Explanation of Al-Bayquniyyah Poem by Yousef Jouda
شرح المنظومة البيقونية ليوسف جودة
ناشر
دار الأندلس للطباعة - شبين الكوم
محل انتشار
مصر
ژانرها
جامعة الأزهر
كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بالمنوفية
شرح المنظومة البيقونية في علم مصطلح الحديث
الدكتور يوسف بن جودة يس الداودي
عضو هيئة التدريس جامعة طيبة المدينة المنورة
_________
مستلة من حولية كلية أصول الدين والدعوة بالمنوفية
العدد الرابع والثلاثون لعام ١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
والمودعة بدار الكتب تحت رقم ٦١٥٧/ ٢٠١٥
دار الأندلس للطباعة - أمام كلية الهندسة - عمارات الزراعيين - شبين الكوم ت: ٠٤٨٢٢٢٢٠٩٠
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أّن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أَنَّ محمدًا عبْدُهُ ورسولُهُ.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تسآءلون بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (١). الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اسْتَخْلَصَ الْعُلَمَاءَ بِعِنَايَتِهِ وَجَمِيلِ لُطْفِهِ مِنْ غَيَاهِبِ الْجَهَالاتِ، وَجَعَلَهُمْ أُمَنَاءَ عَلَى خَلْقِهِ يَقُومُونَ بِحِفْظِ شَرِيعَتِهِ حَتَّى يُؤَدُّوا إلَى الْخَلْقِ تِلْكَ الأَمَانَاتِ، فَهُمْ مَصَابِيحُ الأَرْضِ وَخُلَفَاءُ الأَنْبِيَاءِ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَيُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، فإنَّ مِن أَعْظَم الْمِنَن أَنْ يُوَفَّق العبد لمعرفة حديث خير البَريَّة
_________
(١) أخرجه أحمد في المسند، من حديث جابر بن عبدالله ﵁، طبعة مؤسسة الرسالة ١٤٢١ هـ، بيروت، ق: شعيب الأرنؤوط، (٢٢/ ٢٣٧)، برقم (١٤٣٣٤)، وأخرجه ابن ماجه في السنن من حديث عبد الله بن مسعود ﵁، كتاب الإيمان، بَابُ اجْتِنَابِ الْبِدَعِ وَالْجَدَلِ، طبعة دار إحياء الكتب، ق: محمد فؤاد عبد الباقي، (١/ ١٨)، برقم (٤٦).
1 / 3
ﷺ، ويميز الصَّحيح من الضَّعيف، ليعبد الله ﷿ علي بصيرةٍ؛ وحتى لا يُحَدِّث بحديثٍ إلا وهو ثَابتٌ عن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولا يُحَدِّث بِكُلِّ ما يسمع، فإن ذلك قد يوقعه في الوعيد الذي ورد في صحيح مُسْلِمٍ: عَنِ الْمُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ ﵁، قَالَ قَالَ: رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» (١).
فلا مِرْيَة أنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ هُم الرِّجال الذين نَدَبُوا أنفسهم للقيام بحق حديث رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والدِّفاع عنه، قال سُفْيَانُ الثَّوْريّ: "الْمَلائِكَةُ حُرَّاسُ السَّمَاءِ، وَأَصْحَابُ الحَدِيثِ حُرَّاسُ الأَرْض" (٢)، فقاموا بتأصيل علم الحديث، وتفريع فروعه، وكتبوا تلك القواعد والأصول في مُصَنَّفَات، ونَظَمُوا لها الْمَنْظُومَات فكان من أشهر تلك الْمَنْظُومات في علوم الحديث قصيدة غرامي صحيح في ألقاب الحديث لشهاب الدين أحمد بن فرج الأشْبِيليّ (ت: ٦٩٩ هـ)، وألفية العراقي المسماة بـ: التَّبصرة والتَّذكرة في علوم الحديث، لأبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين (ت: ٨٠٦ هـ)، وكذا ألفية الحديث، لعبد الرَّحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت: ٩١١ هـ)، وغيرها من الْمَنْظُومات في علم الحديث.
