وعلى ذلك يبتدئ خطابه الثاني بالتقريع، فيقاطعه «رنزي» في ذلك بالتهديد، فلا يثني ذلك من عزم الفلاح ويواصل تقريعه.
أما خطابه الثالث فيعود فيه إلى مدائح كالتي كان ذكرها في أول شكاياته «إلى رنزي»، فتراه يقول: «يا أيها المدير العظيم للبيت الملكي، مولاي، إنك «رع» رب السماء مع حاشيتك، إن أقوات بني الإنسان منك؛ لأنك كالفيضان، وأنت إله النيل الذي يخلق المراعي الخضراء ويمد الأراضي القاحلة، ضيق الخناق على السراق، واحم التعس، ولا تكونن كالسيل ضد الشاكي. احذر، فإن الأبدية تقترب، وفضل أن تعمل حسب المثل القائل: «إن نفس الأنف إقامة العدل أو الحق (ماعت)»، ونفذ العقاب في من يستحق العقاب، وليس هناك شيء يعادل استقامتك. هل يخطئ الميزان؟ وهل تميل عارضة الميزان إلى أحد الجانبين؟ ... لا تنطقن كذبا؛ لأنك عظيم (وأنت بذلك مسئول)، لا تكن خفيفا؛ لأنك ذو وزن، ولا تتكلمن بهتانا؛ لأنك الموازين، ولا تحيدن؛ لأنك الاستقامة. افهم أنك والموازين سيان، فإذا مالت فإنك تميل (كذبا)، ولسانك هو المؤشر العمودي للميزان، وقلبك هو المثقال، وشفتاك هما ذراعاه.»
وهذه المقارنات بين أخلاق «مدير البيت العظيم» وبين الموازين تظهر مرات متكررة في خطب ذلك الفلاح.
4
والعبرة التي تؤخذ من ذلك واضحة؛ إذ إن مفتاح الطريق الحق بأيدي الطبقة الحاكمة، فإذا هم أخفقوا في اتباعه ففي أي مكان آخر يمكن الحصول عليه؟ إذ كان المرجو منهم أن يوازنوا بين الحق والباطل ثم يفصلوا فيه بقرار عادل كالموازين الدقيقة التي لا تخطئ. وبتلك الكيفية كانت الموازين تؤلف رمزا شاع تداوله في الحياة المصرية حتى صارت كفتا الميزان تظهران (في النقوش) بمثابة رمز مجسم لتصوير محاكمة كل روح في عالم الحياة الآخرة.
وقد وجدت الموازين في ذلك المقال لأول مرة في تاريخ الأخلاق، وقد بقيت صورتها وهي منصوبة في يد إلهة العدالة العمياء رمزا لذلك إلى يومنا هذا.
والحقيقة أن ذلك الرمز ترجع نشأته إلى ظهوره بين رجال الفكر في العهد الإقطاعي بمصر منذ أربعة آلاف سنة، ولم يكن الأمر قاصرا على تصوير الميزان بأكمله بمثابة رمز للاستقامة في ذلك العهد الإقطاعي، بل كانت أجزاؤه كذلك تستعمل على الدوام لذلك الغرض أيضا؛ فنجد «العامود» الذي يرتكز عليه الميزان، كما نجد «عارضة» الميزان التي تتدلى منها كفتاه، وكذلك نجد بوجه خاص «خيط الميزان»، ونجد «الثقل» المربوط فيه، وهو الذي يتدلى من قطعة خشبية بارزة عند قمة العامود الذي يرتكز عليه الميزان، ونجد كذلك «لسان» الميزان (المؤشر) الذي يمتد عموديا إلى أسفل من وسط العارضة التي تحمل كفتي الميزان ويتحرك معها كلما تحركت. وعند الوزن يمكن موازنة اللسان دائما بخيط الوزن المعلق من خلفه، حتى إذا ما كان طرف اللسان على استقامة واحدة مع خيط الثقل؛ فإن عارضة الميزان تكون أفقية تماما وتكون الكفتان متوازنتين ومستويتين، وعلى هذا يكون خيط الميزان الذي لا يحيد هو الضابط الصحيح الذي يحفظ الميزان عن الخطأ.
ولا يفوتنا أن نلاحظ هنا أن الفلاح كان يذكر «مدير البيت العظيم» بظهوره أمام محاسبة الموازين التي لا تتحيز إلى جهة دون الأخرى؛ إذ يقول له: «احذر لأن يوم الآخرة يقترب.» وهذا المثل من الأمثلة القليلة التي يلتجأ إليها في الشكايات بتحذير الظالم مما يتعرض له من المسئولية في الحياة الآخرة، ويوجد كذلك مثال آخر من ذلك النوع في تلك الوثيقة بالخطبة الثانية من خطب الفلاح.
وقد صارت الآن تهديدات الفلاح «لمدير البيت العظيم» أكثر مما يحتمل في شدتها أثناء وقوفه أمام القصر، ومن أجل ذلك أرسل خادمين ليجلدا ذلك الرجل التعس، ولكن بالرغم من ذلك فإن الفلاح انتظر قدوم «رنزي» من غير خوف وهو خارج من معبد العاصمة وواجهه بخطبة رابعة، ثم تلاها بخطبة خامسة. وبالرغم من أن هذه كانت أقصر خطبه كلها فإنها ألذعها في الاتهام؛ إذ يقول: «لقد نصبت لتسمع الشكاوى، وتفصل بين المتخاصمين، وتضرب على يد السارق، ولكنك تتحالف مع السارق، والناس تحبك رغم أنك معتد، ولقد نصبت لتكون سدا للرجل الفقير يحميه من الغرق، ولكن انظر فإنك أنت فيضانه الجارف.»
كل هذا و«رنزي» كان لا يزال ملازما للصمت، فيبتدئ الفلاح خطابه السادس لاجئا من جديد إلى عاطفة العدالة التي اتصف بها «مدير البيت العظيم» وما اشتهر به من حب الخير، فيقول له: «يا مدير البيت العظيم، اقض على الظلم وأقم العدل وقدم كل ما هو خير، وامح كل سيئ، حتى تكون كالشبع الذي يقضي على الجوع، أو كاللباس الذي يخفي العري، أو كالسماء الصافية بعد سكون العاصفة الشديدة، أو كالنار التي تطهو الطعام، أو كالماء الذي يطفئ الغلة.»
صفحه نامشخص