العجب أن يفوق هذا الفن في الحجاز مثيله في العراق والشام - على ما يظهر لنا - فقد امتلأت مكة والمدينة وضواحيهما بالمغنين والمغنيات، حتى روى لنا أبو الفرج أن المغنين كانوا يخرجون إلى الحج قوافل؛ واشتهر في عصر واحد أربعة من كبار المغنين: ابن سريج، والغريض، ومعبد، وحنين، وكان الثلاثة الأولون بالحجاز، والأخير وحده بالعراق، فاجتمع الأولون فتذاكروا، وكتبوا لحنين يقولون: نحن ثلاثة وأنت وحدك فأنت أولى بزيارتنا! فشخص إليهم ... واجتمعوا بمنزل سكينة، فلما دخلوا أذنت للناس إذنا عاما فغصت الدار بهم ... وازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه، فسقط الرواق على من تحته ومات حنين تحت الهدم
4 ، واجتمع في زمن واحد من مشهوري المغنين والمغنيات في الحجاز جميلة وهيت وطويس والدلال وبرد الفؤاد ونومة الضحى ورحمة وهبة الله ومعبد ومالك وابن عائشة ونافع بن طنبورة وعزة الميلاء وحبابة وسلامة وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء ... إلخ، ويرون أن هؤلاء حجوا فتلقاهم في مكة سعيد بن مسجح وابن سريج والغريض وابن محرز، وخرج أبناء أهل مكة من الرجال والنساء ينظرون إلى حسن هيئتهم ... إلخ
5 ، ويقول أبو الفرج: «إن الناس قد اجتمعوا عند جميلة فضربت ستارة، وأجلست الجواري كلهن، فضربن، وضربت، فضربن على خمسين وترا فتزلزلت الدار، ثم غنت على عودها، وهن يضربن على ضربها» ... إلخ
6 .
وكان لمغني مكة مذهب في الغناء ولمغني المدينة مذهب، وكان بين الفريقين مفاخرة، وأقبل الناس على الغناء يسمعونه، حتى يروي لنا أبو الفرج أيضا أنه نمى إلى عبد الملك أن رجلا أسود بمكة يقال له سعيد بن مسجح أفسد فتيان قريش وأنفقوا عليه أموالهم، فكتب إلى عامله أن اقبض ماله وسيره
7 ، وحتى يروى لنا أن الإمام مالك بن أنس قال: «نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنين واتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي عز وجل ما ترى»
8 .
وإلى الغناء كان التنادر والفكاهة الحلوة، فكان الناضري مندر أهل المدينة ومضحكهم، ثم خلفه أشعب، فملأ الحجاز ملحا ونوادر، كما أمتع أهله بحسن صوته، وخلف لنا في كتب الأدب نوادر ممتعة، أضحك بها أهل المدينة في مجالسهم.
والحق أن الحجاز كان غنيا بفني الغناء والمنادرة ، كما كان غنيا بالفقه والحديث، وكان أكثر المغنين في قصور أمراء بني أمية وخلفائهم ممن تخرجوا في مدرسة الحجاز، وليس عجيبا أن يكثر الفقه والحديث في الحجاز لما بينا، إنما كان عجيبا أن يبز الحجاز العراق والشام في الغناء وما إليه، فقد كان أقرب إلى الذهن أن يكون العراق وارث المدنيات المتتابعة، أو الشام - وقد تحضر بحضارة الرومانيين - أسبق من الحجاز في إجادة الغناء وما يحيط به من لهو ومجون، والحجاز كما قدمنا أقرب إلى البداوة، وهو إذا قورن بالعراق أو الشام كان فقيرا مجدبا، فما السر في ذلك؟
لعل السبب ما نراه في ثنايا الكتب من ظرف أهل الحجاز ورقة شعورهم، وأنهم في ذلك العصر فاقوا أهل العراق والشام، حتى لقد كان فقهاء الحجاز أوسع صدرا وأكثر تسامحا في الغناء والمجون من أهل العراق، وقد رأينا قبل أن ما لأهل العراق من تشدد في الدين كان وليد الفرس؛ جاء في الأغاني أن عبيد الله بن عمر العمري قال: «خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها: يا أمة الله! ألست حاجة؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ثم قالت: تأمل يا عمي فإني ممن عنى العرجي بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
قال: فقلت لها: فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار، وبلغ ذلك سعيد بن المسيب (مفتي المدينة) فقال: أما والله لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال لها: اعزبي قبحك الله، ولكن ظرف عباد الحجاز»
9 .
وروى أن سعد بن إبراهيم - وكان يقضي بين الناس في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم - جلد داود بن سلم؛ لأنه رأى عليه ثيابا ملونة يجرها في سماجة، فقال الشاعر:
جلد العادل سعد
بن سلم في السماجه
فقضى الله لسعد
من أمير كل حاجه
10
وتقرأ في الأغاني ترجمة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أحد الفقهاء السبعة فترى له شعرا في الغزل ظريفا
11 .
وروى في موضع آخر عن داود الثقفي، قال: «كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا، وعنده جماعة فيهم عبد الله بن المبارك وعدة من العراقيين، إذ مر به ابن ميزن المغني فدعاه ابن جريج، فقال له: أحب أن تسمعني، قال: أنا مستعجل، فألح عليه ... فغناه، وقال: لولا مكان هؤلاء الثقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي وطرك! فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: لعلكم أنكرتم ما فعلت!
فقالوا: إنا لننكره عندنا بالعراق ونكرهه، قال: فما تقولون في الرجز؟ يعني الحداء.
قالوا: لا بأس به عندنا، قال: فما الفرق بينه وبين الغناء؟!»
12
ويحكي الأغاني أيضا أن حنينا خرج إلى الشام واجتمع بالفتيان، فقلب لهم الغناء على جميع ألوانه فلا فكهوا له ولا سروا به، وتمنوا أبا منبه، فلما حضر غنى لهم غناء سخيفا فطربوا له، فأقسم ألا يبيت في هذا البلد!
13
وقد يكون السبب أن الحجاز كان به أرستقراطية العرب وهم العنصر الفاتح، وقد نال هؤلاء الأرستقراطيون خير الجواري وأرفعهن نسبا، وأكثرهن تأدبا؛ ومنهن من تربي ببيت الملوك والأمراء، وتأدب بآداب الحضارة، فنقلن ذلك إلى الحجاز وصبغنه بالصبغة العربية، وكان لهن الفضل في تأسيس مدرسة الغناء في الحجاز.
وقد تكون العلة أن البدو إذا تحضروا وبسط لهم في العيش أسرفوا في اللهو، شأن كثير ممن غني بعد الحرمان.
وربما كان السبب أن الأمويين تبوءوا الخلافة وحصروها فيهم، بل في بيت من بيوتهم وضيقوا على من عداهم في بطون قريش، وحجروا عليهم التفكير في الشئون السياسية، وكان الشام هو العنصر المؤيد لخلفاء بني أمية، والعراق هو العنصر المعارض، فانصرف فتيان الحجاز بما لهم من مال وفير وجاه عزيز عن الإمارة والخلافة والسياسة إلى اللهو، فكان الظرف ، وكان الغناء، وكان الشراب، وكان المجون.
وقد يكون من الحق أن تكون كل هذه أسبابا أنتجت ما ذكرنا.
وكان لهذا النوع من الحياة أثر في الأدب كبير، ليس من شأننا هنا التعرض له.
العراق: هو الجزء الجنوبي من وادي دجلة والفرات، خصبت أرضه وغزر ماؤه، واعتدل جوه ، فكان من أسبق الأقاليم مدنية وعمرانا، فقديما تعاقبت عليه الأمم المتحضرة من نحو ثلاثين قرنا قبل الميلاد؛ فالبابليون والآشوريون والكلدانيون والفرس واليونان، كل هؤلاء أنشئوا في العراق ممالك تختلف صبغتها، وكانت مدنيتهم منارا يلقي أشعته على ما حوله من البلدان.
وقديما عرفه العرب فنزلت فيه قبائل من بكر وربيعة، ثم كونوا فيه إمارة هي إمارة المناذرة في الحيرة - وهي التي وصفناها قبل - ثم استولوا عليه بعد الإسلام في عهد عمر، وأنشئوا فيه البصرة والكوفة، فأسرع إليهما النمو، وتحولت إليهما كنوز المدائن، وحضارة بابل والحيرة، وتركزت فيهما مدنية العراق في عهد الأمويين، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكانوا أحيانا يطلقون عليهما «العراقين».
لما فتح العراق وسمع العرب بغناه رغبوا في الرحلة إليه، جاء في الطبري: «بعث عتبة أنس بن حجية إلى عمر بمنطقة مرزبان دست ميسان، فقال له عمر: كيف المسلمون؟ فقال: انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس في البصرة فأتوها»، وترك عمر الأرض في يد أهلها ووضع عليها الخراج فجعل على جريب
14
النخل عشرة دراهم، وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب البر أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين؛ فبلغ الخراج - على ما يقولون - مئة مليون درهم، وضرب على أهلها الجزية، فكان من تجب عليهم الجزية 550000، وتختلف قيمة الجزية - كما علمت - بين 48 درهما في السنة و24 و12 حسب الثروة: فترى من هذا مقدار ثروة العراق وغناه، مما حبب إلى العرب سكناه.
رحل العرب إلى العراق يحملون بين جنوبهم العصبية القبلية
15
وأرستقراطية الفاتح، فكان من مظاهر الأمر الأول أن البصرة والكوفة خطط كل منهما تخطيطا قبليا، فقد قسمت الكوفة مثلا قسمين: القسم الشرقي - وكان خير القسمين - والقسم الغربي ، فاقترع على من يأخذ خير القسمين: اليمنيون أم النزاريون؟ فنال القسم الشرقي اليمن، والقسم الغربي نزار، ثم اختط كل فريق جزءا من أرضه حسب القبائل
16 ، ويروي الشعبي أن اليمنيين بالكوفة كانوا أكثر من النزاريين، فكان اليمنيون اثني عشر ألفا، والنزاريون ثمانية آلاف
17 ، وكانت هذه العصبية مثارا للنزاع الشديد كما رأيت - مما حكينا عن ابن أبي الحديد - وكان عرب الكوفة إذا قاتلوا عرب البصرة انحازت كل قبيلة ناحية وقاتلت مثيلتها في الجانب الآخر، فيمن الكوفة يقاتلون يمن البصرة، وربيعة الكوفة تقاتل ربيعة البصرة، ومضر الكوفة تقاتل مضر البصرة
18 .
وأما أرستقراطية الفاتح فكان مظهرها في موقف العرب إزاء الموالي، فقد كان أكثر سكان العراق من الفرس، والعرب فيه أقلية، فقد رأيت أنه أحصي من تجب عليهم الجزية في العراق فكانوا خمس مئة ألف وخمسين ألفا، هذا عدا من أسلموا من الفرس ولم تجب عليهم الجزية، هؤلاء الموالي كانوا يحالفون العرب ويدخلون في ولائهم لحمايتهم، ويعدونهم سادتهم، ويتعصب كل قوم منهم للقبيلة التي حالفوها من العرب، يقول البلاذري: «حالفت الأساورة
19
الأزد، ثم سألوا عن أقرب الحيين - من الأزد وبني تميم - نسبا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء، وأقربهم مددا، فقيل بنو تميم، فحالفوهم»، وكان هؤلاء الموالي هم القائمين بالحرف والصناعات والتجارة في العراق، وكان العنصر السائد المشرف على الأمر الذي بيده زمام الحرب هم العرب.
تحولت هذه العصبية القبلية إلى عصبية للمدينة التي سكنوها، فعرب الكوفة ومواليها يتعصبون للكوفة، وعرب البصرة ومواليها يتعصبون للبصرة؛ يفخر كل منهما بطبيعة الأرض وموقعها الجغرافي، ويفخر كل بما كان على يده من فتوح البلدان، ويفخر كل بمن نزل عندهم من صحابة رسول الله، ويعير كل الآخر ما نبت عنده من دعاة للضلالة؛ وأخيرا كانوا يتفاخرون بالعلم
20 ، وظهرت هذه المفاخرات العلمية والمناظرات، وتعصب كل مدينة لعلمائها، ظهورا بينا في كثير من فروع العلم؛ فالبصريون والكوفيون في النحو، والبصريون والكوفيون في الفقه، والبصريون والكوفيون في المذاهب الدينية وعلم الكلام، والبصريون والكوفيون في الأدب؛ يقول أعشى همدان:
اكسع البصري إن لاقيته
إنما يكسع من قل وذل
واجعل الكوفي في الخيل ولا
تجعل البصري إلا في النفل
وإذا فاخرتمونا فاذكروا
ما فعلنا بكم يوم الجمل
بين شيخ خاضب عثنونه
وفتى أبيض وضاح رفل
جاءنا يخطر في سابغة
فذبحناه ضحى ذبح الحمل
وعفونا فنسيتم عفونا
وكفرتم نعمة الله الأجل
ويظهر أن العراق - على الجملة - كان أكثر البلاد الإسلامية ثروة علمية وأدبية - إذا استثنينا بعض فروع تفوق فيها أهل الحجاز - ولثروة العراق العلمية أسباب أهمها: (أولا):
أن العراق - كما علمنا - أسس على مدنيات قديمة لها علم مأثور، فكان طبيعيا أن ينهض أهله بعد ثروة الفتح فيستعيدوا حضارتهم القديمة وعلمهم الموروث، كان السريانيون منتشرين في أرض العراق قبل الفتح، ولهم مدارس يدرسون فيها الآداب اليونانية، وكانت في العراق مذاهب نصرانية تتجادل في كثير من العقائد كالذي رأيت، وكان في الحيرة يونان مثقفون من أسارى الحروب الفارسية اليونانية، فكان لا بد أن تتخلف من هذا جميعه آراء وأفكار خمدت أثناء الحروب، ثم استيقظت بعد أن قرت سياسة البلاد، وكان كثير من أهل العراق دخل في الإسلام، فأخذت هذه الآراء تصطبغ بالصبغة الإسلامية، يزهر منها ما يتفق والإسلام، ويذبل منها ما يخالفه.
أضف إلى ذلك أن العراق - كما علمت - قطر غني يتوافر فيه العيش فيجد الناس من أوقاتهم ما يسمح لهم بالعلم. (ثانيا):
لعل العراق كان أكبر الأقاليم الإسلامية ميدانا للحروب والفتن في عهد الدولة الأموية، فمنذ مقتل عثمان وهو مشتعل؛ ذهبت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة، فذهب علي إلى الكوفة، وكانت بين البصرة والكوفة وقعة الجمل؛ وذهب الحسين إلى الكوفة فكان بها مقتله؛ وخرج المختار الثقفي بالكوفة يطلب بثأر الحسين، واستولى مصعب بن الزبير على البصرة وسار إلى الكوفة فقتل المختار؛ وجهز عبد الملك جيشا وسير إلى العراق مصعبا؛ وتغلب عبد الرحمن بن الأشعث على الكوفة فسار إليه الحجاج وتغلب عليه، كان من أثر ذلك طبيعيا أن يتساءل الناس: من المخطئ ومن المصيب؟ هل أخطأ قتلة عثمان أو أصابوا؟ هل لعلي يد في دم عثمان؟ هل لطلحة والزبير وعائشة حق في قتال علي؟ هل أصاب علي في التحكيم؟ هل يصح الخروج على عبد الملك لظلم واليه والحجاج وسفكه للدماء؟ وهل أصاب من فعل ذلك وخرج مع ابن الأشعث؟ كل هذه أسئلة كانت تثار، وكانت تثار بكثرة حتى في دروس الأساتذة في المساجد، وإذ كان العراق ميدانا لأكثر هذه الحروب كان أهله أكثر الناس جدالا في هذا، فكان طبيعيا أن يكون منبعا للكثير من المذاهب الدينية؛ لأن كثيرا منها بني على نحو هذا الأساس كما سيأتي بيانه، جاء في طبقات ابن سعد: أن الحسن البصري كان من رءوس العلماء في الفتن والدماء، ودخل عليه قوم فقالوا له: يا أبا سعيد، ما تقول في هذا الطاغية (يعني الحجاج) الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ ... إلخ، وقال: «سأل رجل الحسن: ما تقول في الفتن؟ مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب، ثم قال بيده فخطر بها، ثم قال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ نعم ولا مع أمير المؤمنين»
21
إلى كثير من أمثال ذلك. (ثالثا):
كان العراق عربا وموالي - كما علمت - وكانت السيادة للعرب، فاضطر الموالي لتعلم اللغة العربية لدينهم ولدنياهم، فكانوا مضطرين إلى نوع من العلم يسهل لهم طريق التعلم، فمست الحاجة إلى وضع علم النحو، وكان طبيعيا أن ينشأ ذلك في العراق لا في الحجاز ولا في الشام؛ لأن الحجاز لم يكن في حاجة إلى قواعد يقيم بها لسانه؛ لأن موالي العراق أكثر رغبة من موالي الشام، لما علمت من أن رغبة الفرس في العربية كانت أكثر من رغبة سواهم، ولأن الآداب السريانية كانت في العراق قبل الإسلام، وكان لها قواعد نحوية، فكان من السهل أن توضع قواعد عربية على نمط القواعد السريانية، خصوصا واللغتان من أصل سامي واحد؛ لهذا كان السابقون إلى وضع النحو هم البصريين أولا ثم الكوفيين، وفاق البصريون لقربهم من بادية العرب وبعد الكوفيين عن البادية الفصيحة.
والآن نستعرض باختصار الحركة العلمية في البصرة والكوفة من مبدئها:
الكوفة:
نزل الكوفة من أصحاب رسول الله كثيرون، وكان أشهرهم في العلم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود؛ فأما علي فكان عمله السياسي في العراق واشتغاله بالحرب وشئونها مانعا له من التفرغ للتعليم؛ وأما ابن مسعود فهو أكثر الصحابة أثرا علميا فيها، كان ابن مسعود من أول الناس إسلاما، حتى روي أنه سادس ستة أسلموا، وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر، وإلى المدينة، ولازم النبي
صلى الله عليه وسلم
يخدمه، وسمح له أن يدخل بيته حين لا يسمح لغيره، وشغف بالقرآن يحفظه ويتفهمه؛ كل ذلك جعله يفهم من تعاليم الإسلام ومعاني القرآن وأعمال الرسول ما عد من أجله من كبار علماء الصحابة، بعثه عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يعلمهم، فأخذ عنه كثير من الكوفيين، ولزمه تلاميذ له يتعلمون عنه العلم ويتأدبون بأدبه، قال فيهم سعيد بن جبير: «كان أصحاب عبد الله سرج هذه القرية» (يعني الكوفة)، وكان يعلم الناس القرآن ويفسره ويروي أحاديث سمعها من رسول الله، ويسأل عن حوادث فيفتي فيها استنباطا من الكتاب أو السنة أو برأيه - إذا لم يرد فيها كتاب ولا سنة - واشتهر من مدرسته هذه ستة، كانوا يعلمون القرآن ويفتون الناس: علقمة، والأسود، ومسروق، وعبيدة، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل، وهؤلاء خلفوا عبد الله بن مسعود في التعليم بالكوفة، ولم يكن كل علماء الكوفة أخذ عن عبد الله بن مسعود، بل كثير منهم كانوا في المدينة، وأخذوا عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومعاذ ونحوهم، فتكونت في الكوفة حركة علمية كبيرة، واشتهر من علمائها شريح والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير، ولم تزل هذه الحركة تنمو وتنضج حتى توجت بأبي حنيفة النعمان الكوفي.
البصرة:
كذلك نزل في البصرة عدد كبير من الصحابة، أشهرهم في العلم أبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك.
فأما أبو موسى فيمني، قدم مكة وأسلم وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر، وكان يعد من أعلم الصحابة، وقد قدم البصرة وعلم بها: سأل عمر بن الخطاب أنس بن مالك: كيف تركت الأشعري؟ فقال: تركته يعلم الناس القرآن، فقال: إنه كبير ولا تسمعها إياه
22 ، ويدل ما روي عنه - من قضاء بين الناس وفصل في الخصومات - على أنه كان فقيها فوق معرفته القرآن والحديث، أما أنس بن مالك فكان أنصاريا وكان صبيا لما قدم النبي المدينة، وخدمه نحو عشر سنين، وقد نزل البصرة وعمر فيها طويلا، وكان آخر من توفي بالبصرة من الصحابة، وتوفي سنة 92ه، ولكن يظهر أنه لم يبلغ في العلم مبلغ أبي موسى الأشعري، ولا عبد الله بن مسعود في الكوفة، وكان محدثا أكثر منه فقيها.
وأشهر من خرجته مدرسة البصرة في عهد الأمويين الحسن البصري وابن سيرين، وكلاهما من أبناء الموالي من سبي ميسان، وكلاهما أتاه العلم عن طريق الولاء فأبو الحسن البصري كان مولي لزيد بن ثابت، وهو من أشهر علماء الصحابة؛ وسيرين أبو محمد كان مولى لأنس بن مالك، وهو من علمت صحبة وحديثا، وكلاهما كانت له شخصية ظاهرة في البصرة، فالحسن البصري اشتهر بمتانة خلقه وصلاحه وعلمه وفصاحته؛ فأما متانة خلقه فتظهر في أنه لم يكن يخشى أحدا في إبداء رأيه، سئل عن ولاية يزيد بن معاوية فلم يستصوبها، على حين أن الشعبي وابن سيرين لم يجرءوا على إبداء رأيهما، وقد رأيت قبل، أن سائلا سأله عن الدخول في الفتن فكان لا يرى الدخول فيها، فسأله: ولا مع أمير المؤمنين؟ فقال: ولا مع أمير المؤمنين! وكان يقارن بالحجاج في فصاحته، وفوق ذلك كان ورعا تقيا يعده الصوفية أحدهم، ويتمثلون بحكمه وجمله؛ ويعده المعتزلة رأسهم؛ لأنه تكلم في القضاء والقدر، وكان يذهب إلى أن الإنسان حر الإرادة، كان فقيها يستفتى فيما يعرض من الحوادث فيفتي بعلم؛ وكان قصاصا يعد من سادة القصاص وأصدقهم، لذلك كان الحسن شخصية ممتازة في كل ناحية من النواحي التي ذكرناها، ويروي ابن خلكان أنه لما مات (سنة 110ه) تبع أهل البصرة كلهم جنازته، حتى لم يبق بالمسجد من يصلي العصر.
وأما ابن سيرين فقد تعلم على زيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وشريح وغيرهم، وكان محدثا ثقة وفقيها يفتي فيما يعرض عليه من الشئون، وكان معاصرا للحسن البصري، وكانا صديقين حينا، وبينهما وحشة حينا ، وسبب الوحشة على ما يظهر اختلاف طباعهما، فقد كان الحسن صريحا شديدا حزينا غضوبا، لا يخشى أن يقول ما يعتقد حتى في المسائل السياسية الخطرة؛ وكان ابن سيرين حليما ضحوكا، يتحرج أن يقول ما يؤخذ عليه
23 ، وقد اشتهر فيما بعد بتفسير الأحلام وزيف عليه كتاب في ذلك، وقد ذكره ابن النديم في الفهرست ونسبه إليه، ولكنا لا نجد أثرا لشهرته في تعبير الرؤيا في كتب المتقدمين أمثال طبقات ابن سعد، ومات سنة 110ه، وكان الحسن وابن سيرين يعدان سيدي أهل البصرة. •••
وكان في العراق حركة غير الحركة الدينية، تعد كأنها امتداد للحياة العقلية الجاهلية، مصبوغة بالصبغة الإسلامية، فقد كان للقبائل العربية النازلة بالبصرة والكوفة رؤساء، وكان هؤلاء الرؤساء أشبه شيء برؤساء القبائل في الجاهلية في السيادة على قبائلهم، والتفاف الناس حولهم، والخضوع لإشارتهم في السلم والحرب، ووقوف الشعراء ببابهم يتغنون بمدحهم، وينشرون مفاخرهم، ويهجون أعداءهم، ويتغنى هؤلاء السادة بالسيادة والمروءة وبذل المال وما إلى ذلك، كالأحنف بن قيس سيد تميم البصرة، والحكم بن المنذر بن الجارود سيد عبد القيس البصرة، ومالك بن مسمع سيد بكر البصرة، وقتيبة بن مسلم سيد قيس البصرة، ومحمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة سيد تميم الكوفة، وحسان بن المنذر من ضبة الكوفة، وحجر بن عدي ومحمد بن الأشعث سيدي كندة الكوفة وغيرهم، وهؤلاء وأمثالهم كانوا مصدرا لحياة أدبية قوية، من شعر يشبه الشعر الجاهلي، وحكم تشبه التي تروى عن أكثم بن صيفي؛ وليس هذا موضوع شرح هذه الحركة الأدبية، ولكن لا بأس من تصوير شخصية من هذه الشخصيات الكبيرة ليتبين لنا منحاها في الحياة وتأثيرها في الأدب، ولتكن شخصية الأحنف بن قيس.
كان الأحنف - كما ذكرت - سيد بني تميم في البصرة، وكان كما يقولون إذا غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يدرون فيم غضب، يدخل بنو تميم الحرب مع من أحب الأحنف، ويكفون إذا كف؛ وعرف معاوية منزلته في قومه وسيادته فقربه وأكرمه، وأوصى ولاته بذلك، حتى كان يعزل الوالي إذا غضب عليه الأحنف، ويحتمل منه معاوية الكلمة القارصة ويداريه، قال له معاوية يوما: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي (لأن الأحنف كان مع علي)، فقال الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادنا، وإن تدن من الحرب فترا ندن منها شبرا، وإن تمش إليها نهرول لها! وكان له فضل في التأليف بين كثير من القبائل المتعادية في البصرة؛ وكان مثلا في علو النفس والاحتفاظ بالكرامة والمروءة، ولما مات قيل: «مات سر العرب»، وأبنته امرأة فقالت: «لقد كنت في الحي مسودا، وإلى الخليفة موفدا، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك متبعين»، وله من الأقوال المأثورة والحكم ما ملأ كتب الأدب، مثل: «لا خير في لذة تعقب ندما»، «لن يفتقر من زهد»، «أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك»، «ما أقبح القطيعة بعد الصلة»، «أنفق في حق ولا تكن خازنا لغيرك»، «لا راحة لحسود، ولا مروءة لكذوب» ... إلخ. •••
أما الحركة الفلسفية في العراق فسنشير إليها عند الكلام على المذاهب الدينية، وقد أينعت في الدولة العباسية حتى نبغ من الكوفة كثيرون من الفلاسفة، ونبغ من البصرة جماعة «إخوان الصفا».
الشام: قطر غني، خصب الأرض، كثير المياه، معتدل الجو، كان مبعثا لكثير من الأنبياء، فنشروا فيه تعاليمهم الدينية
24 ، وتعاقبت عليه المدنيات المختلفة فأورثته علمها وحضارتها؛ ففينيقيون وكلدانيون ومصريون وعبريون ويونانيون ورومانيون، كل هؤلاء كانت لهم مدنية، وكان لهم علم، وانتشر علمهم في البلاد، وكان من أهل الشام أنفسهم من شارك في العلم ونبغ فيه، وبارى علماء الأمم المستعمرة، واشتهر في الشام كثير من المدن، كان مركزا للعلم والحركة العقلية، كصور وأنطاكية وصيدا وبيروت ودمشق وحمص؛ أورثها الفينيقيون حروف الكتابة، والعبريون التعاليم الإلهية، واليونان المذاهب الفلسفية، والرومان النظريات الفقهية، فكان لذلك كله الأثر الكبير في عقلية الشاميين، وقد ذكرنا قبل ذلك طرفا مما كان للسريانيين من حركة علمية في هذه البقاع وما حولها.
وقد عرف العرب في جاهليتهم هذه البلاد، فزحفوا إليها طمعا في خيراتها، وأنشئوا ولايات بها في حمص وبطرة من أول القرن الثاني قبل الميلاد؛ ثم كانت في القرن الخامس الميلادي إمارة الغساسنة وقد سبق ذكرها، وقد تأقلموا بإقليمها؛ واعتنقوا النصرانية بعد انتشارها في ربوع الشام، وتمدنوا بشيء من مدنيتها، وتكلموا بلغة هي خليط من الآرامية والعربية، وعدوا أنفسهم سوريين يرتبطون بسوريا أكثر مما يرتبطون بجزيرة العرب.
فتح الإسلام هذه البلاد ونشر لغته وتعاليمه بها، فأخذ عرب الشام يتعلمون لغة قريش، وبدأ أهل الشام أنفسهم يتعلمونها، ويتكلمون بها مع لغتهم الآرامية أو اليونانية؛ كذلك أخذ الإسلام يحل فيها محل النصرانية واليهودية، ودخل كثير من الشاميين في الإسلام، وبعث عمر إليهم من يعلمهم الدين الجديد، شأنه مع كل الممالك التي فتحت في عهده.
أورد البخاري في التاريخ: أن يزيد بن أبي سفيان كتب إلى عمر: «قد احتاج أهل الشام إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأرسل معاذا وعبادة وأبا الدرداء»، فكان هؤلاء أول مؤسسي المدرسة الدينية بالشام؛ فأما معاذ فقد قرأت طرفا من سيرته العلمية عند الكلام على مدرسة مكة، وقد قضى آخر حياته في الشام معلما؛ وأما عبادة بن الصامت فهو كذلك أنصاري كان ممن جمع القرآن، وولاه أبو عبيدة إمرة حمص وولي قضاء فلسطين، وكان من أفقه الناس في دين الله، كما كان شديدا في الحق، أنكر على معاوية كثيرا من أموره فشكاه إلى عثمان، ومات بالشام، وأما أبو الدرداء فأنصاري، كذلك كان من أفضل الصحابة وفقائهم، وقد ولي القضاء بدمشق وتوفي بها.
وقد تفرق هؤلاء الثلاثة في بلاد الشام يعلمون أهلها، فقد نزلوا جميعا أولا في حمص، ثم خلفوا بها عبادة وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ، ومعاذ إلى فلسطين، ثم خرج عبادة بعد إلى فلسطين، وقد بعث عمر بعد هؤلاء عبد الرحمن بن غنم، فتخرج على يديهم جميعا كثير من التابعين كأبي إدريس الخولاني، ثم مكحول الدمشقي، وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة؛ وتخرج في هذه المدرسة إمام أهل الشام عبد الرحمن الأوزاعي الذي يقرن بمالك وأبي حنيفة، وقد ولد ببعلبك وعاش في دمشق وبيروت، ولقب «بإمام أهل الشام» وقلده أهلها، وانتشر مذهبه في المغرب والأندلس، ولكن هزمه مذهبا الشافعي ومالك، فأسرع إليه الفناء.
كانت دمشق مركز الخلافة في عهد الدولة الأموية، فكان طبيعيا أن يقصدها العلماء من كل صقع، ولكن خلفاء بني أمية لم يشجعوا الحركة العلمية - لما بينا قبل - إنما شجعوا الشعر والخطابة وفنون الأدب، فكانت الحركات العلمية الأخرى تنمو من نفسها، وأهم هذه الحركات الحركة الدينية، وكان الباعث على نموها الحماسة الدينية، وحاجة الناس إلى معرفة الحلال والحرام، وخاصة فيما يعرض من الحوادث التي لم تكن تعرض في صدر الإسلام.
وكان بالشام نصارى كثيرون احتفظوا بدينهم، ورضوا بدفع الجزية عن رءوسهم والخراج عن أرضهم، ودخل كثير من نصارى الشام في الإسلام، وكان من هؤلاء وهؤلاء مثقفون بالثقافة النصرانية وقامت المساجد بجانب الكنائس، فسرعان ما كان الاحتكاك بين الإسلام والنصرانية، وكان بينها جدال وحوار وخصومة، يدل عليها ما أثر من كتابة يحيى الدمشقي النصراني كما أسلفنا، وقد سبب هذا الاحتكاك ظهور الكلام في القضاء والقدر أو الجبر والاختيار، والكلام في صفات الله هي عين الذات أو غيرها، ولعل هذا هو الأساس الأول لعلم الكلام في الإسلام.
مصر: فتح المسلمون مصر والثقافة اليونانية الرومانية متشرة فيها، وقد ذكرنا قبل شيئا عن مدرسة الإسكندرانيين ومذاهبهم وتعاليمهم، فلما تم فتحها أقبل العرب عليها لما سمعوا بغناها وخصب أرضها، وخططوا الفسطاط حسب قبائلهم، ونزلوا بالمدن والأرياف واستوطنوها، واتخذوا الزرع معاشا؛ ودخل كثير من القبط في الإسلام، واختلطت أنساب العرب بأنساب المصريين بما كان بينهم من تزاوج
25 .
أصبحت مصر منذ دخول العرب إليها مركزا علميا في المملكة الإسلامية كما هي مركز سياسي، ولكن الحركة العلمية في بدء عهدها لم تكن حركة فلسفية ولا دنيوية، إنما كان شأنها شأن جميع المراكز العقلية إذ ذاك، فأكبر شيء قيمة هو الدين، فكان طبيعيا أن يكون العلم السائد في هذا العصر في جميع الأقطار هو علم الدين وما إليه؛ ولكن ليس معنى هذا أن الثقافة اليونانية الرومانية التي كانت منتشرة في مصر والشام والعراق قد بادت ولم يعد لها من أثر، إنما أصابتها دهشة الفتح وخضعت لقوة الحركة الدينية، فلما هدأت النفوس أخذت هذه الثقافة اليونانية الرومانية تستعيد نشاطها وقوتها بعد أن صبغت بالتعاليم الإسلامية، وعدلت حسب ما يتفق والإسلام، ولكن هذا النشاط لم يظهر إلا آخر الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية.
كان من الصحابة الذين نزلوا بمصر علماء علموا بها، وكانوا أساس مدرستها، وأشهرهم عبد الله بن عمرو بن العاص؛ وقد كان عبد الله هذا من أكثر الناس حديثا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان يدور ما يسمع، قال مجاهد: «رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة فسألته عنها، فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ليس بيني وبينه فيها أحد»
26
وكان مع هذا كثير الاطلاع في غير الحديث؛ فابن حجر في الإصابة يروي لنا أنه كان يقرأ التوراة، وابن سعد في طبقاته يروي لنا عن شريك أنه قال: رأيت عبد الله بن عمرو يقرأ بالسريانية، وقد روى عنه الحديث كثير من الصحابة والتابعين في المدينة والشام ومصر، وقد خرج مع أبيه إلى مصر عندما ولاه إياها معاوية، ولما حضرت الوفاة عمرا استعمل ابنه عبد الله عليها، فأقره معاوية ثم عزله.
