وسيكون في قدرتنا تتبع سير هذا المنهاج بأظهر بيان إذا ابتدأنا باستعراض ملخص تاريخي بسيط يكون بمثابة نظرة عجلى على مراحل تطور الرقي الأخلاقي عند المصريين الأقدمين. وجدير بنا؛ إذ وصلنا إلى هذا المكان، ألا ننسى الحقيقة المتفق عليها الآن وهي: أن الدين في طوره الأول لم تكن له علاقة بالأخلاق كما نفهمها الآن، كما أن المبادئ الأخلاقية الأولى لم تكن سوى عادات شعبية قد لا تكون لها علاقة بالشعور بالآلهة أو الدين. وقد كانت مظاهر الطبيعة أول ما أشعر المصري بوجود الآلهة، مثله في ذلك مثل الشعوب الأخرى القدامى؛ فكانت الأشجار والينابيع والأحجار، وقمم التلال، والطيور والحيوانات في نظره مخلوقات مثله أو مخلوقات حلت فيها قوى طبيعية غريبة لا سلطان له عليها، ومن ثم كانت الطبيعة أول مؤثر مبكر في عقل الإنسان، فوصف له العالم الظاهري أولا بعبارات دينية رهيبة، وصارت مظاهر الإلهية الأولى في نظره هي القوى المسيطرة على العالم المادي، فلم يكن في تصورات الإنسان القديم بادئ أمره معنى لمملكة اجتماعية أو سياسية، بل ولا معنى لمملكة روحية تكون السيادة العليا فيها للآلهة، وكان أبعد ما يتوهمه عباد إله من هذه الآلهة أن إلههم يحمل في نفسه فكرة الحق أو الباطل، أو أنه يرغب في وضع هذه المطالب على كاهل عباده الذين كانوا يرون من جانبهم أن غاية ما يطلبه إلههم منهم هو تقديمهم القرابين زلفى له كما كانوا يفعلون لرئيسهم المحلي سواء بسواء. على أن أمثال هذه الآلهة كانت في جملتها آلهة محلية كل منها معروف لدى منطقة معينة فقط، ولكن كثيرا ما كان يمتد الاعتقاد في إله ما إلى جهات بعيدة في العالم القديم بسبب الهجرة أو انتشار السكان.
وفي العهد الذي جاء بعد سنة 4000ق.م بدأت الحكومة؛ أي النظام السياسي الذي كانت البلاد تحكم به في عهد الاتحادين المتعاقبين، تحوز مكانة في أذهان القوم بجانب ما حازته دنيا المظاهر الطبيعية. وهذان الاتحادان اللذان يعدان أقدم ما عرف من الأنظمة القومية العظيمة في تاريخ الإنسان قد وضعا أمام أعين الناس صورا خلابة لمظاهر الحكومة، فكان لذلك على ممر الزمن أعمق أثر في الدين، ومن ثم بدأت المظاهر الحكومية تنتقل إلى عالم الإلهية حتى صار الإله العظيم يسمى في بعض الأحيان «ملكا».
وفي الوقت نفسه كانت علاقات الحياة الاجتماعية تؤثر تأثيرها في الدين من زمن بعيد أيضا، فوصلت دائرة حياة الأسرة إلى درجة سامية من الرقي تزينها العواطف الرقيقة التي أوشكت على التعبير عن مظاهر الرضى أو السخط، وأفضت إلى تصورات عن السلوك الحميد والسلوك المعيب. وبذلك بدأت المشاعر الباطنية «للضمير» تسمع صوتها للإنسان، ولأول مرة صار الإنسان يدرك القيم الأخلاقية كما نعرفها نحن الآن. وعلى ذلك أصبحت قوة الإنسان الظاهرة المنظمة، وقوة الوازع الخلقي الباطنة فيه، تؤلفان قوتين مبكرتين في تشكيل الديانة المصرية. وتدل المصادر التي وصلت إلينا على أن الوازع الخلقي قد شعر به المصريون الأقدمون قبل أن يوجد الشعور به في أي صقع آخر، فإن أقدم بحث عرف عن «الحق والباطل» في تاريخ الإنسان عثر عليه في ثنايا مسرحية «منفية» تشيد بعظمة مدينة «منف» وسيادتها، ويرجع تاريخها إلى منتصف الألف الرابع ق.م.
ويدل شكل هذه المسرحية بداهة على أنها بحث في أصول العالم ما بين ديني وفلسفي، وهي من تأليف طائفة مفكرة من الكهنة في المعابد المصرية، غير أن موضوعها لم يتناول ما كانت عليه حياة الشعب المصري بأسره في ذلك الحين، وسنرى كذلك كيف أن عامة الشعب أخذت بدورها فيما بعد تشعر بالوازع الخلقي الذي يصرفها في حياتها. وعلى ذلك يكون الشعور الخلقي قد انحدر تدريجا من طبقة أشراف رجال البلاط الملكي وطائفة كهنة المعابد إلى أشراف رجال الأقاليم أولا ثم إلى عامة أفراد الشعب ثانيا.