وكان من أهم تلك الْمَنْظُومات المَنْظُومَة البَيْقُونِيَّة، لعمر - أو طه - بن محمد بن فتوح البَيْقُونِي الدِّمَشْقِيّ، كان حيًا سنة ١٠٨٠ هـ، وتَبرُز أهميتها في مُنَاسَبَتِها للمبتدئين من طلاب العلم، فهي منظومة من بحر الرجز تقع في (٣٤)
_________
(١) أخرجه مسلم في صحيحه، المقدمة، بَابُ وُجُوبِ الرِّوَايَةِ عَنِ الثِّقَاتِ، طبعة دار إحياء التراث، بيروت، ق: محمد فؤاد عبد الباقي، (١/ ٨).
(٢) شرف أصحاب الحديث، أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت: ٤٦٣ هـ)، دار إحياء السنة النَّبوية، أنقرة (ص ٤٤).
1 / 4
بيتًا كما ذكر المؤلف ذلك في آخرها بقوله: "فَوْقَ الثَّلاثيَن بأرْبَعٍ أتَت ... ْأقْسامُهَا ثمَّ بخيٍر خُتِمتْ". وذكر العلماء أن من سمة العالم الرَّبَّانِيّ أنَّه يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ (١)، فإنَّ النَّاسَ ليسوا على مستوى واحد من التَّيقُّظ والضَّبْط والحفظ، وليسوا كذلك في مستوى واحد من الاهتمام والتَّثَبت والدِّقَّة. فلابد من محقق وضابط وشارح لتلك الأصول بطريقة سهلةٍ مُيسَّرة، ولا يخفى أنَّ لكل عصر مفاهيم واعتبارات خاصة به فينبغي على الشارح أن يسلك أيسر السُّبل، ويختار أدق العبارات التي توصل الطالب لفهم تلك الأصول والمصطلحات الخاصة بأهل الحديث.
الدِّرَاسَات السَّابقة:
لقد حازت المَنْظُومَةُ البَيْقُونِيَّة عِنْدَ أهل الحديث أهميةً بالغة، إذ أنَّ لَهَا شُرُوحًا كثيرة، واعتنى بها عدد من الأفاضل المختصين بهذا الشأن بالشرح والضبط والتَّعليق، فكان من أشهر تلك الشروح على المَنْظُومَةِ البَيْقُونِيَّة:
١ - تلقيح الفكر بشرح منظومة الأثر، لأحمد بن محمد الحموي (ت ١٠٩٨ هـ) (٢).
٢ - شرح منظومة البَيْقُوني، لمحمد بن أحمد البديري الدُّميَاطِي (ت ١١٤٠ هـ) (٣).
_________
(١) ذكره البخاري في صحيحه، كتاب العلم، بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ، طبعة دار طوق النجاة، محمد زهير بن ناصر الناصر، (١/ ٢٤).
(٢) هدية العارفين، لإسماعيل باشا الباباني البغدادي (٥/ ٣٠٠) طبعة إستانبول ١٩٥١ - ١٩٥٥ م، وفهرس دار الكتب المصرية (١/ ١٨٤).
(٣) فهرس الفهارس، لعبد الحي الكتاني (ت: ١٣٨٢ هـ)، طبعة دار الغرب الإسلامي - بيروت ١٩٨٢ م، (١/ ٢١٦ - ٢١٨)، ومنه بدار الكتب المصرية نسختان كما في فهرستها (١/ ٢٥٧).
1 / 5
٣ - شرح المَنْظُومَةِ البَيْقُونِيَّة، لحسن بن غالي الأزهري الجداوي (ت ١٢٠٢ هـ) (١).
٤ - شرح المَنْظُومَةِ البَيْقُونِيَّة، لمحمد بن عبد الباقي الزّرقاني (ت ١١٢٢ هـ) (٢).
٥ - الكواكب النُّورانية على البَيْقُونِيَّة، لعبد الله بن علي الدمليجي (ت ١٢٣٤ هـ) (٣).
٦ - لطائف منح المغيث في مصطلح البَيْقُونِي في الحديث، لمحمد بن عثمان الميرغني المكي الحنفي (ت ١٢٦٨ هـ) (٤).
