فهم فهم: مدخل به هرمنوتیک: نظریه تأویل از افلاطون تا گادامر
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
ژانرها
إهداء
مقدمة
1 - طبيعة هرمس وطبيعة الهرمنيوطيقا
2 - الاستخدام القديم ودلالته الحديثة
3 - تعريفات حديثة للهرمنيوطيقا
4 - كلادينيوس: الهرمنيوطيقا في عصر التنوير
5 - شلايرماخر
6 - دلتاي
7 - هسرل: ما الفينومينولوجيا؟
8 - هيدجر
صفحه نامشخص
9 - جادامر
10 - معارك حول التأويل
11 - هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية
12 - مدرسة الارتياب
13 - بول ريكور
إهداء
مقدمة
1 - طبيعة هرمس وطبيعة الهرمنيوطيقا
2 - الاستخدام القديم ودلالته الحديثة
3 - تعريفات حديثة للهرمنيوطيقا
صفحه نامشخص
4 - كلادينيوس: الهرمنيوطيقا في عصر التنوير
5 - شلايرماخر
6 - دلتاي
7 - هسرل: ما الفينومينولوجيا؟
8 - هيدجر
9 - جادامر
10 - معارك حول التأويل
11 - هابرماس: الهرمنيوطيقا النقدية
12 - مدرسة الارتياب
13 - بول ريكور
صفحه نامشخص
فهم الفهم
فهم الفهم
مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
تأليف
عادل مصطفى
إهداء
إلى روح العقاد
ليس العقاد عندي كاتبا كغيره من الكتاب وإن فاقهم قامة وصعد.
إنه قدوتي المستحيلة، ووهمي العملي،
إنه أبي في التفكير والفعل والضمير،
صفحه نامشخص
إنه خاصتي!
وإذا كنت أفتقده افتقاد الأب فأنا أمتلكه امتلاك البنوة.
عادل مصطفى
مقدمة
ليست هناك حقائق، هناك فقط ... تأويلات.
نيتشه
الهرمونيوطيقا (نظرية التأويل) هي المبحث الخاص بدراسة عمليات الفهم، وبخاصة فيما يتعلق بتأويل النصوص،
1
وليس من قبيل المصادفة أن يصدر هذا الكتاب في هذا المنعطف الفاصل الذي نمر به، ونشهد فيه سقوط «العقل القديم»، ولما ينبت لنا «عقل جديد» نعيش به ونعيش فيه، يسقط «العقل القديم» لانتفاء الوظيفة، سقوطا طبيعيا صحيا، مثلما تسقط عن الطفل أسنانه اللبنية، وما نزال ننظر إلى كل «عقل جديد» بتوجس وريبة؛ لأننا نجهله، والمرء عدو ما يجهل، في هذه المرحلة التي نعيد فيها ترتيب أوراقنا وصياغة أنفسنا والبحث عن هويتنا الحقيقية، وإعادة قراءة هذه الهوية كنص عصي ملغز مستغلق؛ في هذه المرحلة البينية الرمادية تلح دراسة التأويل إلحاحا، وتكاد تكون ضرورة بقاء. •••
نحن نعيش في العالم: في التاريخ، في العيان، في «الشهادة»، ولسنا نعيش في كون آخر، وكل معنى إنما هو معنى متعلق بوجود تاريخي عيني محدد، معنى مرتبط ب «تاريخية» معينة، منسوب لها، محمول عليها، مسند إليها.
صفحه نامشخص
ويشتمل وجودنا ككائنات على موقفنا وموقعنا، وعلى أدوات في متناول أيدينا نتناول بها العالم ونفصح عنه، وعلى «فهمنا المسبق» للعالم.
ونحن نتشارك في العالم ونتقاسمه من خلال «رموز» عامة أو «علامات مشتركة»، ومن المتعذر أن نشارك أي شخص واقعه إلا من خلال «وساطة» عالمنا الرمزي - أي من خلال «نص» من صنف ما، ولكل «نص
Text » سياق
Context
أو سياقات في واقع الأمر، ومن جهة أخرى، وعلى حد قول جادامر في «الحقيقة والمنهج» فإنه «بفضل الطبيعة اللغوية لكل تفسير (تأويل) فإن كل تفسير ينطوي على إمكان نشوء علاقة مع الآخرين، فما من قول أو حديث إلا وهو يربط بين المخاطب والمخاطب»، عندما يفهم المرء شخصا آخر فإنه يتمثل قوله حتى ليصبح هذا القول قول المرء نفسه، ويعيش أطول أمد ممكن في سياقات المرء ورموزه.
وعالمنا الرمزي ليس منفصلا بأية حال عن وجودنا، وبخاصة عالمنا اللغوي: نحن لغة؛ بمعنى أن ما يميزنا كأشخاص هو أننا موجودات واعية بذاتها، أي إن بوسعها أن تعرف نفسها رمزيا وأن تنعكس على نفسها تأمليا، «اللغة تقول الإنسان» (هيدجر)، نحن لسنا موجودات تستخدم الرموز بل موجودات مشيدة بهذا الاستخدام مجبولة به، يترتب على ذلك أن كل خبرة هي قابلة للإفصاح من حيث المبدأ، قابلة للتجسد الرمزي، فهي تجلب لنا إلى الوجود من خلال تمثلها الرمزي، وكما لاحظ بول ريكور في «الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا» - ف«أن تجلب الخبرة إلى اللغة ليس تغييرا لها إلى شيء آخر، بل أنت بنطقها وإنمائها إنما تجعلها تصبح ذاتها.» ويترتب أيضا أن الوجود والمعنى، بالنسبة للموجودات البشرية، هما على نفس المكانة وبنفس المنزلة رغم أن الترميز (أو الدلالة) لا يستنفد الخبرة كلها، لا يقولها بأكملها.
ورغم أن الخبرة تمثل لنا من خلال «الدلالة»
Signification
فإن الخبرة ليست مجرد لغة أو مجرد أنساق دالة بصفة عامة، الخبرة سابقة على عملية الدلالة، وإن تكن الدلالة هي التي تأتي بالخبرة إلى حيز المعنى، وفي حين أن الدلالة تجعل الخبرة تصبح ذاتها فإن هناك فائضا من المعنى للوجود، إنه فائض يروغ من النطق ويفلت من شبكة اللغة، ومن ثم فهناك دائما شيء «بين السطور»، شيء «على طرف اللسان»، شيء لا يقال ويوشك أن يقال، وهناك دائما حاجة إلى «الاستعارة»
Metaphor
صفحه نامشخص
و«الصورة»
Image
و«السرد»
Narrative
و«الاشتراك اللفظي»
... إلخ، نحن «وجود في العالم»، على قول هيدجر، هذه ظاهرة معقدة متعددة الجوانب، غير أن العالم «يرجأ» دائما لا يستنفده ترميزه، ثمة دائما «فائض من المعنى» يهيب بك أن تطاله ... أن تقوله.