وكان يحج ويعتمر ويأتي الشام ثم يرجع إلى مصر، وابتنى فيها دارا فلم يزل بها حتى مات، فدفن في داره في مصر - على أحد الأقوال - في خلافة عبد الملك بن مروان.
ويعد بحق مؤسس المدرسة المصرية، فقد أخذ عنه كثير من أهل مصر، وكانوا يكتبون عنه ما يحدث، روى المقريزي عن حيوة بن شريح قال: «دخلت على حسين بن شفي بن مانع الأصبحي وهو يقول: فعل الله بفلان، فقلت: ما له؟ فقال: عمد إلى كتابين كان شفي سمعهما من عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أحدهما: قضى رسول الله في كذا، وقال رسول الله كذا؛ والآخر ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة، فأخذهما فرمى بهما بين الخولة والرباب»
27 .
وقد اشتهر من مدرسة مصر بعد الصحابة يزيد بن أبي حبيب، وهو نوبي الأصل من دنقلة، وقد أخذ العلم عن بعض الصحابة المقيمين بمصر، قال الكندي: إنه أول من نشر العلم بمصر في الحلال والحرام ومسائل الفقه، وكانوا قبل ذلك إنما يتحدثون في الفتن والترغيب، وكان ثالث ثلاثة جعل عمر بن عبد العزيز الفتيا إليهم بمصر، رجلان من الموالي ورجل من العرب، فأما العربي فجعفر بن ربيعة، وأما الموليان فيزيد بن أبي حبيب وعبد الله بن أبي جعفر، فكأن العرب أنكروا ذلك، فقال عمر بن عبد العزيز: ما ذنبي إن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون
28 ، وقد كان يزيد عالما بالفتن والحروب، وخاصة ما يتعلق بفتح مصر وشئونها وولاتها، وهو أحد الأركان الذين نقل عنهم الكندي كتابه: «ولاة مصر وقضاتها».
وكان من أشهر تلاميذ يزيد هذا عبد الله بن لهيعة، والليث بن سعد، فأما عبد الله فعربي، أصله من حضرموت - وما أكثر الحضارمة كانوا في مصر - وقد قابل كثيرا من التابعين وأخذ عنهم، وكان يدون ما يسمع، وكثير من المحدثين كالبخاري والنسائي لا يثق به، ومن الأسف أن كثيرا من حوادث تاريخ العرب في مصر نقلت عنه، وكان هو العمدة في روايتها، وقد ولي القضاء بمصر نحو تسع سنين.
أما الليث بن سعد فمن الموالي على أصح الأقوال، أصله من أصفهان في فارس، ولكن الراجح أنه ولد في مصر في قلقشندة، وقد طوف في كثير من البلدان لأخذ العلم، فرحل إلى مكة وبيت المقدس وبغداد، ولقي تسعة وخمسين تابعيا حدث عنهم، وكان له اتصال بالإمام مالك في المدينة ، يكاتبه في مسائل في التشريع ويحاجه، ويروون أن الشافعي قال: «الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به»، وكان ذا منزلة رفيعة في قومه، يستشيره الولاة والقضاة في عظائم الأمور، ثقة لم يشك أحد في صدقه وأمانته، وكان له مذهب خاص يعرف به، وقد قلده المصريون واتبعوه، ولكن ضاع مذهبه كما ضاع مذهب الأوزاعي في الشام. •••
نأخذ مما سبق أنه بعد فتح الممالك تفرق الصحابة في الأمصار، وكان من هؤلاء الصحابة علماء رحلوا للتعليم فكانوا نواة لمدارسها، وأن هؤلاء الصحابة العلماء كانت لهم شخصيات علمية مختلفة كان لها أثرها في مدارسهم، وأن أكبر الشخصيات تأثيرا في الأمصار هي: عبد الله بن عمر في المدينة، وعبد الله بن مسعود في الكوفة، وعبد الله بن عباس في مكة، وعبد الله بن عمرو بن العاص في مصر، لم يكن هؤلاء الصحابة يحيطون علما بكل ما قاله النبي
صلى الله عليه وسلم
وفعله، وبكل ما يتعلق بتعاليم الدين، بل كان منهم من صحب النبي في بعض الأوقات دون بعض، ففاته - حين لم يصحبه - علم حمله غيره، لذلك علم كل منهم شيئا وغاب عنه شيء، واستتبع هذا أن بعض الأمصار كان يعرف من الحديث ما لم يعرفه الآخر، خلف هؤلاء الصحابة التابعون فتلقوا عنهم، وحلوا محلهم في رفع لواء العلم؛ وشعر كثير منهم بأن في الأمصار الأخرى علما غير علمهم، فأكثروا من الرحيل، فكانت هناك حركة دائمة للعلماء، فمصري يرحل إلى المدينة، ومدني إلى الكوفة، وكوفي إلى الشام، وشامي إلى هنا وهناك، وهكذا عملوا على توحيد الوطن العلمي، وكان من أثر هذا التقليل من الفروق التي سببتها الشخصيات العلمية المختلفة للصحابة، وأخذ عن التابعين طبقات أتت بعدهم سارت على مناهجهم.
وبعد؛ فماذا كان يعلم في المدارس المختلفة في هذه الأمصار تفصيلا؟ وعلام كانت تدور الحركات العلمية إذ ذاك؟ وهل كان هناك تأثير للأمصار المختلفة في العلم؟ وهل تأثر العلم في الشام ومصر بمدنية الرومان؟ وهل تأثر في العراق بمدنية الفرس؟ وهل تأثر في الحجاز ببساطة العرب؟ وهل كان للعقائد الدينية المنتشرة في هذه الأقطار قبل الإسلام أثر في المذاهب الدينية التي نشأت بعد الإسلام؟ ذلك مطلب عسير سنحاول الإجابة عنه في البابين التاليين إن شاء الله.
مصادر هذا الباب
(1)
الطبقات الكبرى لابن سعد. (2)
الإصابة في أخبار الصحابة. (3)
أسد الغابة لابن الأثير. (4)
فتوح البلدان للبلاذري. (5)
معجم البلدان لياقوت. (6)
كتاب البلدان للهمداني المعروف بابن الفقيه. (7)
التنبيه والإشراف للمسعودي. (8)
تاريخ ابن جرير الطبري. (9)
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. (10)
دائرة المعارف الإسلامية في مادة العراق والبصرة والكوفة والشام ومصر وغير ذلك. (11)
ابن خلكان. (12)
خطط المقريزي. (13)
أخبار ولاة مصر وقضاتها للكندي. (14)
الأغاني، العقد الفريد، الجزء الأول والثاني من عيون الأخبار لابن قتيبة. (15)
أعلام الموقعين لابن القيم. (16)
فهرست ابن النديم. (17)
طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. (18)
أخبار الحكماء للقفطي. (19)
الأعلاق النفيسة لابن رسته.
وهناك كتب غير هذه تجد ذكرها في أثناء البحث.
الجزء
الحركة الدينية تفصيلا
قدمنا أن الحركة الدينية في صدر الإسلام كانت أكثر الحركات انتشارا وأوسعها ميدانا، وأن أكثر العلماء الذين ظهروا في هذا العصر كانوا علماء دين، وأن السبب في ذلك أن الدين ملك على الناس نفوسهم، ورأوا فيه سبب وحدتهم وعلة نهضتهم، لولاه لظل العرب شيعا وأحزابا يضرب بعضهم بعضا، ولولاه لقبعوا في كسر بيتهم، ولما تعدوا حدود بلادهم، ولما فتحوا الأمصار ودوخوا الممالك، فهو عزهم في الدنيا ورجاءهم في الآخرة؛ وأخلص له قوم من غير العرب فاعتنقوه وآمنوا أنه هو السبيل لسعادتهم، فأقبل هؤلاء وهؤلاء على القرآن يتفهمونه، والحديث يجمعونه ويشرحونه، وأخذوا يستنبطون منهما أحكام ما يعرض في هذه الدولة المترامية الأطراف من حوادث؛ فأما العلوم الدنيوية والفلسفية فكان ضعيفا شأنها، بل كان ما ينمو منها إنما يحتاج في نموه إلى الدين يعتمد عليه ويصطبغ به، يستخير الله عمر بن عبد العزيز أياما ليخرج للناس كتابا في الطب عثر عليه، وتتخذ أخبار الفتن والملاحم والغزوات والفتوح شكل الحديث؛ وهكذا، وقد وصفنا قبل هذه الحركة الدينية إجمالا، فلنعرض لها الآن بشيء من التفصيل، كان أهم ما تدور عليه هذه الحركة ثلاثة أشياء: القرآن وتفسيره، والحديث وجمعه وتبويبه، واستنباط الأحكام لما يعرض من أحداث، وهو الذي نسميه بالتشريع.
الفصل الخامس عشر
القرآن وتفسيره
نزل القرآن منجما على رسول الله في نحو عشرين سنة، وكان ينزل حسب الحوادث ومقتضى الحال، وتوفي رسول الله ولم يجمع القرآن في مصحف ، بل كان في صحف مفرقة كتبها كتاب الوحي، وفي صدور الحفاظ من الصحابة، وفي عهد أبي بكر أمر بجمع القرآن، ولكن لا في مصحف واحد، بل جمعت الصحف المختلفة التي فيها آيات القرآن وسوره، وكتب منها ما كان في صدور الرجال، وأودعت الصحف الكثيرة التي فيها القرآن عند أبي بكر، وقد تولى جمعه هذا زيد بن ثابت.
وانتقلت من أبي بكر إلى عمر، ثم إلى حفصة بنت عمر، حتى إذا تولى عثمان أخذ الصحف من حفصة، وعهد إلى جمع من الصحابة منهم زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، بجمعها في مصحف واحد، وكتب منه نسخا كثيرة، وزعت على الأمصار، وأحرق ما يخالفه من الصحف في حديث طويل ليس هذا محل تفصيله.
نزل القرآن بلغة العرب وعلى أساليب العرب في كلامهم، فألفاظه عربية إلا ألفاظا قليلة عربت وأخذت من اللغات الأخرى، ولكن هضمتها العرب وأجرت عليها قوانينها؛ وأساليبه هي أساليب العرب في كلامها، ففيه الحقيقة وفيه المجاز، وفيه الكتابة ... إلخ، على نمط العرب في حقيتهم ومجازهم؛ وهذا طبيعي؛ لأنه أتى يدعو العرب - أولا - إلى الإسلام، فلا بد أن يكون بلغة يفهمونها
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم .
ومع هذا فلم يكن القرآن جميعه في متناول الصحابة جميعا يستطيعون أن يفهموه - إجمالا وتفصيلا - بمجرد أن يسمعوه، ليس بصحيح ما يقوله ابن خلدون من «أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغاتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكبيه»
1
لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضي أن العرب كلهم يفهمونه في مفرداته وتراكيبه؛ والدليل على ذلك ما هو حاصل في مشاهداتنا الأولى، فليس كل كتاب مؤلف بلغة يستطيع أهل اللغة كلهم أن يفهموه، فكم من كتب إنجليزية وفرنسية لا يستطيع الإنجليز أو الفرنسيون أنفسهم أن يفهموها؛ لأن فهم الكتاب لا يتطلب اللغة وحدها، وإنما يتطلب درجة عقلية خاصة تتفق ودرجة الكتاب في رقيه؛ هكذا كان شأن العرب أمام القرآن، فلم يكونوا كلهم يفهمونه إجمالا وتفصيلا ، إنما كانوا يختلفون في مقدار فهمه حسب رقيهم العقلي، بل إن ألفاظ القرآن أنفسها لم يكن العرب كلهم يفهمون معناها، كما لم يدع أحد أن كل فرد في أمة يعرف جميع ألفاظ لغتها، وحسبنا على ذلك ما روي عن أنس بن مالك أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله تعالى:
وفاكهة وأبا ، ما الأب؟ فقال عمر: «نهينا عن التكلف والتعمق»، وروي عن عمر أيضا أنه كان على المنبر فقرأ:
أو يأخذهم على تخوف ، ثم سأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص، ثم أنشده:
تخوف الرحل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن
2
ونحن نعلم قدر عمر في الدين والعلم، فكيف بغيره من الصحابة؟ إنما كان كثير من الصحابة يكتفون بالمعنى الإجمالي للآية، فيكتفون من قوله تعالى:
وفاكهة وأبا ، بأنه تعداد لنعم الله، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معاني الآيات تفصيلا.
وفوق ذلك، ففي القرآن آيات كثيرة لا يكفي في تفهمها معرفة ألفاظ اللغة وأساليبها، مثل:
والعاديات ضبحا ،
والذاريات ذروا ، وما المراد بالليالي العشر في قوله تعالى:
والفجر * وليال عشر ؟ وما المراد بليلة القدر؟ إلى كثير من أمثال ذلك، وفيه إشارات كثيرة إلى أشياء في التوراة والإنجيل ورد عليهم ليس يكفي في فهمها معرفة اللغة، والله تعالى يقول:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ...
الآية
3 .
الحق أن من البديهي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاوتون مقدرة في فهم القرآن ومعرفة معانيه. •••
ولم يكن شائعا في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
حفظ القرآن جميعه كما شاع بعد، إنما كانوا يحفظون السورة أو جملة آيات ويتفهمون معانيها، فإذا حذقوا ذلك انتقلوا إلى غيرها، فكان حفظ القرآن موزعا على الصحابة، قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي
صلى الله عليه وسلم
آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا فيها من العلم والعمل، وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا (رواه أحمد في مسنده)، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، ذلك أنه إنما كان يحفظ ولا ينتقل من آية إلى آية حتى يفهم. •••
في القرآن آيات كثيرة محكمة واضحة المعنى، وهي التي تتعلق بأصول الدين وأصول الأحكام، وخاصة منها الآيات المكية التي تدعو إلى أصول الدين كسورة الأنعام؛ وهذا النوع من الآيات يستطيع فهمه جمهور الناس ولا سيما من كانوا عربا بسليقتهم؛ وفي القرآن آيات غامضة هي التي سميت متشابهة، صعب فهمها، ولم يصل إلى معرفتها إلا الخاصة.
وكان الصحابة - على العموم - أقدر الناس على فهم القرآن؛ لأنه نزل بلغتهم، ولأنهم شاهدوا الظروف التي نزل فيها القرآن.
ومع هذا فقد اختلفوا في الفهم على حسب اختلافهم في أدوات الفهم، وذلك: (1)
أنهم كانوا يعرفون العربية على تفاوت فيما بينهم وإن كانت العربية لغتهم، فمنهم من كان يعرف كثيرا من الأدب الجاهلي، ويعرف غريبه، ويستعين بذلك في فهم مفردات القرآن، ومنهم من كان دون ذلك. (2)
كذلك منهم من كان يلازم النبي
صلى الله عليه وسلم
ويقيم بجانبه، ويشاهد الأسباب التي دعت إلى نزول الآية، ومنهم من ليس كذلك؛ ومعرفة أسباب التنزيل من أكبر ما يعين على فهم المقصود من الآية، والجهل بها يوقع في الخطأ، روي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال: إن قدامة شرب فسكر، فقال عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول : فقال عمر: يا قدامة، إني جالدك؛ قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني! قال عمر: ولم؟ قال: لأن الله يقول:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بدرا وأحدا والخندق والمشاهد؛ فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أنزلن عذرا للماضين، وحجة على الباقين؛ لأن الله يقول:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ؛ قال عمر: صدقت، وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه، يفسر هذه الآية:
يوم تأتي السماء بدخان مبين ، قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام؛ فقال ابن مسعود: من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إنما كان هذا؛ لأن قريشا استعصوا على النبي
صلى الله عليه وسلم
فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد
4 . (3)
كذلك اختلافهم في معرفة عادات العرب في أقوالهم وأفعالهم، فمن عرف عادات العرب في الحج في الجاهلية استطاع أن يفهم آيات الحج أكثر ممن لم يعرف؛ وهكذا، وكذلك الآيات التي وردت في التنديد بمعبودات العرب وطريقة عبادتهم لا يكمل فهمها إلا لمن عرف ماذا كانوا يفعلون. (4)
ومثل هذا معرفة ما كان يفعله اليهود والنصارى في جزيرة العرب وقت نزول الآيات، ففيها إشارة إلى أعمالهم ورد عليهم، وهذا لا يتم فهمه إلا بمعرفة ما كانوا يفعلون، من ذلك ونحوه كان الاختلاف بين الصحابة في الفهم، وكان التابعون ومن بعدهم أشد اختلافا.
مصادر التفسير: هناك تفسير يسمى التفسير بالمنقول ويعنون به:
أولا:
تفسيرا نقل عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، مثل الذي روي أن رسول الله قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومثل ما روي عن علي قال: سألت رسول الله عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم النحر، وما روي أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما وأبرهما ... إلخ؛ وهذا النوع كثير وردت منه أبواب في كتب الصحيح الستة وزاد فيه القصاص والوضاع كثيرا، ونقد ذلك علماء الحديث ، فمنها ما صححوه، ومنها ما ضعفوه، وأهم ما يدل على دخول الوضع في هذا الباب أنك ترى في الآية الواحدة تفسيرين متناقضين لا يمكن أن يصدرا عن رسول الله، مثل الذي روي عن أنس أن رسول الله سئل عن قوله تعالى:
والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، قال: القنطار ألف أوقية؛ وروي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : القنطار اثنا عشر ألف أوقية
5 ، بل إن بعض العلماء أنكر هذا الباب بتاتا، أعني أنه أنكر صحة ورود ما يروونه من هذا الباب؛ فقد روي أن الإمام أحمد بن حنبل قال: «ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي»
6
ومما يدل على عدم ثقة المفسرين بما ورد في هذا الباب أنهم لم يقفوا عند ما ورد، بل أتبعوا ذلك بما أداهم إليه اجتهادهم، ولو كان ذلك صحيحا في نظرهم لوقفوا عند حدود النص.
وبمرور الزمان تضخم هذا التفسير المنقول، فدخل فيه أيضا ما نقل عن الصحابة والتابعين؛ وهكذا، حتى كانت كتب التفسير المؤلفة في العصور الأولى مقصورة على هذا النحو من التفسير.
ثانيا:
من مصادر التفسير الاجتهاد، وإن شئت فقل الرأي، يعرف المفسر كلام العرب ومناحيهم في القول، ويعرف الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد في مثله من الشعر الجاهلي ونحوه، ويقف على ما صح عنده من أسباب نزول الآية مستعينا بهذه الأدوات ويفسرها حسب ما أداه إليه اجتهاده، وكثير من الصحابة كان يفسر الآيات من القرآن بهذا الطريق، مثل كثير مما ورد عن ابن عباس وابن مسعود، فمثلا يفسر المفسرون الطور في قوله تعالى:
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور ، بتفسيرات مختلفة: فمجاهد يفسر الطور بالجبل مطلقا، وابن عباس بجبل بعينه، وآخر يقول: إن الطور ما انبت من الجبال، فأما ما لم ينبت فليس بطور؛ فهذا الاختلاف نتيجة اختلاف في الرأي، لا نتيجة اختلاف في المنقول، وقد اختلفوا في معاني الآيات خلافهم في معاني الألفاظ.
نعم، إن الصحابة والتابعين انقسموا في ذلك قسمين: فمنهم من تورع أن يقول في القرآن شيئا برأيه، كالذي روي عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن قال: أنا لا أقول في القرآن شيئا، وقال ابن سيرين: سألت أبا عبيدة عن شيء من القرآن فقال: اتق الله وعليك بالسداد، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن؛ عن هشام بن عروة بن الزبير قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله. ولكن كان بجانبهم من يرى حل ذلك ويستبيحه، بل يرى كتمان ما وصل إليه اجتهاده كتمانا للعلم وهم الأكثرون، وعلى هذا كان رأي ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وغيرهم؛ إنما كره هؤلاء وأمثالهم أن يتعرض للتفسير من لم يستكمل أدواته، كأن لم يبلغ في معرفة كلام العرب مبلغا يمكنه من صحة الفهم، أو لم يدرس القرآن درسا يستطيع معه أن يحمل مجمله على مفصله، كذلك كرهوا أن يعتنق الرجل مذهبا من المذاهب الدينية كالاعتزال والإرجاء والتشيع، ويجعل ذلك أصلا يفسر القرآن على مقتضاه، والواجب أن تكون العقيدة تابعة للقرآن، لا أن يكون القرآن تابعا للعقيدة.
وهذا الاجتهاد هو الذي سبب الاختلاف بين الصحابة والتابعين في تفسيرهم لألفاظ القرآن وآياته اختلافا واضحا تكاد تلمسه في كل صفحة من صفحات تفسير ابن جرير الطبري.
فالأدب الجاهلي من شعر ونثر، وعادات العرب في جاهليتها وصدر إسلامها، وما قابلهم من أحداث، وما لقي رسول الله من عداء ومنازعات وهجرة وحروب وفتن، وما حدث في أثناء ذلك مما استدعى أحكاما واستوجب نزول قرآن، كل هذا كان مصدرا لعلماء الصحابة، والتابعين يستمدون منه القدرة على التفسير.
ثالثا:
وهناك منبع آخر من منابع التفسير استمد منه المفسرون كثيرا، ذلك أن شغف العقول وميلها للاستقصاء دعاها عند سماع كثير من آيات القرآن أن تتساءل عما حولها، فإذا سمعوا قصة كلب أصحاب الكهف قالوا: ما كان لونه؟ وإذا سمعوا
فقلنا اضربوه ببعضها ، تساءلوا: ما ذلك البعض الذي ضربوا به؟ وما قدر سفينة نوح؟ وما اسم الغلام الذي قتله العبد الصالح في قصة موسى معه؟ وإذا تلي عليهم:
فخذ أربعة من الطير ، قالوا: ما أنواع هذا الطير؟ وما هي الكواكب التي رآها يوسف في منامه؟ وكذلك إذا سمعوا قوله تعالى في قصة موسى مع شعيب سألوا: أي الأجلين قضى موسى؟ وهل تزوج الصغرى أو الكبرى؟ وهكذا؛ كذلك كانوا إذا سمعوا إشارة إلى بدء الخليقة طلبوا بقية القصة، وإذا تليت عليهم آية فيها إشارة إلى حادثة لنبي لم يقتنعوا إلا باستقصائها، وكان الذي يسد هذا الطمع هو التوراة وما علق عليها من حواش وشروح، بل وما أدخل عليها من أساطير، وقد دخل بعض هؤلاء اليهود في الإسلام فتسرب منهم إلى المسلمين كثير من هذه الأخبار، ودخلت في تفسير القرآن يستكملون بها الشرح، ولم يتحرج حتى كبار الصحابة مثل ابن عباس من أخذ قولهم، روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»؛ ولكن العمل كان على غير ذلك، وأنهم كانوا يصدقونهم وينقلون عنهم، وإن شئت مثلا لذلك فاقرأ ما حكاه الطبري وغيره عند تفسير قوله تعالى:
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، وقد رأيت أن ابن عباس كان يجالس كعب الأحبار ويأخذ عنه؛ ويعجبني في ذلك ما قاله ابن خلدون: «إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء ما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى؛ وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ أهل بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها، مثل بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض، أخبار موقوفة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فيتحرى في الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات» ... إلخ
7 .
المفسرون في هذا العصر: اشتهر عدد قليل من الصحابة بالقول في تفسير القرآن، وأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب؛ وأقل من هؤلاء زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، ولنقصر قولنا على الأربعة الأولين؛ لأنهم أكثر من غذى التفسير في مدارس الأمصار المختلفة، والصفات العامة التي مكنت هؤلاء الأربعة الأولين من التبحر في التفسير: قوتهم في اللغة العربية وإحاطتهم بمناحيها وأساليبها، ومخالطتهم للنبي
صلى الله عليه وسلم
مخالطة مكنتهم من معرفة الحوادث التي نزلت فيها آيات القرآن، وعدم تحرجهم من أن يجتهدوا ويقروا ما أداهم إليه اجتهادهم؛ نستثني من ذلك ابن عباس، فإنه استعاض عن ملازمة النبي في شبابه بملازمة علماء الصحابة يأخذ عنهم ويروي لهم، ولو أنا رتبنا هؤلاء الأربعة حسب كثرة ما روي عنهم لكان ابن عباس أولهم، ثم عبد الله بن مسعود، ثم علي بن أبي طالب، ثم أبي؛ هذا بالنسبة لما روي لا بالنسبة لما صح، ويظهر أنه وضع على ابن عباس وعلي أكثر مما وضع على غيرهما، ولذلك أسباب: أهمها أن عليا وابن عباس من بيت النبوة، فالوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وتقديسا لا يكسبهما الإسناد إلى غيرهما؛ ومنها أنه كان لعلي من الشيعة ما لم يكن لغيره، فأخذوا يضعون وينسبون له ما يظنون أنه يعلي من قدره العلمي؛ وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، يتقرب إليهم بكثرة المروي عن جدهم، إن شئت فانظر إلى ما روى ابن أبي جمرة عن علي أنه قال: لو شئت أن أوقر سبعين بعيرا من تفسير أم القرآن (الفاتحة) لفعلت، وما روي عن أبي الطفيل قال: شهدت عليا يخطب وهو يقول: سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل؟ ومجرد رواية هذين الحديثين يغني عن التعليق عليهما، وقد روي عن ابن عباس ما لا يحصى كثرة، فلا تكاد تخلو آية من آيات القرآن إلا ولابن عباس فيها قول أو أقوال؛ وكثر الرواة عنه كثرة جاوزت الحد، واضطرت النقاد أن يتتبعوا سلسلة الرواة فيعدلوا بعضا ويجرحوا بعضا، فيقولون مثلا: إن طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس من أجود الطرق، وقد اعتمد عليهما البخاري؛ ورواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس غير مرضية، وابن جريج في جمعه لم يقصد الصحة، وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم؛ ورواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أوهى طرقه، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب، إلى كثير من أمثال ذلك.
وقد روي من طرق ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمئة حديث
8 ، فإن صح هذا دلنا على مقدار ما كان يختلق الوضاعون، وإلى أي حد بلغت جرأة الناس على الاختلاق.
ومن أدلة الوضع أنك ترى روايتين نقلتا عن ابن عباس أحيانا وهما متناقضتان، لا يصح أن تنسبا إليه جميعا، فترى في ابن جرير مثلا عند تفسير قوله تعالى:
فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا ، عن معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إنما هو مثل: قال قطعهن ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، ربعا هاهنا وربعا هاهنا، ثم ادعهن يأتينك سعيا؛ وقال بعد قليل: حدثنا محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال حدثني عمي قال: حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس: فصرهن إليك، صرهن: أوثقهن
9 . اه. فهو يفسر صرهن مرة بقطعهن ومرة بأوثقهن، ومن العسير أن تتكلف القول بأنه فسر هذا زمنا وفسر ذلك آخر، وأمثال ذلك كثير في ابن جرير.
على أن هذا التفسير الموضوع - والحق يقال - لا يخلو من قيمته العلمية، فلم يكن الوضع مجرد قول يلقى على عواهنه، إنما هو في كثير من الأحيان نتيجة اجتهاد علمي قيم، والشي الذي لا قيمة له فقط هو إسناده إلى علي أو ابن عباس.
وإذا نحن ألقينا نظرة عامة على ما روي من التفسير عن ابن عباس وغيره وجدنا منبعه هو الأشياء الثلاثة التي ذكرناها قبل: نقل عن رسول الله أو رواية حوادث وقعت أمامهم، توضح معنى الآية؛ واجتهادهم في الفهم معتمدين على الأدب الجاهلي ومعرفتهم بلغة العرب والعادات التي كانت فاشية في الجاهلية وصدر الإسلام، والإسرائيليات وما إليها. •••
بعد عصر الصحابة اشتهر بعض التابعين في الرواية عمن ذكرنا من الصحابة، فأكثر من يروي عن ابن عباس: مجاهد، وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، وهؤلاء كانوا من تلاميذه في مكة، وكلهم من الموالي، وهم يختلفون في الرواية عن ابن عباس قلة وكثرة، كما يختلف العلماء في مقدار الثقة بهم؛ فمجاهد من أقلهم رواية عن ابن عباس ومن أوثقهم، ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، ولكن كان بعض العلماء لا يأخذ بتفسير مجاهد، فقد روى ابن سعد في طبقاته أن الأعمش سئل: ما لهم يتقون تفسير مجاهد؟ قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب
10 ، ولكن لم نر أحدا طعن عليه في صدقه، كذلك كان كل من عطاء وسعيد ثقة صادقا، أما عكرمة فكان أكثرهم رواية عن ابن عباس وهو مولاه، وكان أصله من البربر بالمغرب، واختلف العلماء في توثيقه، فكان بعضهم لا يثق به ولا يروي له شيئا، ويوثقه البخاري ويروي له، ويرى آخرون أنه جريء على العلم: يزعم أنه يعلم كل شيء في القرآن، سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية في القرآن، فقال: لا تسألني عن آية من القرآن، سل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه، يعني عكرمة
11
واشتهر من تلاميذ عبد الله بن مسعود في التفسير في العراق مسروق بن الأجدع، وهو عربي من همدان، وكان ورعا زاهدا ثقة صادقا، وكان يسكن الكوفة، ويستشيره شريح القاضي في معضلات المسائل؛ واشتهر كذلك قتادة بن دعامة السدوسي الأكمه، وهو عربي الأصل كان يسكن البصرة، وشهرته في التفسير جاءت من تضلعه في اللغة العربية، فكان واسع الاطلاع في الشعر العربي وأيام العرب وأنسابهم، وكان ثقة إلا أن بعضهم كان يتحرج من الرواية عنه لخوضه في القضاء والقدر.
وفي هذا العصر - أعني عصر التابعين - تضخم التفسير بالإسرائيليات والنصرانيات لكثرة من دخل منهم في الإسلام، وميل النفوس لسماع التفاصيل عما يشير إليه القرآن من أحداث يهودية ونصرانية، وقد تتبعنا في تفسير ابن جرير كثيرا من الآيات التي وردت عن بني إسرائيل فإذا بطل الرواية فيها وهب بن منبه، وقد ذكرنا قبل أنه كان من يهود اليمن وأسلم، فكان يقص كتب اليهود وأحاديثهم من غير تحر دقيق، ومن غير أن تصبغ روايته صبغة علمية، وتساهل المسلمون في أخذهم عنه كما أشار إليه ابن خلدون؛ لأنه لا يترتب على ما يحكي استنباط لحكم شرعي أو نحوه؛ كما تتبعنا كثيرا من الآيات التي وردت عن النصارى فإذا كثير مما يرويه الطبري عن ابن جريج، وابن جريج هذا هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ويقول الذهبي في تذكرة الحفاظ: «إنه من أصل رومي»، فهو نصراني الأصل؛ ويقول عنه بعض العلماء: إنه كان يضع الحديث، وإنه تزوج تسعين امرأة زواج متعة، ويقال: إنه أول من صنف الكتب في الإسلام
12 ، وولد سنة 80 وتوفي حول سنة 150ه، بعد أن طوف في كثير من البلاد، فقد ولد بمكة ورحل إلى البصرة واليمن وبغداد.
وبعد عصر الصحابة وكبار التابعين أخذ العلماء يؤلفون كتب التفسير على طريقة واحدة، هي ذكر الآية ونقل ما روي في تفسيرها عن الصحابة والتابعين بالسند، مثل تفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وعبد الرازق وغيرهم، ولم تصل إلينا هذه التفاسير، إنما وصل إلينا ما تلا هذه الطبقة، وأشهرهم ابن جرير الطبري. •••
وبعد؛ فيظهر أن تفسير القرآن كان في كل عصر من العصور المتأخرة بالحركة العلمية فيه، وصورة منعكسة لما في العصر من آراء ونظريات علمية ومذاهب دينية، من ابن عباس إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده، حتى لتستطيع إذا جمعت التفاسير التي ألفت في عصر من العصور أن تتبين فيها مقدار الحركة العلمية، وأي الآراء كان سائدا شائعا وأيها غير ذلك؛ وهكذا.
فلو تتبعت ما نقل عن الصحابة وصدر التابعين من تفسير وجدتهم يقصرون في تفسير الآية على توضيح المعنى اللغوي الذي فهموه من الآية بأخصر لفظ، مثل قولهم:
غير متجانف لإثم ؛ أي: غير متعرض لمعصية، ومثل قولهم في قوله تعالى:
وأن تستقسموا بالأزلام : كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجا أخذ قدحا فقال: هذا يأمر بالخروج، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرا، ويأخذ قدحا آخر فيقول: هذا يأمر بالمكوث فليس يصيب في سفره خيرا، والمنيح بينهما، فنهى الله عن ذلك؛ فإن زادوا شيئا فما روي من سبب نزول الآية، ثم زاد من بعدهم التوسع في أخبار اليهود والنصارى، ولا تجد في التفسير عن هؤلاء أثرا من الاستنباط العلمي لحكم فقهي، ولا انتصارا لمذهب ديني ... فلما جاء العصر الذي يليه وظهر الكلام في القدرة ونحوه رأيت التفسير قد حمل هذه المذاهب، فأصبح كل يفسر القرآن على مذهبه في الجبر والاختيار؛ وهكذا، ولما عظمت الحركة الفقهية رأيت المفسرين من الفقهاء يتعرضون للآيات، يذكرون ما يستنبط منها من الأحكام وقل مثل ذلك في قواعد النحو والبلاغة وقواعد الأخلاق.
مصادر هذا الفصل
الإتقان في علوم القرآن.
المستصفى للغزالي.
الموافقات للشاطبي.
طبقات المفسرين لمحمد بن الداودي المالكي (نسخة خطية في دار الكتب).
كشف الظنون.
طبقات ابن سعد.
تفسير ابن جرير.
مقدمة ابن خلدون.
تذكرة الحفاظ للذهبي.
ابن خلكان.