٧ - البهجة الوضية شرح متن البَيْقُونِيَّة، لمحمود بن محمد بن عبد الدائم الشهير بنشابة المتوفي سنة (١٣٠٨ هـ)، طبع سنة (١٣٢٨ هـ).
٨ - الدرة البهية في شرح المنظومة البيقونية، شرح الشيخ محمد بدر الدين بن يوسف المدني الدمشقي المتوفي سنة (١٣٥٤ هـ) منه نسخة في الخزانة العامة في الرباط (٥).
٩ - التَّقْرِيرَات السَّنية شرح المَنْظُومَة البَيْقُونِيَّة في مصطلح الحديث، لحسن بن محمد المشاط المالكي (ت: ١٣٩٩ هـ)، طبع شرحه في جدة عام
_________
(١) هدية العارفين (٥/ ٣٠٠).
(٢) المطبوع مع حاشية الشيخ عطية الأجهوري (ت: ١١٩٠ هـ)، طبعة دار الكتب العلمية ١٤٢٥ هـ، بيروت، ق: صلاح محمد عويضة.
(٣) الفهرس الشامل، طبعة مؤسسة آل البيت، (٢/ ١٣٢٠/حديث).
(٤) الفهرس الشامل، طبعة مؤسسة آل البيت، (٢/ ١٣٣٥ - ١٣٣٦/حديث).
(٥) منها صورة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (٦٤٣٩ ف).
1 / 6
١٣٩٢ هـ، وطبع أيضًا في دار الكتاب العربي ببيروت عام ١٤١٧ هـ، وطبع طبعات أخرى غير هاتين الطبعتين.
١٠ - الثمرات الجنية شرح المَنْظُومَةِ البَيْقُونِيَّة، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين اعتنى به الشيخ سعد بن عبد الله السعدان، طبعته دار العاصمة للنشر والتوزيع في الرياض الطبعة الأولى سنة (١٤١٧ هـ).
١١ - شرح المَنْظُومَةِ البَيْقُونِيَّة، للشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: ١٤٢١ هـ)، وطبع شرحه بالقاهرة عام ١٤١٥ هـ.
مشكلة الدِّرَاسَة:
إنَّ البُحوثَ التي عنيت بشرح المنْظُومَةِ البَيْقُونِيَّة وأعمل عُلمَاءُ المسلمين قرائحهم فيها على كثرتها وعظيم فائدتها وإثرائها للمكتبة الإسلامية إلا أنَّ بعضها كان كثير الإسهاب والإطناب في ذكر أقوال المحدثين، ومسائل الخلاف في علم المصطلح التي حيرت عقول أفذاذ العلماء، وكل ذلك يُقَدم في قالبٍ علمي قديم لا يعرفه إلا المتمرسين في هذا الفن، فقول لي بربك كيف يصلح هذا الإسهاب والتَّطويل لطالب العلم المبتدئ؟؛ ولهذا السبب بدا لنا من الضَّرُوري أن نتناول الموضوع من جديد، وأن نعالجه تبعًا لفهم طلاب العلم في هذا العصر، فإنَّ لكلِّ علمٍ باب يوصل إليه بأقصر سبيل، وأيسر طريق، وأوضح دليل.