والوعي هو دائما «وعي ب»، الوعي «يقصد» ويتجه إلى شيء ما، ولديه «موضوع» ما، الوعي «متعد»
transitive ، إن صح التعبير، الوعي دائما «وعي بموضوع ما»، هذه «القصدية»
intentionality
هي في القلب من عملية المعرفة، نحن نعيش في المعنى.
صفحه نامشخص
نعيش «نحو» شيء ما، وفي توجه إلى الخبرة، ومن ثم فهناك بنية قصدية في النصية والتعبير، وفي معرفة الذات وفي معرفة الآخرين، هذه القصدية هي أيضا مسافة: الوعي ليس في هوية مع موضوعاته، بل هو يقصد إلى موضوعاته ويراودها.
وحيث إن الوعي بالذات، وكذلك الوعي بالآخر، أمر قصدي، فإن هذا يعني أن في قلب الوجود وصميمه ثمة مسافة: هذه المسافة قد يقال لها «الدلالة»
Signification ... تصنيع الخبرة.
الوعي الذاتي فعل ثقافي، والثقافة فعل شخصي، وفي هذا يقول ريكور: «من ناحية، يمر الفهم الذاتي خلال منعطف فهم العلامات الثقافية التي فيها توثق النفس ذاتها وتشكلها، ومن الناحية الأخرى فإن فهم النص ليس غاية في ذاته، إنه يتوسط علاقة المرء بذاته، المرء الذي لا يجد في دائرة التأمل المباشر معنى حياته الخاصة؛ لذا لا بد أن نقول بنفس القوة: إن التأمل ليس شيئا بدون وساطة العلامات والأعمال (الفنية، الأدبية ... إلخ) وأن التفسير ليس شيئا إذا لم يكن مندمجا كحالة وسطى في عملية الفهم الذاتي، وباختصار: في التأمل الهرمنيوطيقي - أو في الهرمنيوطيقا التأملية - فإن تشكيل «النفس» يكون متعاصرا مع تشكيل «المعنى»» (بول ريكور: ما هو النص).
وفي علاقة الثقافة بالنفس يقول جادامر: «بزمن طويل قبل أن نفهم أنفسنا من خلال عملية التفحص الذاتي، فإننا نفهم أنفسنا بطريقة بديهية في الأسرة والمجتمع والدولة التي نعيش فيها، إن بؤرة الذاتية هي مرآة غير أمينة، وإدراك المرء لذاته لا يعدو أن يكون بصيصا ضئيلا في الدوائر المغلقة للحياة الاجتماعية، هذا هو السبب في أن تحيزات الفرد تشكل الواقع التاريخي لوجوده.»
لكي «يفهم»
understand
المرء ينبغي أن «يفهم سلفا»
fore-understand
أن يكون لديه موقف، استباق، سياقية، هذا هو ما يعرف ب «دائرة الهرمنيوطيقا»: فالمرء لا يسعه أن يعرف إلا ما هو مؤهل لمعرفته، يمكن أن نعد دائرة الهرمنيوطيقا عملية تضييق فطري وتعمية ذاتية لا تسمح للمرء بأن يعرف إلا ما هو مؤهل لمعرفته، وبحسب النظرية التأويلية الفينومينولوجية فإن دائرة الهرمنيوطيقا ليست مغلقة بل مفتوحة، وذلك بفضل الطبيعة الرمزية والتأملية الذاتية لوجودنا.
صفحه نامشخص
في معرض تفسيره لهيدجر يتناول جادامر في «الحقيقة والمنهج» مسألة المعرفة المسبقة في مواجهتنا مع النصوص، فيقول بأننا لا يمكن أن نقرأ النص إلا بتوقعات معينة، أي بإسقاط مسبق، غير أن علينا أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة باستمرار في ضوء ما يمثل هناك أمامنا، وبإمكان كل مراجعة لإسقاط مسبق أن تضع أمامها إسقاطا جديدا من المعنى، ومن الممكن أن تبزغ الإسقاطات المتنافسة جنبا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحا، ويتبين كيف يمكن أن تترابط الرموز والعالم.
هذه العملية الدائمة المستمرة من الإسقاط الجديد هي حركة الفهم والتأويل، وعلى المؤول لكي يبلغ أقصى فهم ممكن ألا ينخرط فحسب في هذا الحوار مع النص، بل أن يفحص على نحو صريح منشأ المعنى المسبق الذي بداخله ومدى صحة هذا المعنى، يقول جادامر: «وإدراك أن كل فهم لا بد له من أن يشتمل على بعض «التحيز»
أي «المعنى المسبق»
Fore-meaning
هو ما يمنح مشكلة الهرمنيوطيقا زخمها الحقيقي.» وجدير بالذكر أن جادامر يعتبر سعي «التنوير» إلى التخلص من كل التحيزات هو نفسه تحيزا! (تحيزا ضد التحيز!) إنه تحيز يحجب عنا تاريخيتنا الجوهرية وتناهينا الصميم.
إن المرء لا يمكنه أن يعرف العالم إلا من خلال الفهم المسبق، غير أن العالم من حيث هو عيني ويتجاوز ترميزنا له، يحملنا على مراجعة أفهامنا المسبقة، والخبرة التأويلية، اللقاء بالآخر، الإصغاء إلى «صوت الآخر»، انصهار الآفاق، ذلك الانصهار السياقي التاريخي، رغم أنه انصهار لغوي، هو ما يتيح لنا الهروب من سجن اللغة.
يترتب على ذلك أن المرء إنما يقرأ، إذ يقرأ، بجمع حضوره، ذلك أن فهم المرء المسبق هو كل الحضور: القراءة ليست عملية «عقلية»
Rational ، بل استنفار لكامل نطاق الممارسات الخاصة بالمعنى، عندما يقرأ المرء فإنه يراجع مرارا وتكرارا فهمه المسبق وحسه بموقفه الخاص قبالة النص.
ثمة حد لعالمنا الخاص، لواقعنا المدرك، ليس بمقدورنا أن نتجاوزه، ثمة «أفق»
Horizon
صفحه نامشخص
ليس بوسعنا أن نرى وراءه، و«الأفق» هو مجال الرؤية الذي يشتمل على كل ما يمكننا رؤيته من منظورنا الخاص، هو مقولات الفهم المتاحة لنا، والتي نرى بها وبقدرها ولا نملك أن نرى أبعد منها. وللنص نفسه، بما هو بنية رمزية قصدية، أفقه الخاص، أي نطاق المعارف عن العالم التي كتب النص في ظلها، هذا الاختلاف في الآفاق سيكون محط اهتمام النظرية التأويلية الثقافية والتاريخية.