الفصل السادس عشر
الحديث
يراد بالسنة أو الحديث ما ورد عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من قول أو فعل أو تقرير، وبعد عصر الرسول ضم إلى الحديث ما ورد عن الصحابة، فالصحابة، كانوا يعاشرون النبي
صلى الله عليه وسلم
ويسمعون قوله ويشاهدون عمله، ويحدثون بما رأوا وما سمعوا، وجاء التابعون بعد فعاشروا الصحابة وسمعوا منهم ورأوا ما فعلوا، فكان من الأخبار عن رسول الله وصحابته «الحديث».
للحديث قيمة كبرى في الدين تلي رتبة القرآن، فكثير من آيات القرآن مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء قول رسول الله أو عمله فبينها أو قيدها أو خصصها، فالقرآن مثلا لم يبين تفاصيل الصلاة، إنما أمر بها مجملة، وفعل النبي أوضح أوقاتها وكيفياتها، وحرم القرآن الخمر بقوله تعلى:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ، ولكن ما المراد بالخمر؟ وأي المقادير يحرم؟ ونحو ذلك، كل هذا بينه الحديث.
كذلك كانت تعرض لرسول الله حوادث يقضي فيها، وأسئلة يجيب عنها، ومبادلة أخذ وعطاء، وتصرف في الشئون السلمية والحربية، كل هذه كانت أحيانا ينزل فيها قرآن، وأحيانا لا ينزل؛ وهذا النوع الثاني كالأول مرجع للمشرعين، فاقتضى ذلك جميعه العناية بالحديث.
لم يدون الحديث في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
كما دون القرآن، فإنا نرى أن رسول الله اتخذ كتبة للوحي يكتبون آيات القرآن عند نزولها، ولكنه لم يتخذ كتبة يكتبون ما ينطق به من غير القرآن؛ بل قد وجدنا أحاديث كثيرة تنهى عن تدوين الحديث، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»، وروى البخاري عن ابن عباس قال: «لما اشتد بالنبي
صلى الله عليه وسلم
وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا».
نعم، وجدت أحاديث تدل على أنه كتب صحف من الحديث في عهد رسول الله كالذي روى البخاري: عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي
صلى الله عليه وسلم
فركب راحلته فخطب، فقال: «إن الله حبس عن مكة القتل
1
وسلط عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والمؤمنون، وإنها لا تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي، ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى
2
شوكها، ولا يعضد
2
شجرها، ولا تلتقط ساقتها إلا لمنشد
3 ؛ فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل؛ فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله «يريد أن يكتب له الخطبة التي سمعها منه» فقال
صلى الله عليه وسلم
اكتبوا لأبي فلان»؛ وكذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص من أنه كان يكتب كل ما سمع من رسول الله.
وقد أراد بعض العلماء التوفيق بين هذه الأحاديث المتضاربة، فقالوا: إن النهي عن الكتابة كان وقت نزول القرآن، خشية التباس القرآن بالحديث.
على كل حال لم يكن تدوين الحديث شائعا في هذا العصر، ولم يوضع له نظام خاص لتدوينه كالذي وضع للقرآن.
نشأ عن هذا أنه كان بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كتاب مدون هو القرآن وأحاديث غير مدونة تروى عن رسول الله، وكانت تروى في الغالب من الذاكرة لا من صحيفة.
فكان إذا عرض حادث ليس له حكم في القرآن وعرف بعض الصحابة أنه حدث نظيره لرسول الله وكان له فيه حكم حدث بذلك الحديث؛ وكذلك كانوا يحدثون؛ بما وقع في عهده من غزوات، ومن وعد ووعيد ونحو ذلك.
وكان بعض الصحابة يكره كثرة الرواية عن رسول الله خشية الكذب عليه ، وخشية أن يصدهم عن القرآن؛ روى القرطبي في كتابه - جامع بيان العلم - «عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى «حرار» فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله مشيت معنا، فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم؛ جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، امضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا قال: نهانا عمر بن الخطاب»، بل كان بعض الصحابة كذلك إذا حدث حديثا عن رسول الله طلب دليلا على صحة ما يروى؛ كالذي روى الحاكم قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فقالت: إن لي حقا في مال ابن ابن مات، قال: ما علمت لك في كتاب الله حقا، ولا سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيه شيئا؛ وسأل فشهد المغيرة بن شعبة أن رسول الله أعطاها السدس، قال: ومن سمع ذلك معك؟ فشهد محمد بن مسلمة، فأعطاها أبو بكر السدس، وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعا، فقالوا: ما أفزعك؟ قال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيت فسلمت على بابك ثلاثا فلم تردوا علي فرجعت، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع»؛ قال «عمر»: لتأتيني على هذا بالبينة، فقالوا: لا يقوم إلا أصغر القوم، فقام أبو سعيد معه فشهد له، فقال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكنه الحديث عن رسول الله، وروي عن علي أنه كان يحلف من حدثه بحديث عن رسول الله. •••
نشأ من عدم تدوين الحديث في كتاب خاص في العصور الأولى واكتفائهم بالاعتماد على الذاكرة، وصعوبة حصر ما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو فعل في مدة ثلاثة وعشرين عاما من بدء الوحي إلى الوفاة، أن استباح قوم لأنفسهم وضع الحديث ونسبته كذبا إلى رسول الله، ويظهر أن هذا الوضع حدث حتى في عهد الرسول، فحديث «من كذب علي معمدا فليتبوأ مقعده من النار»، يغلب على الظن أنه إنما قيل لحادثة حدثت زور فيها على الرسول، وبعد وفاته
صلى الله عليه وسلم
كان الكذب عليه أسهل ، وتحقيق الخبر عنه أصعب؛ روى مسلم عن ابن عباس أنه قال: «إنا كنا نحدث عن رسول الله إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه» وفي حديث آخر أن بشيرا العدوي جاء إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله، قال: فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه
4
ولا ينظر إليه، فقال: يا بن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة
5
إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف
6 ، وروي عن سفيان بن عيينة أن ابن عباس أتى بكتاب فيه قضاء علي فمحاه إلا قدر
7 ، وأشار سفيان بذراعه
6 - يريد أن ما في الدرج المستطيل كله كان كذبا على علي إلا قدر ذراع، وأن ما محاه ابن عباس إنما هو القدر الكاذب - فلما فتحت الفتوح ودخل في الإسلام من لا يحصى كثرة؛ الأمم المفتوحة من فارسي، ورومي، وبربري، ومصري، وسوري، وكان من هؤلاء من لا يتجاوز إيمانهم حناجرهم كثر الوضع كثرة مزعجة، وسال الوادي حتى طم على القري. قال ابن عدي: لما أخذ عبد الكريم بن أبي العوجاء الوضاع ليضرب عنقه قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها وأحلل
8 ، وكان عبد الكريم هذا خال معن بن زائدة واتهم بالمانوية، وكان يضع أحاديث كثيرة بأسانيد يغتر بها من لا معرفة له بالجرح والتعديل، وتلك الأحاديث التي وضعها كلها ضلالات في التشبيه والتعطيل، وفي بعضها تغيير أحكام الشريعة
9 ، وحسبك دليلا على مقدار الوضع أن أحاديث التفسير - التي ذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: لم يصح عنده منها شيء - قد جمع فيها آلاف الأحاديث، وأن البخاري وكتابه يشتمل على نحو سبعة آلاف حديث، منها نحو ثلاثة آلاف مكررة، قالوا: إنه اختارها وصحت عنده من ست مئة ألف حديث كانت متداولة في عصره؛ وقال سفيان: سمعت جابرا يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث ما أستحل أن أذكر منها شيئا وإن كان لي كذا وكذا، ويظهر أن بعض الوضاعين لم يكونوا يرون الوضع عن رسول الله نقيصة خلقية، ولا معرة دينية؛ روى مسلم عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال: لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، وفسر مسلم هذا بأنه «يجري الكذب على لسانهم، ولا يتعمدون الكذب»، وبعضهم كان سليم النية يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح، وهو في ذاته صادق فيحدث بما سمع، فيأخذه الناس عنه مخدوعين بصدقه، كالذي قيل في عبد الله بن المبارك، فقد قيل: إنه ثقة صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر
10 ، وقوم كانوا يتحرون فقط أن يكون الكلام حقا في ذاته، فيستجيزون نسبته إلى رسول الله؛ قال خالد بن يزيد: سمعت محمد بن سعيد الدمشقي يقول: إذا كان كلام حسن لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا
11 ، وكان أبو جعفر الهاشمي المديني يضع أحاديث كلام حق
10 ، وقوم جوزوا وضع الحديث في الترغيب والترهيب، قال النووي: «وقد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد ترغيبا في الخير في زعمهم الباطل».
على كل حال كان الوضع كثيرا، وقد حمل الوضاع على الوضع أمور أهمها: (1)
الخصومة السياسية: فالخصومة بين علي وأبي بكر، وبين علي ومعاوية، وبين عبد الله بن الزبير وعبد الملك، ثم بين الأمويين والعباسيين؛ كل هذه كانت سببا لوضع كثير من الحديث؛ قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: «واعلم أن أصل الكذب في حديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم ، نحو حديث السطل، وحديث الرمانة، وحديث غزوة البئر التي كان فيها الشيطان ... وحديث غسل سلمان الفارسي، وطي الأرض، وحديث الجمجمة ونحو ذلك؛ فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو: «لو كنت متخذا خليلا»، فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء، ونحو سد الأبواب فإنه كان لعلي، فقلبته البكرية إلى أبي بكر ... فلما رأت الشيعة ما قد وضعت البكرية أوسعوا في وضع الأحاديث، فوضعوا حديث الطوق الحديد الذي زعموا أنه فتله في عنق خالد ... وحديث الصحيفة التي علقت عام الفتح بالكعبة، وأحاديث مكذوبة كثيرة تقتضي نفاق قوم من أكابر الصحابة والتابعين الأولين وكفرهم، وعلى أدون الطبقات فسقهم، فقابلتهم البكرية بمطاعن كثيرة في علي وفي ولديه، ونسبوه تارة إلى ضعف العقل، وتارة إلى ضعف السياسة، وتارة إلى حب الدنيا والحرص عليها؛ ولقد كان الفريقان في غنية عما اكتسباه واجترحاه، ولقد كان في فضائل علي الثابتة الصحيحة وفضائل أبي بكر المحققة المعلومة ما يغني عن تكلف العصبية لهما»
12 .
وتلمح أحاديث كثيرة لا تكاد تشك وأنت تقرؤها أنها وضعت لتأييد الأمويين أو العباسيين أو العلويين أو الحط منهم؛ كالخبر الذي روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال في معاوية: الله قه العذاب والحساب وعلمه الكتاب؛ وكالذي روي أن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالحوا المؤمنين، وقد قال ابن عرفة: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم.
ويتصل بهذا النحو أحاديث وضعها الواضعون في تفضيل القبائل العربية، ذلك أن هذه القبائل كانت تتنازع الرياسة والفخر والشرف، فوجدوا في الأحاديث بابا يدخلون منه إلى المفاخرة، كالذي وجدوه في الشعر؛ فكم من الأحاديث وضعت في فضل قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار والأشعريين والحميريين.
وكم من حديث وضع في تفضيل العرب على العجم والروم، فقابلها هؤلاء بوضع أحاديث في فضل العجم والروم والحبشة والترك
13 .
ومثل ذلك العصبية للبلد، فلا تكاد تجد بلدا كبيرا إلا وفيه حديث بل أحاديث في فضله، فمكة والمدينة وجبل أحد والحجاز واليمن والشام وبيت المقدس ومصر وفارس وغيرها كل وردت فيه الأحاديث المتعددة في فضله، وعلى الإجمال فالعصبية الحزبية والقبلية، والعصبية للمكان سببا من أهم أسباب الوضع . (2)
الخلافات الكلامية والفقهية: فمثلا اختلف علماء الكلام في القدر أو الجبر والاختيار، فأجاز قوم لأنفسهم أن يؤيدوا مذهبهم بأحاديث يضعونا ينصون فيها حتى على التفاصيل الدقيقة التي ليس من مسلك الرسول التعرض لها، وحتى ينصون فيها على اسم الفرقة المناهضة لهم، بل واسم رئيسها ولعنه ولعنهم، وكذلك في الفقه، فلا تكاد تجد فرعا فقهيا مختلفا فيه إلا وحديث يؤيد هذا وحديث يؤيد ذاك، حتى مذهب أبي حنيفة الذي يذكر العلماء أنه لم يصح عنده إلا أحاديث قليلة، قال ابن خلدون: «إنها سبعة عشر» ملئت كتبه بالأحاديث التي لا تعد، وأحيانا بنصوص هي أشبه ما يكون بمتون الفقه، ويطول بنا القول لو ذكرنا أمثلة على هذا النحو من الوضع، فنكتفي هنا بالإشارة إليها. (3)
متابعة بعض من يتسمون بسمة العلم لهوى الأمراء والخلفاء، يضعون لهم ما يعجبهم رغبة فيما في أيديهم، كالذي حكي عن غياث بن إبراهيم أنه دخل على المهدي بن المنصور، وكان يعجبه اللعب بالحمام فروى حديثا: لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام ليخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله، ما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «جناح»، ولكنه أراد أن يتقرب إلينا
14 . (4)
تساهل بعضهم في باب الفضائل والترغيب والترهيب ونحو ذلك مما لا يترتب عليه تحليل حرام أو تحريم حلال، واستباحتهم الوضع فيها، فملئوا كتب الحديث بفضائل الأشخاص، حتى من لم يرهم النبي
صلى الله عليه وسلم
كوهب بن منبه، وبفضائل آيات القرآن وسوره، كالذي روي عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم أنه وضع أحاديث في فضائل القرآن سورة سورة بعنوان أن من قرأ سورة كذا فله كذا، وروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس، وتارة يروي عن أبي بن كعب - وهي الأحاديث التي نقلت في تفسير البيضاوي عند ختم كل سورة - فلما سئل: من أين هذه الأحاديث؟ قال: لما رأيت اشتغال الناس بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، وأعرضوا عن حفظ القرآن وضعت هذه الأحاديث حسبة لله تعالى
15 .
ومثل هذا ما ترى في كتب الأخلاق والتصوف من أحاديث في الترغيب والترهيب لا يحصى لها عد، ومن هذا الباب أدخل القصاص في الحديث كثيرا. (5)
يخيل إلي أنه من أهم أسباب الوضع مغالاة الناس إذ ذاك في أنهم لا يقبلون من العلم إلا على ما اتصل بالكتاب والسنة اتصالا وثيقا، وما عدا ذلك فليس له قيمة كبيرة، فأحكام الحلال والحرام إذا كانت مؤسسة على مجرد «الاجتهاد» لم يكن لها قيمة ما أسس على الحديث ولا ما يقرب منه، بل كثير من العلماء في ذلك العصر كان يرفضها ولا يمنحها أية قيمة، بل بعضهم كان يشنع على من ينحو هذا النحو؛ والحكمة والموعظة الحسنة إذا كانت من أصل هندي أو يوناني أو فارسي، أو من شروح من التوراة أو الإنجيل لم يؤبه لها، فحمل ذلك كثيرا من الناس أن يصبغوا هذه الأشياء كلها صبغة دينية حتى يقبلوا عليها، فوجدوا الحديث هو الباب الوحيد المفتوح على مصراعيه، فدخلوا منه على الناس، ولم يتقوا الله فيما صنعوا، فكان من ذلك أن ترى في الحديث الحكم الفقهي المصنوع، والحكمة الهندية، والفلسفة الزردشتية، والموعظة الإسرائيلية أو النصرانية.
روعت هذه الفوضى في الحديث عن رسول الله جماعة من العلماء الصادقين، فنهضوا لتنقية الحديث مما ألم به، وتمييز جيده من رديئه، وسلكوا في ذلك جملة مسالك.
منها أنهم طالبوا بإسناد الحديث، أعني أن يعينوا رواة الحديث؛ فيقول المحدث: حدثني فلان عن فلان عن رسول الله أنه قال كذا، ليتمكنوا بذلك من معرفة قيمة المحدث صدقا وكذبا، ولينظروا هل المحدث ينتسب إلى بدعة وضع الحديث ترويجا لها ونحو ذلك، جاء في مقدمة صحيح مسلم «عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقفت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم».
ثم أخذوا يشرحون الرجال، فيجرحون بعضا ويعدلون بعضا، «وألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار».
وأكثر هؤلاء النقاد عدلوا الصحابة كلهم إجمالا وتفصيلا، فلم يعرضوا لأحد منهم بسوء، ولم ينسبوا لأحد منهم كذبا، وقليل منهم أجرى على الصحابة ما أجرى على غيرهم، قال العزالي: «والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالتهم «أي الصحابة» معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه بذلك، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل ... وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث، وقال قوم: حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات، ثم تغيرت الحال وسفكت الدماء فلا بد من البحث ... ثم فسر الصحابي المعني بهذا بمن كثرت صحبته للنبي
صلى الله عليه وسلم »
16 .
ويظهر أن الصحابة أنفسهم في زمنهم كان يضع بعضهم بعضا موضع النقد، وينزلون بعضا منزلة أسمى من بعض، فقد رأيت قبل أن منهم من كان إذا روي له حديث طلب من المحدث برهانا؛ بل روي ما هو أكثر من ذلك، فقد روي أن أبا هريرة روى حديثا: «من حمل جنازة فليتوضأ» فلم يأخذ ابن عباس بخبره، وقال: لا يلزمنا الوضوء في حمل عيدان يابسة! وكذلك روى أنه حدث بحديث جاء في الصحيحين وهو: «متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» فلم تأخذ به عائشة وقالت: كيف تصنع بالمهراس
17 ، وكالذي روي أن فاطمة بنت قيس روت أن زوجها طلق فبت الطلاق، فلا يجعل رسول الله لها نفقة وسكنى، وقال لها: اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى، فردها أمير المؤمنين عمر قائلا لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أو كذبت، حفظت أم نسيت، وقالت عائشة: ألا تتقين الله ... إلخ
18 ، ومثل هذا كثير.
على كل حال فالذي جرى عليه العمل من أكثر نقاد الحديث، وخاصة المتأخرين أنهم عدلوا كل صحابي، ولم يرموا أحدا منهم بكذب ولا وضع، إنما جرحوا ونقدوا من بعدهم، وقد بدأ الكلام في الجرح والتعديل من عهد الصحابة، فقد رويت أقوال في ذلك عن عبد الله بن عباس وعبادة بن الصامت وأنس، وكثر القول في ذلك من التابعين كالشعبي وابن سيرين والحسن البصري وسعيد بن المسيب، ثم تتابع القول فيه.
وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح، فأهل السنة يجرحون كثيرا من الشيعة؛ حتى إنهم نصوا على أنه لا يصح أن يروى عن علي ما رواه عنه أصحابه وشيعته، إنما يصح أن يروى ما رواه عنه أصحاب عبد الله بن مسعود؛ وكذلك كان الشيعة مع أهل السنة فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت؛ وهكذا، ونشأ عن هذا أن من يعدله قوم قد يجرحه آخرون، قال الذهبي: «لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة»، ومع ما في قوله من المبالغة فهو يدلنا على مقدار اختلاف الأنظار في التجريح والتعديل، ولنضرب لك مثلا محمد بن إسحاق - أكبر مؤرخ في حوادث الإسلام الأولى - قال فيه قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق، وقال فيه النسائي: ليس بالقوي، وقال سفيان: ما سمعت أحدا يتهم محمد بن إسحاق، وقال الدارقطني: لا يحتج به وبأبيه، وقال مالك: أشهد أنه كذاب ... إلخ.
وقد وضع العلماء للجرح والتعديل قواعد ليس هنا محل ذكرها، ولكنهم - والحق يقال - عنوا بنقد الإسناد أكثر مما عنوا بنقد المتن، فقل أن تظفر بنقد من ناحية أن ما نسب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
لا يتفق والظروف التي قيلت فيه، أو أن الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه، أو أن عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النبي، أو أن الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه وهكذا، ولم نظفر منهم في هذا الباب بعشر معشار ما عنوا به من جرح الرجال وتعديلهم، حتى نرى البخاري نفسه على جليل قدره ودقيق بحثه يثبت أحاديث دلت الحوادث الزمنية والمشاهدة التجربية على أنها غير صحيحة لاقتصاره على نقد الرجال، كحديث «لا يبقى على ظهر الأرض بعد مئة سنة نفس منفوسة»، وحديث «من اصطبح كل يوم سبع تمرات من عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل».
وكذلك قسموا الحديث بحسب قوته والأخذ به إلى أقسام، وسموا كل نوع اسما، فقسموه إلى متواتر وآحاد؛ فالمتواتر ما رواه جماعة يؤمن من تواطئهم على الكذب عن جماعة كذلك إلى رسول الله، وهذا يفيد العلم، وقد قال قوم: إن هذا النوع لم يوجد، وعد منه قوم حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وزاد بعضهم أحاديث لا تتجاوز السبعة، وأما أحاديث الآحاد فهي غير المتواترة، وهي لا تفيد العلم عند أكثر الأصوليين والفقهاء، وإنما يجوز العمل بها عند ترجح صدقها؛ وقد قسموا أحاديث الآحاد إلى درجات حسب قوتها، لا نطيل بذكرها. •••
وقد اختلف الصحابة في الحديث عن رسول الله كثرة وقلة، وأكثرهم حديثا أبو هريرة، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر، وأنس بن مالك؛ فحديث أبي هريرة 5374 حديثا، ولعائشة 2210، ولعبد الله بن عمر وأنس بن مالك ما يقرب من مسند عائشة، ولكل من جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس أزيد من 1500، على حين أنا نجد مثلا لعمر بن الخطاب 537 حديثا لم يصح منها إلا نحو الخمسين
19 ، ومما ساعد هؤلاء المكثرين في الحديث طول حياتهم بعد النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكثرة من أخذ عنهم.
أما أبو هريرة فيمني الأصل من قبيلة دوس، واسمه عبد الله أو عبد الرحمن، ولقب بأبي هريرة لهرة صغيرة كانت له، يقول: «كنت أرعى غنم أهلي وكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجرة، فإذا كان النهار ذهبت بها معي فلعبت بها، فكنوني أبا هريرة»
20
أسلم في السنة السابعة من الهجرة ولازم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وقد استعمله عمر بن الخطاب على البحرين، ثم عزله، ثم أراده على العمل فامتنع، وكان يسكن المدينة وتوفي بها نحو سنة 57ه.
ويقول ابن قتيبة في كتابه «المعارف»: «إن أبا هريرة قال: نشأت يتيما وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدو إذا ركبوا فزوجنيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما»، وروى ابن قتيبة أيضا أن أبا هريرة كان مزاحا وحكى له شيئا من ملحه
21 .
وكان كما قلنا أكثر الناس حديثا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان لا يكتب، فكان يعتمد في روايته على ذاكرته، ويظهر أنه لم يكن يقتصر على ما سمع من رسول الله، بل يحدث عن رسول الله بما أخبره به غيره، فقد روى مرة أن رسول الله قال: «من أصبح جنبا فلا صوم له»، فأنكرت ذلك عائشة وقالت: كان رسول الله يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، فلما ذكر ذلك لأبي هريرة قال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي
صلى الله عليه وسلم
وسمعته من الفضل بن عباس
22 .
وقد أكثر بعض الصحابة عن نقده على الإكثار من الحديث عن رسول الله وشكوا فيه، كما يدل على ذلك ما روى مسلم في صحيحه أن أبا هريرة قال: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - والله الموعد
23 - كنت رجلا مسكينا أخدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق
24 ، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم»، وفي حديث آخر في مسلم أيضا أن أبا هريرة قال: «يقولون إن أبا هريرة قد أكثر - والله الموعد - ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه! وسأخبركم عن ذلك، إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم، وأما إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على ملء بطني فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا».
والحنفية يتركون حديثه أحيانا إذا عارض القياس، كما فعلوا في حديث المصراة
25 ، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال : «لا تصروا الإبل والغنم، من ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر»، قالوا: «أبو هريرة غير فقيه، وهذا الحديث مخالف للأقيسة بأسرها فإن حلب اللبن تعد، وضمان التعدي يكون بالمثل أو القيمة، والصاع من التمر ليس بواحد منهما»، وقد انتهز الوضاع فرصة إكثاره فزوروا عليه أحاديث لا تعد.
وأما عائشة أم المؤمنين فكانت أحب أزواج النبي إليه، بنى بها بعد الهجرة بستة أشهر أو سبعة، وظلت معه طول مدته بالمدينة، وتوفي النبي عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة، واشتركت في الحياة السياسية بعد وفاته، فنقدت عثمان وحاربت عليا وكانت كما يفهم من سيرتها تتوقد ذكاء، تعلمت القراءة وعرفت كثيرا من الأدب الجاهلي، وكان لها بين الصحابة منزلة عالية يستشيرونها في مسائل دينية وقضائية، وقد مكنها ذكاؤها وخلطتها بالنبي
صلى الله عليه وسلم
أن تروي عنه كثيرا، خصوصا فيما يتعلق بشئونه البيتية التي لم يتيسر للصحابة الاطلاع عليها، وتوفيت سنة 58ه.
ويطول بنا القول لو ترجمنا للباقين، وقد تقدم طرف من أخبار كثير منهم عند الكلام على مراكز الحياة العقلية.
كان لهؤلاء الصحابة تلاميذ يختصون بهم ويروون عنهم، وتكونت على مر العصور سلاسل من المحدثين فضل علماء الحديث بعضها على بعض، فأصح أسانيد أبي بكر: «إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر»، وأصح أسانيد عمر: «الزهري عن سالم عن أبيه عن جده - وهو عمر -»، وأصح أسانيد أبي هريرة: «الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة»، وأصح أسانيد عائشة: «عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة» وهكذا. •••
مضى القرن الأول الهجري جميعه ولم يجعل أحد من الخلفاء للحديث صبغة رسمية، أعني أن يعهد إلى جمع من الصحابة أو كبار التابعين أن يستوثقوا مما في أيدي الناس من الحديث ويجمعوا ما صح عندهم منه، ويكتبوه في كتاب ويرسلوا نسخا منه إلى الأمصار كما فعلوا في المصحف، ويمنعوا الناس عن أن يحدثوا بغير ما فيه؛ ولعله خطر لبعضهم ذلك، ولكن رأى هذا العمل في منتهى الصعوبة، فإنهم يروون أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبض وعدد الصحابة الذين سمعوا منه ورووا عنه 114000 كل منهم عنده الحديث والحديثان والأكثر، وقد حدث النبي قوما بما لم يحدث به آخرين، ووقع من الحوادث أمام قوم ما لم يره آخرون، وقد تفرق الصحابة في مختلف الأمصار، فجمع الحديث يقتضي استعراض هؤلاء جميعا واستماع قولهم وتدوين حديثهم، وذلك مطلب عسير المنال، وأيضا لو فعل هذا فكيف يقص الصحابي جميع ما سمع ورأى، وهو إنما يعتمد في ذلك على ذاكرته، وإنما يذكر بالمناسبات؟ إلى غير ذلك من أسباب تكاد تحيل هذا العمل، ومع هذا يظهر لنا مما حدث بعد من فوضى الحديث أن لو كان قد اقتصر على تدوين ما عرفه كبار الصحابة وجمع، ومنع الناس أن يحدثوا بغير ما فيه لكان خيرا للمسلمين.
ويظهر أن هذه الفكرة التي ذكرنا عرضت لعمر بن الخطاب، فقد روي عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، واستشار فيه أصحاب رسول الله، فأشار عليه عامتهم بذلك؛ فلبث شهرا يستخير الله في ذلك شاكا فيه، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: «إني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء».
وعرضت بعد لعمر بن عبد العزيز، ففي الموطأ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو سنته فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، واخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاجمعوه.
ولكنا لم نر لأمره هذا أثرا، فلعله عوجل عنه ولم يأبه لذلك من خلفه، ولما جاء أبو جعفر المنصور عاودته هذه الفكرة، فابن سعد في الطبقات يروي عن مالك بن أنس «قال: لما حج المنصور قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم ابعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم»، بل يظهر أن النية لم تكن متجهة فقط إلى جمع الحديث في كتاب وحمل الناس عليه وترك ما عداه، بل كانت متجهة أيضا إلى أن يكون في كتب الإمام مالك أساس لقانون واحد إسلامي عام تحكم به المملكة الإسلامية، ويتخذ صبغة رسمية، ويتطور بتطور الزمان، ولعل هذا المعنى يزداد وضوحا بما روي في كتاب الحلية عن مالك بن أنس قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب.
على كل حال مضى العصر الأول ولم يكن تدوين الحديث شائعا، إنما كانوا يروونه شفاها وحفظا، ومن كان يدون فإنما يدون لنفسه.
وفي القرن الثاني بدأت جماعة في الأمصار المختلفة تجمع الحديث لا بالمعنى الذي ذكرنا قبل، ولكن بمعنى أن كل عالم جمع الأحاديث التي رويت له وصحت عنده، قال ابن حجر في شرح البخاري: «وأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح «المتوفي سنة 160ه » وسعيد بن أبي عروبة «سنة 156ه» إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، وصنف الإمام مالك الموطأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف كل على حسب ما سنح له وانتهى إليه علمه»؛ فمنها ما رتب أبواب الفقه كالموطأ والبخاري ومسلم، ومنها ما رتب حسب الرواة، فيجمع ما روى أبو هريرة مثلا ثم ما روى أنس بن مالك وهكذا، كمسند الإمام أحمد، ولا نتعرض لوصف هذه الكتب فإنها ألفت بعد عصرنا الذي نؤرخه. •••
وبعد؛ فقد كان للحديث - سواء منه ما كان صحيحا أو موضوعا - أكبر الأثر في نشر الثقافة في العالم الإسلامي، فقد أقبل الناس عليه يتدارسونه إقبالا عظيما، وكانت حركة الأمصار العلمية تكاد تدور عليه، وكل علماء الصحابة والتابعين كانت شهرتهم العلمية مؤسسة على التفسير والحديث - والحديث كان أوسع دائرة - وسبب حرص الناس على رواية الحديث رحلة العلماء إلى أقاصي المملكة وطوافهم في البلدان يأخذ بعضهم على بعض، فكان من ذلك تبادل الآراء العلمية، ووقوف علماء كل مصر على ما عند الآخرين حتى لتكاد الحركة العلمية توحد؛ روى أحمد أن جابر بن عبد الله الأنصاري بلغه عن عبد الله بن أنيس الجهني حديثا سمعه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاشترى بعيرا ثم شد رحله وسار إليه شهرا حتى قدم عليه الشام وسمعه منه
26 ، ولا تكاد تقرأ ترجمة كبير من المحدثين إلا وجزء عظيم من حياته يتضمن رحلته، أضف إلى ذلك ما كان بينهم من تراسل، فمالك بن أنس في المدينة يكتب إلى الليث بن سعد في مصر، والليث يرد عليه، ويتبادلان الحجاج في الحديث والفقه وهكذا.
عن طريق الحديث هذا انتشرت في العالم الإسلامي أنواع من الثقافة عدة؛ فالتاريخ الإسلامي بدأ بشكل حديث كالذي ترى في كتب الحديث من مغاز وفضائل أشخاص وفضائل أمم، ثم تطور التاريخ إلى أن صار كتبا قائمة بنفسها؛ ودليلنا على ذلك أن كتب التاريخ الأولى كسيرة ابن هشام وما يروي ابن جرير عن إسحاق، والبلاذري في فتوح البلدان، يكاد يكون نمطا وأسلوبها نمط حديث وأسلوب حديث؛ وقصص الأنبياء وما إليهم جاءت في القرآن وتوسع فيها الحديث، ثم توسع القصاص فكان القصص، والحكم وقواعد الأخلاق وشيء من فلسفة اليونان والهند والفرس وضعت في الحديث وضعا، وانتشرت بين الناس على أنها دين، فكان لها من الأثر في الناس ما ليس للتعاليم الدنيوية، وفوق ذلك كان الحديث أوسع منبع للتشريع في العبادات والمسائل المدنية والجنائية؛ وغير ذلك مما يطول شرحه.
وعلى الجملة فقد كان الحديث أوسع مادة للعلم والثقافة في ذلك العصر.
أهم مصادر هذا الفصل
فتح الباري على البخاري.
القسطلاني على البخاري.
مسلم وشرح النووي عليه.
تيسير الوصول إلى جامع الأصول.
المستصفى للغزالي.
شرح مسلم الثبوت.
الموافقات للشاطبي.
أسد الغابة لابن الأثير.
الإصابة لابن حجر.
المعارف لابن قتيبة.
ميزان الاعتدال للذهبي.
طبقات ابن سعد.
مقدمة ابن خلدون.
الملل والنحل لابن حزم.
مسند الإمام أحمد.
دائرة المعارف الإسلامية في مادة «حديث».
شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة.
جامع بيان العلم وفضله للقرطبي.
الفصل السابع عشر
التشريع
كان عرب الحجاز في الجاهلية - كما رأيت - بدوا أو شبه بدو، فلم تكن لهم حكومة منظمة، ولا ملوك يمنعون من تعدي بعضهم على بعض بما لهم من قوة تنفيذية، إنما كانوا قبائل، إذا كثر عددها انقسموا إلى بطون وأفخاذ وعشائر؛ والرابطة بين أفراد القبائل هي رابطة الدم، فكل من كانوا من دم واحد - ولو في زعمهم - عدوا كتلة واحدة لأفرادها الحق في التمتع بحمايتها، والاستصراخ بها، وعليها أن تدافع عنه، وتطالب بدمه، وعليه الذود عنها، والخضوع لعرفها ودينها، وكان لكل قبيلة شيخ هو صاحب السيادة على أفراد القبيلة، مكنته من هذه السيادة ولادته من بيت الرياسة أو سنه وحكمته، وهو الذي يمثلها في علاقاتها الخارجية بالقبائل الأخرى، وإنما كان يستمد قوته ونفوذه من الرأي العام لقبيلته، لا بما له من جيش وجنود ونحو ذلك.