هذا إلى جانب أنَّ هذه المنْظُومَة لم تستوعب جميع أنواع علوم الحديث، وربما ذَكر النَّاظم فيها أكثر من نوع تحت باب واحد دون استيعاب لبقية الأنواع التي تندرج تحت هذا الباب؛ وتأخير ما حقه التَّقديم وغير ذلك؛ لذا كان لزامًا علينا أن نقدم بعض الأنواع مثل: "الحديث الموقوف" فقد تم تقديم شرحه مع الحديث المرفوع والمقطوع لمناسبته للباب، كما نبهتُ إلى بعض النقص في
1 / 7
المنْظُومَة كما في تعريف حَدِّ "الحديث الضَّعيف"، بالإضافة إلى ذِكر بعض أنواع الحديث التي لم يذكرها النَّاظم ويحتاج إليها المبتدأ كمبحث "الحديث الحسن لغيره"، وما كان على شاكلته، ولم أستوعب جميع ما فات النَّاظم من الأنواع، لِعِلْمِى أنَّ ذلك لا يفيد الْمُبْتَدأ بل يَضُّرّه، فتركتها حتى لا يَمَلّ من ليس له دِرَاية؛ لأنَّ المقام ليس مقام بسط الأنواع، وإنما مقَام إعلام وشرح لينتفع به المبتدِئون، ومما سبق وبعد الوقوف على أشهر شروح المنْظُومَة، يُدْرك القارئ الواعي مدى إضافة هذا الشَّرح لطلبة العلم في هذا العصر إضافة ذات قيمة لا تقدر في هذا الباب، من حيث المنهج والأسلوب والتقسيمات والخرائط الذِّهنية، ولسوف يفيد منها المبتدئ سعةً، وعمقًا، وتَعلمًا - إن شاء الله تعالى-، ولا يستغني عنها المنتهي.
خطة البحث:
البحث ويشتمل على:
- المقدمة وفيها: أهمية الدِّراسة، وأسباب اختيار الموضوع، والدِّرَاسَات السابقة، مشكلة الدِّرَاسَة، وخطة الدِّراسة، ومنهج الدِّراسة.
- شرح المنْظُومَة البَيْقُونِيَّة وقد شمل تعريف أقسام الحديث:
- من حيث اعتبار القبول والرد.
وفيه الحديث الصحيح، والحسن، والحسن لغيره، والضعيف، والتمثيل لكل نوع.
- من حيث اعتبار من أُسْنِدَ إِليهِ.
وفيه تعريف المرفوع، والموقوف، والمقطوع، والتمثيل لكل نوع.
- من حيث اعتبار عدد طرق الحديث.
وفيه تعريف المشهور، والعزيز، والغريب، والتمثيل لكل نوع.
1 / 8
- ثم ذكر أنواع الحديث الضعيف.
وقد فُصِّل فيها أنواع الحديث الضعيف مثل المرسل، والمنقطع، والشاذ، والمعلل، والموضوع، وغير ذلك من الأنواع التي ذكرها النَّاظم.
- الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتَّوصيات.
- ثبت المصادر والمراجع
- الفهارس العلمية:
فهرس الآيات القُرْآنِية.
فهرس الأَحَادِيثِ والآثَارِ المذكورة في الشَّواهد.
فهرس الْمُصْطلحات الْحَدِيثِية الوَارِدة في الدِّراسة.
فهرس الْمَوْضُوعَات
منهج الدِّرَاسَة
قد سَلكتُ في شرح هذه المنظومة المباركة سبيل من قال: "لا خَيرَ في حَشوِ الكَلامِ إِذا اهتَدَيتَ إِلى عُيونِه"؛ فجعلتُ الشَّرح بألخص عِبَارة، وأَيْسَر إشارة ليسهل تناوله، وبالإيجاز غير المخل، ولم أُطلْ النفس في التِّعريفات والمصطلحات مما لا طائل وراءه، فقسمت أنواع الحديث من حيث الاعتبارات إلى أقسام ثلاثة، ورسمت لها الخرائط الذهنية، ثم شرحت بالتَّحقيق كُلّ نوع من أنواع الحديث المذكورة في المنظومة، وبيان مراد النَّاظم منها، والتنبيه على ما يُشْكَل من المصطلحات كالمنقطع والمقطوع وغيرهما، وقد أفرغتُ جهدي في اختيار الأمثلة لتقع موقع البيان الشَّافي لمعنى حَد الحديث المذكور، وضربت الأمثلة لفروع تلك الأنواع، وأعقبت ذلك بتنبيهات في نهاية كل نوع، وفي كل هذا لم آل جهدًا في تيسير واختيار العبارات المناسبة في تعريف مصطلحات
1 / 9
الحديث، وبيان علاقات المصطلحات والمفردات بعضها ببعض؛ فإن خصائص كثير من الأشياء لا تظهر إلا بمعرفة العلاقات والفروق بينها.