يلتقي أفق القارئ بأفق النص، القارئ يقرأ بفهمه وبأطره المرجعية، ولكن ما يقرؤه هو بناء له عناصره ودقائقه وعلاقاته التي تحكمها آفاق الزمن الذي كتب فيه، القراءة إذن موثوقة بالنص وتاريخيته، كل قراءة هي محض تأويل ... دخول تاريخية القارئ في تاريخية النص، ليست هناك قراءة دائمة، هناك فقط قراءة تاريخية، ليس هناك معنى دائم أو مثالي، هناك فقط معنى وجودي، أي المعنى كما يبزغ خلال فهم القارئ التاريخي للنص التاريخي، ونحن حين نستخدم كلمة «تاريخي» إنما نريد أن نذكر بأن النفس كيان ثقافي، وأن المعنى هو شيء ثقافي مشيد (وإن لم يكن مستنفدا) بالعلامات
signs ، وأن آفاق المرء يحددها الوجود الثقافي للمرء، وأن العالم بطبيعته متغير وقابل للتغيير.
يجسد النص «أسلوب» المؤلف، بصمته الشخصية وختمه الفردي، فهمه الشعوري واللاشعوري للعالم وتوجهه فيه، وتلك المنطقة التي تشغله والتي تعرف (بالمعنى الفينومينولوجي الأوسع) بالقصدية، ومن المحتم أن أسلوب المؤلف، ووجوده لذاته بالمعنى السارتري، سيكون أيضا أمرا ثقافيا، حيث إن الدلالة هي جلب ثقافي للخبرة وإبراز لها إلى حيز الوجود.
ووظيفة الشكل هي أن يفتح النص للحوار، فالشكل هو طريقة تشييد العالم الرمزي بحيث تكون هناك مشاركة، ينسحب ذلك أيضا على «الجنس الأدبي»
Genre
وعلى التيمات التراثية المحورية برموزها وعلاقاتها المميزة، وكما يقول فالديس
Valdes
في «الهرمنيوطيقا الفينومينولوجية ودراسة الأدب»، فإن النص يتكون من: الشكل، والتاريخ، وخبرة القراءة، والتأمل الذاتي للمؤول.
وقد أضاف يورجين هابرماس مسحة سياسية إلى مشكلة الفهم التاريخي، من حيث إن تجسد الفهم في النص قد ينطوي على تحريف مترسب، وتواصل مشوه تشويها منظما، إن آفاق المرء نفسه قد تشتمل على رواسب ثقيلة من الظلم لا يعرفها ولا يعترف بها.
صفحه نامشخص
يرى جادامر أن فكرة استعادة المعنى التاريخي هي خرافة قائمة على إغراق مثالي، لقد اقتطع النص من سياقه الأصلي وانغمد في سياق غريب عنه خلال فعل القراءة، ولا سبيل إلى استعادة المعنى الأول أو تعافي المعنى الأصلي؛ وذلك لتدخل المشكلات التالية:
أين يبدأ ما هو معاصر للنص وأين ينتهي؟
كيف يمكننا أن نفصل بين ذلك الشيء المكون للنص والذي هو تاريخي بالنسبة إليه (أي سابق على الموقف المعاصر للنص) وبين ذلك الشيء المعاصر للنص فحسب؟
كيف يمكننا أن نتيقن من معرفتنا في أية حالة؟
يبدو أن تعافي المعنى الأصلي هو، في كثير من الأحيان، وهم وضلال وغاية لا تدرك، فالمعنى الأصلي قد مضى «في ذمة نفسه!» ... تبدد فور انبثاقه ولم يبق منه إلا تأويله! إنه كذكر النحل الذي يموت فور الإخصاب، يموت فور التقائه بحقيقته، لا يحكم «الأصل» إلا يوما واحدا يخلع بعده ويصبح سبيا للحاكم الأبدي الفعلي، التأويل.
ليست هناك حقائق، كما يقول نيتشه، هناك فقط تأويلات، والإنسان هو ذلك «الحيوان التأويلي» الذي يفهم نفسه وفقا لتأويل ميراث وعالم مشترك تسلمه من الماضي، ميراث حاضر وناشط دائما في أفعاله وقراراته، غير أننا، بنزغ مثالي عتيد، نظن أننا نعيش في الحقائق، ويصر كل منا على أن عقله يحتكر الحقيقة، وعلى أن الحقيقة قد وقعت في غرام عقله بخاصة، وأقامت في «سياقه» بالذات، وقلما نتفطن إلى أننا نعيش في عالم من التأويلات التي تتضارب أمام أعيننا، فتثير غبارا حينا، وتسيل دماء في كثير من الأحيان.
ورغم أن «فهمنا المسبق»، كما أكد هيدجر وجادامر، هو أداتنا وعدتنا للفهم، فنحن نصادر به ولا نريد أن نصهر أفقنا بأفق النص، ولا نريد أن ندخل في حوار صادق مع النص، لا نريد أن نصغي إلى «صوت الآخر»، لا نريد أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة في ضوء ما يبزغ أمامنا في عملية القراء، وبذلك نتصلب عند فهمنا المسبق لا نعدوه، ولا نقرأ النص قراءة حقيقية، بل نخرس النص ونفرض عليه ما ليس فيه، وتظل رواسب سوء الفهم تتراكم عبر السنين، بانتظار «هيدجر جديد» يعيد صقل الكلمات حتى يشع بريقها الأصلي من جديد، هكذا يفوتنا مغزى النص ورسالته وبلاغه، ويشيح عنا النص وقد وجدنا غير جديرين بهديته.
آفة المذاهب جميعا هي أنها تتحول على يد التابعين وتابعيهم إلى أصنام مفرغة من الروح، وقوالب صفيقة هجرتها معانيها الأصلية ومقاصدها الأولى، وسكنتها عناكب الجمود وأفاعي التعصب، بحيث لو عاد مؤسسوها إلى الحياة لجهلهم السدنة الجدد وما عرفوهم، ورأوهم ناشزين منشقين، وأعادوهم ثانية إلى الموت.
عادل مصطفى
الكويت في 15 / 4/ 2003م
صفحه نامشخص
الفصل الأول
طبيعة هرمس وطبيعة الهرمنيوطيقا
تأتي كلمة «هرمنيوطيقا» من الفعل اليوناني
Hermeneuein
ويعني «يفسر»، والاسم
Hermeneia
ويعني «تفسير»، ويبدو أن كليهما يتعلق لغويا بالإله «هرمس»
Hermes
رسول آلهة الأولمب الرشيق الخطو الذي كان بحكم وظيفته يتقن لغة الآلهة، ويفهم ما يجول بخاطر هذه الكائنات الخالدة، ثم يترجم مقاصدهم، وينقلها إلى أهل الفناء من بني البشر، ويذكر كل من اطلع على الإلياذة والأوديسا أن هرمس كان ينقل الرسائل من زيوس - كبير الآلهة - إلى كل من عداه وبخاصة من جنس الآلهة، وينزل بها أيضا إلى مستوى البشر، وهو إذ يفعل ذلك فقد كان عليه أن يعبر البون الفاصل بين تفكير الآلهة وتفكير البشر.