وكان لكل قبيلة عرف وتقاليد، تشترك أحيانا في أمور وتختلف في أخرى تبعا لبعدها عن البداوة وقربها منها، وكان للقبيلة حاكم يحكم بين من تنازع منهم حسب تقاليدهم وتجاربهم، فالأغاني يقول في أكثم بن صيفي: «إنه كان قاضي العرب يومئذ»، والميداني يقول في عامر بن الظرب: «كان من حكماء العرب، لا تعدل بفهمه فهما، ولا بحكمه حكما»، ولو تتبعنا كتب الأدب لرأينا فيها أن العرب كانوا تارة يتحاكمون إلى شيخ القبيلة، وتارة إلى الكاهن، وتارة إلى من عرف بجودة الرأي وأصالة الحكم، ومن الصعب وضع حدود فاصلة لاختصاص كل، بل مما نشك فيه كثيرا أنه كان هناك حدود فاصلة في الواقع.
هؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدون، ولا قواعد معروفة، إنما يرجعون إلى عرفهم وتقاليدهم التي كونتها تجاربهم أحيانا، ومعتقداتهم أحيانا، وما وصل إليهم عن طريق اليهودية أحيانا، ولم يكن لهذا القانون الجاهلي المؤسس على العرف والتقاليد جزاء، ولا المتخاصمون ملزمون بالتحاكم إليه والخضوع لحكمه، فإن تحاكموا إليه فبها وإلا لا، وإن صدر الحكم أطاعه إن شاء، وإن لم يطعه فلا شيء أكثر من أن يحل عليه غضب القبيلة.
وقد روت لنا كتب الأدب كثيرا من قضاياهم في الخصومات الأدبية، وهي أن يتنازع سيدان أيهما أسود فيتحاكمان إلى حكم، فمن حكم له كان الفضل والشرف له ولعشيرته، والذل والعار للمنفور؛ وهذه القصص تدلنا على أن هؤلاء الحكام كانوا من قبيل ما نسميهم بالمحكمين، فلم يكن لهم سلطة مستمدة من الحكومة؛ إذ لا حكومة لهم تمدهم بالسلطان، ولا الخصوم ملزمون بالتقاضي أمامهم، وكل ما في الأمر أن الرجل إذا عرف بسداد الرأي، وصحة الحكم، وسعة العلم بوقائعهم ونسبهم نصبوه حكما، وروى لنا البخاري قضية جنائية حدثت قبيل الإسلام
1 ، فقد روى أن رجلا من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى، فانطلق معه في إبله، فمر به رجل من بني هاشم - وقد انقطعت عروة جوالقه - فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل، فأعطاه عقالا فشد به، فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا، فقال الذي استأجره، ما بال هذا البعير لم يعقل؟ فقال: ليس له عقال، فقال: فأين عقاله؟ وحذفه بعضا كان فيها أجله، فمر به «بالمقتول» رجل من أهل اليمن قال: ... فهل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: إذا شهدت الموسم فناد يا لقريش، فإذا أجابوك فناد يا لبني هاشم، فإذا أجابوك فاسأل عن أبي طالب فأخبره أن فلانا قتلني في عقال، ومات المستأجر؛ فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب، فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض فأحسنت القيام عليه ووليت دفنه، قال: قد كان أهل ذلك منك، فمكث حينا، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه وافى الموسم ... حتى جاء أبا طالب، قال أمرني فلان أن أبلغك رسالة: إن فلانا قتله في عقال؛ فأتاه «المستأجر» أبو طالب، فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به ... إلخ الحديث.
وهذه القصة تدلنا على أنواع كثيرة من النظام القضائي عندهم.
ويظهر أن مكة قبيل الإسلام بلغت شيئا من الرقي في نظامها الحكومي، ومنه القضاء، كما يدلنا على ذلك ما روي من توزيع الأعمال على عشرة رجال من عشرة أبطن
2 ، كالحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، وكان من هذه الأعمال شيء يتعلق بالقضاء عهد به إلى أبي بكر في الجاهلية؛ فقد ذكروا أنه عهد إليه بالأشناق، وهي الديات والمغارم، ويدلنا على ذلك أيضا ما رووا لنا من اجتماع بعض قبائل قريش على حلف الفضول، فقد تحالفوا على ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويؤيدوا له مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم.
كذلك كان التشريع في المدينة قبل الإسلام راقيا رقيا نسبيا لاختلاط العرب فيها باليهود، وكان عندهم من التوراة وشروحها كثير من الأحكام، وكانوا خاضعين في شئونهم للقانون اليهودي.
وقد تعرض الإسلام للقانون الجاهلي، وبعبارة أخرى لعرف العرب وتقاليدهم في الجاهلية، فأقر بعضا وأنكر بعضا وعدل بعضا، مثال ما أقره: القسامة وهي التي حكينا عن البخاري قصتها من قبل، فقد أخرج مسلم والنسائي عن رجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
أن رسول الله أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر
3 ، وعدل الإسلام بعض شريعة الجاهلية في الحج والزواج والطلاق والمهر والخلع والإيلاء، وألغى نظام التبني المعروف - كان - في الجاهلية، كما ألغى البيع بإلقاء الحجر والملامسة والمنابذة؛ ويطول بنا القول لو ذكرنا ما يروى من هذه النظم في الجاهلية، وما أدخله عليها الإسلام من تعديل أو إلغاء. •••
جاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأقام بمكة نحو ثلاث عشرة سنة، ثم أقام بالمدينة نحو عشر سنين، وهذا العصر أعني العصر الذي عاش فيه النبي
صلى الله عليه وسلم
بعد الهجرة هو عصر التشريع حقا، ففيه كان ينزل القرآن بالأحكام، وتصدر عنه الأحاديث مبينة لما يعرض من الحوادث، وهذان المصدران - الكتاب والسنة - هما أعظم مصادر التشريع الإسلامي.
القرآن: نزل القرآن - كما رأيت - منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة، منه ما نزل بمكة ويبلغ نحو ثلثي القرآن، ومنه ما نزل بالمدينة ويبلغ نحو الثلث.
ونحن إذا تتبعنا الآيات المكية نجد أنها لا تكاد تتعرض لشيء من التشريع في المسائل المدنية والأحوال الشخصية والجنائية، إنما تقتصر على بيان أصول الدين والدعوة إليها، كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؛ والأمر بمكارم الأخلاق كالعدل والإحسان، والوفاء بالوعد، وأخذ العفو، والخوف من الله وحده، والشكر، وتجنب مساوئ الأخلاق، كالزنا، والقتل، ووأد البنات، والتطفيف في الكيل والميزان، والنهي عن كل ما هو كفر أو تابع للكفر، حتى ما شرع في مكة من عبادات كالصلاة والزكاة لم يكن على التفصيل والبيان الذي عرف في المدينة، فالزكاة في مكة كانت بمعنى الصدقة والإنفاق في سبيل الخير من غير أن يحدد لها جزء معين ولا نظام خاص، وكذلك الصلاة إنما أمر المسلمون أول أمرهم بنوع من الصلاة لم يحدد بأنه خمس في اليوم وهكذا، ولعل أوضح ما يبين التعاليم التي كان يدعو إليها الإسلام في مكة سورة الأنعام المكية.
أما التشريع في الأمور المدنية من بيع وإجارة وربا ونحو ذلك، والجنائية من قتل وسرقة، والأحوال الشخصية من زواج وطلاق، فكل ذلك كان بعد أن هاجر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، ولعل خير ما يوضح هذا النوع من التشريع سورتا البقرة والنساء المدنيتان، والعلة في ذلك واضحة، فإن أصول الدين وهي التي جاء بها التشريع المكي مقدمة في الأهمية وفي المنطق على أصول الأحكام التي جاء بها التشريع المدني، وأيضا فإن الأحكام هي أشبه ما تكون بقوانين الدولة، وهي إنما توضع بعد تكون الدولة وقرارها، ولم يكن الحال كذلك إلا في المدينة، أما في مكة فقد تقضى زمن النبي
صلى الله عليه وسلم
بها في دعوة الناس إلى الدين الجديد، ولم يدخل فيه في السنوات الأولى إلا العدد القليل.
وهذه الآيات القانونية، أو كما يسميها الفقهاء آيات الأحكام ليست كثيرة في القرآن، ففي القرآن نحو ستة آلاف آية، ليس منها مما يتعلق بالأحكام إلا نحو مئتين وحتى بعض ما عده الفقهاء آيات أحكام لا يظهر أنها كذلك، وليس عدها من آيات الأحكام إلا مغالاة في الاستنتاج، لا يساعد عليه سياق الآيات، وذلك كاستنتاج أن لفظ «أشهد» من ألفاظ اليمن من قوله تعالى:
ذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة ، وكاستنتاج حرمة لحم الخيل والبغال والحمير من قوله تعالى:
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون
واستنتاج وجوب الأضحية من قوله تعالى:
إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر
إلى كثير من أمثال ذلك.
وترتيب القرآن توقيفي، لم يراع فيه تاريخ النزول، ولا اتحاد الموضوع؛ لذلك لا ترى الآيات القانونية قد جمعت في موضوع واحد، ولا الآيات المتعلقة بموضوع واحد في مقام واحد أو مقامين إلا نادرا كآيات المواريث وآيات الطلاق، والسبب في ذلك على ما يظهر أن القصد الأول للقرآن تأسيس أركان الدين، والدعوة إلى التوحيد، وتهذيب النفوس، ووضع مبادئ للأخلاق، فأما القصد التشريعي فيلي هذا، ومن ثم كان كثير من آيات التشريع واردا في سياق القصد الأول وعلى أسلوب الدعوة والهداية، لا على الأسلوب القانوني المألوف مثل:
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين .
وكان التشريع أكثر ما يكون بمناسبة حوادث تحدث، فيتحاكم فيها المتخاصمون إلى الرسول، فتنزل الآية أو الآيات ناطقة بالحكم؛ مثل ما روي أن رجلا من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه، فترافعا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فنزلت:
وآتوا اليتامى أموالهم
الآية. وكالذي روي أن أهل المدينة - في الجاهلية وفي أول الإسلام - كانوا إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها وضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها؛ فتوفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة
4 ، فقام ابن له من غيرها فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها، يضارها لتفتدي منه بمالها، فأتت كبيشة إلى رسول الله وقصت قصتها، فقال لها رسول الله، اقعدي حتى يأتي فيك أمر الله؛ فانصرفت، وسمعت بذلك نساء المدينة فأتين رسول الله، وقلن ما نحن إلا كهيئة كبيشة، فأنزل الله:
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ...
الآية
5 .
وأحيانا تحدث حادثة جزئية تستدعي نزول آيات تبين أحكام الموضوع كله كآيتي الميراث:
ستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ...
الآية
5 .
ولعلك لمحت معي ما ذكرت من حادثة كبيشة أن الناس حتى في المدينة كانوا يسيرون فيما لم يرد فيه حكم إسلامي على المألوف عندهم في الجاهلية حتى يغيره الإسلام أو يقره، بل قد روي لنا أن بعض من ينتسب إلى الإسلام - في العهد الأول بالمدينة - كان يريد أن يسير على النمط الجاهلي في التقاضي وفي الحكم، فقد جاء في الطبري أن رجلا من الأنصار يقال له قيس ورجلا من اليهود، تخاصما فتنافرا إلى كاهن بالمدينة ليحكم بينهما، وتركا نبي الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان اليهودي يدعوه إلى نبي الله وقد علم أنه لن يجور عليه، وجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تعالى:
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا
إلى أن يقول:
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
وفي موضع آخر:
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
ولعل هذه الآيات هي أول ما نبه إلى وجوب رجوع المسلمين في تقاضيهم إلى أحكام الإسلام.
ويمكننا أن نقول: إن آيات الأحكام بالمدينة كانت تنزل حسب تطور جماعة المسلمين بالمدينة، ولو وقفنا على تاريخ نزول آيات الأحكام بها وتتبعنا تسلسل الآيات تبعا لتسلسل الحوادث لفهمنا أصدق فهم حالة المسلمين الاجتماعية وتدرجها في الرقي، وفهمنا بحق مجمل الآيات ومفصله، ومطلقها ومقيدها، ولعل هذا المعنى هو الذي يرمي إليه «الشاطبي» في كتابه «الموافقات» من قوله: «المدني من السور ينبغي أن يكون منزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، على حسب ترتيبه التنزيل ... إلخ»
6
فالدعوة السلمية في مكة ثم تشريع الحرب والجهاد في أول عهد الإسلام بالمدينة، ثم التوسع في أحكام الحرب بعد ذلك، والأمر بالزكاة على وجه عام ليس فيه تقدير ما في مكة، ثم تحديد القدر وبيان مصارف الزكاة في المدينة، كل هذا - ونحوه كثير - كان تابعا لنمو جماعة المسلمين ورقيهم، فكان التشريع ينزل طبقا لحالتهم، وقل مثل ذلك فيما ورد من آيات مسالمة لليهود أول الأمر، ثم آيات شدة وحرب لما ناصب اليهود المسلمين العداء، بل ترك الإسلام الناس يأتون بعادات جاهلية لا يحبها كالخمر، استدراجا لهم وتأليفا لقلوبهم، حتى إذا نضجوا وأصبح من الممكن تنفيذ الأمر والنهي أمر ونهى.
وهذا التدرج ومراعاة حال جماعة المسلمين هي التي تفسر لنا العلة في تشريع النسخ، وهو أداة لا بد منها في القوانين الإلهية والوضعية، يقول الله تعالى:
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها
ويقول:
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ، ويقول الطبري في تفسير النسخ: «أن يحول الحرام حلالا، والحلال حراما، والمباح محظورا، والمحظور مباحا»؛ وعللوا جواز النسخ بأن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات، وقد حدث ذلك فعلا في الشريعة الإسلامية، فقد أمرت المرأة أن تعتد حولا إذا مات عنها زوجها
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول
ثم نسخ باعتدادها أربعة أشهر وعشرا في قوله تعالى:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ، وحصل مثل ذلك في الحديث: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فالآن ادخروها»، و«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».
وقد لاحظ الشاطبي - بحق - أن التشريع المكي قل أن يتعرض للنسخ، والعلة في ذلك ما علمنا أن التشريع المكي إنما يتعرض لأصول الدين من توحيد وترك أوثان ودعوة إلى مكارم الأخلاق، وهذه غير معقول فيها نسخ، إنما يحصل النسخ أحيانا للأحكام الدينية التفصيلية، وذلك كان في المدينة.
تعرض القرآن في آيات الأحكام إلى جميع أنواع ما يصدر عن الإنسان من أعمال، إلى العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج، إلى الأمور المدنية كبيع وإجارة وربا، إلى الأمور الجنائية من قتل وسرقة وزنا وقطع طريق، إلى نظام الأسرة من زواج وطلاق وميراث، إلى الشئون الدولية كالقتال، وعلاقة المسلمين بالمحاربين، وما بينهم من عهود وغنائم الحرب؛ وهو في هذا كله لا يتعرض كثيرا للتفاصيل الجزئية، إنما يتعرض غالبا للأمور الكلية، فهو لا يتعرض في الصلاة مثلا إلى أوقاتها وهيئاتها، وفي الزكاة إلى مقدار الواجب فيها وأنواع ما يجب، وهكذا في بقية الأبواب، بل ترك ذلك إلى الرسول يبينه بقوله وفعله.
وهو في كثير من شئون التشريع مجدد مصلح، قد أدخل على النظام الجاهلي تغييرات وتعديلات يطول شرحها، فهو يقلل عدد الزوجات، ويزيد في حرية المرأة، ويغير كثيرا من عادات الجاهلية في زواجهم وطلاقهم، ويضع نظاما للإرث يخالف النظام الجاهلي؛ فقد كانوا في الجاهلية - مثلا - لا يورثون النساء، ولا الصغار من أبناء الميت، إنما يورثون من يلاقي العدو، ويقاتل في الحروب
7 ، فشرع الإسلام توريث المرأة وكان ذلك شديدا على النفوس؛ فقد روي عن ابن عباس أنه قال: «لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس، وقالوا تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة! ... إلخ»
8
ومن أجل هذا أكد القرآن إعطاء المرأة نصيبها، وكرر ذلك في أكثر من موضع؛ وهكذا في كثير من الشئون التي تعرض القرآن لبيان أحكامها، ولسنا نستطيع هنا ذكر جميع ما شرعه القرآن من الأحكام
9 . •••
وهناك نوع آخر من التشريع كان في عهد رسول الله، وهو التشريع بالسنة، ويختلف عن الكتاب في أن القرآن ألفاظه ومعانيه بوحي من الله، وأما السنة فألفاظها من عند الرسول، فالسنة أو أحاديث الرسول بينت كثيرا من آيات القرآن كالذي رأيت في آيات الصلاة والزكاة، فالقرآن لم يبين هيئات الصلاة ولا أوقاتها، ولم يبين المقادير الواجبة في الزكاة ولا شروطها، إنما بين ذلك النبي بقوله أو فعله؛ كذلك حدثت حوادث وخصومات قضى فيها النبي بالحديث لا بالقرآن فكان قضاؤه في ذلك تشريعا، فكل ما قاله النبي أو فعله أو حدث أمامه واستحسنه كان تشريعا، ومتى ثبت ذلك عن رسول الله كان في القوة بمنزلة القرآن، ولكن قل أن يثبت ثبوتا لا يحتمل الشك لما بينا قبل في كلامنا على الحديث.
ويتصل بهذا النوع ما ارتضاه أكثر الأصوليين من أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يجتهد برأيه حيث لا يكون وحي، وأنه كان أحيانا يخطئ في رأيه، واستدلوا على ذلك بأنه عوتب في أسرى بدر بقوله تعالى:
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، وكان قد أشار عليه عمر بالقتل، ولو كان حكم بمقتضى الوحي ما عوتب؛ وروي أنه
صلى الله عليه وسلم
قال في حق مكة: «لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها»، فقال العباس: إلا الإذخر، فقال
صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر، ونزل
صلى الله عليه وسلم
منزلا للحرب فقيل له: إن كان بوحي فسمعا وطاعة، وإن كان باجتهاد ورأي فليس منزل مكيدة، فقال: باجتهاد ورأي، فرحل؛ وقال
صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي»، وقال
صلى الله عليه وسلم : «إنك تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقضي له قطعة من نار» ولكن اتفقوا على أنه
صلى الله عليه وسلم
لا يقر على خطأ، فما اجتهد فيه وأقر عليه كان - لا شك - حجة
10 .
وأحاديث الأحكام كثيرة وردت في كل الأنواع التي ورد فيها القرآن فبينت مجمله، وقيدت مفصله، وزادت أشياء كثيرة لم يذكرها القرآن، وقد عني العلماء قديما بجمعها، ورتبوها حسب الترتيب الفقهي
11 .
هذان الأصلان - الكتاب والسنة - هما مصدر التشريع في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك يتبين أن أساس القانون الإسلامي إلهي، مصدره الله فيما نص عليه من كتاب وحديث، ليست لأية سلطة حق في مخالفتها، ولا الخروج على ما ورد في نصوصها، إنما يجتهد المجتهدون فيما لم يرد فيه نص، مسترشدين بما ورد في الكتاب والسنة من قواعد كلية، وبذلك تخالف القوانين الوضعية، ففيها تكون السلطة التشريعية في منتهى الحرية في تفسير قانون أو تعديله أو إلغائه، وليس الشأن كذلك في القوانين الإلهية ، فحرية الفقهاء والخلفاء محدودة في دائرة فهم نصوص القرآن، ومقدار الثقة بالحديث وعدمها، لم يرد فيه كتاب ولا سنة صحيحة. •••
توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وانقطع الوحي، واتسعت المملكة الإسلامية اتساعا عظيما وسريعا وعجيبا، ففي السنة الرابعة عشرة من الهجرة فتحت دمشق، وفي السابعة عشرة تم فتح الشام كله والعراق، وفي الحادية والعشرين تم فتح فارس، وفي السادسة والخمسين وصل المسلمون إلى سمرقند، وفي الغرب أخذت مصر في سنة عشرين، ثم امتدت الفتوح إلى المغرب، وأخذت إسبانيا حول سنة 93ه، ونال المسلمون من الغنى في المال والرقيق وزخرف الحياة ما لا عهد لهم به من قبل، وكانت هذه الممالك المفتوحة غنيمة، وكانت ممدنة كأرقى ما وصلت إليه المدنية في ذلك العصر؛ تمثلت الحضارة الفارسية في فارس والعراق، والحضارة الرومانية في مصر والشام، ولم يكن الفتح الإسلامي سلبا ونهبا وتدميرا، إنما كان فتحا منظما يسير فيه القراء والمعلمون والقانونيون مع الجند الفاتحين، ويحلون حيث حل الجند، فواجه المسلمون بهذا الفتح مسائل كثيرة - في كل شأن من شئون الحياة - تحتاج إلى تشريع لم يكونوا يحتاجون إليه وهم في جزيرة العرب؛ فنظام للري يخالف ري الجزيرة، وما كان منه في العراق يخالف ما كان منه في مصر، ومسائل مالية عديدة معقدة لا تقارن بالشئون المالية بجزيرة العرب، ومسائل الجيش والفتوح ومعاملة المغلوبين وعلاقة الفاتحين بهم، وما يؤخذ من الضرائب ممن أسلم وممن لم يسلم، وأحوال في الزواج لم يكن يعرفها العرب، وأنواع في طريقة التقاضي، لم يكن لهم بها عهد وجنايات ترتكب لم يرتكبها العرب في حياتهم البسيطة؛ وقل مثل ذلك في سائر الشئون الداخلية والخارجية، فواجه المشرعون الأولون أمرا عظيما ولم يدع أحد أن القرآن والسنة الصحيحة نصا في المسائل الجزئية على كل ما كان وما هو كائن، فنتج عن هذا أن كان أصل آخر من أصول التشريع، وهو الرأي الذي نظم بعد وسمي القياس.
جرى على هذا كثير من الصحابة، فكانوا يستعملون رأيهم حيث لا نص، وقد نقل إليها المؤرخون والمحدثون والفقهاء جملة صالحة من المسائل التي استعمل فيها الصحابة رأيهم؛ فلم يكد يتوفى النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى رأوا أنفسهم أمام أكبر مشكلة قانونية، وهي من يتولى الأمر بعده، أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ أم من هؤلاء أمير ومن هؤلاء أمير؟ وإذا فصل في ذلك، فمن هو خير من يتولاها؟ لم يرد في ذلك نص من كتاب ولا سنة، فلم يكن إلا أن يستعملوا رأيهم وقد كان؛ فالمحضر الذي ذكره المؤرخون لاجتماع السقيفة يدلنا على كيفية استعمال رأيهم، وتقليب الأمر على وجوهه ولم يفرغ أبو بكر من مبايعة الناس له حتى واجه مسألة الردة، فرأى قوما يمتنعون عن أداء الزكاة مع إقرارهم بالإسلام وإتيانهم للصلاة، فكيف يصنع بهم، ولم تحدث حادثة كهذه في عهد النبي؟ فلجئوا إلى الرأي، فقال عمر: كيف نقاتلهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فمن حقها إيتاء الزكاة كما أن من حقها إقام الصلاة.
وكذلك عرضت فكرة جمع القرآن في مصحف، واختلف الرأي أولا بين أبي بكر وعمر، حتى شرح الله صدر أبي بكر لما يقول عمر.
وعرضت لهم مسألة الجد مع الإخوة، هل يرث الإخوة؟ فالقرآن لم ينص على هذه المسألة، إنما نص على الأب مع الإخوة، فذهب ابن عباس وأبو بكر إلى أنه يحجبهم كالأب، وذهب آخرون ومنهم زيد بن ثابت وعلي وعمر إلى إرثهم معه.
وأرادوا أن يعطوا العطاء، أعني الغنائم التي يغنمونها في الحروب، فاختلفوا هل يسوى بين المهاجرين والأنصار؟ فقال عمر: لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
كمن دخل في الإسلام كرها؟ فقال أبو بكر: إنما أسلموا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ؛ وكان أبو بكر يعمل برأيه فيسوي بينهم، ولما أفضت الخلافة إلى عمر فرق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم، ولما رفعت إلى زيد بن ثابت مسألة من مات عن زوج وأبوين أعطى للأم ثلث ما بقي، فقال ابن عباس: أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال زيد: أقول برأيي وتقول برأيك.
وفي تاريخ القضاة للكندي أن عياض بن عبيد الله قاضي مصر كتب إلى عمر بن عبد العزيز في مسألة، فكتب إليه عمر أنه لم يبلغني في هذا شيء، وقد جعلته لك فاقض فيه برأيك
12 ، والأمثلة الواردة في هذا الباب كثيرة جدا لا نطيل بسردها.
وعلى الجملة فقد كان كثير من الصحابة يرى أن يستعمل الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، والمتتبع لما روي عن العصر الأول في «الرأي» يرى أنهم كانوا يستعملون هذه الكلمة بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة «العدالة» وبعبارة أخرى ما يرشد إليه الذوق السليم مما في الأمر من عدل وظلم، وفسره ابن القيم: «بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل، وطلب لمعرفة وجه الصواب»، وأنا أقص عليك بعض أمثلة رويت تبين كيف كانوا ينظرون إلى المسائل، وكيف يقبلونها على وجوهها، وكيف يستعملون رأيهم؛ من ذلك ما روي أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة، قال زيد - وكان رأيي يومئذ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته - فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضربت له في ذلك مثلا، فقلت: لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان
13 ، ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغذوهما، ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه من الأصل؟ قال زيد: فأنا أعذله، وأضرب له هذه الأمثال، وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الإخوة
14 .
ورفعت إلى عمر قصة رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها، فتردد عمر: هل يقتل الكثير بالواحد؟ فقال له علي: أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا أكنت قاطعهم؟ قال: نعم، قال فكذلك؛ فعمل عمر برأيه وكتب إلى عامله أن اقتلهما، فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم
15 .
ولما اختلفوا في المسألة المشتركة وهي التي توفيت فيها امرأة عن زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، كان عمر يعطي للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة لأم الثلث، فلا يبقى شيء للإخوة الأشقاء، فقيل له: هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة! فعدل عن رأيه وأشرك بينهم.
ولما سئل علي في عقوبة شارب الخمر قال: من شرب هذي، ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري - وهو القاذف - ومثل هذا كثير مما يدل على مقدار تفكيرهم القانوني في هذا العصر.
ولعل عمر بن الخطاب كان أظهر الصحابة في هذا الباب، وهو استعمال الرأي، فقد روي عنه الشي الكثير، وكان هذا من توفيق الله للمسلمين، فإن عمر قد واجه من الأمور المحتاجة إلى التشريع ما لم يواجه خليفة قبله ولا بعده، فهو الذي على يده فتحت الفتوح ومصرت الأمصار، وخضعت الأمم الممدنة من فارس والروم لحكم الإسلام، وهي حالة لم يحدث بعد نظيرها، فكان لعمر من التشريع في المسائل الاقتصادية والسياسية والعمرانية ما كان أصلا للفقهاء من بعده، ولذلك يقول فيه الفقهاء في باب الجهاد والسير - وهو الباب الذي تبين فيه علاقة الغالبين بالمغلوبين - «إنه العمدة في هذا الباب».
بل يظهر لي أن عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرنا، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته، ودليلنا على ذلك ما روى عنه من العلماء من أحكام نذكر بعضها:
فقد قال الله تعالى:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ...
الآية، فجعل المؤلفة قلوبهم مصرفا من مصارف الزكاة، وقد ثبت أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يعطي بعض الناس يتألف قلوبهم للإسلام، كما أعطى أبا سفيان والأقرع بن حابس، وعباس بن مرداس، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، كل واحد منهم مائة من الإبل، حتى قال صفوان: لقد أعطاني وهو أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى كان أحب الناس إلي، ثم في زمن أبي بكر جاء عيينة والأقرع يطلبان أرضا، فكتب لهما بها، فجاء عمر فمزق الكتاب وقال: إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم عليه وإلا فبيننا وبينكم السيف
16 ، فترى من هذا أن عمر علل الدفع إلى المؤلفة قلوبهم بعلة هي المصلحة، فلما ارتفعت هذه المصلحة بعزة الإسلام، وعدم حاجته إلى من تتألف قلوبهم لم يستمر في إجراء الحكم.
كذلك روي عن عمر أنه لم يقطع يد السارق في عام المجاعة، وروي أن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر: يا كثير بن الصلت، اذهب فاقطع أيديهم، فلما ولى بهم ردهم عمر ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له لقطعت أيديهم؛ وايم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك ... إلخ
17 .
ومثل ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه» إلى كثير من أمثال ذلك، ويكفينا هذا القدر للدلالة على ما نقول.
وقد وجدت نزعة من العصر الأول لتنظيم هذا الرأي من طريق الاستشارة، فقد أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله قضاء ... فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر (رضي الله عنه) يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رءوس الناس فإذا اجتمعوا على أمر قضى به.
وفي المبسوط للسرخسي «أن عمر كان يستشير الصحابة مع فقهه، حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال: ادعوا لي عليا، وادعوا لي زيدا ... فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه».
وعن الشعبي قال: «كانت القضية ترفع إلى عمر (رضي الله عنه) فربما تأمل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه، واليوم يفصل في المجلس مئة قضية».
وروي عن سعيد بن المسيب عن علي قال: «قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمض فيه منك سنة، قال: اجمعوا له العالمين أو قال: العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد».
وعن شريح قال: قال لي عمر بن الخطاب: «أن أقض بما استبان لك من قضاء رسول الله، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم فاجتهد برأيك، واستشر أهل العلم والصلاح».
ولكن لم يوضع - مع الأسف - نظام ملزم واضح يبين كيفية الشورى ومن الذين يستشارون، وقيمة رأي المستشارين ... إلخ، مع أن الحاجة ماسة إلى هذا التنظيم؛ وقد سار الأندلسيون فيه خطوة سديدة بتكوين مجلس للشورى يعين أعضاؤه من قبل الخليفة، ليس هنا موضع الكلام عليه.
على كل حال وجد العمل بالرأي، ونقل عن كثير من كبار الصحابة قضايا أفتوا فيها برأيهم كأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل؛ وكان حامل لواء هذه المدرسة أو هذا المذهب فيما نرى عمر بن الخطاب؛ وأشهر من سار على طريقته عبد الله بن مسعود في العراق، فكان يتعشق عمر ويعجب بآرائه، وروي عنه أنه قال: إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم، وجاء في أعلام الموقعين أن ابن مسعود كان لا يكاد يخالف عمر في شيء من مذاهبه
18 ، وقال الشعبي: كان عبد الله لا يقنت، ولو قنت عمر لقنت عبد الله، وقال أيضا: «ثلاثة كان يستفتي بعضهم من بعض، فكان عمر وعبد الله «بن مسعود» وزيد بن ثابت يستفتي بعضهم من بعض، وكان علي وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض» وهذا الخبر يدلنا على أنه كان للصحابة العلماء مناح للتفكير، كل جماعة لهم منحى يألف بعضهم بعضا، ويؤيد بعضهم بعضا.
فكان عبد الله بن مسعود من منحى عمر، وأظهر مناحيه الاعتداد بالرأي حيث لا نص كما رأيت، وهذا المنحى يظهر في ابن مسعود واضحا أيضا، فقد قال أبو عمر الشيباني كنت أجلس إلى ابن مسعود حولا لا يقول قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإذا قالها استقلته الرعدة
19 ، وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان لا يعدل بقول عمر وابن مسعود إذا اجتمعا، فإذا كان قول عبد الله أعجب؛ لأنه كان ألطف.
وأنت إذا علمت أن علم أهل العراق كان عن عبد الله بن مسعود، وأن مدرسة العراق توجت بابي حنيفة
20
رأيت سببا كبيرا من الأسباب التي جعلت مدرسة العراق تشتهر بالرأي وإعمال القياس.
انتشرت مدرسة الرأي هذه في القرن الأول والثاني للهجرة حتى كانوا ينسبون إليها ، فسموا «ربيعة الرأي» وهو من أكبر التابعين وشيخ الإمام مالك وكان من الموالي؛ وكان كثير من التابعين وتابعيهم من هذه المدرسة كالحسن البصري، وكان أكبر موطن لها العراق، ويرجع ذلك إلى أسباب ثلاثة: (الأول):
ما ذكر من تأثير عبد الله بن مسعود فيهم، وهو ما علمت من ميل إلى الرأي يشارك فيه أستاذه عمر بن الخطاب. (والثاني):
ما ذكره ابن خلدون من أن الحديث كان في العراق قليلا، وكان أكثر رواة الحديث في الحجاز؛ لأنه موطن النبي
صلى الله عليه وسلم
وكبار الصحابة. (والثالث):
أن العراق قطر ممدن كما علمت قد تأثر إلى درجة كبيرة بالمدنية الفارسية واليوناينة، والمدنية تضع تحت عين المشرع جزئيات كثيرة تحتاج إلى التشريع لا يقاس بها القطر البدوي وما في حكمه، فإذا انضم إلى ذلك ما وصل إليهم من الحديث أنتج ذلك لا محالة إعمال الرأي.
وكان لمدرسة الرأي هذه مميزات واضحة: (1)
كثرة تفريعهم الفروع حتى الخيالي منها، وقد ألجأ إلى ذلك أولا كثرة ما يعرف لهم من الحوادث نظرا لمدنيتهم، ثم ساقهم ذلك إلى الجري وراء الفروض، فأكثروا من أرأيت لو كان كذا؟ فيسألون المسألة ويبدون فيها حكما، ثم يفرعونها بقولهم: أرأيت لو كان كذا؛ ويقلبونها على سائر وجوهها الممكنة وغير الممكنة أحيانا، حتى سماهم أهل الحديث «الأرأيتيون»، قال الشعبي: «والله لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري؛ قلت: من هم يا أبا عمر؟ قال: الأرأيتيون»
21
قال: «ما كلمة أبغض إلي من أرأيت» وكان مالك بن أنس لا يقدم عليه في السؤال كثيرا، وكان أصحابه يهابون ذلك، قال أسد بن الفرات - وقد قدم على مالك - وكان أصحابه يجعلونني أسأله عن المسألة، فإذا أجاب يقولون قل له فإن كان كذا، فأقول له، فضاق علي يوما، فقال هذه سليسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق
22 ، وقال سعيد بن المسيب لربيعة الرأي وقد اعترض عليه في مسألة: «أعراقي أنت؟ ... إلخ» وكان عمل العراقيين سببا في تضخيم الفقه وكثرة مسائله مما جعل الفقهاء الآخرين ينظرون فيها، ويبدون حكمهم فيها على أصول مذاهبهم؛ ويظهر أنه كان للمنطق السرياني الذي كان منتشرا في العراق قبل الفتح - كما وصفنا من قبل - أثر في القالب الذي اتخذه العراقيون في تفريع المسائل. (2)
قلة روايتهم للحديث واشتراطهم فيما يؤخذ به من الحديث شروطا لا يسلم معها إلا القليل.