فجاء هذا الجزء اليسير مُلِمًّا بغالب أنواع الحديث وتحريرها بأُسْلُوبٍ سَهْلٍ قَرِيب مِن المبتدأ، وقد جمعتُ فيه أَخْبَارًا نَيرات مع الشَّرح والتعليق مُسْتَندا بما حرَّره العلماء الفُحول، وحبَّره أئمة الحديث، وأَذْعَنَ له جمهُورهم بالتلقي والقبول، ومَقَالات أَهْلِ العلم والبَاحِثِين في هذا الشأن ممَّا وقفتُ عليه، جَامِعًا لأَشْتَاتِ ما تَفَرَّق في الدَّواوين، سَائِلًا الله العظيم بفضلهِ ومَنِّهِ أَنْ يَجْعَله خَالصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيم، وأَنْ يَجْعَله مُفِيدًا دَومًا لطلاب عِلْمِ الحديث فِي مشارق الأرض ومغاربها، فإنَّهُ سُبْحَانه هو وَحْدَهُ القَادُرُ عَلَى ذَلِكَ، وهُو السَّميعُ العَلِيمُ.
عملي في تحقيق نص المنْظُومَة البَيْقُونِيَّة
قد أوليتُ المنْظُومَة البَيْقُونِيَّة عنايةً بالغةً بضبط نصها وتحقيقها على أفضل النسخ الخطية، فقابلتُ المتن على نسختين من نفائس النسخ الخطية عتيقةٍ ومتقنةٍ، وكذلك النسخ المطبوعة للشروح، ثم قمت بضبط أبيات المنْظُومَة ضبطًا جيدًا، وتصحيح التصحيف والسقط، وعلّقتُ على بعض المواطن التي تستوجب التعليق كي يزداد النفع، مما لا يخفى على من يراجع كتابنا هذا، وكانت نسخ متن المنْظُومَة التي اعتمدنها في هذا الشرح هي:
1 / 10
١ - مخطوطة متن المنْظُومَة البَيْقُونِيَّة المحفوظة في بدار الكتب المصرية تحت رقم: (١٨٠) مصطلح الحديث، تاريخ النسخ: ١٢٣٢ هـ، اسم الناسخ: محمد حسن أبو بكر، عدد الأوراق: (٤ ق)، المقاس: (١٧ X ٢٤)، وهي نسخة قيمة وموثقة، ورمزتُ لها بالرمز (أ)، وهذا هو الوجه الأول منها:
(صورة مخطوط)
1 / 11
٢ - مخطوطة متن المنْظُومَة البَيْقُونِيَّة المحفوظة في بدار الكتب المصرية تحت رقم: (١٧٩) مصطلح الحديث، تاريخ النسخ: لم يعرف، اسم الناسخ: لم يعرف، عدد الأوراق: (٢ ق)، المقاس: (١٥ X ٢٠)، وهي نسخة واضحة الخط، ورمزتُ لها بالرمز (ب)، وهذا هو الوجه الأول منها.
(صورة مخطوط)
1 / 12
ترجمة النَّاظم
الْمُتأَمِّلُ الْمُنْصِفُ يجد أَنَّ البَيْقُونِي ﵀ على الرغم من أنَّه لم يكن مشهورًا بين النَّاس، ولا يُعْرَف له ترجمة عن حياته وشيوخه وتلاميذه ونحو ذلك - كما أفاد ذلك جمع من الشُّرَاح ممن هو قريب العهد بالنَّاظم (١) - ولا يُعْلَم له مؤلفات إلا هذه المنظومة، نَشَراللهُ عِلْمَهُ بين النَّاس واستفاد منه الكبير والصغير والقاصي والداني؛ فإنَّه بذلك أشبه السلف رضوان الله عليهم قَدَرًا؛ فإنَّ أَئِمَّةَ السَّلفِ رضوان الله عليهم كانوا أكثر علمًا وأقلّ كلامًا، وأكبر نفعًا، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ ﵀: "وانظر إلى أَكَابِر الصَّحابة وعُلَمَائِهِم كأَبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، ومُعَاذٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وزَيدِ بنِ ثَابِتٍ ﵃ كيف كَانَ كلامهم أَقلّ من كَلامِ ابنِ عَبَّاسٍ ﵁ وهُم أَعْلمُ منه، كذلك كلام التَّابعين أكثر من الصَّحابة والصَّحابة أعلم منهم؛ فليس العِلم بكثرة الرِّواية ولا بكثرةِ المقال؛ ولَكِنَّهُ نُور يقْذِفُه اللهُ في قَلْبِ العبد المؤمن فَيَفْهَم بهِ الْحَقَّ، ويُمَيِّز به بَيْنَهُ وبَيْنَ البَاطل، ويُعبر عَنْ ذَلك بِعِبَاراتٍ وَجِيزةٍ مُحَصلة للمقَاصِد" (٢). رَزَقَنَا اللهُ حُبَّهُم، وجَعَلنا من حِزبهم، ومَلأ قُلُوبَنَا من مَعَارِفِهم وعُلُومِهم.