وتقول الأساطير: إن هرمس كان لديه خوذة سحرية (طاقية هاديس) تجعل خفيا عن الأعين، وتمكنه من أن يظهر فجأة وقتما يشاء، وكان لديه خفان مجنحان لكي يحملاه بسرعة عبر المسافات الطويلة، وعصا سحرية يمكنه أن ينيم بها من يشاء ويوقظ، فهو لا يعبر المسافات الفيزيائية والفجوات الأونطولوجية بين الآلهة والبشر فحسب ، بل إنه ليجتاز البون بين المرئي والمحجوب، وبين اليقظة والمنام، وبين الوعي واللاوعي، إنه الإله الزئبقي (عطارد الرومان) للخواطر الشاردة والإلهامات والبصائر المفاجئة، وهو أيضا لص، بل هو إله السرقة وقطع الطريق وضربات الحظ، وكان هرمس أيضا إله مفارق الطرق والتخوم حيث تتراكم الصخور
صفحه نامشخص
Herms
لإجلاله، ولم يكن يقام مذبحه في الأزمنة القديمة إلا في الطرق البعيدة والسبل المنقطعة، وهرمس هو مرشد الأرواح إلى العالم السفلي، ومن ثم، فهو يعبر الخط الفاصل بين عالم الأحياء وعالم الموتى، بين العالم الأرضي والعالم السفلي (هاديس)، إنه بحق إله الفواصل والفجوات، إله التخوم وأعتاب كل شيء.
ومهما تكن شكوكنا حول صحة الصلة الإتيمولوجية بين الهرمنيوطيقا وهرمس، فإن الصلة بين خصائص الهرمنيوطيقا وخصائص الإله هرمس هي صواب مؤكد ويقين لا شك فيه، فالهرمنيوطيقا «هرمسية» قلبا وقالبا، من حيث هي «فن الفهم وتأويل النصوص»، ورغم أن مفهوم الهرمنيوطيقا قد اتسع في القرن الثامن عشر والقرن العشرين ليشمل مناهج فهم النصوص الدينية والدنيوية على حد سواء، فإن اللفظة قد بقيت توحي بمعنى التفسير الذي يضطلع بكشف شيء ما خبيء ومستور وسري، شيء مضمر باطن في قلب النص يند عن الفهم العادي والقراءة المعهودة، لقد كانت النصوص القديمة غريبة على المحدثين غرابة مزدوجة: فهي قديمة تاريخيا، وهي في لغة مختلفة، ولم يكن خفيا على وعي المفسر وهو يستغرق في تأمل نص عبري أو يوناني أو لاتيني أنه يدلف إلى كيان معرفي مختلف، وأنه يقوم بوساطة بين دنياوين، ويقف جسرا بين عالمين: عالم غامض مستغلق معتم هو عالم النص، وعالم واضح المعالم محدد القسمات كثيف الإضاءة مبذول المعنى هو عالمنا القائم الذي نعيش فيه ونألف ملامحه ونجول في كنفه.
وهرمس هو بالضبط ذلك الوسيط: فهو المراسل فيما بين «زيوس» وبين البشر الفانين، يعبر هذه العقبات الأنطولوجية بسهولة ويسر، وهو، وفقا للأسطورة، لص شهير يعبر أيضا عتبة الشرعية دون تأنيب ضمير، وهو رب الأحلام ووسيط بين اليقظة والحلم، بين النهار والليل، تخفيه خوذته المسحورة وتظهره وقتما يشاء، وهو رب التأويب يتسربل بالليل، ورب الرقاد بيده النوم وبيده اليقظة، إنه دائما على الأعتاب، الأطراف، الهوامش، الحوافي، التخوم، المفارق، وحتى شهوته لم تكن موجهة للإخصاب أو لتأسيس أسرة، بل هو شهوة أفروديتية مختلسة مسترقة دون نظر في العواقب.
يبدو، في رأي الأنثروبولوجي «فيكتور تيرنر»، أن اتخاذ موقف هرمسي والنظر من المنطقة الحدودية هو ما يتيح لكبار الفنانين والكتاب ونقاد المجتمع رؤية تتجاوز الأشكال الاجتماعية، وتسمح لهم أن يشهدوا المجتمع من خارج وأن يبلغوه رسالة مما وراءه، هذا الموقف الحدي أو الحالة البينية، أو هذا المقام في «الصدع ما بين العوالم» على حد تعبير كارلوس كاستانيدا، هو مصدر لكل من الإبداع والنقد؛ نقد الصور السائدة من الفكر والوجود، وبتعبير آخر يمكننا القول بأن هذه القدرة على الانفصال عن الوسط الاجتماعي للحكم عليه، أو الانسلاخ عن «الثقافة» المحيطة لرؤيتها وجعلها «موضوعا» للنقد والتقويم، هي قدرة لا يتحلى بها إلا القلة من المبدعين والمصلحين، فالخروج من أقطار العالم الثقافي الذي نشأ المرء في كنفه، وانغمر في قلبه، هو رحلة شاقة وسفر طويل ومهمة «هرمسية» صميمة.
في كتابه «في الطريق إلى اللغة» يتناول هيدجر الصلة الوثيقة بين معنى الهرمنيوطيقا وبين شخصية هرمس، فيقول: إنه لمما يحمل أعمق المغزى وأبلغ الدلالة أن هرمس هو رسول الآلهة، وليس مجرد رسول بين البشر بعضهم وبعض، ذلك أن الرسالة التي يحملها هرمس ليست رسالة عادية، إنه يحمل الخبر الصاعق والنبأ الجلل. التأويل في أسمى معانيه هو أن تكون قادرا على فهم هذه الأنباء المقدورة، بل أن تفهم قدرية الأنباء، أن تؤول هو أن تستمع أولا، وعندئذ تصبح أنت نفسك رسول الآلهة، تماما مثلما يفعل الشعراء، كما يقول أفلاطون في محاورة أيون، من قدر الإنسان حقا أن يتخذ موقفا تأويليا من وجوده الخاص، ومن قدر البشر، بقدر ما يكونون بشرا حقيقيين، أن يستمعوا إلى الرسالة ... أن يصغوا إليها وينتموا إليها بوصفهم بشرا.
في هذه الفجوة، هذه الفاصلة، منطقة الإفضاء؛ يقف الإنسان فيتكشف له شيء ما، ويأتي نحوه حاملا الحضور والشيء الحاضر معا في آن. على الإنسان هنا ألا يفعل بل ينفعل، ألا يتكلم بل يصغي، ألا يفسر بل يفهم الشيء الذي أسفر عن نفسه، لا يصبح الإنسان «هرمسا» بحق، أي حامل رسالة، إلا لأنه أولا وقبل كل شيء فتح كيانه كله لعملية «التجلي»
Unconcealment
الإنسان هو حامل الرسالة التي ألقى بها إليه هذا التجلي المزدوج.