وحتى غالى القوم فرأوا عدم الأخذ بالحديث بتاتا، وحجتهم في ذلك شكهم المطلق في رواة الحديث، وكثرة من جرحه المحدثون، حتى يكادوا لا يتفقون على أمانة محدث وصدقه، فقالوا: لا نترك كتاب الله الثابت المقطوع به لمثل هذا الحديث المشكوك فيه، وحتى من ظهرت أمانته، فمن يدرينا ما دخيلة نفسه! وكانت هذه فئة كبيرة على ما يظهر، فقد عقد الإمام الشافعي في كتابه «الأم» فصلا طويلا عنوانه: «باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها»، وحكى آراءهم وناقشهم فيها مناقشة طويلة وبديعة
23 ، وحكى بعده بابا آخر للرد على جماعة ذهبوا إلى أنه لا يؤخذ من الأخبار إلا ما اجتمع عليه، فأما ما اختلفوا فيه فيقدم الرأي والقياس عليه
24 ، كان يناهض هذه المدرسة مدرسة الحديث أو أهل الحديث، ونرى لهذه المدرسة أصولا في الصحابة، كالعباس، والزبير، ثم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن هذه المدرسة الشعبي من التابعين فإنه يقول: «ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله فخذوه وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحش»، ومذهب هؤلاء أنهم إذا سئلوا عن شيء فإن عرفوا فيه آية أو حديثا أفتوا وإلا لم يقولوا شيئا، روي أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال: لم أسمع في هذا شيئا، فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك، قال: لا، ثم أعاد عليه فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم: أنى؟ لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك، وروي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه قال: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة، فقال أبي: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من صاحب الرأي
25 ، ومثل هذه الأقوال كثير.
وأظهر ما كانت هذه المدرسة في الحجاز لعكس الأسباب التي ذكرناها في العراق، وكان من مميزات هذه المدرسة: (1)
كراهيتهم الشديدة للسؤال عن الفروض؛ لأن المصدر عندهم وهو الحديث محدود، وهم يكرهون إعمال الرأي، وقد رويت أقوال كثيرة تدل على كراهيتهم للسؤال عن حادثة إلا إذا وقعت فعلا، وعيبهم على العراقيين إثارة الفروض. (2)
ومن مميزاتها الاعتداد بالحديث حتى الضعيف منه، وتساهلهم في شروطه وتقديمهم ذلك على الرأي، كالذي روينا عن أحمد بن حنبل.
وكانت هذه المدرسة كما أسلفنا سببا غير مباشر لوضع الحديث، فقد رأى قوم لا يتحرون الصدق أن هناك مسائل لا تعد لم يرد فيها نص، ورأوا أعلام مدرستهم لا تقدم على الرأي تحل به المشاكل، فوضعوا الأحاديث الكثيرة يغطون بها هذا الموقف، قال عتيق الزبيدي: وضع مالك الموطأ عن نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه كل سنة ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو بقي قليلا لأسقطه كله
26 ، ومن أدلتنا على ذلك ما بين أيدينا من كتب الفقه حتى فقه الإمام أبي حنيفة المشهور في عصره بإعمال الرأي، فإنك لا تجد فرعا من فروعه إلا وفيه الحديث عن الرسول أو الصحابي، مع قول الثقات بأنه لم يصح عنده إلا أحاديث قليلة، وقد نبه العلماء على ضعف كثير مما ورد في هذه الكتب
27 .
وتغالى أصحاب الحديث كما تغالى أصحاب الرأي، حتى قال بعضهم: إن السنة حاكمة على الكتاب، وليس الكتاب حاكما على السنة، وحتى كان في العصر الثاني من يقول: إن السنة تنسخ الكتاب. •••
كان النزاع بين المدرستين شديدا، ووجه كل فريق قوارص اللوم للآخرين، ووضعت الأحاديث لتأييد كل مدرسة، فإذا روت مدرسة الحديث أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «يوشك رجل منكم متكئا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مثل الذي حرم الله»
28
روت مدرسة الرأي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا ، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله!»
29
وهذا هو الذي يفسر لنا ما نراه في الكتب من تناقض، فقد روي عن أبي بكر في العمل بالرأي وفي ذم الرأي؛ وعن عمر في العمل بالرأي وذم الرأي، وابن مسعود كذلك
30 ، وقد أجهد بعض العلماء أنفسهم في التوفيق بين هذه الأقوال المتناقضة، ورأوا أن نوعا من الرأي محمود ونوعا منه مذموم، وأن ما ورد عنهم في الذم إنما ينصرف إلى النوع المذموم، والذي نرى أن هذه الأقوال المتناقضة إنما هو من أثر المدارس المتنازعة، ومن وضع من اندس في كل مدرسة ولم يرع الحق ولم يخش الله.
وكانت بين المدرستين مناقشات طريفة نذكر لك مثلا منها:
فقد روي أن ربيعة الرأي سأل سعيد بن المسيب عن عقل
31
أصابع المرأة: ما عقل الإصبع الواحدة؟ قال: عشرة من الإبل، فإصبعان؟ قال: عشرون، قال: فثلاثة؟ قال: ثلاثون، فأربع؟ قال: عشرون؛ قال: فعندما عظم جرحها نقص عقلها؟ فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ إنما هي السنة. •••
وهناك مدرسة كانت بين المدرستين لا تهمل الرأي بتاتا، وهي مع ذلك غنية بالحديث ولا تعمل الرأي إلا بشروط، وإلا عندما لم يكن نص في المسألة، ومن أعلام هذه المدرسة الإمام مالك ثم الإمام الشافعي.
وقد ارتقى البحث في الرأي ونظم، ووضعت له قواعد وشروط وسمي بالقياس، وحصر الرأي بعد وضع هذه القواعد والنظم في دائرة ضيقة لا تتعدى غالبا تشبيه ما لم ينص عليه بما نص عليه لعلة تجمعهما.
وهذه المدارس على اختلافها رقت التشريع رقيا بينا بما بحثت واستنبطت، حتى الأحاديث الموضوعة نفسها كان لها فضل في التشريع، فإنها لم توضع اعتباطا ولا كانت مجرد قول يقال، إنما كانت في الغالب نتيجة تفكير فقهي وبحث واجتهاد، ثم وضع هذا الرأي وهذا الاجتهاد في قالب حديث.
ولنعد الآن إلى إلقاء نظرة عامة على تاريخ التشريع في ذلك العصر.
في عهد الخلفاء الراشدين كان مركز الخلافة في المدينة، وكان فيها أكثر كبار الصحابة وأوسعهم علما، فلما توفي أبو بكر كانت تعرض عليه معضلات المسألة ليقضي فيها، وكان - كما رأيت - يستشير كبار الصحابة فيما لم يرد فيه كتاب ولا سنة، ولم يؤثر عنه أنه عين قاضيا في ناحية من النواحي، وقد ذكروا أنه لما كثرت عليه شئون الأمة عهد بالشئون القضائية إلى عمر.
فلما تولى عمر وفتحت الفتوح عين القضاة في الأمصار، في مصر والشام والعراق، وكان بجانب القاضي جملة من الصحابة والتابعين في كل مصر، عرفوا عادات المصر الذي نزلوا به ونوع معيشتهم وحالاتهم الاجتماعية والاقتصادية، وكان لهم علم بالقرآن وجملة صالحة من الحديث، ورأي يحكمونه فيما ليس فيه نص، فكان هؤلاء يستفتون فيما يعرض لهم فيفتون؛ وهؤلاء أصدروا فتاوى في أمور كثيرة عدت بعد تقاليد لكل مصر، أو بعبارة أخرى: سوابق قضائية تراعى إذا حدث مثلها، وقد ذكرنا قبل أن أهل المدينة كانوا يتبعون أكثر ما يتبعون فتاوى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأهل مكة فتاوى عبد الله بن عباس، وأهل الكوفة فتاوى عبد الله بن مسعود، وأهل مصر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص، هذه الفتاوى كانت تكثر بظهور أحداث لم يسبق صدور فتوى فيها واجتهاد العلماء في بيان حكمها.
ولما جاءت الدولة الأموية نقلت مركز الخلافة إلى دمشق الشام، وفي عهدها ظهر أثر الامتزاج الذي كان بين العرب الفاتحين والأمم المفتوحة على النحو الذي أبناه من قبل.
وساعد على هذا الامتزاج أن المسلمين كانوا بحق في عصرهم الأول متسامحين مع غيرهم أجمل تسامح، وسيرة عمر بن الخطاب أصدق شاهد على ذلك، وإنما جاءت القسوة وسوء المعاملة بعد هذا العهد؛ فكان من أثر ذلك أن وضع تحت أعين المسلمين أنواع من المدنيات المختلفة وأنواع من الديانات المختلفة وأنواع من الأنظمة المختلفة، كل هذه جعلت المسلمين وغير المسلمين يتساءلون: ما حكم الإسلام فيها؟ ما رأي الإسلام في هذه الجزئيات الكثيرة التي أنتجتها هذه المدنيات؟ ما الذي يرضاه الإسلام وما الذي لا يرضاه؟ أيها يتفق مع قواعده الكلية وأيها لا يتفق؟ فكان موقف الفقهاء أمام هذه المشاكل من أصعب المواقف وأشدها عناء؛ وكانوا هم من جانبهم من أكثر الناس نشاطا وتحملا للعبء.
يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل «جولدزيهر» و«سانتلانا» إلى أن الفقه الإسلامي في هذا العصر تأثر كثيرا بالقانون الروماني، وكان هذا الفقه الروماني مصدرا من مصادره، استمد منه بعض أحكامه، قالوا: كان في الشام مدارس للقانون الروماني عند الفتح الإسلامي في قيصرية وفي بيروت، وكان هناك محاكم تسير في نظامها وأحكامها حسب القانون الروماني، واستمرت هذه المحاكم في البلاد بعد الإسلام زمنا؛ قالوا: وطبيعي أن قوما لم يأخذوا من المدينة بحظ وافر إذا فتحوا بلادا ممدنة نظروا ماذا يفعلون، وبم يحكمون، ثم اقتبسوا من أحكامهم؛ وقالوا: إن المقارنة بين بعض أبواب الفقه وبعض أبواب القانون الروماني تقنعنا بما نقول، بل إن هناك قواعد نقلت من القانون الروماني بنصها مثل: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر»، وإن كلمتي الفقه والفقيه استعملتا وفاقا لمعنى الكلمة المستعملة عند الرومان، فهم يستعملون كلمة “Juris”
وهي تدل على الفهم والمعرفة والحكمة؛ وقالوا: إن الفقه الإسلامي أخذ عن القانون الروماني إما مباشرة أو عن طريق التلمود، فإن هذا التلمود أخذ كثيرا من القانون الروماني، واتصال المسلمين باليهود مكنهم من الأخذ ببعض أقوال التلمود، إلى آخر ما قالوا.
ولسنا نرى أن الأدلة التي أتوا بها مقنعة، فتشابه بعض أحكام في قانونين لا يجعلنا نقطع بأخذ أحدهما عن الآخر، سيما إذا روعي أن القوانين - إلهية أو وضعية - تراعي العدالة في التقنين، وهناك أمور واضحة العدالة يتفق فيها المشرعون، كقاعدة البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، وكلمة الفقه في أصل اللغة العربية معناها العلم بالشيء والفهم له، ثم غلبت على معنى العلم بالدين والفهم له، كما غلب الشعر على ذلك الضرب المعروف من القول، وفي هذا المعنى استعملها القرآن قبل امتزاج العرب بالرومان فقال:
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ، ثم غلبت على هذا النمط من العلم «علم التشريع»؛ لأنه يتطلب فقها في الدين ومعرفة بالكتاب والسنة؛ وهذا شأن العرب في أسماء العلوم على العموم، تكون الكلمات عامة، ثم تخصص، ولم نعثر على أحد من الأئمة المشرعين أشار أية إشارة إلى القانون الروماني على سبيل النقد أو التأييد أو الاقتباس؛ وقد كان أولى الناس بالتأثر بالقانون الروماني الأوزاعي، فقد عاش في بيروت، موطن أكبر مدرسة رومانية في الشام، وكان أكبر فقيه فيها، وقد التفت بعض المستشرقين إلى ذلك وقالوا: إن من دواعي الأسف أن مذهبه اندثر، ولو عثرنا عليه لوجدنا فيه أثرا كبيرا للقانون الروماني، ويظهر لنا أنه قول غير وجيه، فقد عثرت على جملة صالحة من مذهبه في الجزء السابع من الأم؛ ودلتني قراءتها على أن من الإنصاف أن يعد الأوزاعي من مدرسة الحديث لا من مدرسة الرأي، عكس ما يقول «جولدزيهر»، ومدرسة الحديث أبعد مظنة من التأثر بالقانون الروماني.
ولسنا ننكر أن القانون الروماني أفاد من ناحية غير هذه، أعني ناحية عرض المسائل على الفقهاء ليبدوا فيها رأيهم حسب القواعد الكلية للشريعة الإسلامية، فمن المحقق أن مصر والشام كانت تحكمهما محاكم رومانية بالقانون الروماني، فلما جاء الإسلام ودخل قوم من هؤلاء المحكومين فيه، وخضع له غيرهم كان من الطبيعي أن يعرضوا تقاضيهم القديم وآراء محاكمهم القديمة على الإسلام لينظروا ما يقر منها وما لم يقر، هب اليوم أنه لداع من الدواعي غير القانون المصري ووضعت أسس أخرى لقوانين جديدة؛ فمما لا شك فيه أن المتقاضين ورجال القضاء ونحوهم ممن كانوا يتقاضون حسب القانون القديم يثيرون مسائل ويعرضون رأيه، ويقارنون بين التعاليم القديمة والتعاليم الجديدة؛ خصوصا إذا لاحظنا أن القضاة في صدر الإسلام كان لديهم الشيء الكثير من المرونة والتسامح فيما لم يخرج عن قواعد الإسلام، قرأت في ذيل كتاب قضاة مصر «أن خير بن نعيم تولى قضاء مصر من 120-127» كان يسمع كلام القبط بلغتهم ويخاطبهم بها، وكذلك شهادة الشهود منهم، ويحكم بشهادتهم»
32 . •••
في هذا العهد - عهد الدولة الأموية - لا نرى خلفاءهم يهتمون بشيء من شئون التشريع إلا قليلا منهم كعمر بن عبد العزيز، فالتشريع لم يرق تحت حمايتهم ورعايتهم، كالذي كان في عهد الدولة العباسية، إنما رقي في المدارس وفي حلقات الدروس المستقلة عن خلفائهم، ولم يبذل الأمويون محاولة في صبغ تشريعهم صبغة رسمية، فلا نرى في الدولة الأموية مثل أبي يوسف في الدولة العباسية، يحميه الخلفاء ويؤيدونه في التشريع ويوثقون الصلة بينه وبينهم، وبينه وبين قضاة الأمصار، ولا نرى من المشرعين من اتصل بالأمويين إلا قليلا كالزهري.
وفي هذا العهد لم تكن المذاهب الأربعة قد تكونت، إنما كان هناك أئمة كثيرون مجتهدون كالأوزاعي، اندثرت مذاهبهم، وبدأ في آخر عهد الدولة الأموية يظهر إمامان من الأئمة الأربعة: الإمام أبو حنيفة في العراق، والإمام مالك بن أنس في المدينة. فالإمام أبو حنيفة ولد سنة 80ه في ولاية عبد الملك بن مروان، وعاش نحو 18 سنة في ظل الدولة العباسية، وهو من أصل فارسي، أخذ الفقه عن جعفر الصادق من البيت العلوي، وعن إبراهيم النخعي من أكبر فقهاء عصره، وسمع الحديث من الشعبي والأعمش وقتادة، واشتهر بقدرته التشريعية، وقوة حجته، وحسن منطقه، ودقته في الاستنتاج؛ ومن أجل ذلك عد إمام أهل الرأي، ولم يصل إلينا شيء من تآليفه القانونية، ولا ثبت تاريخيا أنه دون مذهبه في كتاب، إنما فعل ذلك تلميذاه من بعده: أبو يوسف ومحمد.
والإمام مالك ولد سنة 96ه بالمدينة من أصل عربي، وبها تعلم وعلم وألف، واشتهر بأنه حجة في الحديث، وعد من أجل ذلك إمام أهل الحديث، ويمتاز مذهبه باعتماده على الحديث أكثر من أبي حنيفة، ويحتج بعمل أهل المدينة، وتوفي سنة 179؛ وخلف لنا كتاب الموطأ، وقد اشتهر أنه كتاب حديث، ولكنه في الحقيقة كتاب فقه وإن ملئ حديثا، فلم يكن غرضه أن يجمع فيه الأحاديث المعروفة في عهده، والتي صحت عنده، إنما غرضه الإتيان بالتشريع مستدلا عليه بالحديث؛ ولذلك نجد فيه فتاواه الشخصية وآراءه في بعض المسائل.
ولا نطيل بذكر ما كان بينهما من خلاف في وجهة النظر واختلاف في الأصول التي اعتمدوا عليها؛ فذلك بالعصر العباسي أليق، إنما نذكر هنا ملاحظة دقيقة لاحظها ابن خلدون عند تعليله؛ لانتشار مذهب مالك في المغرب والأندلس، فقد قال: «وأيضا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعاونون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى الحجاز أميل، لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، كما وقع في غيره من المذاهب»
33 .
فهو يريد أن يقرر أن مدنية البلد الذي نشأ فيه الإمام أو بداوته لهذا أثر خاص في تكوين مذهبه، من كثرة فروع وقلتها، بل يظهر أن لها كذلك أثرا في تكوين رأيه، ولو استعرضنا بعض خلافات بين الفقهاء لوجدنا ذلك واضحا؛ فمن ذلك مثلا أن أبا حنيفة يجوز أن يفتتح الصلاة بالفارسية بدل أن يقول: «الله أكبر» بالعربية، ولو كان قادرا على قولها بالعربية، ويجوز أن يقرأ القرآن بالفارسية، وخالفه في ذلك الإمام مالك والشافعي
34 ، ومثل تجويز الإمام أبي حنيفة أن تزوج المرأة الحرة المكلفة نفسها من غير ولي، وقال مالك والشافعي: لا يجوز إلا بولي
35 .
والظاهر أن هذا المنزع أعني تقدير الإمام للظروف التي تحيط به وتأثيرها في آرائه إنما يكون حيث لا يصح نص عند الإمام، فأما إذا صح فلم يكن لهذه الظروف أثر في تكوين رأيه؛ ودليلنا على ذلك مثلا ما نرى من أن مذهب أبي حنيفة اعتبار الكفاية في الزواج نسبا، فقريش عنده أكفاء لبعض، وليس سائر العرب أكفاء لقريش، الموالي ليسوا بكفء للعرب، مع أن الإمام مالكا يقول: لا تعتبر الكفاءة إلا في الدين؛ لأنه صح عنده قوله عليه الصلاة والسلام: «الناس سواسية كأسنان المشط: لا فضل لعربي على عجمي، إنما الفضل بالتقوى»
36
ولو كانت المسألة لتقدير الظروف فقط لانعكس المذهبان.
مصادر هذا الفصل
المستصفى للغزالي.
مسلم الثبوت.
صحيحا البخاري ومسلم.
مقدمة ابن خلدون.
الموافقات للشاطبي.
تاريخ ولاة مصر وقضاتها للكندي.
خطط المقريزي.
تفسير الطبري.
العقد الفريد لابن عبد ربه.
تيسير الوصول في جمع أحاديث الرسول.
أسباب النزول للواحدي.
التفسيرات الأحمدية في الآيات الشرعية.
أعلام الموقعين لابن القيم والطرق الحكمية له.
شرح الزيلعي على متن الكنز .
فتح القدير على الهداية.
الأم للإمام الشافعي.
نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي.
وفيات الأعيان لابن خلكان.
الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون.
تاريخ التشريع الإسلامي للمرحوم الشيخ محمد الحضري.
دائرة المعارف الإسلامية في مادة «فقه».
Abdurahim, Muhammadan Jurisprudence .
Macdonald, Muslim Theology .
Goldziher, Le Dogma et Le Loi de Ľ Islam .
الجزء
الفرق الدينية
كلمة في الخلافة وأنها أساس كثير من الفرق
كانت الخلافة أول مسألة اشتد فيها الخلاف بين المسلمين، وتشعبت فيها آراؤهم، وتكون حولها أهم الفرق الإسلامية في العصر الأول، وهي الخوارج والشيعة ثم المرجئة، فلنستعرض باختصار تام ما دار فيها حتى نتبين كيف نشأت هذه الفرق، تاركين تفصيل ذلك إلى الجزء الخاص بالتاريخ السياسي من كتابنا. توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم يعين من يخلفه، ولم يبين كيف يكون اختياره، فواجه المسلمون أشق مسألة وأخطرها، وعلى طريق سيرهم فيها كان يتوقف نجاحهم في الحياة السياسية أو فشلهم.
شعر المسلمون من لحظة وفاته
صلى الله عليه وسلم
بضرورة التفكير فيمن يخلفه، وأسرع الأنصار قبل دفنه إلى عقد اجتماع في سقيفة بني ساعدة ليبتوا في الأمر، وأدركهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم خشية ألا ينظر الأنصار في الأمر إلا من جانبهم، وفي هذه السقيفة انقسموا إلى رأيين: رأي يقول: يجب أن يكون الخليفة من الأنصار، وحجتهم أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لبث في قومه في مكة نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام فما آمن منهم إلا قليل، ولا منعوا رسول الله من الأذى، ولا أعزوا الدين، فلما هاجر من مكة إلى المدينة نصره الأنصار وآمنوا به، وأعزوا دينه، ومنعوه وصحبه ممن أراد بهم سوءا، وكانوا معه على عدوه حتى خضعت له جزيرة العرب، وتوفي
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض، وبهم قرير عين، فهم أولى الناس أن يخلفوه.
وفريق آخر وهم المهاجرون يرون أن تكون الخلافة فيهم، وحجتهم أنهم أول من آمن به، وصبروا على الأذى ولم يستوحشوا لقلة عددهم، وهم قومه وعشيرته، وهم من قريش والعرب لا تدين إلا لهم ، ولا تقر بعزة ومنعة غير عزتهم ومنعتهم، فهم أولى بالخلافة من غيرهم؛ وبعد حوار طويل، واقتراح بعض الأنصار للتوفيق بين الرأيين: أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، ورفض المهاجرين ذلك الاقتراح أيضا، تمت البيعة في هذا المجلس لأبي بكر التيمي القرشي.
لم يكن علي حاضرا هذا الاجتماع لاشتغاله هو وأهل بيته في جهاز رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأخذ العدة لدفنه، فلما بلغه خبر البيعة لأبي بكر لم يرض عنها، وتكون رأي ثالث وهو أن تكون الخلافة في بيت النبي، وأقرب الناس إليه
صلى الله عليه وسلم
عمه العباس بن عبد المطلب وابن عمه علي بن أبي طالب، ولكن العباس لم يكن من السابقين إلى الإسلام، فقد حضر غزوة بدر مع المشركين، ولم يسلم إلا آخرا، فأولى الناس من قرابة النبي علي بن أبي طالب، وهو من أول الناس إسلاما، وزوج فاطمة بنت النبي
صلى الله عليه وسلم ، وجهاده وفضله وعلمه لا ينكر؛ وحجة أصحاب هذا الرأي أن أقرب الناس إلى النبي أولى أن يخلفوه، وأن بيت بني هاشم خير من بيت أبي بكر، فالعرب للأولين أطوع، وأن المهاجرين احتجوا على الأنصار بأنهم قوم النبي وعشيرته فآل النبي وأقربهم إليه أولى، كما جاء في نهج البلاغة أن عليا سأل عما حدث في سقيفة بني ساعدة فقال: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فقال علي: «احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة!» يريد أن المهاجرين احتجوا بأنهم من شجرة النبي، فأولى بالاحتجاج من يجمعهم والنبي أنهم من ثمرة قريش، وهم قرابته، وسواء صح هذا القول عن علي أم لم يصح فهو تعبير صادق عما في نفسه، ودعا إلى هذا الرأي علي، وأيده بعض بني هاشم، وأيده الزبير بن العوام، وعطف عليه بعض الأنصار لما كان موقفهم وموقف علي سواء في ضياع الأمر من أيديهم، ولم يبايع علي أبا بكر إلا بعد لأي.
وظلت النظريات الثلاث تتعارض، ووجد في العصور المختلفة من يؤيدها ويدافع عنها، حتى النظرية الأولى - وهي نظرية الأنصار - فقد كان قوم يعتنقونها وإن لم يظهروا ظهورا بينا في التاريخ
1 ، أما النظريتان الأخيرتان فكانت الحرب بينهما أحكم، والجدال أشد.
لم تمت النظرية القائلة بأولوية علي في عهد أبي بكر وعمر؛ ولكن سكنت وخمدت، ساعد على خمودها عدل أبي بكر وعمر، وانتصافهما حتى من أنفسهما، وأنهما لم يعيرا العصبية القبلية أي التفات، وزاد في سكونها اشتغال الناس بالحروب والفتوح ونجاحهم، فلم يجد الناقمون مجالا يدخلون منه على الناس لإثارتهم الفتن.
ولما ولي عثمان تبرم علي وأنصاره، وزادهم تبرما أن عثمان - وهو أموي - استعان بالأمويين، فكان أكثر عماله منهم، وكان كاتبه وأمين سره مروان بن الحكم الأموي، ومروان هذا وشيعته هدموا كل ما بناه الإسلام من قبل ودعمه أبو بكر وعمر؛ من محاربة العصبية القبلية، وبث الشعور بأن العرب وحدة، وحكموا كأمويين لا كعرب، فحرك ذلك ما كان كامنا من العداوة القديمة الجاهلية بين بني هاشم وبني أمية، وانتشرت الجمعيات السرية في آخر عهد عثمان تدعو إلى خلعه وتولية غيره؛ ومن هذه الجمعيات من كانت تدعو إلى علي، ومن أشهر الدعاة له عبد الله بن سبأ - وكان من يهود اليمن فأسلم - فقد تنقل في البصرة والكوفة والشام ومصر يقول: «إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ووثب على وصيه!» وكان من أكبر الذين ألبوا على عثمان حتى قتل.
لما قتل عثمان بايع عليا كثير من المسلمين فتحققت بذلك نظرية القائلين بحق علي في الخلافة من يوم وفاة رسول الله، وأيده كثير من كبار المهاجرين لأنطباق نظريتهم عليه أيضا ، وخرج على علي طلحة والزبير ومعاوية، وكلهم يلصق بعلي تهمة أن له ضلعا في قتل عثمان وعلى أقل تقدير أنه قعد عن نصرته، وكان في استطاعته رد الناس عنه؛ وكان من حجة بعضهم أنه - وقد بويع - يجب عليه أن يقتص من قتلة عثمان؛ ويقول كل من طلحة والزبير: إنه أولى بالمطالبة بدم عثمان؛ لأنه من الستة الذين انتخبهم عمر للشورى ، ومن السابقين الأولين للإسلام، ويقول معاوية: إنه أولى الناس رحما بعثمان، وأقوى أهل بيته على المطالبة بدمه.
ووجدت في هذا الموقف طائفة من كبار الصحابة لم تبايع عليا ولم تبايع غيره، ولم تشترك في شيء من الخلاف القائم وفضلت العزلة؛ من أشهرهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة، وسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وحسان بن ثابت، وعبد الله بن سلام؛ ومن قول سعد بن أبي وقاص في ذلك: «إن رسول الله أمرني إذا اختلف الناس أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد، فإذا تقطع أتيت منزلي فكنت فيه لا أبرحه، حتى تأتيني يد خاطية أو منية قاضية».
فأما طلحة والزبير فقد انتهى أمرهما سريعا بانهزامهما وقتلهما في وقعة الجمل، وأما معاوية فكان أصعب منالا، إذ كان لديه جند الشام المنظم الطائع، وكان بين علي ومعاوية من وقعة صفين ما كان، فلما أحس معاوية بأن الدائرة كادت تدور عليه أوعز إلى جنوده برفع المصاحف على رءوس الرماح، وطلب التحكيم إلى كتاب الله.
هذه خلاصة تاريخية موجزة اضطررنا لذكرها؛ لأن عليها تأسست ثلاث فرق من أكبر الفرق الإسلامية؛ وهي: الخوارج، والشيعة، والمرجئة.
الفصل الثامن عشر
الخوارج
لما كانت وقعة صفين بين علي ومعاوية، وطلب معاوية تحكيم كتاب الله اختلف أصحاب علي: أيقبلون هذا التحكيم؛ لأنهم يحاربون لإعلاء كلمة الله وقد دعوا إليها، أم لا يقبلون؛ لأنها خدعة حربية لجأ إليها معاوية وصحبه لما أحسوا بالهزيمة؟ وبعد جدال وتردد قبل علي التحكيم، واختار معاوية عمرو بن العاص ليمثله، واختار أصحاب علي أبا موسى الأشعري؛ إذ ذاك ظهر قوم من جند علي أكثرهم قبيلة تميم، نفروا من أن يحكم أحد في كتاب الله، ورأوا أن التحكيم خطأ؛ لأن حكم الله في الأمر واضح جلي، والتحكيم يتضمن شك كل فريق من المحاربين أيها المحق، وليس يصح هذا الشك؛ لأنهم وقتلاهم إنما حاربوا وهم مؤمنون - بلا شك - أن الحق في جانبهم، هذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية : «لا حكم إلا لله»، فسرت الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي، وتجاوبتها الأنحاء، وأصبحت شعار هذه الطائفة.
طلبوا من علي أن يقر على نفسه بالخطأ بل بالكفر، لقبوله التحكيم، ويرجع عما أبرم مع معاوية من شروط، فإن فعل عادوا إليه وقاتلوا معه، فأبى علي، وكان موقفه في منتهى الدقة، فكيف يرجع عن اتفاق أمضاه، والدين يأمر بالوفاء بالعهود، ولو رجع لتفرق عنه أكثر أصحابه، وكيف يقر على نفسه بالكفر، ولم يشرك بالله شيئا منذ آمن، فضايقوه بالإكثار من «لا حكم إلا لله» فإذا خطب في المسجد قاطعوه بقولهم: «لا حكم إلا لله» فتجاوبت بها أنحاء المسجد، ورآه أحدهم فتلا:
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، يعرض به، وزاد بعض الناس ميلا إلى رأيهم فشل الحكمين في حكمهما، وخيبة الأملين في أن التحكيم يحقن الدماء ويعيد المسلمين إلى الوئام، حتى انضم إليهم بعض القراء - من جيش علي - فلما يئست هذه الجماعة من رجوع علي إلى رأيهم اجتمعوا في منزل أحدهم، وخطب خطيبهم يقول: «أما بعد؛ فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا ... آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بالحق، وإن من وضر، فإنه من يمن ويضر في هذه الدنيا فإنه ثوابه يوم القيامة رضوان الله عز وجل، والخلود في جناته، فاخرجوا بنا إخواننا، من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال، أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة»، ثم خرجوا إلى قرية قريبة من الكوفة تسمى «حروراء»، وسموا حينذاك بالحرورية نسبة إلى هذه القرية، وبالمحكمة - أي الذين يقولون لا حكم إلا لله - وهما اسمان كثيرا ما يطلقان على الخوارج، وأمروا عليهم رجلا منهم اسمه عبد الله بن وهب الراسبي، واسم الخوارج جاء من أنهم خرجوا على علي وصحبه، وإن كان منهم من يشتق اسم الخوارج من الخروج في سبيل الله أخذا من قوله تعالى:
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، وسموا أيضا «الشراة» أي الذين باعوا أنفسهم لله من قوله تعالى:
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ، وقد حاربهم علي في الوقعة الشهيرة بوقعة النهروان، وهزمهم وقتل منهم كثيرا، ولكنه لم يبدهم ولم يبد فكرتهم، وزادت هذه الهزيمة في إمعان الخوارج في كره علي، حتى دبروا له مكيدة قتله، فقتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، وقد كان زوجا لامرأة قتل كثير من أفراد أسرتها في وقعة النهروان.
وظلت الخوارج شوكة في جنب الدولة الأموية يهددونها ويحاربونها حربا تكاد تكون متواصلة في شدة وشجاعة نادرة، وأشرفوا في بعض مواقفهم على القضاء على الدولة، وظل المهلب بن أبي صفرة يجالدهم ويعاني في قتالهم الشدائد والأهوال السنين الطوال، مما لا محل لذكره هنا
1 ؛ غير أنا نشير إلى أنهم كانوا فرعين: فرعا بالعراق وما حولها، وكان أهم مركز لهم «البطائح» بالقرب من البصرة، وقد استولوا على كرمان وبلاد فارس وهددوا البصرة، وهؤلاء هم الذين حاربهم المهلب، واشتهر من رجالهم نافع بن الأزرق، وقطري بن الفجاءة.
وفرعا بجزيرة العرب: استولوا على اليمامة وحضرموت واليمن والطائف، ومن أشهر أمرائهم فيها: أبو طالوت، ونجدة بن عامر، وأبو فديك.
ولم يتغلب الأمويون على هذين الفرعين إلا بعد حروب طويلة شديدة استمرت طول عهد الدولة الأموية.
ثم كانوا كذلك في الدولة العباسية، ولكن لهم من القوة ما كان لهم في عهد الأمويين، فقد ضعف شأنهم، وانحط قوادهم.