اسم النَّاظم: كما في مخطوطات المنْظُومَة البَيْقُونِيَّة، عمر - أو طه - بن محمد بن فتوح البَيْقُونِي الدِّمَشْقِيّ، وأَنَّه توفي سنة ١٠٨٠ هجرية، أو كان حيًا قبل ذلك
_________
(١) قال الحموي (ت: ١٠٩٨ هـ) في شرحه تلقيح الفكر بشرح منظومة الأثر: (ولم أقف للنَّاظم رحمه الله تعالى على ترجمة يعلم منها اسمه وحاله ولا أدري ما هذه النسبة هل هي لبلدة أو قرية أو أب أو جد"، الشرح مخطوطة منها صورة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(٢) فضل علم السلف على الخلف، لعبد الرحمن بن رجب الحنبلي (ت: ٧٩٥ هـ)، (ص ٥).
1 / 13
العام من غير أن يُعرف تاريخ وفاته على وجه التحديد. وأما النسبة "البَيْقُونِي"، فقد قال الشيخ بدر الدين الحسني (ت: ١٣٥٤ هـ) في آخر صفحة من شرحه المسمى بـ (الدرر البهية) ما نصه: " ... [البيقوني] توقَّف في هذه النسبة غالب من كتب هنا، ورأيت لبعضهم أنها إلى بيقون قرية في إقليم أذربيجان بقرب الأكراد". وأما "الدِّمَشْقِيّ"، فقد يكون أصله من أذربيجان لكنَّه هو أو آباؤه وأجداده ممن سكن دمشق فَنُسِبَ إليها.
1 / 14
بسم الله الرحمن الرحيم
شَرحُ الْمَنْظُومَةِ البَيْقُونِيَّةِ
١ - أبدأُ بالحمدِ مُصَلِّيًا عَلَى ... مُحَمَّدٍ خَيْرِ نبيٍّ أُرْسِلا
٢ - وذِي من أقْسَامِ الحَدِيثِ عِدَّهْ ... وَكُلُّ واحدٍ أَتَى وحدَّه
قَالَ النَّاظمُ ﵀: ... أَبدأُ مَنْظُومَتِى بِالْحَمْد لله تَعَالَى اقْتِدَاءً بِالْكتابِ الْعَزِيز، مُصَلِّيًا أَي: أُصَلِّي فَهِيَ حَال للتَعْبِير عَلَى دَوَامِ الصَّلاة عليه ﷺ، [وَمُسَّلمًا] عَلَى سيدنَا مُحَمَّد خير نَبِي أُرْسِلا أَي: أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هو خَير من أُرْسِلَ للخَلقِ، واستخدم النَّاظم في أُرْسِلا ألف الإطلاق للدَّلالة على أنَّه أفضل من أُرْسِل، وذِي اسم إشارة إلى الْمَنْظُومَةِ وما تَحويهِ مِنْ أَقْسامِ الحديث، وعبر النَّاظمُ بـ مِنْ للتبعيض لأنَّه لم يَذكُر مِنْ أنواع الحديث إلا اثنتين وثلاثين نَوعًا؛ في حين أن ابن الصَّلاح ذَكَرَ بضعة وستين نَوعًا، قَولُهُ: عِدَّه أي أَنَّ هذه الأنواع كثيرة جدًا، والتَّحقيق أَنَّ كُلَّ هذه الأنواع تدخل تحت ثلاثة أقسام الصَّحيح والحسن والضعيف، وَكُلُّ واحدٍ أَتَى وحدَّه: بِالدَّال الْمُشَدّدَة الْمَفْتُوحَة أي كُلّ نوع مِنْ هذه الأنواع يأتي في هذا النَّظم مع تعريفه الاصطلاحي الجامع المانع الذي يُمَيِّزُهُ عن غيره، وأصل التقسيم في مُصْطَلحِ الحديث يكون من ثلاث جهات:
١ - من حيث اعتبار القبول والرد.