إن الشيء المثير والمهم في هذا الوصف الهيدجري للتأويل هو أنه يعود بنا وراء تكنيك التفسير إلى لحظة أكثر بداءة، لحظة سابقة على أشكال فكرنا الحاضرة؛ لكي نعي شيئا جوهريا، يحاول مثل هذا التأويل أن يدخل في حوار ودي وأساسي مع الجهود الكبرى السابقة لفهم معنى الوجود، هذا الإصغاء البدئي هو أيضا إصغاء تأويلي بمعنى آخر: إنه إصغاء إلى النصوص، فالرسالة التي يتعين على المرء أن يؤولها هي في حقيقة الأمر مذاهب أسلافه وتفكيرهم كما هو متجسد في النصوص الكبرى، «أن توجد» من الوجهة التأويلية ككائن إنساني هو أن توجد «بين النصوص»
صفحه نامشخص
Intertextually ، أن تساهم في سلسلة التأويل اللانهائية التي تشكل تاريخ فهم الوجود، «إن كل كائن إنساني في كل لحظة هو في حوار مع أسلافه، وربما أيضا في حوار أشد خفاء مع أخلافه الذين سيأتون من بعده.» يريد هيدجر أن يحث المفسر على التأمل في النصوص بحب فقيه اللغة للألفاظ، و«أن يعطي كل لفظة في كل موضع وزنها الكامل، والذي يكون في الأغلب خفيا مستورا».
وبوسعنا أيضا أن نفهم لماذا يفضل هيدجر لفظة
Hermeneutics
على بدائلها الأخرى من مثل
Interpretation ، عندما نتذكر أن مشروع هيدجر ينطوي على محاولة لاستعادة فهم الوجود واسترداد الوعي به، والذي يرى هيدجر أننا قد فقدناه في الأزمنة الحديثة، بل منذ زمن أفلاطون وأرسطو في حقيقة الأمر، فإذا تعين على المرء أن يبحث عن «الثقل الخفي» للألفاظ القديمة فلكي يمضي فيما وراء الوضوح الذاتي في التفكير الحديث. هذا الإصغاء الخاص والشديد الذي يدعو إليه هيدجر هو أمر ضروري من أجل الانفلات من حدود النظرة الحديثة للعالم، فالهرمنيوطيقا هي ذلك المجال المعني بفك رموز الأقوال التي تنتمي إلى أزمنة وأمكنة ولغات أخرى، دون أن يفرض عليها المرء مقولاته هو
Categories
أو تصنيفاته الذهنية (مشكلة الهرمنيوطيقا).
ومن الأمور الدالة أن هيدجر يحاول أن يشحذ تأملاته بحوار مع شخص ينتمي إلى عالم مختلف تماما؛ شخص ياباني، يمثل هذا الحوار محاولة لفهم أشد التصورات صعوبة واستغلاقا: الجمال، القول، اللغة، وتشيع في هذا الحوار رقة الياباني واستعداده للتفهم والتقبل، وبوسع المرء أن يفهم افتتان هيدجر بشعب يمثل فنه جهدا لترك الوجود يسفر عن وجهه كما هو.
لم يكن اتخاذ محاور ياباني هو المؤشر الوحيد على سعي هيدجر لتجاوز النظرة الغربية الحديثة للعالم، فهو يعلن بصريح العبارة أن على المستمع الجيد أن يضع موضع التساؤل تلك الأفكار الموجهة التي تقوم تحت أسماء «التعبير»، «الخبرة»، «الوعي»، بتحديد الفكر الحديث، إذا كانت هذه التصورات هي ما يشكل «عالم» المرء، فإن هيدجر يريد للهرمنيوطيقا أن تكون «مزلزلة للعالم»، أن تكون هي رسالة جليلة تزعزع أسس الفكر، لا يريد غير تأويل يتخطى التصورات السائدة، تأويل يقوم ب «تحويل للفكر»، ولسوء الحظ تفتقر لفظة
Interpretation
صفحه نامشخص
لتلك الدلالة على تناول شيء أجنبي مختلف، بينما تتحلى بذلك كلمة
Hermeneutics
لأنها تشير عادة إلى تفسير نصوص قديمة من لغة أخرى، ومن ثم فهي تؤدي بالضبط معنى الاتصال بشيء مغاير في صميمه ولكنه قابل للفهم رغم ذلك.
من طبيعة هرمس كما قلنا إنه لا ينتمي إلى موضع بعينه وليس له محل إقامة دائم، فهو دائما في الطريق بين هنا وهناك، وعندما يكون المرء في الطريق فهو عرضة لتقلبات الحظ، وحين يعثر المسافر أو التاجر على ثروة مباغتة غير مرتقبة ستكون تلك هبة من هرمس؛ لأنه إله الثراء المفاجئ وضربات الحظ؛ وهو لذلك أصلح من يكون إلها لتأويل النصوص، لأن حل مشكلة تفسيرية ما قد يأتي بتوفيق هرمسي: التأويل ومض مفاجئ، بصيرة مباغتة، والفهم بارقة، والقبض على المغزى حدث خاطف، وهو مثل هرمس، «محايد أخلاقيا»
Amoral ، فالفهم عملية عقلية خالصة لا دخل فيها للأخلاق، قد يكون الاستبصار المفاجئ إيقاظا سارا وقد يكون محبطا ومخيبا إذ يجرد المرء من وهم لذيذ، غير أن الفهم ذاته محايد دائما من الوجهة الأخلاقية.
وقد أشار ولتر أوتو
Walter Otto
إلى وجود تواز بين هرمس وإله الفيدا «بوشان» الذي ينقذ التائهين في الطرق، فهو مثل هرمس يعرف الطرق، وله طريقة خاصة في مساعدة البشر وفي منحهم الكنز، وذلك بأن يتيح لهم أن يعثروا عليه بأنفسهم، كذلك الحال على صعيد التأويل؛ فالمناهج التأويلية قد صممت لكي تمكن النص من أن يؤتي كنزه، غير أن المؤول يرشد القارئ إلى الكنز ثم ينسحب، إن المؤول مجرد موجه، وهو بوصفه موجها يبقى صورة هامشية، يبقى خارجيا، محرضا فحسب.
وصفوة القول: أن هرمس يظل إله الطرق والمفارق والعتبات وعابر الحدود، ويترأس جميع الصفقات التي تعقد على الحدود؛ ولذلك فهو إله الترجمة وإله جميع التعاملات بين العوالم، ويبدو أن ماهية الهرمنيوطيقا أن تكون حدية، أن تتوسط بين مجالات الوجود، سواء بين الله والبشر، الصحوة والنوم، الوعي واللاوعي، الحياة وما بعد الحياة، الجلي والخفي، النهار والليل، ويبدو أن أبعاد الإله الميثولوجي هرمس تومئ إلى عنصر محوري في معنى الهرمنيوطيقا: وهو أنها وساطة بين العوالم، وفي الحالات الشديدة تعد رسالة هرمس مزلزلة للعالم: فهي تحدث، كما يقول هيدجر: «تحولا في الفكر.»
