يدل على ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه مدى السلوك الحسن محصورا على الأرجح في أول الأمر في دائرة الأسرة، فإن نطاقه قد أخذ يتسع حتى صار يشمل الجيرة أو الطائفة قبل عصر الأهرام بزمن طويل. فمن ذلك أننا نجد أن أحد الموتى يقص علينا في نقوش قاعدة تمثال جنازي له منصوب في قبره، وقد صوره المثال بصورة ناطقة له كأنها هو: «لقد طلبت إلى المثال أن ينحت لي هذه التماثيل، وقد كان مرتاحا للأجر الذي دفعته إليه.» كما يقول مدير ضيعة يدعى «مني» في نقوش مأخوذة من مقبرته التي من عهد الأسرة الرابعة (2900-2750ق.م) وموجودة الآن في متحف «جلبتوتيك» بمدينة مونيخ ما يأتي: «أما فيما يخص كل رجل عمل هذا لي (أي ساهم في إقامة هذا القبر) فإنه لم يكن قط غير مرتاح، سواء أكان صانعا أم حجارا، فإني قد أرضيته.» فمن الواضح جدا أن كلا من ذينك الرجلين أراد أن يعلن أنه حصل على معداته الجنازية من طريق شريف، وأن كل من عمل في إعدادها قد تسلم أجره كاملا غير منقوص.
وكذلك ترك لنا أحد حكام المقاطعات ممن عاشوا في القرن السابع والعشرين ق.م البيان التالي عن حياته الصالحة حيث يقول: «لقد أعطيت خبزا لكل الجائعين في «جبل الثعبان» (ضيعته) وكسوت كل من كان عريانا فيها، وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير ... ولم أظلم أحدا قط في ممتلكاته حتى يدعوه ذلك إلى أن يشكوني لإله مدينتي، ولكني قلت وتحدثت بما هو خير. ولم يوجد إنسان كان يخاف غيره ممن هم أقوى منه حتى جعله ذلك يشكو للإله. ولقد كنت محسنا لأهل ضيعتي بما في حظائر ماشيتي وفي مساكن صيادي الطيور، وإني لم أنطق كذبا؛ لأني كنت امرأ محبوبا من والده ممدوحا من والدته رفيع الأخلاق مع أخيه، وودودا [لأخته].»
ونجد مرارا وتكرارا أن أولئك الناس القدماء الذين مضى على انقضاء زمنهم نحو 4000 أو 5000 سنة يؤكدون لنا براءتهم من عمل السوء؛ فيقص علينا رئيس أطباء الملك «سحورع» في منتصف القرن الثامن والعشرين ق.م ما يأتي: «إني لم آت أي سوء قط ضد أي إنسان.»
وبعد ذلك العهد بقليل نجد كاهنا يقول نفس ذلك الكلام أيضا: «إني لم أرتكب أي عنف ضد أي إنسان.» وبعد ذلك العهد بقرن أيضا نجد كذلك مدنيا رقيق الحال قد أقام نصبا على واجهة قبره ليقرأه الأحياء منقوشا عليه الخطاب التالي:
أنتم أيها الأحياء الذين على وجه الأرض المارون بهذا القبر، جودوا بقربان جنازي مما عندكم فيؤتى به إلي؛ لأني كنت إنسانا محبوبا من الناس، فلم أجلد قط في حفرة أي موظف منذ ولادتي، ولم أستول على متاع أي شخص قسرا، وكنت أفعل ما يرضي جميع الناس.
ونرى مثل ذلك في نقش قبر آخر لإنسان كان على ما يظهر موضع اهتمام جيرانه؛ إذ يقول:
لقد فعلت ما كان يحبه الناس ويرضي الآلهة حتى يجعلوا بيت أبديتي (أي قبره) يبقى، واسمي موضع الحمد على ألسنة الناس.
ويتضح من مثل تلك الخطابات التي كانت توجه إلى الأحياء أن أهم غرض كان يرجوه المتوفى من الإدلاء بتلك التأكيدات الدالة على حسن سيرته في المجتمع؛ هو استدرار عطف الأحياء من جيرانه عليه حتى يقدموا له القرابين الجنازية من الطعام والشراب عند قبره.
وقد كان المتوفى في اعتقاد القوم عرضة لأن يطلب للمحاسبة فيما بعد الموت عن أي خطأ يكون قد ارتكبه أو ظلم اقترفه أثناء حياته الدنيوية، فيقف هناك أمام إله الشمس الذي كان يجلس بصفته القاضي الأعلى لمحكمة العدل أسوة بمحاكم عالم الدنيا، ولذلك وضع «مني» مدير الضيعة - الذي سبق أن لاحظنا عنه فيما تقدم اهتمامه بدفع أجور العمال ممن قاموا ببناء قبره - التحذير الآتي على واجهة باب قبره: «إن التماسيح ستكون ضده في الماء! والثعابين ضده على اليابس، جزاء لكل من يقترف أي سوء ضده (أي ضد قبره)، فإن الإله العظيم هو الذي سيحاكمه من أجل ذلك.» وعلى ذلك يتضح أن القيم الأخلاقية كان لها تقديرها في نظر الآلهة مما يجوز أن يؤثر ماديا على سعادة المتوفى في الحياة الآخرة.
وكلا الباعثين قد وجدا مجتمعين في خطاب واحد موجه للأحياء على باب مقبرة «حرخوف» الألفنتيني الموطن، الذي توغل في السودان في القرن السادس والعشرين ق.م، والذي يعتبر أكبر الرواد القدامى الذين جابوا مجاهل أفريقيا، وقد نحت قبره في الصخور الغربية المطلة على بلدة «أسوان» الحالية، حيث يمكن لأي سائح قوي الساقين أن يتسلقها لزيارة ذلك القبر. ومن بين ما نقشه على واجهة ذلك القبر قصة حياته المليئة بالمخاطرات، ومنها قوله: «كنت ... محبوبا من والده، ممدوحا من والدته، يحبه كل إخوته، ولقد أعطيت خبزا للفقير وملابس للعريان وعديت من لا قارب له. وأنتم أيها الأحياء الذين على وجه الأرض والمارون بهذا القبر، سواء أكنتم نازلين مع النهر أم صاعدين فيه، قولوا: ألف رغيف وألف إناء جعة (تقدم) لصاحب هذه المقبرة؛ وإني في مقابل ذلك سأشفع لكم في العالم السفلي؛ لأني إنسان مجهز «بالسحر»، وكاهن مرتل فمه على علم. وأما من يدخل هذا القبر مدعيا ملكيته الجنازية فإني سأقبض عليه كما يقبض على طائر بري، وسيحاكم على ذلك أمام الإله العظيم. وإني كنت إنسانا يقول الحسن ويردد المحبوب، ولم أنطق قط بأي شيء قبيح لرجل صاحب سلطان ضد أي إنسان، وقد كانت غايتي أن تكون حالتي حسنة أمام الإله العظيم، على أني لم أفصل بين أخوين بما يحرم ابنا متاع والده.»
صفحه نامشخص