والآن يجب علينا أن نبتدئ بتحديد أصل معتقد «أوزير» عن الحياة الآخرة بقدر ما نستطيع، ثم نقتفي بعد ذلك أثر سير الكفاح الذي لا يزال حتى الآن غير محدد بينه وبين ذلك اللاهوت السماوي العظيم الخاص بعقيدة الملك المتوفى، وهي التي فحصناها فيما سبق. وربما كان أعظم شيء في حياة سكان وادي النيل الأقدمين يكسبهم تقديرنا الخاص هو أن المذهب الأوزيري قد علق في الحال بعد بخيال الشعب ثم انتشر بين طبقاته، وبذلك أخذ يناهض المذهب الشمسي الذي كان يعتنقه رجال البلاط الملكي وكهنة الحكومة. ويتضح ذلك بوجه خاص فيما يتعلق بعقائد الحياة الآخرة التي ندرك من أدوار تطورها صبغ الديانة المصرية القديمة بالتدريج بالصبغة «الأوزيرية»، وبوجه خاص في التعاليم الشمسية عن الحياة الآخرة.
على أنه لا يوجد في أسطورة «أوزير» ولا في أخلاقه ولا في المتأخر من تاريخه ما يشعر بوجود حياة أخروية سماوية، بل إننا نذكر أنه لا يزال يوجد بعض نصوص واضحة لا يتطرق إليها الشك ترجع إلى عصور كان فيها «أوزير» يعتبر عدو الموتى الذين يعتنقون المذهب السماوي الشمسي، وهذه النصوص لا يزال في مقدورنا تعرفها بين متون الأهرام، وهي تشتمل على تعاويذ كان الغرض منها منع «أوزير» وأقاربه من دخول الهرم - وهو قبر شمسي - بقصد سيئ. وفيما قبل التاريخ كان مذهب «أوزير» (الذي كان في وقت ما مذهبا محليا في الدلتا) يحمل في ثناياه عقائد تقول بأن الحياة الآخرة ممقوتة يخشى شرها كما كانت في الوقت نفسه معادية للعقائد السماوية الخاصة بعالم الحياة الآخرة وما فيها من نعيم.
ولما هاجر «أوزير» من الدلتا إلى «أبيدوس» تصور القوم أن ملكه يقع في الغرب أو تحت الأفق الغربي، ومن ثم أخذ «أوزير» مكانه في العالم السفلي وأصبح ملكا على عالم الأموات تحت الأرض؛ وتلاحظ تلك الظاهرة حتى في متون الأهرام. وبلغ «أوزير» قمة فوزه بصفته رب مملكة الأموات السفلية.
ولما لم يكن في أسطورة «أوزير» ووظائفه ما يجعله يرتفع إلى السماء؛ فإننا كذلك نجد أن أبسط صيغ متون الأهرام لا تقول برفعه إلى عالم السماء، وتشتمل قصة المصير «الأوزيري» على صور متنوعة كالتي نجدها في اللاهوت الشمسي، ولكن الخضرة التي كان يمثلها «أوزير» تستمر بعد موتها، ولذلك كان من المحتم أن يبعث «أوزير» من بين الموتى أيضا، وكانت قيامته تعد فوزا على الموت وقوة لا يعدلها شيء في العقائد الجنازية المصرية القديمة. وكان من نتيجة ذلك أن الملك و«أوزير» قد أحدا، ولذلك كان الملك المتوفى يفعل كل ما كان يفعله «أوزير»؛ فكان يتسلم قلبه وأعضاءه كما فعل ذلك «أوزير»، أو كان يتحول إلى «أوزير» نفسه، وكان ذلك أحب معتقدات القوم في المذهب الأوزيري؛ أي أن يتحول الملك إلى «أوزير» ويقوم من الموت ثانية كما قام «أوزير» نفسه من الموت.
ويبدأ تأحيد الملك بأوزير عند ولادة الملك، وقد جاء وصف ذلك في متون الأهرام مشتملا على كل العجائب والمعجزات الخاصة بالمولد الإلهي، ولم يقتصر الحال على تقمص الملك شكل «أوزير» فحسب، بل إنه أحد معه تأحيدا تاما، وذلك ما نجده مدونا عن تلك العقيدة في متون الأهرام. ولذلك نرى «أوزير» نفسه تستحلفه الملوك على اختلاف أسمائها: «إن جسمك هو جسم هذا الملك «وناس»، ولحمك هو لحم هذا الملك «وناس»، وعظامك هي عظام هذا الملك «وناس»، وكما أنه (أي أوزير) يعيش فإن هذا الملك «وناس» يعيش، وكما أنه لا يموت فإن هذا الملك «وناس» لا يفنى.» وعلى هذا الفرض يتسلم الملك المتوفى عرش «أوزير» ويصير مثله ملك الموت: «هيا أيها الملك «نفر كارع» (بيبي الثاني)! ما أجمل هذا! ما أجمل هذا الذي صنعه لك والدك «أوزير»! إنه أعطاك عرشه، وأنت تحكم أولئك الذين في الأماكن الخفية (أي الموتى). إنك تقود الصالحين منهم ويتبعك كل الأجلاء.»