الفصل الثاني
صفحه نامشخص
الاستخدام القديم ودلالته الحديثة
رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث (يوسف، آية 101)
قلنا إن هرمس هو المراسل فيما بين الآلهة والبشر، وأن الأصل اليوناني للفظة «هرمنيوطيقا» يوحي بعملية «الإفهام» وبخاصة حين تشتمل هذه العملية على اللغة، فاللغة هي الوسيط الأساسي في هذه العملية بلا ريب، هذا الإفهام الذي تتوسطه اللغة هو العنصر المشترك في الاتجاهات الثلاثة الأساسية لمعنى لفظة
Hermeneuein
ولفظة
Hermeneia
في الاستخدام القديم، هذه الاتجاهات الثلاثة للفعل «يؤول» في اليونانية هي: (1)
يعبر بصوت عال في كلمات، أي: «يقول» أو «يتلو». (2)
يشرح، كما في حالة شرح موقف من المواقف. (3)
يترجم، كما في حالة ترجمة لغة أجنبية.
صفحه نامشخص
هذه المعاني الثلاثة جميعا قد يعبر عنها الفعل الإنجليزي
To Interpret ، غير أن كلا منها يمثل معنى مستقلا من معاني التأويل .
التأويل - إذن - يمكن أن يشير إلى ثلاثة أمور مختلفة نوعا ما سواء في الاستعمال اليوناني أو الإنجليزي: التلاوة الشفاهية، والشرح المعقول، والترجمة من لغة إلى أخرى، غير أن بمقدور المرء أن يلاحظ أن «العملية الهرمسية» قائمة في الحالات الثلاث جميعا، ثمة شيء بحاجة إلى العرض أو الشرح أو الترجمة يصبح، بطريقة ما، معقولا ومستوعبا، ثمة شيء ما قد تم «تأويله». (1) التأويل بمعنى «التلاوة»
ينشد الشعر جديدا كالصبا
وأنا ناظمه منذ سنين
وأبث فيه من صباه عجبا
فإذا قلت ارتجال لا تمين
1
العقاد
أول الاتجاهات الثلاثة الأساسية لمعنى الفعل «يؤول» هو: «يعبر»، أو «يدلي»، أو «يقول»، أو «يتلو»، وهو اتجاه يرتبط بالوظيفة «الإعلانية» لهرمس، وما يزال الفعل «يعبر» هنا يحمل معنى «القول» وإن يكن القول في هذه الحالة هو القول الذي يعد في ذاته تأويلا، من أجل ذلك يلتفت المرء إلى الطريقة التي يعبر بها عن الشيء، أي إلى «الأسلوب» الذي يتم به الأداء، ونحن نستخدم هذا الظل الدقيق لكلمة «تأويل» عندما نشير إلى تأويل مطرب لأغنية ما، أو تأويل قائد أوركسترا لسيمفونية ما، بهذا المعنى يكون التأويل شكلا من أشكال القول، وبالمثل يكون الإلقاء الشفاهي أو الغناء تأويلا، وقد كانت كلمة «تأويل»
صفحه نامشخص
Hermeneia
تشير أحيانا إلى التلاوة الشفهية، تلاوة قصيد ملحمي لهومر على سبيل المثال، وفي محاورة «أيون»
Ion
لأفلاطون نجد أيون ذلك المؤول الشاب يتلو هومر، ويقوم من خلال تجويده والتلاعب بطبقات صوته بتأويل الشاعر الكبير والتعبير عنه بل وتفسير دقائق معانيه، ويوصل إلى المستمعين أكثر مما يدركه أو يفهمه، وأيون بذلك يصبح، شأنه شأن هرمس، حاملا لرسالة هوم.
2
كان هومر نفسه، بطبيعة الحال، مبعوثا من الآلهة إلى الإنسان، كان مؤولا يبين للناس سبل الرب ويسوغها لهم (على حد تعبير ملتون)، كان هومر إذن مؤولا بمعنى أكثر بداءة؛ إذ لم تكن الكلمات قبله قد قيلت، (من الجلي أن الأساطير كانت موجودة قبل هومر، ومن ثم يمكننا القول بأنه قام بتأويلها والتصريح بها فحسب)، كان هومر نفسه يعتبر ملهما من قبل الآلهة ، كان هومر من خلال قوله مترجم الآلهة ومفسرهم.
ولعل مسألة القول أو التلاوة الشفاهية بوصفها «تأويلا» أن تذكر الأدباء ونقاد الأدب بمستوى دأب الكثيرون منهم على إهماله والانتقاص من شأنه أو ربما نسيانه كليا، غير أن الأدب يستمد الكثير من ديناميته من قوة الكلمة المنطوقة، فمنذ القدم والأعمال العظيمة في اللغة كان المقصود بها أن تتلى جهارا وتسمع، وينبغي أن تلفتنا قوة اللغة المنطوقة إلى ظاهرة مهمة، وهي ضعف اللغة المكتوبة! فاللغة المكتوبة تفتقر إلى «القوة التعبيرية» البدائية التي تتحلى بها الكلمة المنطوقة، صحيح أن التدوين يحفظ اللغة ويحميها من الاندثار (وأنه أساس التاريخ والأدبيات)، إلا أنه يضعفها في الوقت نفسه، وقد أكد أفلاطون على ضعف اللغة المكتوبة، وعجزها في «الرسالة السابعة» وفي «فايدروس»، وما من لغة مكتوبة، إلا تنادي، في صمت، بإعادة تحويلها إلى شكلها المنطوق لكي تسترد قوتها المفقودة، الكتابة «اغتراب للغة» عن قوتها الحية، وليس من قبيل الصدفة أن كلمة «اللغة» ونظيراتها في أغلب اللغات تشتق من «اللسان» ومن «النطق».
للكلمات الشفاهية ما يشبه القوة السحرية، غير أنها حين تصبح أشكالا مرئية تفقد الشيء الكثير من هذه القوة، وإذا كان الأدب يستخدم الكلمات لكي يرفع تأثيرها إلى ذروته فإن الكثير من هذه القوة يهدر عندما نستعيض عن السمع بالرؤية في عملية القراءة، نحن بطبيعة الحال لا نملك أن نعود إلى الوراء حيث كان الأدب نشاطا شفاهيا، ونحن - بطبيعة الحال - لا يليق بنا أن ننكر مزايا الكتابية والاتصال الكتابي، غير أن علينا ألا ننسى أن اللغة في الأصل هي كيان مسموع لا منظور، وأن ثمة أسبابا وجيهة تجعل اللغة الشفاهية أيسر «فهما» من اللغة المكتوبة.