تعاليمهم: ابتدأ الخوارج كلامهم في أمور تتعلق بالخلافة، فقالوا بصحة خلافة أبي بكر وعمر لصحة انتخابهما، وبصحة خلافة عثمان في سنيه الأولى، فلما غير وبدل، ولم يسر سيرة أبي بكر وعمر، وأتى بما أتى من أحداث وجب عزله، وأقروا بصحة خلافة علي ولكنهم قالوا إنه أخطأ في التحكيم وحكموا بكفره لما حكم، وطعنوا في أصحاب الجمل: طلحة، والزبير، وعائشة، كما حكموا بكفر أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص، «وقد قبض على أحدهم وقدم إلى زياد ابن أبيه، فسأله زياد عن أبي بكر وعمر، فقال فيهما خيرا؛ وسأله عن عثمان فقال: كنت أتولى عثمان - على أحواله - في خلافته ست سنين، ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر؛ فسأله عن أمير المؤمنين علي فقال: أتولاه إلى أن حكم، ثم أتبرأ منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر؛ فسأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ... إلخ»
2
فترى من هذا أن كلامهم كان يدور حول تشريح أعمال الخلفاء وأنصارهم، والبحث فيمن يستحق أن يكون خليفة ومن لا يستحق، ومن يكون مؤمنا ومن لا يكون.
وقد وضعوا نظرية للخلافة وهي: أن الخلافة يجب أن تكون باختيار حر من المسلمين، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم، وليس بضروري أن يكون الخليفة قرشيا، بل يصح أن يكون من قريش ومن غيرهم ولو كان عبدا حبشيا، وإذا تم الاختيار كان رئيس المسلمين، ويجب أن يخضع خضوعا تاما لما أمر الله، وإلا وجب عزله.
ولهذا أمروا عليهم من اختاروه منهم، «وسموا عبد الله بن وهب الراسبي أمير المؤمنين ولم يكن قرشيا وإنما هو من «راسب» حي من الأزد، وكذلك أمراؤهم من بعده»، وقد خالفوا بهذا نظرية الشيعة القائلة بانحصار الخلافة في بيت النبي: علي وآله، وأهل السنة القائلين بأن الخلافة في قريش؛ وهذه النظرية هي التي دعتهم إلى الخروج على خلفاء بني أمية ثم العباسيين لاعتقادهم أنهم جائرون غير عادلين، لم تنطبق عليهم شروط الخلافة في نظرهم.
نرى الخوارج في أول أمرهم كانت صبغتهم سياسية محضة، ثم نراهم في عهد عبد الملك بن مروان قد مزجوا تعاليمهم السياسية بأبحاث لاهوتية، وأكبر من كان له أثر في ذلك الأزارقة، أتباع نافع بن الأزرق، وأهم ما قرره الخوارج في ذلك أن العمل بأوامر الدين - من صلاة وصيام وصدق وعدل - جزء من الإيمان، وليس الإيمان الاعتقاد وحده، فمن اعتقد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر فهو كافر.
والخوارج لم يكونوا وحدة ولم يكونوا كتلة واحدة، وإنما كان واضحا فيهم الطبيعة العربية البدوية، فسرعان ما يختلفون، وينضمون تحت ألوية مختلفة يضرب بعضها بعضا، ولو اتحدوا لكانوا قوة في منتهى الخطورة على الدولة الأموية، لذلك لا نستطيع أن نذكر ما هو من تعاليمهم مشترك بين جميعهم إلا النظريتين السابقتين: نظرية الخلافة، ونظرية أن العمل جزء من الإيمان. حتى هاتان النظريتان ليستا من اعتقاد جميعهم إلا بقليل من التسامح؛ فمنهم من يرى أن لا حاجة للأمة إلى إمام، وإنما على الناس أن يعملوا بكتاب الله من أنفسهم، ويظهر أن هذه الفكرة هي التي كان يفهمها بعضهم من جملتهم المشهورة: «لا حكم إلا لله»، بدليل ما روي أن علي بن أبي طالب لما سمعهم يقولون: «لا حكم إلا لله» قال: كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله! ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر. وقد قال ابن أبي الحديد: «إن الخوارج كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك، ويذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام، ثم رجعوا عن ذلك القول لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي»
3 .
على كل حال قد اتفق جمهور الخوارج على النظرتين السابقتين، وتفرقوا إلى فرق بلغت في العدد نحو العشرين، كل فرقة تخالف الأخرى في بعض تعاليمها، ولا يسع هذا المختصر ذكر جميعها
4 ؛ غير أنا نذكر هنا أن من أشهر فرقهم الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، وكان من أكبر فقهائهم وقد كفر جميع المسلمين ما عداهم، وقال: إنه لا يحل لأصحابه المؤمنين أن يجيبوا أحدا من غيرهم إلى الصلاة إذا دعاهم إليها، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم، ولا أن يتزوجوا منهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره، وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ودارهم دار حرب، ويحل قتل أطفالهم ونسائهم، ولا تحل التقية
5
لأن الله يقول:
إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، واستحل الغدر بمن خالفه، وكفر القعدة، أي الذين يقعدون عن القتال مع قدرتهم عليه، ولو كان هؤلاء القعدة على مذهبهم.
ومن فرقهم النجدات، أتباع نجدة بن عامر، وأهم تعاليمه التي انفرد بها أن المخطئ بعد أن يجتهد معذور، وأن الدين أمران: معرفة الله ومعرفة رسوله، وما عدا ذلك فالناس معذورون بجهله إلى أن تقوم عليهم الحجة، ومن أداه اجتهاده إلى استحلال حرام أو تحريم حلال فهو معذور، وعظم جريمة الكذب على الزنا وشرب الخمر، ولنافع مع نجدة بن عامر مناقشات طويلة ممتعة حول هذه المبادئ
6 .
كذلك من أشهر فرقهم «الإباضية» نسبة إلى رئيسهم عبد الله بن إباض التميمي، ولا يزال أتباعه في المغرب وغيره إلى اليوم، وهم لم يغالوا في الحكم على مخالفيهم كالأزارقة، بل قالوا: يحل التزوج منهم، ويتوارث الخارجي وغيره، ونزعتهم أميل إلى المسالمة، فقالوا: لا يحل قتال غير الخوارج وسبيهم في السر غيلة، ولا يجوز قتالهم إلا بعد الدعوة وإقامة الحجة وإعلان القتال ... إلخ، وقد ظهر عبد الله بن إباض في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، وعاش أتباعه في أكثر أحوالهم مسالمين للخليفة.
وفرقة أخرى من فرقهم «الصفرية» أتباع زياد بن الأصفر، وهم لا يختلفون كثيرا في تعاليمهم عن الأزارقة.
وهذه الفرق الأربع: الأزارقة والنجدات والإباضية والصفرية هي أشهر فرق الخوارج وأكثرها دورانا في الكتب.
والخوارج يقولون: إن ممن اعتنق مذهبهم عكرمة مولى ابن عباس وأنس بن مالك الصحابي، وكان الحسن البصري يوافق الخوارج في رأيهم بأن عليا أخطأ في التحكيم ولكن لا يعتنق مذهبهم، «وكان إذا جلس فتمكن في مجلسه ذكر عثمان فترحم عليه ثلاثا، ولعن قتلته ثلاثا، ويقول: لو لم نلعنهم للعنا، ثم يذكر عليا فيقول: لم يزل أمير المؤمنين علي رحمه الله يتعرف النصر ويساعده الظفر حتى حكم، فلم تحكم والحق معك؟ ألا تمضي قدما - لا أبا لك - وأنت على الحق»
7 .
وكان مما حاربهم به المهلب بن أبي صفرة اختلاق الأحاديث عليهم، فقد كان يضع الحديث ليشد به أزر قومه ويضعف به من أمر الخوارج ما اشتد، ويقول: إن الحرب خدعة، وكان حي من الأزد إذا رأوا المهلب خارجا قالوا: «راح يكذب!» وفيه يقول رجل منهم:
أنت الفتى كل الفتى
لو كنت تصدق ما تقول!
8
ولعل هذا وأمثاله هو السر فيما ترى من أحاديث كثيرة ملئت بها كتب التاريخ والأدب في ذم الخوارج. •••
كان أكثر من اعتنق مبدأ الخوارج عربا بدوا، وقد انضم إليهم بعض الموالي إعجابا برأيهم الديمقراطي في الخلافة، فليس بضروري أن يكون من قريش ولا من العرب، فهم في نظرهم إلى الخلافة شعوبيون، ولكن مع هذا لم ينضم إليهم من الموالي إلا قليل؛ لأنهم وأكثرهم بدو شديدو العصبية لجنسهم، يحتقرون الموالي ويزدرونهم، روى ابن أبي الحديد أن رجلا من الموالي خطب امرأة خارجية فقالوا لها: «فضحتنا»، ولولا هذه العصبية العربية الجافة لتبعهم من الموالي كثير.
والناظر في تاريخهم يتبين فيهم مميزات واضحة أهمها: (1)
التشديد في العبارة والانهماك فيها، يصفهم الشهرستاني بأنهم أهل صوم وصلاة، ويصفهم المبرد «بأنهم في جميع أصنافهم يبرءون من الكاذب ومن ذي المعصية الظاهرة»، وقد قتل أحدهم زياد، ثم دعا مولاه فاستوصفه أمره؛ فقال: «ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشا بليل قط».
ولما أرسل علي عبد الله بن العباس لأهل النهروان من الخوارج «رأى منهم جباها قرحة لطول السجود وأيديا كثفنات الإبل، عليهم قمص مرحضة وهم مشمرون»، ولعل خير ما قيل فيهم ما قاله أبو حمزة الخارجي في وصف أصحابه: «شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطن أرجلهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، فنظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار، قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم وجباههم، واستقلوا ذلك في جنب الله، حتى إذا رأوا السهام قد فوقت، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد انتضيت، ورعدت الكتيبة بصواعق الموت وبرقت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طير، طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله! وكم من كف زالت عن معصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله» وقد غلوا في أنظارهم حتى عدوا مرتكب الكبيرة - وأحيانا الصغيرة - كافرا، وخرجوا على أئمتهم للهفوة الصغيرة يرتكبونها، وتشدد كثير منهم في النظر إلى غيرهم من المسلمين فعدوهم كفارا، بل كانوا يعاملونهم أشد من معاملة الكفار، ويحكون أن واصل بن عطاء - رأس المعتزلة - وقع في أيديهم فادعى أنه «مشرك مستجير» ورأى أن هذا ينجيه أكثر مما تنجيه دعواه أنه مسلم مخالف لهم، وكذلك كان؛ واشتدوا في معاملة مخالفيهم من المسلمين، حتى كان كثير منهم لا يرحم المرأة ولا الطفل الرضيع ولا الشيخ الفاني، بل لم يرضوا من مخالفيهم أن يقولوا: إن عليا أخطأ في التحكيم، وعثمان أخطأ فيما أحدث، بل لا بد أن يقر بكفرهما وكفر من ناصرهما، وطلبوا من عبد الله بن الزبير أن يتبرأ من أبيه، ولم يكتفوا من عمر بن عبد العزيز بعدله وجمال سيرته، بل طلبوا منه كذلك أن يتبرأ مما تبرءوا هم منه، وأن يلعن أسلافه من بني أمية؛ ولعل هذا التشدد وإقدامهم على سفك دماء معارضيهم هو أكبر ما شوه حركتهم. (2)
أخلصوا لعقيدتهم وقاتلوا دفاعا عنها، ولهذا نظر إليهم كثير من خيرة الناس نظرة عطف وإشفاق، فقد روي أن علي بن أبي طالب في أواخر أيامه قال: «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه»، يريد أن الخوارج طلبوا الحق وحاموا عن عقيدة اعتقدوها وإن أخطئوا فيها، وأما معاوية فكان لا يطلب حقا وإنما كان يطلب باطلا ويحامي عنه وقد أدركه، وقال عمر بن عبد العزيز - لبعض الخوارج -: «إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطب دنيا أو متاع، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها»، وقد حملهم شديد إيمانهم أن ينتهزوا كل فرصة للدعوة إلى مبادئهم جهرا، ويرسلوا الرسل إلى خلفاء بني أمية يدعونهم، ولم يضنوا بأي نوع من أنواع التضحية؛ فتاريخهم مملوء بالشجاعة النادرة، يقول صاحب العقد الفريد: «وليس في الأفراق
9
كلها أشد بصائر من الخوارج، ولا أشد اجتهادا، ولا أوطن أنفسا على الموت، منهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول:
وعجلت إليك رب لترضى ، وأرسل معاوية رجلا إلى ابنه من الخوارج ينصحه بالرجوع إلى قتال معاوية فأبى، فأداره فصمم، فقال له: أي بني أجيئك بابنك لعلك تراه فتحن إليه، فقال له: يا أبت! أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني؛ وكان الخارجي يقاتل على السوط يؤخذ منه أشد قتال، وقال كعب: «إن فتك الحرورية يفضل فتك غيرهم بعشرة أبواب»: وأرسل ابن زياد أسلم بن زرعة في ألفين لمحاربة فرقة من الخوارج، فهزمه أبو بلال الخارجي في أربعين من أصحابه، فقال له ابن زياد: ويلك! أتمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين؟ فكان إذا خرج أسلم إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به: أبو بلال وراءك! واشتركت نساء الخوارج في القتال مع رجالهن، فقد حدثنا الرواة عن كثير من نسائهم أبلين في القتال خير بلاء، كالذي روى أبو الفرج في الأغاني أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها: أم حكيم، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجها، وأحسنهم بالدين تمسكا ، وخطبها جماعة من الخوارج فردتهم ولم تجبهم، وأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس وترتجز:
أحمل رأسا قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
هذه الصفات أعني الشدة في الدين، والإخلاص للعقيدة، والشجاعة النادرة، يضاف إليها العربية الخالصة، هي التي جعلت للخوارج أدبا خاصا يمتاز بالقوة شعرا ونثرا: تخير للفظ، وقوة في السبك، وفصاحة في الأسلوب، لج عبيد الله بن زياد في حبس الخوارج وقتلهم فكلم فيهم فأبى وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم، لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع؛ وأتي عبد الملك بن مروان برجل منهم فدعاه عبد الملك إلى الرجوع عن مذهبه، ثم زاد في الاستداعاء، فقال الخارجي؛ لتغنك الأولى عن الثانية، وقد قلت فسمعت فاسمع أقل، قال له: قل، فجعل يبسط له من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طلق، وألفاظ بينة، ومعان قريبة، فقال عبد الملك: «لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة خلقت لهم وأني أولى بالجهاد منهم، ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة، وقرر في قلبي من الحق» واشتهر منهم مصاقع الخطباء؛ كأبي حمزة، وقطري بن الفجاءة، وفحول الشعراء: كعمران بن حطان والطرماح؛ ومن أشهر علمائهم باللغة والأدب أبو عبيدة معمر بن المثنى، وهو من أوسع أهل البصرة علما باللغة والأدب والنحو وأخبار العرب وأيامها، ومن أكثر المؤلفين في صدر الدولة العباسية، فقد روي له نحو من مئتي مصنف، وهو أحد الأفراد القلائل من الموالي الذين اعتنقوا مذهب الخوارج، فهو من أصل يهودي فارسي، وكان يكره العرب ويؤلف في مثالبها، وليس هنا موضع عرض أدب الخوارج والمختار من شرهم ونثرهم وميزتهم في الأدب عمن عداهم، فموضع ذلك الجزء الخاص بالحياة الأدبية من كتابنا إن شاء الله.
الفصل التاسع عشر
الشيعة
كانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه، وأولى أهل البيت العباس عم النبي وعلي ابن عمه، وعلي أولى من العباس، لما بينا من قبل، والعباس نفسه لم ينازع عليا في أولويته للخلافة، وإن نازعه في أولويته في الميراث في «فدك»
1 .
وظهرت فكرة الدعوة لعلي بسيطة كما يدل عليه التاريخ، وتتلخص في أن لا نص على الخليفة، فترك الأمر لإعمال الرأي، فالأنصار أداهم رأيهم إلى أنهم أولى بها، والمهاجرون كذلك، وأصحاب علي إلى أن الخلافة ميراث أدبي، ولو كان النبي يورث في ماله لكان أولى به قرابته، فكذلك الإرث الأدبي، ولم يرد من طريق صحيح أن عليا ذكر نصا من آية أو حديث يفيد أن رسول الله عينه للخلافة، ولو كان لديه نص وذكره لما بقي الأنصار والمهاجرون على رأيهم ولبايعوه؛ بل ما بين أيدينا من تاريخ يدل على أن عليا بايع أبا بكر، وإن كان بعد تلكؤ، كما بايع عمر وعثمان من بعده، كل ما صح عن علي أنه كان يرى أنه كان أولى بالأمر منهم، ويحتج بأنه وأهل بيته الثمرة وقريش الشجرة، والثمرة خير ما في الشجرة، ويروي البخاري عن ابن عباس أن عليا (رضي الله عنه) خرج من عند النبي
صلى الله عليه وسلم
في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن! كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده العباس (رضي الله عنه) وقال: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سيتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا الأمر، فإن كان فينا علمناه، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال علي (رضي الله عنه): أما والله لئن سألناه فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها.
وكان جمع من الصحابة يرى أن عليا أفضل من أبي بكر وعمر وغيرهما، وذكروا أن ممن كان يرى هذا الرأي عمارا، وأبا ذر، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والعباس وبنيه، وأبي بن كعب، وحذيفة، إلى كثير غيرهم.
ونرى بعد هذا العصر أن الفكرة تطورت فقال شيعة علي
2 : «إن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بتعيينهم، بل هي ركن الدين، وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها، ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصوما من الكبائر والصغائر، وإن عليا (رضي الله عنه) هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة»
3 .
ومن هنا نشأت فكرة الوصية، ولقب علي بالوصي، يريدون أن النبي أوصى لعلي بالخلافة من بعده، فكان وصي رسول الله؛ فعلي ليس الإمام بطريق الانتخاب، بل بطريق النص من رسول الله، وعلي أوصى لمن بعده، وهكذا كل إمام وصي من قبله، وانتشرت كلمة الوصي بين الشيعة واستعملوها؛ يروون أن أبا الهيثم وكان بدريا يقول:
كنا شعار نبينا ودثاره
يفديه منا الروح والأبصار
إن الوصي إمامنا وولينا
برح الخفاء وباحت الأسرار
ويروون أن غلاما خرج من جيش عائشة في وقعة الجمل وهو يقول:
نحن بنو ضبة أعداء علي
ذاك الذي يعرف قدما بالوصي
وفارس الخيل على عهد النبي
ما أنا عن فضل علي بالعمي
لكنني أنعي ابن عفان التقي
إن الولي طالب ثأر الولي
وقد سقنا هذا لبيان أن كلمة الوصي شاعت في إطلاقها على علي، وإن كنا نشك في نسبة هذه الأبيات إلى قائليها.
وقد أداهم هذا النظر إلى أمور: منها القول بعصمة الأئمة علي ومن بعده؛ فلا يجوز الخطأ عليهم، ولا يصدر منهم إلا ما كان صوابا؛ ومنها رفع مقام علي عن غيره من الصحابة حتى أبي بكر وعمر؛ ولأقص عليك مثلا مما يقوله ابن أبي الحديد في علي مع أنه يعد من معتدلي الشيعة، قال: «يقول أصحابنا - وقد سلكوا طريقة مقتصدة - إن عليا أفضل الخلق في الآخرة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وأفضل الخلق في الدنيا، وأكثرهم خصائص ومزايا ومناقب، وكل من عاداه أو حاربه أو أبغضه إنه عدو الله سبحانه وتعالى وخالدا في النار مع الكفار والمنافقين، إلا أن يكون ممن ثبتت توبته ومات على توليه وحبه؛ فأما الأفاضل من المهاجرين والأنصار الذين ولوا الإمامة قبله، فلو أنه أنكر إمامتهم وغضب عليهم، فضلا عن أن يشهر عليهم السيف أو يدعو إلى نفسه، لقلنا إنهم من الهالكين، كما لو غضب عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وآله؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله قال له «لعلي»: حربك حربي وسلمك سلمي؛ وأنه قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه؛ وقال له: لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق؛ ولكنا رأيناه رضي إمامتهم وبايعهم وصلى خلفهم ... فلم يكن لنا أن نتعدى فعله ولا نتجاوز ما اشتهر عنه، ألا ترى أنه لما برئ من معاوية برئنا منه؟ ولما لعنه لعناه؟ ولما حكم بضلال أهل الشام ومن كان فيهم من بقايا الصحابة كعمرو بن العاص وعبد الله ابنه وغيرهما حكمنا أيضا بضلالهم! والحاصل أنا لم نجعل بينه وبين النبي
صلى الله عليه وسلم ، إلا رتبة النبوة، وأعطيناه كل ما عدا ذلك من الفضل المشترك بينه وبينه، ولم نطعن في أكابر الصحابة الذين لم يصح عندنا أنه طعن فيهم، وعاملناهم بما عاملهم هو عليه السلام»
4 .
ودعاهم القول بأفضلية علي وعصمته إلى استعراض ما حدث من الصحابة في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان من هؤلاء الشيعة الغالي والمقتصد؛ فمنهم من اقتصر على القول بأن أبا بكر وعمر وعثمان ومن شايعهم أخطئوا إذ رضوا أن يكونوا خلفاء مع علمهم بفضل علي وأنه خير منهم، ومنهم من تغالى فكفرهم وكفر من شايعهم؛ لأنهم - وقد أوصى النبي لعلي - جحدوا الوصية، ومنعوا الخلافة مستحقها، وانحدروا من ذلك إلى شرح حوادث التاريخ على وفق مذهبهم، وتأويل الوقائع تأويلا غريبا، أسوق لك مثلا منه: «فتزعم الشيعة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يعلم موته، وأنه سير أبا بكر وعمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما، فيصفو الأمر لعلي عليه السلام ، ويبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون وطمأنينة، فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبيعة الناس لعلي بعده كان من المنازعة والخلافة أبعد ... فلم يتم ما قدر، وتثاقل أسامة بالجيش أياما مع شدة حث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على نفوذه»
5 .
ولم يكتف غلاة الشيعة بهذا القدر في علي، ولم يقنعوا بأنه أفضل الخلق بعد النبي، وأنه معصوم، بل ألهوه، فمنهم من قال: «حل في علي جزء إلهي، واتحد بجسده فيه، وبه كان يعلم الغيب، إذ أخبر عن الملاحم وصح الخبر، وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر، وعن هذا قال: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولا بحركة غذائية، ولكن قلعته بقوة ملكوتية ... قالوا: يظهر علي في بعض الأزمان ... والرعد صوته والبرق تبسمه ... إلخ»
6
وهؤلاء الذين ألهوه ذهبوا في تأليهه جملة مذاهب، وقالوا فيه أقوالا غريبة لا داعي للإطالة بذكرها - وقد ذكروا أن أول من دعا إلى تأليه علي عبد الله بن سبأ اليهودي
7 ، وكان ذلك في حياة علي، وقد رأيت قبل طرفا من سيرة ابن سبأ هذا؛ فهو الذي حرك أبا ذر الغفاري للدعوة الاشتراكية، وهو الذي كان من أكبر من ألب الأمصار على عثمان، والآن أله عليا، والذي يؤخذ من تاريخه أنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستارا يستر به نياته؛ نزل البصرة بعد أن أسلم ونشر فيها دعوته فطرده واليها، ثم أتى الكوفة فأخرج منها، ثم جاء مصر فالتف حوله ناس من أهلها، وأشهر تعاليمه الوصاية والرجعة؛ فأما الوصاية فقد أبناها قبل، وكان قوله فيها أساس تأليب أهل مصر على عثمان، بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة من علي بغير حق، وأيد رأيه بما نسب إلى عثمان من مثالب، وأما الرجعة فقد بدأ قوله بأن محمدا يرجع، وكان مما قاله: «العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع» ثم نراه تحول - ولا ندري لأي سبب - إلى القول بأن عليا يرجع، وقال ابن حزم: إن ابن سبأ قال لما قتل علي: «لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا» وفكرة الرجعة هذه أخذها ابن سبأ من اليهودية، فعندهم أن النبي «إلياس» صعد إلى السماء، وسيعود فيعيد الدين والقانون، ووجدت الفكرة في النصرانية أيضا في عصورها الأولى، وتطورت هذه الفكرة عند الشيعة إلى العقيدة باختفاء الأئمة، وأن الإمام المختفي سيعود فيملأ الأرض عدلا، ومنها نبعت فكرة المهدي المنتظر.
والناظر إلى هذا يعجب للسبب الذي دعا إلى الاعتقاد بألوهية علي، مع أن أحدا لم يقل بألوهية محمد
صلى الله عليه وسلم ، والعلة في نظرنا أن شيعة علي رووا له من المعجزات والعلم بالمغيبات الشيء الكثير، وقالوا: إنه كان يعلم كل شيء سيكون، ووضعوا على لسانه ما جاء في نهج البلاغة: «اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألونني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مئة وتضل مئة إلا أنبأتكم بناعقها، وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا، ومن يموت منهم موتا ... إلخ»، ورووا له أنه أخبر بقتل الحسين، وأخبر بكربلاء، وأخبر بالحجاج، وأخبر بالخوارج ومصيرهم، وبني أمية وملكهم، وأخبر ببني بويه وأيام دولتهم، وأخبر عبد الله بن عباس بانتقال الأمر إلى أولاده «فإنه لما ولد لعبد الله بن عباس ابنه علي أخرجه أبوه إلى علي بن أبي طالب فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: خذ - إليك - أبا الأملاك»
8
هذه الأخبار وأمثالها انتشرت بين الشيعة حتى ليكادون يذكرون أنه أخبر بما كان وما سيكون إلى يوم الدين، كل هذا إذا أنت ضممته إلى أن أكثر شيعة علي كانوا في العراق، وكانوا من عناصر متنوعة، والعراق من قديم منبع الديانات المختلفة، والمذاهب الغريبة، وقد سادت فيهم من قبل تعاليم ماني ومزدك وابن ديصان، كما رأيت من قبل، ومنهم نصارى ويهود سمعوا المذاهب المختلفة في حلول الله في بعض الناس؛ كل هذه الأمور جعلت منهم من يؤله عليا، فأما العرب فكانوا أبعد الناس عن المقالات والمذاهب الدينية، حياتهم البسيطة، وعقليتهم التي على الفطرة تأبى عليهم أن يلصقوا بمحمد
صلى الله عليه وسلم
ألوهية، وهو الذي يكرر دائما ما جاء في القرآن:
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .
هذه العقيدة في علي تناقض فكرة الإسلام البسيطة الجميلة في وحدانية الله وتنزهه عن المادة، ومن حسن الحظ أن ليست هذه المقالة في علي قول الشيعة جميعهم ولا أكثرهم، بل قول فرقة قليلة منهم هم الغلاة.
أساس نظرية الشيعة - كما رأيت - الخليفة أو كما يسمونه هم «الإمام» فعلي هو الإمام بعد محمد
صلى الله عليه وسلم ، ثم يتسلسل الأئمة بترتيب من عند الله، والاعتراف بالإمام والطاعة له جزء من الإيمان، والإمام في نظرهم ليس كما ينظر إليه أهل السنة، فعند أهل السنة الخليفة أو الإمام نائب عن صاحب الشريعة في حفظ الدين، فهو يحمل الناس على العمل بما أمر الله، وهو رئيس السلطة القضائية والإدارية والحربية، ولكن ليس لديه سلطة تشريعية، إلا تفسيرا لأمر أو اجتهادا فيما ليس فيه نص؛ أما عند الشيعة فللإمام معنى آخر هو أنه أكبر معلم؛ فالإمام الأول قد ورث علوم النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو ليس شخصا عاديا بل هو فوق الناس؛ لأنه معصوم من الخطأ.
وهناك نوعان من العلم: علم الظاهر وعلم الباطن، وقد علم النبي
صلى الله عليه وسلم
هذين النوعين لعلي، فكان يعلم باطن القرآن وظاهره، وأطلعه على أسرار الكون وخفايا المغيبات؛ وكل إمام ورث هذه الثروة العلمية لمن بعده، وكل إمام يعلم الناس في وقته ما يستطيعون فهمه من الأسرار، ولذلك كان الإمام أكبر معلم، ولا يؤمنون بالعلم ولا بالحديث إلا إذا روي عن هؤلاء الأئمة.
وهم مختلفون اختلافا كبيرا في الأئمة وتسلسلها، لا نطيل بذكرها
9 ، وأهم فرق الشيعة الزيدية، والإمامية. فالزيدية أتباع زيد بن حسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومذهبهم أعدل مذاهب الشيعة وأقربها إلى أهل السنة، ولعل هذا راجع إلى أن زيدا - إمام الزيدية - تتلمذ لواصل بن عطاء رأس المعتزلة، وأخذ عنه كثيرا من تعاليمه؛ فزيد يرى جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، فقال: كان علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر وعمر، ولكن - مع هذا - إمامة أبي بكر وعمر صحيحة، ونظرهم إلى الإمام كذلك نظر معتدل، فليست هناك إمامة بالنص، ولم ينزل وحي يعين الأئمة، بل كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي قادر على القتال في سبيل الحق يخرج للمطالبة يصح أن يكون إماما؛ فهو يشترط في الإمام الخروج على الأمراء والسلاطين يطالب بالخلافة، ولهذا كانت الإمامة في نظرهم عملية لا سلبية، كما هي عند الإمامية تنتهي بالإمام المختفي، وهم لا يؤمنون بالخرافات التي ألصقت بالإمام فجعلت له جزءا إلهيا، وقد خرج زيد على هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فقتل وصلب سنة 121ه، وخرج بعده ابنه يحيى فقتل كذلك سنة 125ه، ولا يزال الزيدية في اليمن إلى الآن.
والإمامية سموا كذلك؛ لأن أهم عقائدهم أسست حول الإمام، وقد قالوا بأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
نص على خلافة علي، وقد اغتصبها أبو بكر وعمر، وتبرءوا منهما، وقدحوا في إمامتهما، وجعلوا الاعتراف بالإمام جزءا من الإيمان، والإمامية فرق متعددة لا تتفق على أشخاص الأئمة.
فمن أشهر فرقهم
10
الاثنا عشرية، سموا كذلك؛ لأنهم يسلسلون أئمتهم إلى اثني عشر إماما، عقيدتهم هي العقيدة الرسمية لدولة إيران إلى اليوم، و«الإسماعيلية» سميت كذلك؛ لأنهم يقفون بأئمتهم عند إسماعيل بن جعفر الصادق، وهؤلاء لعبوا دورا طويلا في تاريخ الإسلام، وأخذوا مذهب الأفلاطونية الحديثة الذي شرحناه قبل وطبقوه على مذهبهم الشيعي تطبيقا غريبا، واستخدموا ما نقله إخوان الصفا في رسائلهم من هذا المذهب الأفلاطوني، ويقول بعض المؤرخين: إنهم وضعوا لهم تعاليم درجوها تسع درجات تبتدئ بإثارة الشكوك في الإسلام، كسؤالهم: ما معنى رمي الجمار؟ وما العدو بين الصفا والمرة؛ وتنتهي بهدم الإسلام والتحلل من قيوده؛ وأولوا كل ما فيه فقالوا: إن الوحي ليس إلا صفاء النفس ، وإن الشعائر الدينية ليست إلا للعامة، أما الخاصة فلا يلزمهم العمل بها، وإن الأنبياء سواس العامة، أما الخاصة فأنبياؤهم الفلاسفة؛ وليس هناك معنى للتمسك بحرفية القرآن، فهو رموز لأشياء يعرفها العارفون، إنما يجب أن يفهم القرآن على طريقة التأويل والمجاز، وللقرآن ظاهر وباطن، ويجب أن تخترق الحجب المادية حتى نصل إلى أطهر ما يمكن من الروحانية؛ ومن ثم أيضا سموا «الباطنية»، ولا يسعنا هنا أن ذكر أهم تعاليمهم وكيف أخذت من الأفلاطونية الحديثة، فإن هذه الفرقة لم تظهر في عصرنا الذي نؤرخه إنما ظهرت في الدولة العباسية، وكان من آثار دعايتهم الدولة الفاطمية في المغرب ومصر، ولا يزال لهم بقايا إلى اليوم في الشام والعجم والهند، ورئيسهم الآن «أغا خان» الزعيم المشهور.
والإمامية - على العموم - تقول بعودة إمام منتظر وإن اختلفوا - باختلاف طوائفهم - فيمن هو الإمام المنتظر، ففرقة ينتظرون جعفرا الصادق، وأخرى تنتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وثالثة تنتظر محمد بن الحنفية وتزعم أنه حي لم يمت، وأنه بجبل رضوى إلى أن يأذن الله له بالخروج، ومنه كثير عزة وفي ذلك يقول:
ألا إن الأئمة من قريش
ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه
هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر
وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا
برضوى عنده عسل وماء
وكان السيد الحميري الشاعر الأموي المشهور يعتقد كذلك أن محمد بن الحنفية لم يمت وأنه في جبل رضوى، بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تجريان بماء وعسل، ويعود بعد الغيبة فيملأ العالم عدلا كما ملئ جورا؛ ولهم في ذلك سخافات يطول شرحها، وأساس هذه العقيدة ما رأينا قبل من قول ابن سبأ بالرجعة ونقلها عن اليهودية، وأن الشيعيين فشلوا في أول أمرهم في تكوين مملكة ظاهرية على وجه الأرض، وعذبوا وشردوا كل مشرد، فخلقوا لهم أملا من الإمام المنتظر، والمهدي، ونحو ذلك. •••
وقد اتفقت تعاليم الخوارج والشيعة على أن خلفاء بني أمية مغتصبون ظالمون، فاشتركوا في مناهضتهم، ولكن الخوارج كانوا ظاهرين في حروبهم، غلبت عليهم الطبيعة البدوية في الصراحة، فأكثرهم لا يقول بالتقية؛ أما الشيعة فكانوا يحاربون جهرا إذا أمكن الجهر، فإذا لم يستطيعوا فسرا، وقال أكثرهم بالتقية
11
فكانوا بهذا أشد على بني أمية، وهم أدعى إلى الحذر منهم، فبثوا العيون والأرصاد على الشيعة، واضطهدوهم اضطهادا شنيعا ، فدسوا للحسن حتى طعن بخنجر في جنبه ولكن لم يمته، وأوقعوا الفشل في جيشه حتى وادعهم، ثم قتلوا الحسين في واقعة كربلاء، ثم تتبعوا أهل البيت يستذلونهم ويمتهنونهم ويقتلونهم، ويقطعون أيديهم وأرجلهم على الظنة، وكل من عرف بالتشيع لهم سجنوه أو نهبوا ماله أو هدموا داره؛ واشتد بهم الأمر في أيام عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، «وأتى بعده الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة علي»، حتى يروى أن رجلا - يقال إنه جد الأصمعي - وقف للحجاج فقال له: أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني عليا، وإني فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجاج وولاه عملا، ويقول المدائني: «إن زياد بن سمية كان يتتبع الشيعة في الكوفة وهو بهم عارف؛ لأنه كان منهم أيام علي، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق به معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات ... وقال إنه كتب إلى عماله أن «انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان، واسقطوا عطاءه ورزقه»، والعباسيون كانوا أبلغ في التنكيل بهم؛ لأنهم أعرف بخفاياهم، لما كانوا يعملون معهم في عهد بني أمية.