ولقد كان أسمى نفع نتج عن تأحيد الملك و«أوزير» أنه ضمن للفرعون المتوفى الخدمات الطيبة التي كان يقوم بتقديمها «حور» الذي يتمثل فيه البر البنوي لوالده «أوزير»؛ فقد صارت كل الرعاية الصالحة التي كان قد نالها «أوزير» يوما ما على يد ابنه «حور» من نصيب الملك المتوفى أيضا. وفي متون الأهرام مجموعة طويلة من الصيغ تشرح لنا تلك المناضلة التي قام بها «حور» ذلك الابن الشجاع لنصرة والده الملك المتوفى بصفته «أوزير»، ولكننا لا نكاد نجد في كل ذلك أثرا للمصير السماوي، ولا إشارة إلى ذلك المكان الذي حدث فيه ذلك النضال العنيف.
ومع أنه من الواضح أن كهنة عين شمس هم الذين صبغوا بادئ الأمر العقائد الجنازية بصبغة شمسية وسماوية، برغم أنها كانت في أول أمرها أرضية في أصلها وصبغتها، فإن هؤلاء الكهنة الشمسيين لم يكن في مقدورهم أن يقاوموا النفوذ القوي الذي نشأ من انتشار مذهب «أوزير» بين الشعب ، وانتهى الحال بأن صبغت متون الأهرام بصبغة «أوزيرية».
وإن التطور المستمر الذي نتعرف منه في ذلك البحث سير الكفاح بين المذهب الشمسي الذي كان متبعا في معابد الحكومة وبين المعتقدات الشعبية لديانة «أوزير»، كما يتضح من متون الأهرام، يعد من أهم ما بقي لنا من أخبار العالم القديم، فقد حفظ لنا حقا أقدم مثال للصراع الروحي والعقلي بين ديانة الحكومة وديانة الشعب، وذلك الصراع يسوقنا إلى موازنته بالكفاح الذي حصل فيما بعد في عهد الدولة الرومانية وهو اعتقاد الشعب في «عيسى» الذي رفع إلى السماء، وهو المذهب الشعبي من جهة، وبين عبادة الحكومة المنظمة لقيصر الذي كان يعتبر في نظر القوم أنه «الشمس التي لا تقهر» من جهة أخرى. ولا نزاع في أن الديانة المسيحية المبكرة قد حملت في ثناياها صدى ذلك الكفاح القديم الذي قام على ضفاف النيل بين الخضرة التي تحيا ثانية باستمرار وبين إله الشمس، فكان إله الخضرة [أي أوزير] البشري في نظر الشعب هو الذي استمال قلوبهم حتى إنه لم يكن في مقدور كهنة الشمس مع ما هم فيه من ثراء أن يقاوموا قوة ذلك الميل.
ويمكننا أن نتتبع سير عملية صبغ العقائد بالمذهب «الأوزيري» في متون الأهرام حسب النسخ التي نشرتها الكهنة من حكم إلى حكم خلال عهد خمسة ملوك متتالين تمثلهم خمسة أهرامات تحتوي على خمس نسخ مختلفة من متون الأهرام تختلف كل منها عن الأخرى في قراءتها. وقد يكون في إيراد بعض الأمثلة ما يظهر البرهان على ذلك، ويوضح سير عملية هذا التطور.
فالسلم الذي يؤدي إلى السماء كان في أصله عنصرا من عناصر المذهب الشمسي. والدليل على أنه لم تكن له أية علاقة بأوزير، يظهر بأمور؛ منها: أن إحدى الروايات الخاصة بقصة السلم تمثله في حيازة «ست» عدو «أوزير» التقليدي. ويمكننا اقتفاء صبغ قصة السلم بالصبغة الأوزيرية بسهولة في أربع روايات ذكرت عنه، وتلك الروايات في الحقيقة روايات مختلفة مأخوذة عن أصل واحد قديم، وتمثل هذه الروايات الأربع عصرا يمتد إلى نحو قرن من الزمان أو على أقل تقدير نحو 85 سنة، فيظهر أمامنا في أقدم هذه الروايات التي حفظت لنا أن السلم لا يظهر منه إلا جزء يسير والصاعد عليه هو فرعون نفسه. على أننا نجد أن قصة السلم قد تم تطورها بعد مضى جيل؛ إذ كان الصاعد الأصلي الأول عليه هو «آتوم» إله الشمس، ولكننا نجد أن الإلهتين «إزيس» و«نفتيس» الأوزيريتين قد ضمتا إلى القصة. وفي آخر رواية عرفت من هذه الروايات، وهي التي جاءت بعد الرواية الأولى في متون الأهرام بنحو 85 سنة، نرى أنه قد وضع في فم «إزيس» و«نفتيس» ذلك الترحيب الذي كانت ترحب به الآلهة القدامى عندما كانوا يشاهدون الفرعون صاعدا إلى السماء، وصار الصاعد هو «أوزير» نفسه، ومن ذلك نرى أن «أوزير» قد انتحل لنفسه الرواية الشمسية القديمة الخاصة بالسلم ونسب لنفسه المتن الشمسي القديم.
صفحه نامشخص