انظر إلى فعل القراءة الجهرية، إن التعبير الشفاهي ليس استجابة سلبية للعلامات الماثلة على الصفحة (شأن الفونوغراف إذ يؤدي تسجيلا)، إنه عملية إبداعية، أداء، كالعملية التي يقوم بها عازف البيانو وهو «يؤول» مقطوعة موسيقية، سل أي عازف بيانو يجبك أن المقطوعة بحد ذاتها هي مجرد «قشرة»، وأن «معنى» الجمل الموسيقية لا بد من «فهمه» حتى يتسنى تأويل الموسيقى، وقل الشيء نفسه عن قراءة اللغة المكتوبة، إن المؤول الشفهي ليس أمامه من العمل الأصلي إلا قشرة: مخطط عام للأصوات لا إشارة فيه للنغمة، ولا للنبر والتشديد، ولا الوضع الجسماني، غير أن عليه أن «يعيد إنتاج» ذلك في صوت حي، هنا أيضا لا بد لمن يعيد الإنتاج من أن يعي معنى الكلمات لكي يعبر، ولن يكون بمقدوره أن يؤدي جملة واحدة ما لم يدرك معنى القول، والسؤال الآن هو: كيف تتم هذه العملية الغامضة، عملية فهم المعنى؟ تمثل هذه العملية مفارقة ملغزة: فأنت لكي تقرأ لا بد لك من أن تفهم مقدما ما سيقال، ولكن هذا الفهم ينبغي أن يأتي من القراءة! ها هنا تبدأ في البزوغ تلك العملية «الديالكتيكية» المعقدة التي يشتمل عليها كل فهم حين يقوم بإدراك معنى جملة من الجمل، وفي الاتجاه المقابل يقدم التشديد والوضع اللذين لا يكون للكلمة المكتوبة معنى بدونهما، للتأويل الشفهي إذن جانبان: فمن الضروري أن تفهم شيئا ما لكي تعبر عنه، إلا أن الفهم نفسه يأتي من القراءة المؤولة، من التعبير.
والآن، ماذا تحمل هذه المسألة من متضمنات أدبية ونقدية؟ ماذا تحمل بالنسبة للقائمين بمهنة «التفسير الأدبي» وبالأخص بالنسبة لمعلمي الأدب؟ إنها أولا تشير إلى الحاجة إلى إعادة النظر في مسألة الخلفية التاريخية والسيكولوجية وأهميتها في التفسير، أي إعادة النظر في دور المعطيات السياقية، التاريخية والنفسية، بالنسبة للفهم الأدبي، إن للنص «وجوده» الخاص في الكلمات نفسها، في ترتيبها وفي مقاصدها، وفي مقاصد العمل بوصفه موجودا من نوع معين، فإذا صح ذلك ألا يكون من شأن الناقد الذي لا يتسلط على النص، بل يستسلم لوجود العمل، أن يساعد على استعادة ما فقده النص حين تحول إلى كلمات مكتوبة؟ ألا يقوم الناقد حين يخرج أدواته التصورية (سواء كانت تتصل بالشكل أو المضمون) بتشييد سياق من المعنى (دائرة تأويلية) سوف ينبثق منه أداء شفاهي أكثر كفاءة، حتى لو تخفى ذلك في قراءة صامتة أكثر عمقا تأويليا؟ إن هذا التوجه لا يتناقض، بل ينسجم، مع ما يصبو إليه «النقد الجديد»
صفحه نامشخص
New Criticism
من صيانة الوجود الخاص بالنص نفسه وحمايته من عبث التقول عليه ومن «هرطقة إعادة الصياغة»، ذلك أن «النقد الجديد» يريد أن يمكن للنص أن يتحدث. لا شك أن النقد الجديد، في ضوء ذلك، سوف يتفق معنا على أن النقد المسعف حقا هو ذلك النقد الذي يهدف إلى قراءة شفهية أكثر كفاءة للنص نفسه، قراءة تسمح للنص أن يوجد مرة ثانية بوصفه حدثا شفاهيا ذا معنى يحدث في الزمان، وجودا يمكن لطبيعته وتكامله الحقيقي أن يتألق ويضيء.
من شأن التأويل الشفاهي أن يساعد النقد الأدبي على أن يستحضر في نفسه هدفه الخاص ومقصده الصميم عندما يتخذ، بطريقة واعية، تعريفا ل «وجود» العمل الأدبي، لا على أنه شيء تصوري سكوني، ولا على أنه «ماهية» لا زمانية تحولت إلى شيء على هيئة تصور متجسد في تعبير لفظي، بل على أنه كائن يحقق وجوده كحدث شفاهي في الزمان، يجب على الكلمة ألا تعود كلمة (أي شيئا بصريا وتصوريا) وأن تصبح «حدثا»، فوجود العمل الأدبي هو «حدث» لفظي يحدث كأداء شفاهي. إن النقد الأدبي الحق يتحرك في اتجاه التأويل الشفهي للعمل الذي ينصب عليه، وليس ثمة من تناقض بين «الوجود المستقل» للعمل الأدبي الذي ينادي به «النقد الجديد» وبين هذا المبدأ، فالوجود المستقل، هو، على العكس، ينسجم مع مبدأ التأويل الشفهي ويتفق معه تمام الاتفاق.
ولمبدأ التأويل الشفهي وقوة الكلمة المنطوقة أهميته أيضا في مجال النصوص المقدسة، ومن المأثور عن القديس «بولس» وعن «مارتن لوثر» قولهما: «إن الخلاص يأتي خلال الآذان.» لقد كتبت رسائل بولس لكي تقرأ قراءة جهرية لا قراءة صامتة، والحق أن علينا أن نذكر أنفسنا بأن القراءة الصامتة السريعة هي ظاهرة حديثة أتت بها الطباعة، بل إن عصرنا هذا المتعجل الملول قد جعل من «القراءة السريعة» فضيلة، وكم نبذل من جهد لكي نطمس القراءة نصف الجهرية التي يتعلم بها الطفل القراءة، رغم أن هذه الطريقة كانت طبيعية تماما في العصور القديمة، ويذكر القديس أوغسطين أن هذه هي الطريقة التي كان يقرأ بها.