هذه الاضطهادات كان من نتائجها إحكام الشيعة للسرية ونظامها، فهم أقدر الفرق الإسلامية على العمل في الخفاء، وكتمان عملهم حتى يتمكنوا من عدوهم، وهذه السرية استلزمت الخداع والالتجاء إلى الرموز والتأويل ونحو ذلك؛ وكان من أثر هذا الاضطهاد أيضا اصطباغ أدبهم بالحزن العميق، والنوح والبكاء، وذكرى المصائب والآلام.
وقد حاربوا الأمويين بمثل ما حوربوا به، فكما وضع الأمويون الحديث في فضائل الصحابة - عدا عليا والهاشميين - وخاصة عثمان، وضع الشيعة أحاديث كثيرة في فضائل علي وفي المهدي المنتظر، وعلى الجملة فيما يؤيد مذهبهم، وربما فاقوا في ذلك الأمويين؛ فاشتغل بعض علمائهم بعلم الحديث وسمعوا الثقات وحفظوا الأسانيد الصحيحة، ثم وضعوا بهذه الأسانيد أحاديث تتفق ومذهبهم، وأضلوا بهذه الأحاديث كثيرا من العلماء لأنخداعهم بالإسناد، بل كان منهم من سمي بالسدي، ومنهم من سمي بابن قتيبة، فكانوا يروون عن السدي وابن قتيبة، فيظن أهل السنة أنهما المحدثان الشهيران، مع أن كلا من السدي وابن قتيبة الذي ينقل عنه الشيعة إنما هو رافضي غال، وقد ميزوا بينهما بالسدي الكبير والسدي الصغير، والأول ثقة والثاني شيعي وضاع، وكذلك ابن قتيبة الشيعي غير عبد الله بن مسلم بن قتيبة، بل وضعوا الكتب وحشوها بتعاليمهم ونسبوها لأئمة أهل السنة، ككتاب «سر العارفين» الذي نسبوه للغزالي؛ ومن هذا القبيل ما نراه مبثوثا في الكتب من إسناد كل فضل وكل علم إلى علي بن أبي طالب إما مباشرة وإما بواسطة ذريته: فعلم المعتزلة جاء من أن واصل بن عطاء - رأس المعتزلة - تلقى العلم عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي، وأبو حنيفة أخذ العلم عن جعفر الصادق، ومالك بن أنس قرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وعكرمة على عبد الله بن عباس، وعبد الله قرأ على علي، وبهذه الطريقة ينسب فقه الشافعي إلى الإمام علي ؛ لأنه تلميذ مالك، بل فقه عمر بن الخطاب يرجع إلى علي؛ لأنه كان يرجع إليه فيما أشكل من المسائل وكان يقول: لولا علي لهلك عمر! وتفسير القرآن أخذ أكثره عن عبد الله بن عباس وهو أخذه عن علي؛ فقد قيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط؛ والتصوف منسوب إليه، وقد نسبه إليه الشبلي والجنيد وسري وأبو يزيد البسطامي، وينسبون الخرقة التي هي شعارهم إليه؛ وأبو الأسود الدؤلي واضع علم النحو أخذه عن علي بن أبي طالب، فقد أملى عليه: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف، وعلمه تقسيم الاسم إلى معرفة ونكرة، وتقسيم الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم؛ وعلى الجملة فليس هناك من علم إلا وأصله علي بن أبي طالب، كأن العقول كلها أجدبت وأصيبت بالعقم إلا علي بن أبي طالب وذريته، وعلي (رضي الله عنه) من ذلك براء.
والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزردشتية وهندية، ومن كان يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته، كل هؤلاء كانوا يتخذون حب أهل البيت ستارا يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم؛ فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة، وقال الشيعة: إن النار محرمة على الشيعي إلا قليلا، كما قال اليهود:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ؛ والنصرانية ظهرت في التشيع في قول بعضهم: إن نسبة الإمام علي إلى الله كنسبة المسيح إليه، وقالوا: إن اللاهوت اتحد بالناسوت في الإمام وإن النبوة والرسالة لا تنقطع أبدا، فمن اتحد به اللاهوت فهو نبي، وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح وتجسيم الله والحلول، ونحو ذلك من الأقوال التي كانت معروفة عند البراهمة والفلاسفة والمجوس من قبل الإسلام؛ وتستر بعض الفرس بالتشيع وحاربوا الدولة الأموية، وما في نفوسهم إلا الكره للعرب ودولتهم، والسعي لاستقلالهم، قال المقريزي: «واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله الحق ... فرأوا أن كيده على الحيلة أنجح، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل البيت واستبشاع ظلم علي، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى»
12 .
وقد ذهب الأستاذ «ولهوسن (Wellhausin)
إلى أن العقيدة الشيعية نبعت من اليهودية أكثر مما نبعت من الفارسية، مستدلا بأن مؤسسها عبد الله بن سبأ وهو يهودي، ويميل الأستاذ «دوزي
Dozy » إلى «أن أساسها فارسي، فالعرب تدين بالحرية، والفرس يدينون بالملك، وبالوراثة في البيت المالك، ولا يعرفون معنى لانتخاب الخليفة، وقد مات محمد ولم يترك ولدا فأولى الناس بعده ابن عمه علي بن أبي طالب، فمن أخذ الخلافة منه كأبي بكر وعمر وعثمان والأمويين، فقد اغتصبها من مستحقها، وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى إلهي، فنظروا هذا النظر نفسه إلى علي وذريته وقالوا: إن طاعة الإمام أول واجب وإن إطاعته إطاعة لله».
والذي أرى - كما يدلنا التاريخ - أن التشيع لعلي بدأ قبل دخول الفرس في الإسلام، ولكن بمعنى ساذج، وهو أن عليا أولى من غيره من وجهتين، كفايته الشخصية، وقرابته للنبي، والعرب من قديم تفخر بالرياسة وبيت الرياسة، وهذا الحزب - كما رأينا - وجد من بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
ونما بمرور الزمان وبالمطاعن في عثمان، ولكن هذا التشيع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الأخرى في الإسلام من يهودية ونصرانية ومجوسية، وأن كل قوم من هؤلاء كانوا يصبغون التشيع بصبغة دينهم، فاليهود تصبغ الشيعة يهودية، والنصارى نصرانية؛ وهكذا، وإذ كان أكبر عنصر دخل في الإسلام هو العنصر الفارسي كان أكبر الأثر في التشيع إنما هو للفرس. •••
ومن أشهر الأدباء والشعراء المتشيعين في هذا العصر أبو الأسود الدؤلي، وفي علي وبنيه يقول:
يقول الأرذلون بنو قشير
طوال الدهر لا تنسى عليا
بنو عم النبي وأقربوه
أحب الناس كلهموا إليا
أحبهموا كحب الله حتى
أجيء إذا بعثت على هويا
فإن يك حبهم رشدا أصبه
ولست بمخطئ إن كان غيا
وكذلك كان كثير عزة، وقد قرأت قبل شعره في الرجعة، والكميت وكان شيعيا غاليا، ومن شعره في الخلافة:
يقولون لم يورث، ولولا تراثه
لقد شركت فيه بجيل وأرحب
13
ولانتشلت عضوين منها يجابر
وكان لعبد القيس عضو مؤرب
فإن هي لم تصلح لحي سواهمو
إذا فذوو القربى أحق وأقرب
فيا لك أمرا قد أشتت جموعه
ودارا ترى أسبابها تتقضب
تبدلت الأشرار بعد خيارها
وجد بها من أمة وهي تلعب
الفصل العشرون
المرجئة
رأينا قبل أن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين تكونا حول الخلافة، وأن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت كذلك أول أمرها، أعني حزبا سياسيا محايدا، له رأي فيما شجر بين المسلمين من خلاف؛ يروي ابن عساكر في توضيح رأيهم «أنهم هم الشكاك الذين شكوا وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد قتل عثمان، وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، قالوا: تركناكم وأمركم واحد، ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون، فبعضكم يقول قتل عثمان مظلوما، وكان أولى بالعدل أصحابه، وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصابه، كلهم ثقة وعندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون الله هو الذي يحكم بينهما».
فترى من هذا أنه حزب سياسي لا يريد أن يغمس يده في الفتن، ولا يريق دماء حزب، بل ولا يحكم بتخطئة فريق وتصويب آخر، وأن السبب المباشر في تكوينه هو اختلاف الأحزاب في الرأي، والسبب البعيد هو الخلافة، فلولا الخلافة ما كانت خوارج ولا شيعة، وإذن لا يكون مرجئة.
وكلمة المرجئة مأخوذة من أرجأ بمعنى أمهل وأخر، سموا المرجئة؛ لأنهم يرجئون أمر هؤلاء المختلفين الذين سفكوا الدماء إلى يوم القيامة، فلا يقضون بحكم على هؤلاء ولا على هؤلاء؛ وبعضهم يشتق اسمهم من أرجأ بمعنى بعث الرجاء؛ لأنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، فهم يؤملون كل مؤمن عاص، والأول أنسب لما حكينا عن ابن عساكر.
نشأت المرجئة لما رأت الخوارج يكفرون عليا وعثمان والقائلين بالتحكيم، ورأت من الشيعة من يكفر أبا بكر وعمر وعثمان ومن ناصروهم وكلاهما يكفر الأمويين، ويلعنهم، والأمويون يقاتلونهم ويرون أنهم مبطلون، وكل طائفة تدعي أنها على الحق وأنها وحدها على الحق، وأن من عداها كافر وفي ضلال مبين، فظهرت المرجئة تسالم الجميع، ولا تكفر طائفة منهم، وتقول: إن الفرق الثلاث: الخوارج والشيعة والأمويين مؤمنون، وبعضهم مخطئ وبعضهم مصيب، ولسنا نستطيع أن نعين المصيب، فلنترك أمرهم جميعا إلى الله، ومن هؤلاء بنو أمية: فهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فليسوا إذن كفارا ولا مشركين، بل مسلمين نرجئ أمرهم إلى الله الذي يعرف سرائر الناس ويحاسبهم عليها، وينتج من هذا أن موقفهم إزاء حكم الأمويين موقف تأييد، ولكنه تأييد سلبي لا إيجابي، فليسوا ينحازون إليهم ويحملون سيوفهم يقاتلون في جيوشهم، ولكن هم إزاء الأمويين مثلهم إزاء الشيعة والخوارج، وهم - على ما يظهر - يرون حكومة الأمويين حكومة شرعية، وكفى ذلك تأييدا.
ونواة هذه الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإنا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل أبي بكرة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين، وروى أبو بكرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل يا رسول الله من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة».
هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب التي بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء
1 ، ولكنه لم يتكون كمذهب - كما رأينا - إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة.
وبعد أن كان مذهبا سياسيا أصبح بعد يبحث في أمور لاهوتية وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي ، فأهم ما بحثوا فيه تحديد «الإيمان» و«الكفر» و«المؤمن» و«الكافر»، وقد دعا إلى هذا البحث أنهم رأوا الخوارج يكفرون من عداهم والشيعة كذلك، غلا الخوارج فعدوا كل كبيرة كفرا، وغلت الشيعة فعدوا الاعتقاد بالإمام ركنا أساسيا من أركان الإيمان، فكانت النتيجة الطبيعية أن يعرض على بساط البحث: ما الكفر وما الإيمان؟ فرأى كثير من المرجئة أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله، فمن عرف أن لا إله إلا الله محمدا رسول الله فهو مؤمن، وهذا رد من المرجئة على الخوارج الذين يقولون إن الإيمان معرفة بالله وبرسله، والإتيان بالفرائض، والكف عن الكبائر؛ فمن آمن بالله ورسله وترك الفرائض وارتكب شيئا من الكبائر كان مؤمنا عند المرجئة؛ كافرا في نظر الخوارج، ورد أيضا على الشيعة الذين يعتقدون أن الإيمان بالإمام والطاعة له جزء من الإيمان؛ بل غلا بعض المرجئة أكثر من ذلك فقالوا: «إن الإيمان الاعتقاد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية والنصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عن الله عز وجل، ولي لله عز وجل، من أهل الجنة»
2 ، فترى من هذا أن هؤلاء لا يعدون إيمانا إلا الاعتقاد القلبي بالله ورسله؛ وليست الأعمال الظاهرة جزءا من الإيمان.
ولهذا الكلام كله نتيجة تتفق ورأيهم السياسي، فهم لا يحكمون بالكفر على الأمويين ولا على الخوارج والشيعة، بل لا يجزمون بكفر الأخطل ونحوه من النصارى واليهود؛ لأن الإيمان محله القلب، وليس يطلع عليه إلا الله، وذلك يدعو إلى مسالمة الناس جميعا.
وقد لاحظ بعض المستشرقين أن الكلام على طائفة المرجئة وبدء تكونها وشرح عقائدها أحيط بشيء من الغموض، وعلل ذلك بأن الدولة العباسية دمرت هذه الطائفة، وأماتت القول بهذه العقيدة؛ لأنها تناصر الأمويين إلى حد ما، وعلى كل حال فهذه الفرقة تدخلت بعد العصر الأموي في الفرقة الأخرى وذابت فيها ولم يعد لها وجود مستقل محسوس.
وقد اشتهر من شعراء بني أمية بالقول بالإرجاء ثابت قطنة ، وكان في صحابة يزيد بن المهلب يوليه أعمالا من أعمال الثغور فيحمد فيها مكانه لكتابته وشجاعته، وله قصيدة في الإرجاء تعد وثيقة قيمة في توضيح مذهبهم، رواها أبو الفرج في الأغاني، منها:
يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا
أن نعبد الله لم نشرك به أحدا
نرجي الأمور إذا كانت مشبهة
ونصدق القول فيمن جار أو عندا
المسلمون على الإسلام كلهمو
والمشركون استووا في دينهم قددا
ولا أرى أن ذنبا بالغ أحدا
م الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا
لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا
سفك الدماء طريقا واحدا جددا
من يتق الله في الدنيا فإن له
أجر التقي إذا وفى الحساب غدا
وما قضى الله من أمر فليس له
رد وما يقض من شيء يكن رشدا
كل الخوارج مخط في مقالته
ولو تعبد فيما قال واجتهدا
أما علي وعثمان فإنهما
عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
وكان بينهما شغب وقد شهدا
شق العصا وبعين الله ما شهدا
يجزي عليا وعثمانا بسعيهما
ولست أدري بحق أية وردا
الله يعلم ماذا يحضران به
وكل عبد سيلقى الله منفردا
ونحن إذا حللنا قصيدته لنتبين منها معنى الإرجاء وجدناه يقول: إنه لا يحكم على أحد من المسلمين بالكفر مهما أذنب، وإن الذنب مهما عظم لا يذهب بالإيمان، وإنه لا يسفك دم أحد من المسلمين إلا دفاعا عن نفسه، وإنه إذا اشتبهت الأمور وكفرت كل طائفة أختها فيما فعلت أرجأنا أمرهم جميعا إلى الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون؛ أما الجور البين والعناد الواضح والأعمال الظاهرة فنصدر أحكامنا عليها في صراحة، ونبين الخطأ فيها من الصواب؛ وإن الخوارج أخطئوا إذ حكموا على علي وعثمان بالكفر، فإنهما عبدان لله لم يشركا به منذ عرفاه، ولكن كان بينهما شغب لم يخرج بهما عن الإيمان، فنترك أمرهما لله يقدر عملهما ويكافئ عليه.
وقد ذكر الأغاني أن عون بن عبد الله بن علقبة بن مسعود كان من أهل الفقه والأدب، وكان يقول بالإرجاء، ثم رجع عنه وقال:
فأول ما أفارق غير شك
أفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من آل جور
وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال
وقد حرمت دماء المؤمنينا
3
الفصل الحادي والعشرون
القدرية أو المعتزلة
يدلنا تاريخ الفكر البشري على أن من أولى المسائل التي تعرض للعقل عندما يبدأ التعمق في البحث مسألة الجبر والاختيار: هل إرادتنا حرة تعمل ما تشاء وتترك ما تشاء، وتشكل عملها كما تشاء، أو أنا مجبرون على عمل ما نعمل فلا نستطيع أن نعمل غيره، وأن إرادتنا معلولة بعلل، فإذا حصلت العلل حصل المعلول لا محالة؟ وهي مسألة شغلت الفلاسفة ورجال الدين جميعا في العصور المختلفة، تعترضك في الأخلاق وفي القانون، وفي فلسفة التاريخ، وفي علم الكلام، وفي الفلسفة على العموم، وقد نشأت الأبحاث الدينية في هذا الموضوع لما نظر الإنسان فرأى أنه - من ناحية - يشعر بأنه حر الإرادة يعمل ما يشاء، وأنه مسئول عن عمله، وهذه المسئولية تقتضي الحرية، فلا معنى لأن يعذب ويثاب إذا كان كالريشة في مهب الريح لا بد أن تتحرك بحركته وتسكن بسكونه؛ ومن ناحية أخرى رأى أن الله عالم بكل شيء، أحاط علمه بما كان وما سيكون، فعلم ما سيصدر من كل فرد من خير أو شر، وظن أن هذا يستلزم حتما أنه لا يستطيع أن يعمل إلا على وفق ما علم الله، فحار في ذلك بين الجبر والاختيار، وأخذ يفكر: هل هو مجبر أو مختار.
وقد وردت آيات في القرآن قد تشعر بالجبر مثل:
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ،
ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ،
أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ،
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ، وهناك آيات تشعر بالاختيار وأن الإنسان مسئول عن عمله
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ،
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ،
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ،
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ، إلى كثير من أمثال هذه الروايات؛ ووردت أحاديث كثيرة إن صحت تدل على تعرضه عليه السلام لمسألة القدر تصريحا أو تلميحا، فعن جابر قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه»، وعن علي قال: كنا في جنازة ببقيع الغرقد فأتانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له؛ أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير على عمل الشقاء؛ ثم قرأ:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى .
فلما انتهى المسلمون من الفتح وهدأوا وأخذوا يفكرون ظهرت هذه المسألة، وكان قد تكلم فيها من قبل فلاسفة اليونان ونقلها عنهم السريانيون، وتكلم فيها الزردشتيون، كما بحث فيها النصارى، فظهر في الإسلام قوم يقولون بحرية الإرادة معارضين في ذلك الفكرة الشائعة بأن الإنسان مسير لا مخير، روي عن نافع قال: «جاء رجل إلى ابن عمر، فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام - لرجل من أهل الشام - فقال ابن عمر: إنه بلغني أنه قد أحدث التكذيب بالقدر، فإن كان قد أحدث فلا تقرأ مني عليه السلام»، وقد سمي هؤلاء الذين يقولون بأن الإنسان حر الإرادة، وبعبارة أخرى: أن الإنسان له قدرة على أعماله «بالقدرية»، وسماهم بذلك خصومهم لحديث ورد: «القدرية مجوس هذه الأمة»؛ وكان الذين يقولون بحرية الإرادة يرون أن أولى الناس بأن يطلق عليه اسم القدرية هم الذين يقولون بأن القدر يحكم جميع أعمال الإنسان من خير وشر، وعلى كل حال فقد لصق الاسم بالطائفة الأولى وصار لقبا لها.
وقد ذكروا أن من أسبق الناس قولا بالقدر معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، أما معبد فقد قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: «إنه تابعي صدوق، لكنه سن سنة سيئة فكان أول من تكلم في القدر، قتله الحجاج صبرا لخروجه مع ابن الأشعث»، فترى من هذا أن قتله كان قتلا سياسيا، وإن كان كثير يذكرون أنه قتله لزندقته، وكان يجالس الحسن البصري أولا وقد سلك سبيله كثير من أهل البصرة، وقال ابن نباتة في «سرح العيون»: «قيل: إن أول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي»، وأما غيلان الدمشقي فكان يسكن دمشق، وأبوه كان مولى لعثمان بن عفان، قال الأوزاعي: «قدم علينا غيلان القدري في خلافة هشام بن عبد الملك، فتكلم غيلان وكان رجلا مفوها، ثم أكثر الناس الوقيعة فيه والسعاية بسبب رأيه في القدر، وأحفظوا هشام بن عبد الملك عليه، فأمر بقطع يديه ورجليه وقتله وصلبه».
وقد روي أن غيلان وقف يوما على ربيعة «الرأي»، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال له ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى قسرا؟! وحكي «أن عمر بن عبد العزيز بلغه أن غيلان وفلانا نطقا في القدر فأرسل إليهما وقال: ما الأمر الذي تنطقان به؟ فقالا: هو ما قال الله يا أمير المؤمنين، قال: وما قال الله؟ قالا: قال:
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ، ثم قال:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ، ثم سكتا؛ فقال عمر: اقرآ، فقرآ حتى بلغا
إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاءون إلا أن يشاء الله ...
إلى آخر السورة؛ قال عمر: كيف تريان؟ تأخذان الفروع وتدعان الأصول! قال ابن مهاجر: ثم بلغ عمر أنهما أسرفا فأرسل إليهما وهو مغضب، فقام عمر وكنت خلفه قائما حتى دخلا عليه وأنا مستقبلهما، فقال لهما: ألم يكن في سابق علم الله حين أمر الله إبليس بالسجود ألا يسجد؟ قال: فأومأت إليهما برأسي أن قولا نعم وإلا فهو الذبح، فقالا: نعم، فقال: أولم يكن في سابق علم الله حين نهى آدم وحواء عن الشجرة أن يأكلا منها فألهمهما أن يأكلا منها؟ فأومأت إليهما برأسي، فقالا: نعم، فأمر بإخراجهما، وأمر بالكتاب إلى سائر الأعمال بخلاف ما يقولان، وأمسكا عن الكلام، فلم يلبثا إلا يسيرا حتى مرض عمر ومات ولم يفد الكتاب، وسال بعد ذلك منهما السيل».
فترى من هذا انتشار القول في القضاء والقدر في هذا العصر وشدة الجدل في هذا الأمر بين المتخاصمين، وقد اختلف الباحثون في منبع هذه الحركة: هل هو العراق أو الشام؟ فيذهب بعضهم إلى أن العراق منبع ذلك، بدليل أن هذه الحركة تكونت حول الحسن البصري وهو يسكن البصرة، وأن منشأ الاعتزال كذلك كان فيها، ويؤيد ذلك ما رواه ابن نباتة من أن منشأ القول في ذلك نصراني من العراق أسلم وأخذ عنه معبد وغيلان؛ ويذهب آخرون إلى أن الحركة ظهرت في دمشق متأثرة بمن كان يخدم من النصارى في بيت الخلفاء كيحيى الدمشقي، وعلى كل حال فإنا نرى أن القول في القضاء والقدر سال سيله في العراق والشام في هذا العصر، ومن العسير تعيين أسبقهما، وقد قال «ابن تيمية»: «إن أكثر الخوض في القدر كان بالبصرة والشام وبعضه في المدينة».
وعلى العكس من هؤلاء القدرية طائفة الجبرية، وكان من أولهم جهم بن صفوان - ولذلك تسمى هذه الفرقة الجهمية - وكان يقول: إن الإنسان مجبور لا اختيار له ولا قدرة، وإنه لا يستطيع أن يعمل غير ما عمل، وإن الله قدر عليه أعمالا لا بد أن تصدر منه، وإن الله يخلق فيه الأفعال كما يخلق في الجماد، فكما يجري الماء ويتحرك الهواء ويسقط الحجر، فكذلك تصدر الأفعال عن الإنسان يصدرها الله فيه وتنسب إلى الإنسان مجازا كما تنسب إلى الجمادات، فكما يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء وطلعت الشمس وأمطرت السماء وأنبتت الأرض، كذلك يقال: كتب محمد، وقضى القاضي، وأطاع فلان، وعصى فلان، كلها من نوع واحد على طريق المجاز، والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر، والله قدر لفلان فعل كذا وقدر له أن يثاب، وقدر على الآخر المعصية وقدر أن يعاقب.
واشتهر بهذا القول جهم بن صفوان، وهو من أهل خراسان، من الموالي، وأقام بالكوفة، وكان فصيحا خطيبا يدعو الناس فيجذبهم إلى قوله، ظهر مذهبه في ترمذ، وكان كاتبا «وزيرا» للحارث بن سريح، وقد خرج الحارث هذا على بني أمية في خراسان، واتبعه كثير من أهلها، وكان يدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله واستعمال أهل الخير والفضل، وقد هزم الحارث وأسر جهم بن صفوان فقتل، ثم قتل الحارث سنة 128ه؛ ومن هذا ترى أن الجهم أيضا قتل لأمر سياسي لا علاقة له بالدين.
ولم يشتهر الجهم بمسألة الجبر فحسب، بل تعرض لشيء آخر لا يقل عنه خطرا، وهو القول بنفي صفات الله، ذلك أنه وردت في القرآن آيات كثيرة تدل على أن لله صفات من سمع وبصر وكلام ... إلخ، فنفى جهم أن يكون لله صفات غير ذاته، وقال: إن ما ورد في القرآن مثل سميع وبصير ليس على ظاهره، بل هو مؤول؛ لأن ظاهره يدل على التشبيه بالمخلوق وهو مستحيل على الله، فيجب تأويل ذلك، وقال: لا يصح وصف الله بصفة يوصف بها خلقه؛ لأن ذلك يقتضي التشبيه، وقال: إن القرآن مخلوق خلقه الله، وكان ذلك نتيجة طبيعية لنفيه الصفات ، فإذا كان الله لا يتكلم فليس القرآن كلام الله القديم إلا على التأويل، وإنما خلقه الله، وأنكر أن الله يرى يوم القيامة، وقال: «إن الجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلها فيهما، وتلذذ أهل الجنة بنعيمها، وتألم أهل النار بجحيمها؛ إذ لا يتصور حركات لا تتناهى آخرا، كما لا تتصور حركات لا تتناهى أولا».
وقد نهض كثير من العلماء لمقاومة هذه الحركة، ونشطوا للرد على الجهمية نشاطا عظيما، ولعل أهم ما حملهم على الرد مسألتان: مسألة الجبر؛ لأنها تدعو إلى التعطيل وترك العمل والركون إلى القدر، ومسألة المغالاة في تأويل الآيات التي تثبت لله صفات، وفي هذا التأويل خطر على القرآن وتفهم معانيه.
ذابت القدرية والجهمية في غيرهما من المذاهب ولم يعد لهما وجود مستقل، وظهر على أثرهما مذهب المعتزلة، وكثيرا ما يسمى المعتزلة بالقدرية؛ لأنهم وافقوا القدرية في قولهم: «إن للإنسان قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى»، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله تعالى وقضائه؛ وأحيانا يلقب المعتزلة بالجهمية، لا لأنهم وافقوا الجهمية في القدرة لأن الجهمية كما علمت جبرية؛ ولكن لأن المعتزلة وافقوا الجهمية في نفي الصفات عن الله وفي خلق القرآن، وقولهم: إن الله لا يرى، وقد ألف البخاري والإمام أحمد كتابين في الرد على الجهمية وعنيا بهم المعتزلة، والمعتزلة يبرءون من هذين الاسمين، فلا يرضون أن يمسوا بالقدرية، ويقولون - كما رأيت - إن مثبت القدر أولى بالانتساب إليه من نافيه، ويتبرأ بشر بن المعتمر - أحد رؤساء المعتزلة - من الجهمية في أرجوزته إذ يقول:
ننفيهمو عنا ولسنا منهم
ولا همو منا ولا نرضاهم
إمامهم جهم وما لجهم
وصحب عمرو
1
ذي التقى والعلم!
اسم المعتزلة: إذا نحن استعرضنا ما بين أيدينا من المصادر التي تكلمت في سبب تلقيب المعتزلة هذا اللقب وجدناها لا تعدو ثلاثة: (1)
أنهم لقبوا بالمعتزلة؛ لأن واصلا وعمرو بن عبيد اعتزلا حلقة الحسن واستقلا بأنفسهما على أثر تقريرهما أن مرتكب الكبيرة لا مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين، فسموا من أجل ذلك بالمعتزلة
2 ، وهذا الرأي ضعيف من جملة وجوه: (أحدها):
أن انتقال واصل أو عمرو بن عبيد من حلقة في المسجد إلى أخرى ليس بالأمر الهام الذي صح أن تلقب به فرقة، والأوجه أن تكون التسمية متعلقة بالجوهر لا بالعرض. (ثانيها):
اختلاف الرواة في الرواية، فبعضهم ينسب حادثة الانفصال إلى عمرو بن عبيد، وبعضهم ينسبها إلى واصل، وبعضهم ينسب هذه التسمية إلى الحسن البصري، وبعضهم ينسبها إلى قتادة؛ وهذا - من غير شك - يضعف الرواية ويجعلها محلا للنقد. (وثالثها):
أن كثيرا من الكتب تتكلم عن شخص فتقول: إنه «كان يقول بالاعتزال، أو هو من أهل الاعتزال»، وهذا يدل على أن اسم الاعتزال مذهب ذو مبادئ لا مجرد انفصال من مجلس إلى آخر، وأن الاعتزال معنى من المعاني لا حركة جسمية. (2)
هناك رأي آخر يرى أن المعتزلة سميت كذلك «لاعتزالهم كل الأقوال المحدثة»
3
يعنون بذلك أنهم خالفوا الأقوال السابقة في مرتكب الكبيرة؛ ذلك أن المرجئة كانت تقول: إنه مؤمن، والأزارقة من الخوارج كانت تقول: إنه كافر، وكان الحسن البصري يقول: إنه منافق، فخالف واصل ومن إليه هذه الأقوال كلها، وانتحى في القول ناحية أخرى فقال: إنه لا مؤمن ولا كافر، والقائلون بهذا يجعلون سبب التسمية معنوية لا حسية، ويجعلونها أيضا تدور حول آرائهم واتخاذها منحى جديدا.
وقريب من هذا المعنى ما ذهب إليه عبد القادر البغدادي، في كتابه «الفرق بين الفرق»: «إن الحسن البصري لما طرد واصلا من مجلسه واعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة وانضم إليه صديقه عمرو بن عبيد، قال الناس يومئذ فيهما: «إنهما اعتزلا قول الأمة» وسمي أتباعهما من يومئذ بالمعتزلة».
ونحو من هذا ما جاء في كتاب الأنساب للسمعاني إذ قال: «المعتزلي نسبة إلى الاعتزال وهو الاجتناب، والجماعة المعروفة بهذه العقيدة إنما سموا بهذا الاسم؛ لأن أبا عثمان عمرو بن عبيد أحدث ما أحدث من البدع، واعتزل مجلس الحسن البصري وجماعة معه فسموا المعتزلة»
4 . (3)
ويفهم من قول المسعودي في مروج الذهب رأي ثالث، وهو أنهم سموا بالمعتزلة لقولهم بأن صاحب الكبيرة اعتزل عن الكافرين والمؤمنين، فالمعتزلة على رأيه هم القائلون باعتزال صاحب الكبيرة.
والقولان الأخيران مختلفان وإن كان الفرق بينهما دقيقا؛ فعلى الرأي الثاني الاعتزال وصف للفرقة نفسها؛ لأنها أحدثت رأيا جديدا خالفت فيه من قبلها؛ وعلى الرأي الثالث الاعتزال وصف لمرتكب الكبيرة في الأصل، وسميت الفرقة بها؛ لأنها جعلت مرتكب الكبيرة يعتزل المؤمنين والكافرين
5 .
وهذه الأقوال كلها تريد أن تفهم نتيجتين: (الأولى):
أن الاعتزال تكون حول الحسن البصري وتلميذيه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد. (والثانية):
أن الاعتزال كان يدور حول مسائل دينية بحتة.
فهل هاتان النتيجتان صحيحتان؟
إنا بالرجوع إلى كثير من كتب التاريخ نرى أن كلمة اعتزال ومعتزلة واعتزل استعملت كثيرا في صدر الإسلام في معنى خاص، هو أن يرى الرجل فئتين متقاتلتين أو متنازعتين ثم هو لا يقتنع برأي إحداهما ولا يريد أن يدخل في القتال والنزال بينهما؛ لأنه لم يكون له رأيا، أو رأى أن كليهما غير محق، من ذلك ما نراه من إطلاق المؤرخين هذه الكلمة كثيرا على الطائفة التي لم تشترك في القتال بين علي وعائشة في حرب الجمل، وعلى الذين لم يدخلوا في النزاع بين علي ومعاوية.
جاء في تاريخ الطبري أن قيس بن سعد عامل مصر لعلي كتب إليه يقول: «إن قبلي رجالا معتزلين قد سألوني أن أكف عنهم، وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويرى رأيهم، فقد رأيت أن أكف عنهم وألا أتعجل حربهم، وأن أتألفهم فيما بين ذلك لعل الله أن يقبل بقلوبهم، ويفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله»
6
وفي موضع آخر: «ولم يلبث محمد بن أبي بكر شهرا كاملا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم، فقال: يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا من بلادنا فبعثوا إليه إنا لا نفعل، دعنا حتى ننظر إلى ما تصير إليه أمورنا ولا تعجل بحربنا»
7 .
