ولقد أراد بعد ذلك أن يقصد مالطة لتلمس الرزق فيها، ولكنها كانت مهددة بإغارة من جانب الأتراك، فعاد أدراجه وأخذ يعيش من بعض دروس في الحساب يعطيها لمريديه.
وهكذا أحدق به الهم وعضه الفقر، والتوى عليه سبيل الهناء، ولم يجد عند أحد صدرا يسعه في محنته، ولا قلبا يحنو عليه في كربته، فاحتقر الحياة، وكره الناس، وآثر العزلة على البقاء في هذا العالم القاسي قائلا: «إن العزلة جبل عال تريني قمته الناس صغارا.»
على أنه لم يعدم صدرا آخر يفيض عليه من حنوه الأبدي الخالد، هو صدر الطبيعة، فاستنام إليها وأحبها وفني في عشقها.
ولقد حببها إليه أيضا أنه رأى ذات يوم عودا هزيلا من «الفراولة» نبت على حافة نافذته، فلما أخذ يتأمله قام في نفسه أن يصفه بكل دقائقه ويصف ما حوله من حشرات صغيرة وذباب، ولكن ذلك استعصى عليه وقد رأى تلك الحشرات تصغر شيئا فشيئا إلى حد أعجزه عن متابعتها، وعند ذلك أدرك مقام الطبيعة وعظمتها فهام بها.
وإن نفسا مثل نفس برناردين لا تعرف اليأس، فعزم على الهجرة من وطنه إلى غيره من بلاد الله، وهو مع ذلك لا يكرهه ولا يحقد عليه «لأن من أحب وطنه تغرب في سبيله» كما قال في ترجمة حياته.
وكانت فكرة إصلاح المجتمع قد اختمرت في رأسه، فسافر إلى روسيا لعله يجد عند ملكتها كاترين ما يساعده على إخراجها إلى نور الوجود على شواطئ بحر قزوين، ولكن سهمه طاش، فارتحل إلى فنلندا ثم إلى بولونيا فألمانيا فصحارى أمريكا العليا فمدغشقر، حتى انتهى به المطاف عند جزيرة «موريس» التي كتب عنها روايته، ولكنه في كل هذه الأدوار كان سوء الحظ حليفه، فاضطر إلى العودة لوطنه ثانيا وهو ينوء تحت حمل الأحزان والديون، ذاهبا إلى أن العيب لم يكن على النظم التي تشرع للناس، ولكن على نفس القائمين بها.
وكان في أسفاره لا يكاد يرفع طرفه عن الطبيعة التي طالما أحبها وشغف باكتناه أسرار جمالها، ولكنه كان يغلب عليه في تفهمها مزاجه الشعري، وهو يعتقد أن خواطره ليست هي التي تتجه إلى الطبيعة ولكنها هي التي توجه إليها آلاف الأشكال المختلفة الرائعة ، وهكذا كان يغرس على طول طريقه بذور خيالاته فيحظى من الطبيعة بكل ثمرة شهية وهو يرى في كل ذرة من ذراتها نفسا حية ناطقة، حتى صهره البحث وأنضجته التجربة، ولكن شقاء الحظ جرعه آخر ما في كأسه، فعاد - كما ذكرنا - وهو يقول في نفسه: لقد أصبح الناس لا يعرفون قدر الإحسان فكيف رفعتهم الأقدار؟ ولكن حسبي أن التجربة صيرتني هرما فأصبحت لا أطمع في غير الراحة.
نعم إنه أحس بعزمه قد وهن، وكأن الشاب الطامح إلى لقاء الحوادث ومجالدتها قد ذاب فيه وفني وهو مع ذلك لا يتجاوز الثلاثين من عمره، أضف إلى ذلك ما آلت إليه حاله من الفاقة والبؤس، ففكر في وضع كتاب عن تلك الجزر التي زارها وما شاهد فيها ودون في مذكراته عنها.
ولكن كتابه الذي كان يظن أنه وضع به أساس مجده لم يصادف إلا نجاحا قليلا؛ لأنه أفسد عليه قلوب الحكام؛ بما ذكره فيه من خلل إدارة المستعمرات وفساد نظامها، إلا أن هذا السفر قد أكسبه الاتصال بكتاب عصره وفلاسفته، فعرفوه وعرفهم، ولكنه لم يلبث أن أنكرهم؛ لأنه أدرك أنهم كغيرهم قوم لا يعرفون معنى العدل والحق اللذين كانا دعامة خلقه، حتى إنه قاطعهم وهجرهم؛ لأن ألم شوكة واحدة - كما كان يقول - تنسي المرء لذة مائة وردة يشمها؛ ولذلك عمد إلى ما دونه من أبحاثه في الطبيعة فجمعها في كتاب نشره على الناس على ما بها من التفكك وعدم الارتباط، ولكن هذا الكتاب الناقص، أو تلك الأطلال الدوارس - كما كان يسميها - كانت وحدة معنوية حية خيرا مائة مرة من أية وحدة علمية؛ لأنها تمثل جلال القدرة حاضرة دائما في الذهن، ماثلة للعين، حتى إن نجاحه كان فوق ما أمله فعرف الناس قدره وأحبوه.
وهكذا أمكنه أن يزحزح عن نفسه شيئا من أحمال شقائه، فابتاع منزلا صغيرا اختاره في طريق ضيق يسكنه الفقراء، حتى يشعر أنه بين أفراد عائلته الطبيعية، وعلى مقربة من حديقة الحيوانات، كي لا يحرم من متابعة أبحاثه.
صفحه نامشخص