شرح كتاب الباعث الحثيث
شرح كتاب الباعث الحثيث
ژانرها
التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية
الأمر الثاني: أن اجتهاد المجتهد وإن لم يحالفه الحق والصواب فمن تمام حفظ الله تعالى لهذا الدين أن يقيض لهذا العالم من يرد عليه، سواء كان من علماء السنة أو من علماء البدعة، ولذلك نحن عندما نمر على قضية من القضايا نجد شيخ الإسلام ابن تيمية أخطأ فيها، وشيخ الإسلام ابن تيمية شيخ الجميع، وشيخ الأمة إلى يوم القيامة، ومع هذا نقول: لا، ابن تيمية خالف في هذه المسألة، فلن نأخذ بكلامه؛ لأن ديننا يقول هذا، يقول: إن الاتباع لا يكون إلا في الحق لمن كان، فلا نتبعه فيما خالف فيه، ونثبت له الأجر الواحد؛ لأنه مجتهد، فهو ما أخطأ إلا بعد أن استفرغ الوسع والجهد في الوصول إلى الحق، ولكنه أخطأه، بخلاف رجل تعمد الباطل، فليس من تحرى الحق فأخطأه كمن تعمد الباطل، فالأول صاحب سنة، والثاني صاحب هوى.
ففي هذه الحالة أقول: إذا كان التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية فما المانع أن الحديث الذي حكم عليه بالصحة يكون ضعيفًا، وبالتالي تختل الثقة بكثير من السنة، وإن شئت فقل: بالسنة كلها.
وهذا باب عظيم جدًا لا ينبغي أن يطرأ على ذهن واحد منا؛ لما ذكرته من الأسباب وغيرها.
فأهل العلم إذا قالوا عن حديث: صحيح؛ فالحجة في قولهم، وإذا أجمعوا على ضعف حديث؛ فالحجة كذلك في قولهم في عدم العمل بهذا الحديث الضعيف.
أما إذا اختلفت الأمة في إثبات حديث أو في رده، فإذا كنت طالب علم لك نظر وبصيرة وترجيح بين أقوال أهل العلم فإنما يلزمك أن تطلع على كلا القولين، ثم ما ترجح لديك في هذا الحديث من أحد القولين فهو دين الله ﷿ الذي تدين به إليه.
وإذا لم تكن طالب علم وليست لديك ملكة الترجيح والبحث في أحوال الرواة فإنه يلزمك أن تتبع مفتيك الذي تثق فيه وفي دينه وورعه، وهذا كلام أقوله دائمًا في قضايا الاجتهاد والتقليد.
مثال ذلك: الحافظ العراقي ضعَّف حديثًا الألباني حسنه، وأنت طالب علم ليس لك علاقة بالحديث، ولا تعرف كيف يكون صحيحًا ولا كيف يكون ضعيفًا، والعراقي رده والألباني قبله، فتقول: بقول من آخذ؟ هل آخذ بقول العراقي؟ العراقي لا أعرفه، ولا أعرف لا دينه ولا أخلاقه ولا سلوكه، وليس معنى ذلك أنك تتهمه، لكن أنت لم تسمع أن في الأمة واحدًا اسمه العراقي، لكن الألباني عندك محل ثقة وقبول، وصاحب ديانة وصاحب ورع وصاحب سنة وغير ذلك، فتقول: هذا الرجل نعرفه ويعرفنا، ونحن نثق في دينه جدًا، فلا بأس أن تأخذ بقول الألباني ونحوه.
خاصة إذا كان العالم الذي أصدر حكمه على الرواية من أهل الاجتهاد المعروفين بالتخصص فيه، وكذلك معروفًا بالاستقامة على السنة، ومعروفًا كذلك بعدم التساهل.
وربما يكون هذا العالم معروفًا بالتشدد، يتشدد في التعديل، يعني: لا يحكم على الحديث بالصحة أو الحسن إلا بعد جهد جهيد، ويهجم على الأحاديث الصحيحة، مثل ابن الجوزي، فـ ابن الجوزي لم تكن له صناعة قوية بعلم الحديث، وكان يهجم على الأحاديث الصحيحة فيضعفها، وكان متشددًا جدًا في تجريح الرواة، فعند ابن الجوزي أن الراوي الثقة هو الذي يخطئ مرة، وهذه المرة عند المحدثين لا عبرة بها؛ لأن الأصل فيه العدالة والتوثيق، لكن إذا أخطأ مرة عند ابن الجوزي سقطت عدالته كلها، وتجده مباشرة يأتي بأحاديثه في كتاب الموضوعات أو في الأحاديث الواهية، بل إنه أورد في كتاب العلل المتناهية أحاديث في صحيح مسلم على أنها موضوعة.
فـ ابن الجوزي رحمه الله تعالى عنده المسألة إما صحيح في القمة، وإما موضوع تحت الأقدام.
فأنا عندما أعرف أن ابن الجوزي متشدد جدًا في هذه القضية، ثم أرى عشرين أو ثلاثين عالمًا من علماء المسلمين حكموا على حديث بأنه حسن، وابن الجوزي حكم عليه بأنه ضعيف، أقول: ابن الجوزي لن آخذ منه.
وعندما آتي وأجد مثلًا ابن حبان أو الحاكم متساهلين جدًا في التوثيق، ومتسامحين في حق الرواة، فعندما أجد أن الأمة ضعفت حديثا وحكم عليه الحاكم وابن حبان بأنه حديث حسن، أقول: لا؛ لأن هؤلاء معروفون بالتساهل في التوثيق، مع أن الذين ضعفوه قد بينوا حجة الضعف، وهذه الحجة بالنسبة لي حجة مقنعة جدًا، فإن الحديث بها لا يمكن أن يرتقي أبدًا.
فلا بد من النظر إلى كلام الجارح أو كلام المعدل، وبالتالي نرجع إلى أصل كلامنا الذي استطردنا فيه، وهو أن مسألة التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية، والمرجع فيها والحجة في أدلة المعدلين وأدلة المجرحين، ولا يلزم من الحكم بضعف الحديث أنه في ذاته غير ثابت، بمعنى: لا يلزم أن يكون النبي ﷺ لم يقله، بل يمكن أن يكون قاله.
ولذلك أنت أحيانًا تجد بعض الناس يجلس يفكر ثم يقول: هل
7 / 4