والجزء من الوثيقة الباقي الذي وصل إلينا يبدأ بذلك الوقت العصيب عندما كان يضرب في ظلمات اليأس وصمم على الانتحار، فتراه وهو واقف على حافة القبر وروحه فزعة من الظلمة تأبى عليه اتباعه في فعلته، ويلي ذلك محاورة طويلة نرى منها أن ذلك التعس كان يناقش نفسه؛ أي يتحدث مع شخص جرده من روحه كأنه يتحدث مع ذات أخرى. وقد كان أول الأسباب في عصيان روحه له وامتناعها عن متابعته إلى الحياة الآخرة خوفها ألا تجد قبرا تقر فيه بعد الموت.
وقد يظهر ذلك غريبا جدا لأول وهلة من رجل اتضح أنه يشك كثيرا في فائدة مثل تلك المعدات المادية التي كانت تعد للمتوفى عند ترحيله إلى آخرته، ولكننا لا نلبث أن نكشف عن سر ذلك على الفور، فنرى أن هذه كانت حيلة أدبية (كغيرها مما سيأتي ذكره فيما بعد) أراد الكاتب أن يتخذ منها فرصة للتنديد بتلك المعدات الجنازية.
والظاهر أن روحه نفسها قد اقترحت عليه في أول الأمر الانتحار حرقا، ولكنها فرت بنفسها من تلك النهاية الفظيعة.
ولما لم يكن - من بين الأحياء - صديق أو قريب حميم لتلك النفس يقف بجانب التابوت ويحتفل بجنازته، أخذ يستحلف روحه أن تقوم له بكل ذلك، ولكن الروح أبت عليه الموت في أي شكل كان، ثم أخذت تصف له فظائع القبر: ثم «فتحت روحي فمها وأجابت عما قلته: «إذا تذكرت الدفن فإنه حزن وذكراه تثير الدمع وتفعم القلب حزنا، فهو ينتزع الرجل من بيته ويلقي به على الجبل (أي الجبانة)، ولن تصعد قط ثانية لترى الشمس. على أن هؤلاء الذين بنوا بالجرانيت الأحمر المبنى الجميل وشيدوا قبورهم في الأهرام وصاروا مثل الآلهة ترى هناك موائد قربانهم خاوية كموائد أولئك المتعبين الذين يموتون فوق الجسر من غير خلف لهم فيبتلع الفيضان ناحية من أجسامهم، وتلفحهم حرارة الشمس أيضا، ويلتهمهم سمك شاطئ النهر ويعبث بهم، أصغ إلي! وإنه لجدير بالناس أن يصغوا، تمتع بيوم السرور وانس الهموم».»
هذا إذن هو جواب الروح عندما تمثل أمامها منظر الموت المعتاد، وقد أكد ذلك البائس أن: «من كان في هرمه، ومن وقف أحد الأحياء بجوار سرير موته، يكون سعيدا.» وقد سعى أن تقوم روحه «بدفنه وبتقديم القرابين له، وتقف عند القبر يوم الدفن لتجهز السرير في الجبانة.»
ولكن كان مثله مثل ضارب العود في الأنشودة السالفة الذكر؛ إذ تذكرت روحه قبور العظماء التي خربت، وموائد قربانهم التي صارت خاوية مثل موائد العبيد التعساء الذين ماتوا كالذباب في وسط الأعمال العامة على جسور الري، وقد صارت أجسامهم عرضة للحر اللافح والسمك الملتهم، في انتظار الدفن، فلم يكن هنالك إلا حل واحد للتخلص من كل ذلك وهو: «أن يعيش الإنسان ناسيا حزنه منغمسا إلى آذانه في السرور.»
ويلاحظ أنه إلى هنا لم تختلف هذه المحاورة التي تنحصر كل فلسفتها في أن «يأكل الإنسان ويشرب، ويكون مرحا؛ لأنه سيموت في غده» عما جاء في أغنية الضارب على العود، ولكننا بعد ذلك نجدها تأخذ في الخروج والافتراق عن زميلتها بنتيجة خطيرة تجاوزت بها حد تلك الأنشودة بكثير؛ إذ أخذت تبين أن الحياة فوق أنها ليست فرصة للسرور والإسراف في اللذات، فهي عبء أثقل حملا من الموت. وقد وضح ذلك في أربع مقطوعات شعرية خاطب بها ذلك التعس روحه، وتلك المقطوعات تؤلف الجزء الثاني من تلك الوثيقة، ولحسن الحظ نجدها أوضح كثيرا من الجزء الأول، والمقطوعة الأولى تصف لنا مقت العالم بغير حق لاسم ذلك التعس، ويكون كل ثلاثة أبيات منها مقطوعة تبتدئ بالمقطع التالي: «إن اسمي ممقوت.» ثم يرى الكاتب بعد ذلك أن يقوي ذلك المقطع بذكر شيء ممقوت مما يوجد في حياة الشعب المصري اليومية، وبخاصة رائحة السمك والطير النتنة السارحة في حياة سكان وادي النيل، وهاك ذكر ذلك:
مقت اسمه ظلما
انظر، إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الطير في أيام الصيف عندما تكون السماء حارة
انظر، إن اسمي ممقوت أكثر من مقت مصايد السمك في يوم صيد تكون السماء فيه حارة
صفحه نامشخص