ومثل هذا ورد في ابن الأثير وأبي الفداء، بل إن عبارة أبي الفداء في ذلك أوضح إذ يقول: «وسموا هؤلاء المعتزلة لاعتزالهم بيعة علي»، ففي هذه العبارة تصريح بأن كلمة «المعتزلة» أطلقت عليهم، ونستطيع من ذلك أن نستنتج نتيجتين تخالفان المشهور: (الأولى):
أن هذه الكلمة سميت بها فئة خاصة قبل مدرسة الحسن البصري بنحو مائة عام، وأن إطلاقها على مدرسة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كان إحياء للاسم القديم لا ابتكارا، وأنه من العسير علينا أن نصدق أن هذا الاسم - وقد كان معروفا وله صبغة خاصة - يطلق لمناسبة انتقال «واصل» من سارية إلى سارية
8 . (الثانية):
أن هذا الاسم - وهو الاعتزال - أطلق على الذين لم ينغمسوا في حرب الجمل ولم يشتركوا في وقعة صفين، وهذه المسائل التي كان يدور عليها القتال مسائل سياسية تدور كلها حول قتل عثمان وقتلته والقصاص منهم، وعلي واستحقاقه للخلافة، ومعاوية وهل هو أولى بالخلافة من علي، ونحو ذلك؛ والانقسام فيها بين الناس كان انقسام أحزاب سياسية، ولكن من الحق أن نقرر أن المسائل في ذلك العصر سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو شخصية كانت كلها مصبوغة صبغة دينية، «فنظام الأسرة والعلاقات التجارية والعقود المالية وما إلى ذلك كلها تصطبغ بالدين وترجع إليه، وتعول عليه»؛ فالحزب أو الطائفة التي أطلق عليها في الصدر الأول اسم «معتزلة» كانت تمثل فكرة سياسية مصبوغة بالدين، إذا أردنا أن نلخص رأيها في كلمة قلنا: إنها ترى أن الحق ليس بجانب إحدى الفرقتين المتنازعتين، فهما على باطل، أو على الأقل لم ينكشف الحق في جانب إحداهما، والدين إنما يأمر بقتال من بغى، فإذا كانت الطائفتان باغيتين أو لم يعرف الباغي اعتزلنا
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله .
بقيت هناك مسألة وهي: هل هناك شبه بين معتزلة الصدر الأول ومعتزلة واصل ومن إليه؟ وهل للآخرين نزعة دينية تشبه ما للأولين؟
فأكثر الكتب يذهب إلى أن محل الخلاف بين الحسن البصري وواصل كان - أول ما كان - حول مرتكب الكبيرة: أكافر أم مؤمن؟ وهذه المسألة وإن كانت في ظاهرها مسألة دينية بحتة إلا أن في أعماقها شيئا سياسيا خطيرا.
وبيان ذلك أنهم في هذه المسألة خالفوا الأزارقة من الخوارج والمرجئة؛ فالخوارج ترى أن العمل بأوامر الدين - من صلاة وصيام وصدق وعدل - جزء من الإيمان وليس الإيمان الاعتقاد وحده، فمن اعتقد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر كان كافرا
9 ، وقد بالغ نافع بن الأزرق فكفر جميع من عدا فرقته - كما رأينا - وقال: «إنه لا يحل لأصحابه المؤمنين أن يأكلوا من ذبائح غيرهم، ولا أن يتزوجوا منهم، ولا يتوارث الخوارج وغيرهم، وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف» وهذه التعاليم لها نتائج سياسية خطيرة، فقد أدت إلى وقوفهم أمام الأمويين موقفا حربيا إيجابيا؛ لأن الأمويين في نظرهم مرتكبون للكبائر فهم كافرون، مثلهم مثل عبدة الأوثان، فيجب ألا يعترف بخلافتهم؛ لأن أول شرط في الخليفة أن يكون مؤمنا، بل يجب فوق ذلك أن يقاتلوا حتى يدخلوا في مذهبهم؛ فعدم استحقاق الأمويين للخلافة ووجوب محاربة الخوارج لهم مسائل سياسية مصبوغة بالصبغة الدينية، وقد حقق الخوارج فكرتهم فعليا، فكان تاريخهم تاريخ قتال مستمر.
أما المرجئة فكانوا على الطرف الآخر من الخوارج، فقد جعلوا الإيمان مجرد الاعتقاد القلبي، وليست التكاليف من صلاة وصيام ونحوها جزءا من الإيمان، ولا يخرج الإنسان عن إيمانه ارتكاب الكبائر؛ فهم وسعوا دائرة من يطلق عليه المؤمن إلى أقصى حد، بينما الخوارج ضيقوها حتى لا تسع إلا أنفسهم، بل لا تسع عند الأزارقة إلا فرقتهم ومن عداهم فكافر، وأكثر من هذا بالنسبة إلى المرجئة أن الشهرستاني حكى عنهم أنهم يقولون: «لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»، وهذا الرأي - من غير شك - له نتائجه السياسية: أهمها أنهم طبقوا نظريتهم هذه على كل ما حدث من الخلافات السياسية والدينية بين المسلمين، فليس عثمان وأنصاره ولا الخارجون عليه بكافرين، ولا علي وأتباعه وعائشة وأتباعها يوم الجمل بخارجين عن الإسلام، ولا من انضم تحت لواء علي أو تحت لواء معاوية يوم صفين بكافرين، بل المسألة فوق ذلك مسألة قلبية بحتة، فمن اعتقد أي رأي بعد إيمانه وعمل وفق اعتقاده فهو مصيب، سواء نصر عثمان أو خرج عليه، وسواء كان مع علي أو معاوية.
والنتيجة الطبيعية لهذه الوجهة من النظر أن خلفاء بين أمية مؤمنون مهما ارتكبوا من الكبائر كما أن أعداءهم كذلك، ومن نتائج ذلك أيضا أنهم لا يوافقون الخوارج على محاربتهم للأمويين ومحاولتهم إزالة دولتهم، وفي هذا الرأي - رأي الإرجاء - تأييد للدولة الأموية وإن كان تأييدا سلبيا لا إيجابيا «بمعنى أنهم ليسوا أعداءهم ولا خارجين عليهم ولا ناقمين منهم»، بل نرى أكثر من ذلك تأييدا عمليا، فنرى «ثابت قطنة» أحد رجال الإرجاء وشعرائهم يعمل ليزيد بن المهلب ويتولى أعمالا من أعمال الثغور فيحمد يزيد له مكانه لكتابته وشجاعته؛ ولكن يظهر أن الأمويين لم يعدوا المرجئة - على العموم - أعداءهم، كما لم يعدوهم إلا بمقدار ما يستفيد المحارب من المحايد.
إذن، وقف الخوارج موقفا مشددا لم يعدوا فيه مؤمنا إلا فئة قليلة يحصون عددا؛ ومن ناحية أخرى تساهل المرجئة تساهلا كبيرا، فهم كما أسلفنا لا يحكمون بالكفر على الأمويين والشيعة والخوارج ولا على أحد ممن نطق بالشهادتين؛ بل لا يحرمون بكفر الأخطل ونحوه من النصارى واليهود؛ لأن الإيمان محله القلب، وليس يطلع عليه إلا الله؛ وذلك يدعو إلى مسألة الناس جميعا، وهذا النظر - كما قال زيد بن علي - أطمع الفساق في عفو الله.
وقف المعتزلة بين الخوارج والمرجئة موقفا وسطا، ولا بالشديد ولا بالهين اللين فقالوا - وعلى الأخص واصل وأتباعه - بالمنزلة بين المنزلتين، وبعبارة أخرى: بقول وسط بين الخوارج والمرجئة، قالوا: إن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنا؛ لأن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمنا وهو اسم مدح، والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمنا، وليس هو بكافر مطلق أيضا؛ لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه لا وجه؛ لأنكارها
10 .
وهذا الرأي يستتبع آراء سياسية خطيرة ككل من القولين السابقين، فقد اضطر المعتزلة أن يطبقوا نظريتهم على الأعمال التي عملت منذ نشب الخلاف بين المسلمين، أي الفريقين كان مخطئا: عثمان أم قاتلوه؟ وهل كان علي محقا في وقعة الجمل أو عائشة؟ كيف نحكم على من كان في يدهم إدارة الحرب في صفين، من مرتكب الكبائر منهم، من الذي يعد بحق فاسقا؟
والحق أن فرقة المعتزلة كانت أجرأ الفرق على تحليل أعمال الصحابة ونقدهم وإصدار الحكم عليهم؛ فالمرجئة تحاشت الحكم بتاتا كما يقتضيه مذهبهم، والخوارج وإن أصدروا أحكاما فإن أحكامهم كانت قاصرة على مسائل محدودة كالتحكيم وعلي ومعاوية
11 . أما المعتزلة فلهم أحكام عامة في كثير من الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي هريرة وغيرهم، وكانوا في منتهى الصراحة في إبداء رأيهم؛ فواصل ابن عطاء «لم يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل، وجوز أن يكون عثمان وعلي على الخطأ»
12 ، وسب عمرو بن عبيد أبا هريرة وطعن في روايته، إلى كثير من أمثال ذلك، وهنا نتساءل: ماذا كان موقف الدولة الأموية من آراء المعتزلة السياسية في هذا الموضوع؟
الذي يظهر لي أنهم عدوا جرأة المعتزلة في نقد الرجال نوعا من التأييد لهم أكثر من تأييد المرجئة فإن تأييد المرجئة كما قلنا تأييد سلبي، فهم تركوا الخلافات الحزبية من غير نقد ومن غير تحليل، وهذا يؤيد علي وأتباعه ومعاوية وأتباعه؛ ولكن إذا انضاف إلى ذلك ما عند جمهور الناس إذ ذاك من شعور ديني برفعة شأن علي ومن إليه، فذلك يجعلنا نعتقد أن تأييد فكرة المرجئة للأمويين تأييد ضعيف، أما المعتزلة فتأييدهم لهم أقوى؛ لأن نقد الخصوم ووضعهم موضع التحليل وتحكيم العقل في الحكم لهم أو عليهم يزل - على الأقل - فكرة التقديس التي كانت شائعة عند جماهير الناس، نعم إن المعتزلة وضعوا معاوية وأصحابه موضع النقد كذلك، «وأكثرهم تبرأ من معاوية وعمرو بن العاص»
13
وعمرو بن عبيد خون عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفيء، ولكن يظهر أن الأمويين رأوا أن في ذلك من الكسب لهم أكثر من الخسارة، فهذا - على الأقل - يجعل معاوية وعليا في ميزان نقد واحد، وفي الغالب ترجح كفة معاوية وآله؛ لأن الدولة دولتهم والناس يخشون نقدهم ولا يخشون نقد غيرهم، ومن نتائج ذلك ما يروى عن ابن كيسان الأصم «أنه كان يخطئ عليا في كثير من أفعاله ويصوب معاوية في بعض أفعاله»
14 . ولنا على ما ذهبنا إليه دليلان: (الأول):
أنا لم نعثر فيما قرأنا في كتب التاريخ أن رجلا من كبار المعتزلة كواصل وعمرو بن عبيد وأمثالهما قد اضطهد من الأمويين أو عمالهم لذهابه هذا المذهب وتصريحه بآرائه في هذا الموضوع، بل كل الذي رأينا أن المعتزلة هم الذين هاجموا الخليفة الأموي الوليد لما اشتهر وتهتك، ووقف بعضهم - ومنهم عمرو بن عبيد - بجانب يزيد يحاربون الوليد، حتى إذا انتصر يزيد وولي الخلافة عرف للمعتزلة موقفهم فقربهم وعلا إذ ذاك شأنهم. (الثاني):
وهو أهم، ما نقل من أن بعض المتأخرين من خلفاء بني أمية كيزيد بن الوليد ومروان بن محمد اعتنق مذهب الاعتزال، ومن المحال أن يعتنقوه إذا كان يضعف دولتهم ويؤيد خصومهم.
لعلنا نستطيع أن نستنتج من هذا كله أن هناك وجه شبه كبير بين فئة المعتزلة الأولى الذين اعتزلوا الطائفتين المتقاتلتين، أعني عليا وعائشة وطلحة والزبير أولا، ثم عليا ومعاوية ثانيا، وبين فئة المعتزلة الثانية التي رأت أن ليس حقا ما عليه الخوارج من تكفير وحرب وقتال، وما عليه المرجئة من لين وتسامح؛ وأن كلتا الفرقتين المعتزلتين قد انتحت ناحية وحدها تخالف في منحاها الطوائف المختلفة في زمانها؛ وأن كلتا الفرقتين تمثل في أساس تعاليمها ناحية سياسية دينية، وإن كانت فرقة المعتزلة الثانية أضافت إلى ذلك بعد أبحاثا دينية بحتة كبحثهم الميتافيزيقي في صفات الله، وأنه ليس بجسم ولا عرض ... إلخ، وهذا القول يسلمنا - من غير شك - إلى ترجيح الرأي القائل بأنهم سموا المعتزلة لاعتزالهم قول الأمة، يعنون بذلك أنهم اشتقوا لأنسفهم طريقا جديدا ساروا فيه وخالفوا غيرهم، وليس تحولهم من سارية جديدة - إن صح - إلا رمزا لتنحيهم عن هذه الفرق وإنشائهم فرقة جديدة.
على كل حال لم يكن كثير من المعتزلة يرضى عن هذه التسمية، وإنما كانوا يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد؛ أما التوحيد فلأنهم نفوا صفات الله وعدوا القول بها تعديدا لله؛ وأما العدل فلأنهم نزهوا الله عما يقول خصومهم من أنه قدر على الناس المعاصي ثم عذبهم عليها، وقالوا: إن الإنسان حر فيما يفعل، ومن أجل هذا عذب على ما يفعل، وهذا عدل.
اشتهر من أوائل الداعين إلى الاعتزال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد
15 ، فأما واصل فكان من الموالي، ولد في المدينة سنة 80ه ثم انتقل إلى البصرة، وسمع من الحسن البصري وغيره وتوفي سنة 131، وكان خطيبا بليغا مقتدرا على الكلام سهل الألفاظ، يقول فيه بعضهم:
عليم بإبدال الحروف وقامع
لكل خطيب يبلغ الحق باطله
وقد ألف كتبا كثيرة لم يصلنا منها شيء.
وأما عمرو بن عبيد فمولى كذلك، تتلمذ للحسن البصري واعتنق رأي واصل بن عطاء في الاعتزال، وألف كتبا كثيرة لم تصلنا، واشتهر بالزهد والورع، وفيه يقول أبو جعفر المنصور:
كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
وتوفي سنة 145ه في رجوعه من الحج.
وكلاهما «واصل وعمرو» عرف بالتقوى والصلاح، ويعدان بحق مؤسسي مذهب الاعتزال.
وتتلخص تعاليم المعتزلة في الأصول الآتية: (1)
القول بالمعتزلة بين المنزلتين؛ أي أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، لكنه فاسق، والفاسق يستحق النار بفسقه.
وقد دعا إلى إثارة هذا القول أن الحروب السياسية من مقتل عثمان ووقعة الجمل ووقعة صفين جعلت الناس يتساءلون من المحق ومن المخطئ، ثم انتقلوا من ذلك إلى القول بأن المخطئ كافر أو مؤمن، فكانت الخوارج تقول بكفر مرتكبي الذنوب، والمرجئة يقولون بأنه مؤمن، وقال الحسن البصري: إنه منافق، فقال واصل: إنه فاسق وله منزلة بين الكفر والإيمان، وقال: إنه يخلد في النار. (2)
القول بالقدر وأن الله لا يخلق أفعال الناس، وإنما هم الذين يخلقون أعمالهم، وأنهم من أجل ذلك يثابون أو يعاقبون، ولهذا وحده يستحق أن يوصف الله بالعدل؛ ولعل الذي حملهم على هذا القول ما رأوه من مغالاة جهم بن صفوان وأصحابه في سلب الإنسان قدرته وجعله كالجماد تجري الأعمال على يديه كما تجري على الحجر، وقد روي أن واصل بن عطاء أرسل بعض أصحابه إلى خراسان لمباحثة جهم ومجادلته. (3)
القول بالتوحيد فنفوا أن يكون لله تعالى صفات أزلية من علم وقدرة وحياة وسمع وبصر غير ذاته، بل الله عالم وقادر وحي وسميع وبصير بذاته، وليس هناك صفات زائدة على ذاته، والقول بوجود صفات قديمة قول بالتعدد، والله واحد لا شريك له من أي جهة كان، ولا كثرة في ذاته البتة، وتأولوا الآيات التي تثبت هذه الصفات والتي يفهم منها أن له صفات كصفات المخلوقين، وربما كان قد دعاهم إلى هذا القول ما شاع في عصرهم من ذهاب قوم إلى تجسيد الله تعالى وإثبات صفات له كصفات المخلوقين، كمقاتل بن سليمان الذي عاصر واصلا. (4)
قولهم بسلطة العقل وقدرته على معرفة الحسن والقبيح، ولو لم يرد بهما شرع، وللشيء صفة فيه جعلته حسنا أو قبيحا، فالصدق فيه صفة ذاتية جعلته حسنا، والكذب فيه صفة ذاتية جعلته قبيحا، ولذلك يشترك العقلاء في حسن الإحسان إلى الفقير وإنقاذ الغريق، ويستقبحون كفران الجميل وإيلام البريء، ولو لم يصلهم في ذلك شرع، بل ولو كانوا ملحدين؛ والشرع لم يجعل الشيء حسنا بأمره به، ولا القبيح قبيحا بنهيه عنه، بل الشرع إنما أمر بالشيء لحسنه، ونهى عن الآخر لقبحه، ولا يستطيع الشرع أن يعكس؛ لأن أمره ونهيه تابعان لما في الشيء ذاته من حسن وقبح.
وربما دعاهم إلى وضع هذا المبدأ ما رأوا من مغالاة قوم وجمودهم على ما ورد من حديث ولو موضوعا، ووقوفهم عند النص، فإذا لم يجدوا نصا لم يجرؤ على إبداء رأي، وقد رأيت هذه النزعة عند كلامنا على مدرسة الحديث، فأحس المعتزلة بالخطر الذي يصيب الناس من شل العقل إلى هذا الحد فوضعوا هذا الأساس، ولذلك كان علماء الحديث من أشد خلق الله كرها للمعتزلة، والعكس، ولما كانت الدولة للمعتزلة في عهد المأمون والمعتصم نكلوا بأهل الحديث تنكيلا في فتنة خلق القرآن، ولما زالت دولتهم نكل بهم المحدثون.
كذلك تعرض المعتزلة للأمور السياسية التي سبقت عصرهم وأدلوا فيها بآرائهم، ولم يجاروا الحسن البصري في قوله: «تلك دماء طهر الله منها أسيافنا فلا نلطخ بها ألسنتنا» بل قالوا: إن الصحابة أنفسهم كان يخطئ بعضهم بعضا ويحارب بعضهم بعضا، وقد روي عن عمرو بن عبيد في نقد الرجال الشيء الكثير، فقد سب أبا هريرة وطعن في روايته، وخون عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفيء كما أسلفنا، إلى كثير من أمثال ذلك، وعلى الجملة قد أباحوا لأنفسهم تشريح الصحابة ونقدهم والحكم على أعمالهم وحروبهم، وكان أكثرهم حرية في ذلك من اعتنق الاعتزال من الشيعة
16 ، ونحن نذكر لك طرفا من آرائهم في المسائل السياسية، فقد اتفقوا - تقريبا - على أن بيعة أبي بكر بيعة صحيحة شرعية، وأنها لم تكن عن نص من النبي
صلى الله عليه وسلم
وإنما كانت بالاختيار، واختلفوا في أيهما أفضل: أبو بكر أم علي؟ فقال قدماء البصريين كعمرو بن عبيد والنظام والجاحظ وهشام الفوطي: أن أبا بكر أفضل من علي، وقال البغداديون كبشر بن المعتمر وأبي الحسين الخياط: إن عليا أفضل؛ ولهم في ذلك حجاج طويل، ولما وصلوا إلى وقعة الجمل كان واصل بن عطاء يقول: إن أحد الفريقين فاسق بقتاله لا محالة، ولكن لم أستطع الجزم أي الفريقين هو الفاسق، وأما عمرو بن عبيد فقال بفسق الفرقتين المتقاتلتين جميعا، وتبرأ المعتزلة من عمر ومعاوية وخطئوهما وأتباعهما وهكذا حللوا كثيرا من الأعمال في التاريخ الإسلامي وأبدوا فيها رأيهم، واختلفوا فيما بينهم، وأدلى كل بالحجج التي يعزز بها رأيه مما يطول ذكره. •••
وقد نشأ الاعتزال كما رأيت في البصرة، وسرعان ما انتشر في العراق: واعتنقه من خلفاء بني أمية يزيد بن الوليد ومروان بن محمد؛ وفي العصر العباسي تكونت للاعتزال مدرستان كبيرتان: مدرسة البصرة ومدرسة بغداد ، وكان بين معتزلي البصرة ومعتزلي بغداد جدال وخلاف في كثير من المسائل.
وكان المعتزلة أسرع الفرق للاستفادة من الفلسفة اليونانية وصبغها صبغة إسلامية، والاستعانة بها على نظرياتهم وجدلهم، وكان من أشهر من استخدم الفلسفة في ذلك أبو الهذيل العلاف والنظام والجاحظ، ولسنا نستطيع هنا أن نبين النظريات اليونانية وكيف نقلها أئمة المعتزلة، فموضع ذلك الكلام على الحركة العقلية في صدر الدولة العباسية إن شاء الله .
والحق أن المعتزلة هم الذين خلقوا علم الكلام في الإسلام، وأنهم أول من تسلح من المسلمين بسلاح خصومهم في الدين؛ ذلك أنه في أوائل القرن الثاني للهجرة ظهر أثر من دخل في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس والدهرية، فكثير من هؤلاء أسلموا ورءوسهم مملوءة بأديانهم القديمة، لم يزد عليهم إلا النطق بالشهادتين، فسرعان ما أثاروا في الإسلام المسائل التي كانت تثار في أديانهم، وكانت هذه الأديان التي ذكرناها قد تسلحت من قبل بالفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني ونظمت طريق بحثها وتعمقت في ذلك كثيرا، فهاجموا الإسلام وهو الدين الذي يمتاز ببساطة عقيدته فأثاروا حوله الشكوك، وليس هؤلاء الذين أسلموا هم الذين فعلوا ذلك فقط، بل كانت البلاد الإسلامية مملوءة بذوي الأديان المختلفة الذين ظلوا على دينهم، وكان منهم كثيرون في بلاط الدولة الأموية يشغلون مناصب خطيرة، هؤلاء وهؤلاء أثاروا مسألة القدر على هذا النمط الفلسفي وكانت معروفة في دينهم، وأثاروا مسألة صفات الله وخلق القرآن ولها نظير في النصرانية، وأثار الزردشتيون كثيرا من مسائلهم.
كل هذا دعا المعتزلة أن يتسلحوا بسلاح عدوهم فجادلوهم جدالا علميا، وردوا هجمات القائلين بالجبر والمنكرين لله وما أثار اليهود والنصارى والمجوس من شكوك، ونشطوا لهذا العمل نشاطا بديعا؛ فواصل بن عطاء يقول عنه المرتضي: «إنه كان أعلم الناس بكلام غالية الشيعة ومارقة الخوارج، وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين»، فأخذ بعد معرفة أقوالهم يرد عليهم في فصاحة من القول يصفها بشار بقوله فيه:
وقال مرتجلا تغلي بداهته
كمرجل القين لما خف باللهب
وتصفه زوجته فتقول: «كان إذا جنه الليل صف قدميه يصلي، ولوح ودواة بجانبه، فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها ثم عاد لصلاته»، ولم يكتف بذلك بل بعث دعاته إلى الأمصار يجادلون أصحاب التعاليم المخالفة وينشر مبادئه؛ فبعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب، وحفص بن سالم إلى خراسان يناظر جهما القائل بالجبر، كما بعث إلى اليمن وإلى الجزيرة وإلى أرمينية، وأخذ واصل يؤلف الكتب في ذلك حتى ليذكرون أنه ألف كتابا فيه ألف مسألة للرد على المانوية - وكذلك كان عمرو بن عبيد يجادل مخالفيه ويدعو إلى الاعتزال في مهارة، يقول واصفه: كان عمرو إذا رأيته مقبلا توهمته جاء من دفن والديه، وإذا رأيته جالسا توهمته أجلس للقود، وإذا رأيته متكلما توهمت أن الجنة والنار لم يخلقا إلا له، وقد أبى هو وأصحابه الأولون - على ما يظهر - أن يتولوا للحكومة عملا، وأرادوا أن يكون عملهم لله خالصا، فابن قتيبة يحدثنا: «أن عمرو بن عبيد قال لأبي جعفر المنصور: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك ببعضها، واذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده؛ فوجم أبو جعفر من قوله، فقال له الربيع: يا عمرو غممت أمير المؤمنين! فقال عمرو: إن هذا صحبك عشرين سنة، لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا، وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه؛ قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلت لك خاتمي في يدك فتعال وأصحابك فاكفني، قال عمرو: ادعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك، ببابك ألف مظلمة، أردد منها شيئا نعلم أنك صادق»
17
ولكنهم مع هذا كانوا مكروهين من كثير من المسلمين لأسباب: أهمها أنهم خالفوا أهل الحديث في كثير من آرائهم فحمل عليهم المحدثون حملات عنيفة، ومنها أنهم حولوا العقيدة الإسلامية البسيطة إلى عقيدة فلسفية عميقة، ومنها أنهم في أيام سلطتهم في عهد المأمون والمعتصم نكلوا بالناس في القول بخلق القرآن، ولم يسيروا سيرة فلسفية في الاكتفاء بتأييد رأيهم بالحجة، حملوا الناس على القول برأيهم بالسيف، وكان في ذلك ذهاب دولتهم وسمعتهم؛ ولعل من هذه الأسباب أنهم أنزلوا الصحابة منزلة سائر الناس فلم يقروا لهم بعصمة، وجرءوا عليهم يشرحون أعمالهم ويحكمون بصواب بعضها وخطأ بعضها، فقد رأيت ما قال عمرو بن عبيد، وجاء بعده النظام فنقد عمر وأبا بكر وابن مسعود في بعض أقوالهم، وأكذب حذيفة وأبا هريرة في حديث طويل
18 . •••
وقد فشا في العصر الأموي الجدل في هذه المذاهب التي ذكرنا من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة وغيرهم، وملئت كتب التاريخ والأدب والملل بما كان يدور بينهم من حوار شديد، فابن أبي الحديد يروي لنا أن الخوارج - في حرب المهلب لهم - كانوا يضعون السيف من حين لآخر ثم يلتقون بخصومهم ويتجادلون ويدعون إلى مذهبهم، ويحدثنا الأغاني أن ثابت قطنة استمع لقوم من الخوارج كانوا يجتمعون بقوم من المرجئة بخراسان فيتجادلون فمال إلى قول المرجئة وأحبه، وقال قصيدته التي ذكرناها في الإرجاء؛ ويحدثنا أيضا أن شيعيا ومرجئا اختصما واحتكما إلى أول من يطلع عليهما، فطلع «الدلال» فقالا له أيهما خير: الشيعي أم المرجئ؟ فقال: لا أدري إلا أن أعلاي شيعي وأسفلي مرجئ
19 ، ويحدثنا ابن نباتة أن هذا الخلاف وصل إلى الشعراء، فقد كان ذو الرمة قدريا، وكان رؤبة جبريا، وأنهما اختصما فقال رؤبة: والله ما فحص طائر أفحوصا، ولا تقرمص سبع قرموصا إلا بقضاء الله وقدره، فقال ذو الرمة: والله ما قرر على الذئب أن يأكل حلوبة عياييل ضرائك
20 .
ويقول الراجز:
يا أيها المضمر هما لا تهم
إنك إن تقدر لك الحمى تحم
لو علوت شاهقا من العلم
كيف توقيك وقد جف القلم!
ويروي الأغاني عن ابن قتيبة أنه كانت بين الطرماح والكميت خلطة ومودة وصفاء على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة، فكان الكميت شيعيا عصبيا عدنانيا، من شعراء مضر متعصبا لأهل الكوفة، والطرماح خارجي صفري قحطاني عصبي لقحطان من شعراء اليمن، متعصب لأهل الشام، فقيل لهما: ففيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء؟ قال: اتفقنا على بعض العامة
21 .
ويروي الأغاني أيضا أنه كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد «هو جرير بن حازم» فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده؛ فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال، وأما عبد الكريم وصالح فصححا التوبة، وأما بشار فبقي متحيرا مخلطا، وأما الأزدي فمال إلى قول السمنية «وهو مذهب من مذاهب الهند»، قال: وكان عبد الكريم يفسد الأحداث بدعوتهم إلى دينه، وما زال عمرو بن عبيد به حتى أخرجه من البصرة ثم دل عليه من قتله، وروى الإمام أحمد أن الجهم لقي بعض السمنية، فقال له السمني: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم، قال: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قال: فما يدريك أنه إله؟ قال له الجهم: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قال فكذلك الله!
كل هذا يدلنا على أن حركة الجدال في المذاهب الدينية والآراء السياسية المصبوغة بالصبغة الدينية كانت في هذا العصر حركة عظيمة، وقد كان لها أثر كبير في العلم وفي السياسة وفي الأدب، وقد صدرت هذه الفرق عن عقليات مختلفة من فرس وروم وسريان وعرب وغيرهم، وكانت هذه العقليات تؤمن بأديان مختلفة من يهودية ونصرانية ومجوسية ووثنية وغيرها؛ ولو ظلت الأمة الإسلامية أمة عربية فقط لرأينا فيها أمثال الخوارج وأمثال المرجئة، ولكن ما كنا نرى فيها مذاهب الشيعة الغالية وتعاليمهم الغريبة، وما كنا نرى المعتزلة وأبحاثهم الفلسفية ومذاهبهم العميقة. •••
هذه الحركات العلمية التي شرحناها، والفرق الدينية التي أبنا تعاليمها كانت في الدولة الأموية على حالة السذاجة، لم تصل إلى درجة القواعد المنظمة، والعلوم المتميزة، والشرح المحكم، إنما وصلت إلى هذه الدرجة في صدر العصر العباسي لما أخذ خلفاء الدولة العباسية يناصرون الحركة العلمية، وينهضون بالأساس الذي وضعه العلماء في الدولة الأموية، مستعينين على ذلك بترجمة ما وصلت إليه الأمم قبلهم، وموعدنا في الكلام على ذلك الجزء التالي إن شاء الله وهو المستعان.
أهم مصادر هذا الباب
الممل والنحل للشهرستاني.
الفصل في الملل والنحل لابن حزم.
شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة.
الفرق بين الفرق للبغدادي.
أصول الدين للبغدادي «طبع حديثا في الأستانة».
مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري «يطبع الآن في الأستانة ومنه نسخة خطية في مكتبة أياصوفيا».
المواقف وشرحه.
خطط المقريزي.
مقدمة ابن خلدون.
الرسالة الاثنا عشرية .
شرح البخاري للقسطلاني والنووي على مسلم.
تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي.
ابن خلكان.
رسائل متفرقة لابن تيمية.
الكامل للمبرد في أخبار الخوارج.
الأغاني في مواضع متفرقة.
البيان والتبيين للجاحظ.
دائرة المعارف الإسلامية في مادة خوارج شيعة وقدرية وغيرها.
Macdonald, Muslim Theology .
Browne, A Literary History of Pers a .
Goldziher, Dogma et Le Loi de Ľ Islam .
طبقات ابن سعد.
الأحكام السلطانية للماوردي.
تاريخ الطبري في الحوادث من سنة 99 إلى 132.
تيسير الوصول إلى جامع الأصول من أحاديث الرسول.
سرح العيون شرح رسالة ابن زيدون.
تفسير الفخر الرازي في جملة مواضع.
المستصفى للغزالي.
العقد الفريد لابن عبد ربه.
طبقات المعتزلة للمرتضى «طبع بالهند».
أهم الأحداث في ذلك العصر
أهم الأحداث
التاريخ الهجري
التاريخ الميلادي
بدء السنة الهجرية
موت محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وخلافة أبي بكر
12
632
29 مارس
خلافة عمر بن الخطاب
13
634
7 مارس
وقعة القادسية وفتح بيت المقدس
تأسيس البصرة. فتح دمشق
14
635
25 فبراير
تأسيس الكوفة. فتح الشام والعراق
17
638
23 يناير
فتح مصر
20
640
21 ديسمبر
وقعة نهاوند وفتح فارس
21
641
10 ديسمبر
خلافة عثمان
23
643
19 نوفمبر
جمع القرآن في المصاحف
30
650
4 سبتمبر
خلافة علي بن أبي طالب
35
655
11 يوليه
وقعة الجمل
36
656
30 يونيه
موت علي
40
660
17 مايو
خلافة معاوية بن أبي سفيان
41
661
7 مايو
موت الحسن بن علي
49
669
9 فبراير
خلافة يزيد بن معاوية
60
679
13 أكتوبر
وقعة كربلاء، ومقتل الحسين
61
680
1 أكتوبر
خلافة مروان بن الحكم
63
682
10 سبتمبر
خلافة عبد الملك بن مروان
65
684
18 أغسطس
حصار مكة وقتل عبد الله بن الزبير
73
692
23 مايو
موت محمد بن الحنفية
81
700
26 فبراير
خلافة الوليد بن عبد الملك
86
705
2 يناير
خلافة سليمان بن عبد الملك
96
714
16 سبتمبر
خلافة عمر بن عبد العزيز
99
717
14 أغسطس
خلافة يزيد بن عبد الملك
101
719
24 يوليه
خلافة هشام بن عبد الملك
106
724
29 مايو
موت الحسن البصري
110
728
16 أبريل
موت زيد بن زين العابدين
121
738
18 ديسمبر
موت الزهري
124
741
15 نوفمبر
خلافة الوليد بن يزيد
126
743
25 أكتوبر
خلافة يزيد بن الوليد
127
744
15 أكتوبر
خلافة مروان بن محمد
128
745
3 أكتوبر
قتل الجهم بن صفوان
130
747
11 سبتمبر
موت واصل بن عطاء
131
748
31 أغسطس
سقوط الدولة الأموية
132
749
20 أغسطس
صفحه نامشخص