٢ - من حيث اعتبار من أُسْنِدَ إِليهِ.
٣ - من حيث اعتبار عدد طرق الحديث.
1 / 15
وموضوع علم الحديث معرفة الرَّاوي (الإسناد)، والمروي (المتن) من حيث القبول والردّ، وإليك هذه الخريطة الذِّهنية لِغَالب أَقْسَام الحديث؛ حتى يكون عندك تصور إجمالي لها.
خريطة ذهنية لأقسام الحديث
الحدِيثُ الصَّحِيحُ:
ثم بعد أبيات المقدمة فِي الْمَنْظُومَة بَدأَ النَّاظمُ ﵀ بأَوْلِ أَقْسَام عُلُومِ الحديث وهي من حيث اعتبار القبول والرد؛ فبدأ بالحديث الصَّحيح، وما يُمَيِّزُهُ عن غيره فقال:
٣ - أوَّلُها الصَّحِيحُ وَهْوَ مَا اتَّصل ... إسْنَادُهُ وَلَمْ يَشُذَّ أَوْ يُعَلْ
٤ - يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِه ... مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِه
أوَّلُها: أي أول أقسام الحديث، الصَّحِيحُ: في اللُّغةِ ضد المريض، وفي الاصطلاح عَرَّفه النَّاظمُ ﵀ بشروطه وأوصافه، وهَذَا نَوْعٌ مِن أَنْواعِ تعريف الحد الاصطلاحي، أَنْ يُذكر التَّعريف بِذِكر الشُّروط، ويكون التَّعريف بالمثال أحيانًا، وكذا قد يكون التَّعريف بالماهية أَحيانًا، قَولُهُ: وَهْوَ أي حَدُّ الحديث الصَّحِيح، مَا اتَّصل إسْنَادُهُ: أي الشرط الأول: الاتصال في السند، وتعريف الإسناد: هُوَ حكاية طَرِيق الْمَتْن، أي سلسلة الرَّواة الذين رَوُوا متن
1 / 16
الحديث، وأما الاتصال في السند يَعنِي: أَنْ يروي كُلُّ رجل في الإسناد عن شيخه الذي فوقه من غير واسطة بينهما من أول السند إلى منتهاه.
خريطة ذهنية لأقسام الحديث من حيثُ اعتبار القبول والرد
قَالَ النَّاظمُ: وَلَمْ يَشُذَّ، يَصِحُ أَنْ تقول: "يَشُذّ أو يَشِذّ"، أي الشرط الثاني: سَلامَةُ الحديثِ من الشُّذُوذ وهو عند أَهْلِ اللغة: الإنفراد، وقال بعضهم إنَّ الشُّذُوذ هو الْمُخَالَفة، والشُّذُوذ في الاصطلاح: هو ما رواه الثقة مُخَالفًا لمن هو أَوثَقُ منه، أو مُخَالفًا لجماعةٍ من الثِّقَات، قَوْلُهُ: أَوْ يُعَلْ أي الشرط الثالث: سَلامَةُ الحديثِ مِنَ العِلَّةِ وهي عند أَهْلِ اللغة: المرض، والعِلَّةُ في الاصطلاح: هي سَبَبٌ غَامِضٌ خَفيٌّ يَقْدحُ في صِحَّةِ الحديث، مع أنَّ الظاهر السَّلامة منه، وبين العِلَّةِ والشُّذُوذ عُمُوم وخُصُوص مُطلق، فَكُلّ شُذُوذ عِلَة، وليس كُلُّ عِلّة شُذُوذًا، وكُلٌّ مِنَ الشُّذُوذ والعِلَّة نَاتِج عن خطأ الرَّاوي في حديثه؛ ولكن قد خص بعض أهل الحديث - على المشهور- الشُّذُوذ بالخطأ الذي يُسْتَدل به على تفرد الرَّاوي، والعِلَّة بالخطأ الذي يُسْتَدل به على الاختلاف بين الرواة، ولا يُدْرِك العِلَّة إِلا خَواص الْمُحَدِّثين.
