وهذه الروح الجديدة - في عصر إخناتون - التي استمدت إلهامها من جمال الطبيعة وفيضها، كانت كذلك ذات حساسية شديدة لحقيقة الحياة الإنسانية والعلاقات البشرية، دون تأثر بشيء من العرف أو التقاليد؛ إذ مثلت بدون تكلف أو تحفظ علاقات «إخناتون» الطبيعية البهيجة بأسرته، وظهر ذلك حتى فوق الآثار العامة، فقد عثر على تمثال صغير غير تام الصنع في مصنع أحد المثالين الملكيين «بتل العمارنة»، لم يقتصر فيه صانعه على تمثيل الملك جالسا وابنته الصغيرة فوق حجره وهو يضمها كما يضم الأب الملكي أميرة صغيرة، بل مثل الفرعون وهو يقبل ابنته الصغيرة كما يفعل ذلك أي والد معتاد. وليس من الصعب على الإنسان أن يتصور الحنق والهلع اللذين أثارتهما مثل تلك الصورة الملكية في شعور طائفة المحافظين على التقاليد في عصر «إخناتون»، وهم أولئك الأشراف من رجال التقاليد في البلاط الملكي الذين يرون وجوب تصوير الفرعون كما جرى تصويره من ألفي سنة في هيئة حضرة سامية جالسة في جلال جامد؛ أي في صورة شخصية رزينة مقدسة لا يشوبها أي مظهر من مظاهر المشاعر البشرية أو جهات الضعف الإنسانية. وقد بقي محفوظا لنا للآن ذلك الكرسي الجميل الذي جيء به من قصر «تل العمارنة» وأودع في مقبرة «توت عنخ آمون»، وهو مزين بمنظر يظهر فيه الملك الشاب جالسا في استرخاء بحالة تدل على التبسط وعدم التكلف؛ إذ نشاهد إحدى ذراعيه ملقى بها في استهتار فوق ظهر كرسيه، وأمامه الملكة الشابة الجميلة واقفة وفي يدها إناء صغير من العطور تصب منه برشاقة أنيقة بضع نقط من الطيب فوق ملابس زوجها الملك. ونجد ها هنا لأول مرة في تاريخ الفن منظرا موضوعه العلاقات الإنسانية، اتخذ فيه الفن المعبر الحياة الإنسانية موضعا لبحثه. وهذان مثلان فقط من بين الأمثلة العديدة التي يمكن ذكرها للاستدلال على شخصية «إخناتون» القوية، واستعداده لطرح قيود التقاليد بغير أدنى تردد في سبيل تأسيس عالم من الأشياء على حقيقتها الفطرية السليمة.
ولذلك نرى من المهم أن نلاحظ أن «إخناتون» كان رسولا لكل من عالمي الطبيعة والحياة الإنسانية، فكان مثله في ذلك مثل «عيسى» استقى دروسه من سوسن الحقل وطيور الهواء وسحب السماء من جهة، ومن المجتمع الإنساني الذي يحيط به من جهة أخرى، كما يتمثل في مثل قصة «الابن المبذر»
15
أو «الطيب السامري»
16
أو «المرأة التي أضاعت قطعة نقودها».
17
وعلى ذلك النمط استقى ذلك الرسول المصري القديم الثائر تعاليمه من التأمل في مشاهد عالمي الطبيعة والحياة الإنسانية معا.
ومع أن الفن المعبر عن تلك الحركة الثورية التي كان زمامها في يد «إخناتون» قد وجد مرتعا جديدا في حياة الإنسانية، فقد كان هناك شيء كثير لم يكن في مقدور «إخناتون» أن يتجاهله من التجاريب المصرية عن المجتمع البشري، فقد قبل «إخناتون» عن طيب خاطر المذهب الشمسي الموروث الذي ينطوي على نظام خلقي عظيم، وإذا كنا قد خصصنا في هذا المختصر التاريخي للأخلاق عند قدماء المصريين جزءا لا بأس به عن «عقيدة التوحيد» الإخناتونية الثورية، فما ذلك إلا لأن تلك الحركة التوحيدية هي ذروة التقدير القديم للنظام الخلقي الذي نودي به على لسان المفكرين المصريين القدماء الذين عاشوا في عهد الأهرام وأسسوا مملكة عظيمة من القيم الخلقية العالمية التي تتمثل في تلك الكلمة الشاملة الجامعة «ماعت» (العدالة) التي أوجدها إله الشمس في «هليوبوليس»، وقد بني هذا التوحيد الجديد على أسس ثلاثة:
أولها:
صفحه نامشخص