وقد صارت ألفاظ تلك الرقية فصلا مستقلا من فصول كتاب الموتى عنوانه: «فصل لمنع قلب الرجل من معارضته له في العالم السلفي».
وكانت مناظر المحاكمة في الآخرة ومتن إعلان البراءة تنسخ بكثرة على صفحات البردي، يقوم بنسخها الكتبة ثم تباع لكل الناس، ولا يكتب اسم المتوفى في هذه النسخ، بل يترك مكانه خاليا ليملأه المشتري بعد حصوله على تلك الوثيقة.
وكانت كلمات الحكم التي تعلن أن المتوفى قد فاز في المحاكمة وبرئ من كل شر تدون في كل بردية من تلك الصحف. وعلى ذلك كان في إمكان كل إنسان مهما كانت أخلاقه في الحياة الدنيا أن يستولي من الكتبة على شهادة تقول بأن فلانا - الذي ترك مكان اسمه خاليا - كان رجلا فاضلا (يعني من قبل أن يعرف من سيكون فلانا هذا).
وقد كان في مقدور الميت أن يحصل حتى على صيغة سحرية شديدة القوة والتأثير لدرجة تجعل «إله الشمس» - الذي يعتبر القوة الحقيقية الكامنة وراء تلك المحاكمة - يسقط من سماواته في النيل إذا لم يخرج ذلك الميت بريء الساحة تماما من محاكمته.
وبذلك نجد أن أقدم انتشار للأخلاق الفاضلة أمكننا تتبعه في حياة الإنسان القديم، قد توقف فجأة، أو على الأقل قد صدم صدمة عنيفة، بتلك الحيل الممقوتة التي كان يستعملها أولئك الكهنة الدجالون جريا وراء الكسب.
ولسنا في حاجة إلى بيان ما أدى إليه تدخل السحر في ذلك الشأن الديني من الخلط بين العوامل الحقيقية وغير الحقيقية، وذلك الارتباك هو بعينه ما كان ينتج قديما من عجز الإنسان عن فهم الفرق بين «ما يدخل في نفس الإنسان» وبين «ما يخرج منها».
فتلك البراءة التي تصدر صدورا آليا بعوامل خارجية لتنجية الإنسان من العقوبات التي مصدرها من الخارج، لا يمكن - بطبيعة الحال - أن تزيل الأضرار التي نشأت في باطن الإنسان، وإن الإيحاء الباطني، الذي كان يحس به المصريون الأقدمون أكثر من أية أمة أخرى في الشرق القديم، والذي بنيت عليه كل فكرة عن الحساب الخلقي العسير في عالم الآخرة، لا يمكن محوه بمثل تلك الوسائل الخارجية التي ابتدعها لهم السحر، ولا بد أن الاعتقاد العام الذي سرى في الاعتماد على مثل تلك الحيل، للفرار من المسئولية الخلقية عن حياة مرذولة، قد سمم حياة الشعب الفطرية.
ومع أن كتاب الموتى يكشف لنا أكثر من أي مصدر قبله في تاريخ مصر عن صيغة المحاكم الخلقية في عالم الآخرة وكيفيتها وتوخي المصريين الحقيقة في تصوير المسئولية الخلقية، فإنه كذلك مظهر لمدى انحطاط المبادئ الخلقية في ذلك الوقت، بل إنه بتحول كتاب الموتى إلى سلاح لضمان البراءة الخلقية في عالم الآخرة بدون مراعاة لقيمة أخلاق الشخص نفسه قد صار قوة إيجابية مفسدة.
ويزيد من شر هذا الإنتاج الكهاني (أي كتاب الموتى) أنه ينتظم طائفة من الرقى والتعاويذ السحرية التي يعتقد فيها القوم القدرة على جلب ما يرضي الميت من الحاجات المادية والجثمانية في عالم الآخرة.
وقد ازداد عدد تلك الرقى في عهد الدولة الحديثة، وكان لكل منها عنوانها الدال على ما تؤديه للميت من الأعمال. وقد تكون من هذه الرقى السالفة الذكر، مضافا إليها بعض الأناشيد الدينية القديمة في مديح «رع» و«أوزير» مما كان بعضه ينشد أمام الجنائز، ويحتوي عادة على بعض البيانات عن الحساب في الآخرة، مجموعة كانت تدون إذ ذاك بصفتها متونا جنازية على صحف من البردي وتوضع مع الميت في قبره، وهذه الأوراق البردية هي التي صارت تعرف - عندنا عادة - باسم كتاب الموتى.
صفحه نامشخص