3
وقد ينبغي على علم اللاهوت المسيحي أن يتذكر أن لاهوت «الكلمة» ليس لاهوت الكلمة المكتوبة بل الكلمة المنطوقة، إن النصوص المقدسة (وبخاصة في لاهوت بلتمان) هي
Kerygma
أي رسالة يجب أن تبلغ وتعلن، ومن شأن الجهود المبذولة لنشر الكتاب المقدس في أرجاء المعمورة أن تهزم نفسها إذا ما تم النظر إلى الكتاب المقدس على أنه عقد أو وثيقة قانونية أو تفسير عقلي تصوري للعالم؛ ذلك أن لغة الكتاب المقدس تعمل في وسط مختلف تمام الاختلاف عن كتيب إرشادي لبناء شيء ما أو عن نشرة معلومات، وكلمة «معلومات» هي كلمة ذات دلالة، فهي تشير إلى استخدام للغة مختلف عن الاستخدام الموجود في الكتاب المقدس، إنها تخاطب الملكة العقلية ولا تخاطب جماع الشخصية، بمقدورنا أن نقرأ المعلومات قراءة صامتة دون أن نخسر شيئا، فنحن لا يلزمنا أن نستحضر خبرتنا الشخصية أو نخاطر بأنفسنا لكي نفهم المعلومات، أما الكتاب المقدس فهو ليس معلومات، إنه ... رسالة، بلاغ، وقد قصد به أن يقرأ جهارا وأن يسمع، وما هو بمجموعة من المبادئ العلمية، إنه واقع من نوع مختلف عن واقع الحقيقة العلمية، واقع ينبغي فهمه على أنه قصة تاريخية ... حدث يجب أن يسمع، والمبدأ العلمي غير الحدث التأويلي، ومعقولية المبدأ غير معقولية الحدث، بهذا المعنى الأعمق لكلمة «تاريخي» ينبغي أن نفهم الأدب واللاهوت، إن العمليات التأويلية المناسبة للعلم لتختلف اختلافا بعيدا عن العمليات التأويلية الملائمة للأحداث التاريخية، أو الأحداث التي يحاول اللاهوت أو الأدب أن يفهمها.
هكذا، أفضى بنا الاتجاه الأول لمعنى كلمة «تأويل» في الاستخدام القديم (التأويل بوصفه تلاوة) إلى تقرير بعض المبادئ الأساسية للتأويل، سواء الأدبي أو الثيولوجي، لقد ردنا إلى الشكل والوظيفة البدائيين للكلمة بوصفها صوتا حيا ممتلئا بقوة العبارة المنطوقة ذات المعنى، فاللغة وهي تبزغ من العدم ليست علامات بل أصوات، وهي تفقد شيئا من قوتها التعبيرية (ومن ثم شيئا من معناها) عندما ترد إلى صور بصرية، أي عندما تنتقل من البعد الزماني للوجود وتقطن في بعده المكاني الصامت؛ لذا كان لزاما على التفسير اللاهوتي والأدبي أن يحول الكتابة إلى كلام، وإن مبادئ الفهم التي تمكننا من هذا التحويل تعد من الهموم الكبرى لنظرية التأويل الحديثة.
4 (2) التأويل بوصفه تفسيرا (أرسطو)
صفحه نامشخص
الاتجاه الثاني لمعنى «التأويل» في الاستخدام القديم هو «أن تشرح»، وهو اتجاه يؤكد البعد التفسيري للفهم وليس مجرد البعد التعبيري، فالكلمات، بعد كل شيء، لا «تقول» شيئا ما فحسب، بل تفسره أيضا وتشرحه وتوضحه، قد يعبر المرء عن موقف ما دون أن يشرحه، وإذا كان «التعبير» عن الموقف هو في ذاته تأويلا كما أسلفنا، فإن تفسيره أو شرحه هو أيضا شكل من أشكال التأويل، فلنتناول الآن بعض أبعاد هذا الشكل الثاني (والأكثر وضوحا) من أشكال التأويل، ونعرض لدلالاتها الحديثة.
انظر إلى الرسائل الملغزة التي كان يفضي بها وسيط الوحي في دلفي، لم تكن هذه الرسائل تفسر نصا موجودا سلفا، بل كانت «تأويلات» لموقف (وكانت الرسائل نفسها تتطلب تأويلا!) لقد كانت «تبوح» بشيء ما أو «تقوله» أو «تعبر عنه» (وهو البعد الأول والأكثر بداءة للمعنى)، غير أنها كانت في الوقت نفسه تفسيرا لشيء ما، شيء لم يكن مفسرا من قبل، كانت صياغة لفظية ل «معنى» الموقف، أو شرحا للموقف في كلمات (قد تخفي بقدر ما تكشف)، الكلمات هنا تقول شيئا ما عن الموقف أي عن الواقع، والمعنى هنا ليس مخبوءا في أسلوب القول أو طريقته، فليس هذا بالأمر المحوري في هذا البعد من التأويل، إنما هو تفسير بمعنى أنه يقول شيئا ما عن شيء آخر، إذن على حين أن رسائل الوحي كانت بمعنى أول «تقول» أو «تعلن»، فهي بوصفها تفسيرا كانت تتحرك تجاه لحظة ثانية للتأويل، كانت تفسر شيئا ما وتشرحه وتعلله.
في رسالته «عن التأويل»
يعرف أرسطو التأويل بأنه «إقرار» أو «إعلان»
Enunciation ، قد يومئ هذا التعريف إلى الاتجاه الأول للمعنى (يقول أو يعلن)، غير أن المتعمق في النص لن يخفى عليه الاتجاه الثاني أيضا، فالهرمينيا عند أرسطو تشير إلى العمل الذي يقوم به الذهن ؛ إذ يضع العبارات التي تتصل بصدق شيء ما أو بكذبه. التأويل بهذا المعنى هو العملية الأولية للفكر إذ يصوغ حكما صادقا عن شيء ما، وفقا لأرسطو، إذن، لا يعد الدعاء والطلب والسؤال عبارة، بل شيئا مشتقا من عبارة، أو هو شكل ثانوي من الجمل ينطبق على موقف يكون فيه الذهن قد أدركه سلفا في شكل عبارة (الفكر بطبيعته، عند أرسطو، يدرك المعنى كعبارة)، مثال ذلك أن العبارة الأصلية (أو التأويل) «الشجرة بنية اللون» تسبق أي جملة تعبر عن رغبة أو استخدام لها، «التأويلات» إذن ليست جملا تهدف إلى استخدام أو غرض أو نفع، كما هو الحال في الدعاء أو الطلب، بل هي عبارات حول شيء ما يتصف بأنه حق أو باطل (صادق أو كاذب)، ويعرفها أرسطو بأنها «الكلام الذي ينطوي على صدق أو كذب»، يترتب على هذا التعريف أن الخطابة والشعر يقعان خارج رسالته عن التأويل لأن كلا منهما يهدف إلى تحريك المستمع والتأثير فيه.
و«الإعلان» أو «الإقرار» (التأويل)
Enunciation
عند أرسطو ينبغي ألا يختلط بالمنطق، فالمنطق ينطلق من مقارنة العبارات المعلنة، أما الإعلان فهو صياغة العبارات ذاتها وليس عملية الاستدلال من الأشياء المعلومة إلى المجهولة، وبصفة عامة يقسم أرسطو العمليات الأساسية للفكر إلى: (1)
فهم الأشياء (الموضوعات) البسيطة. (2)
عمليات التجميع والتقسيم. (3)
صفحه نامشخص