وقد ظهرت أقدم فكرة عن النظام الخلقي تجري على قواعد راسخة في عهد الاتحاد الثاني تحت سيطرة حكومية ثابتة، وهذا النظام كان يعبر عنه في اللغة المصرية القديمة بكلمة مصرية قديمة واحدة جامعة لها خطرها هي كلمة «ماعت»، ويراد بها الحق أو العدالة أو الصدق. وقد مكث هذا النظام راسخا مدة ألف سنة من القرن الخامس والثلاثين إلى القرن الخامس والعشرين ق.م. وقد كان لهذا النظام الأثر العميق في العقل البشري، فلما سقط هذا النظام في نهاية ألف السنة المذكورة حلت بالحياة البشرية كارثة تشبه الكارثة التي حلت بالمدينة الخالدة في أوروبا،
1
وغيرت نظر بني البشر نحو الحياة؛ إذ في فترة الضعف السياسي التي جاءت عقب سقوط هذا النظام بدأت القيم الخلقية الباطنة التي لا يمكن محوها تدرك من جديد بحالة واضحة أكثر من ذي قبل. ففي القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد كتب أحد ملوك «أهناس» (وهو مجهول الشخصية فيما عدا ذلك) لابنه وخلفه كتابا يذكر فيه ما للقيمة الخلقية من سمو المنزلة.
ولما أصبحت الأخلاق منبوذة أثر سقوط النظام الخلقي القديم، وتدهورت الفضيلة نفسها «ماعت» حتى صارت لا تدرك إلا بشعور خلقي أكثر حساسية عن ذي قبل، ظهر المجتمع الفاسد الأخلاق المنحل النظام الذي جاء بعد عصر الأهرام بشكل لا أمل في إصلاحه في نظر بعض فلاسفة الاجتماع الذي هالهم ما رأوه من تداعي ذلك النظام الخلقي القديم، ثم ظهر على أثر ذلك لأول مرة في التاريخ عصر التشاؤم وزوال الوهم، فإن رسل الاجتماع في ذلك الوقت رسموا لنا صورة بشعة عما كان موجودا من الفساد والفوضى في ذلك العهد، فأظهروها بعبارات مملوءة بالتهديد والتوعد، وبالغوا في وصف ذلك أيما مبالغة، حتى إنهم في إحدى الحالات وجهوا تلك التهديدات لشخصية الملك نفسه. غير أنه على الرغم من ذلك كان لا يزال هناك نفر من بين هؤلاء الحكماء المصريين ممن لم يفقدوا الأمل في الإصلاح، فقاموا بأول جهاد مقدس لإنقاذ العدالة الاجتماعية. ومن المدهش حقا أن كان المثل الأعلى لحكماء الاجتماع هؤلاء آخذا شكل رسالة التبشير بقدوم المخلص التي جاءت فيما بعد، وهي الاعتقاد بمجيء حاكم عادل يكون فاتحة عصر ذهبي لإقامة العدالة بين جميع بني البشر، وقد ورث عنهم العبرانيون هذا الاعتقاد فيما بعد.
وفي العهد الذي عادت فيه الحكومة المنظمة للبلاد وتقدم المجتمع الإقليمي في العهد الإقطاعي الذي ابتدأ قبل حلول عام 2000ق.م ظهر تأثير هذا الجهاد المقدس في شكل المطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتمثل ذلك في تصور نظام ملكي سمح أبوي رحيم يحمي المثل العليا للمساواة الاجتماعية. ولما كان عالم الآلهة لا يزال على اتصال وثيق بشئون الأمة السياسية، فإنها لم تلبث أن أحست بهذا التأثير الجديد، فانتقلت صفات العدالة الاجتماعية من وصفها للحكومة الملكية الفاضلة إلى صفات إله الدولة، فازدادت بذلك المزايا الخلقية التي كانت تنسب إلى حد ما للإله طوال مدة تربو على ألف سنة، فقد كان الإله في نظر أتباعه من زمن بعيد يعتبر «ملكا»، فأصبح الآن زيادة على ذلك «ملكا فاضلا» بالمعنى الاجتماعي، يريد من أتباعه أيضا أن يعيشوا عيشة فاضلة.
وإننا نجد الاعتقاد بوجود إله يهب الحياة للطيب ويقدر الموت للخبيث، واردا في «المسرحية المنفية» التي كتبت في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، أما فكرة المحاكمة في «الحياة الآخرة»، وقد أخذت تتحدد بوضوح مطرد امتد إلى ما بعد عام 3000ق.م؛ فلم تكن الفكرة في أقدم أشكالها تفترض حضور جميع الناس أمام المحكمة، إنما افترضت محكمة عدالة كالتي توجد على وجه الأرض يحضر أمامها الأفراد لإصلاح الخطأ، فكان في أول الأمر لزاما على الشخص المتهم فقط أن يحضر أمام المحكمة في «الحياة الآخرة» ليظهر براءة نفسه. على أن فكرة المحاكمة العامة نشأت في باكورة العهد الإقطاعي قبل عام ألفين قبل الميلاد، ثم أصبحت المحاكمة فيما بعد في أوائل عهد الدولة الحديثة (حوالي 1600ق.م) لا تقتصر على حصر تفصيلي لكل المخالفات الخلقية، وإنما صارت امتحانا خلقيا قاسيا، بل معيارا شاملا للقيمة الخلقية لحياة كل إنسان.
صفحه نامشخص