قَوْلُه: يَرْوِيهِ عَدْلٌ: أي الشرط الرابع: أَنْ يكونَ رُواته عُدُولًا، والعَدَالةُ: حَدَّها العلماءُ بشروط: الْمُسلم الْمُكَلف السَّالِم من الْفسق وصغائر الخسة، وأكثر أحواله طاعة الله.
1 / 17
ضَابِطٌ: أي الشرط الخامس: أي يجب أَنْ يكون رواة الحديث ضابِطينَ، وهو نوعان:
١ - ضَبطُ صَدْر: وَهُوَ أَن يثبت مَا سَمعه بِحَيْثُ يتَمَكَّن من استحضاره مَتى شَاءَ.
٢ - ضَبطُ كِتَاب: وَهُوَ صيانته عِنْده من يَوْم سمع مَا فِيهِ وَصَححهُ إلى أَن يُؤَدِّي مِنْهُ.
قَوْلُهُ: عَنْ مِثْلِه أي يجب أَنْ يكون كُلُّ راوٍ في الإسناد مُتَّصِفًا بالعدالة والضبط عَن مثله من أَول السَّنَد إلى مُنْتَهَاه، مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ: إشارة لضبط الصدر، وَنَقْلِه: إشارة لضبط الكتاب. فخلاصة ذلك أنَّ الحديث الصحيح هو: مَا اتصَل إِسْنَادُه بِرِوَايةِ عَدْلٍ تَام الضَّبط مِن غَير شُذُوذٍ وَلا عِلّةٍ قَادِحة، وهو قسمان عند أهل الحديث: صحيح لذاته وصحيح لغيره،
ومثال الصحيح لذاته متوفر بكثرةٍ في الصحيحين، ومثاله: قَالَ البُخَاريُّ فِي أول حَدِيثٍ في جامعه: حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ ... ابْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ﵁ عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
الحدِيثُ الحسَنُ:
ثم انتقل النَّاظمُ ﵀ إلى النَّوع الثَّاني من حيث اعتبار القبول والرد فقال:
٥ - والْحَسَنُ المعروفُ طُرْقًا وَغَدَتْ ... رِجَالُهُ لاَ كالصَّحِيحِ اشْتَهَرَتْ
1 / 18
قَوْلُهُ: والْحَسَنُ أَي تَعْرِيف حَدّ الحديث الحسن هو: المعروفُ طُرْقًا: بِضَم فَسُكُون أي: أَنَّ الحديث الحسن هو الذي عُرِفَ مخرج طُرُقه يَعْنِي اتِّصَال سَنَده؛ لأنَّ مخارج الحديث تَدُور على رِجَالٍ معرفين (١)، مثل الزُّهريّ فِي الشَّامِيِّين، وقَتَادَة، ويَحْيَى بن أَبِي كَثِيرٍ فِي الْبَصرِيين، والأَعْمَش فِي أَهْلِ الكُوفَة، فَخَرج غير المعروف من الأحاديث الضعيفة مثل: الحديث الْمُنْقَطِع وهو الذي فيه سقط في إسناده، وتُومِئ لفظة: "المعروفُ طُرْقًا" كذلك للاحْتِرَازِ مِن الشُّذُوذ؛ لأَنَّ ما عُرِفَ مَخْرَجُه من الحديث لا يكون شاذًّا.
وأمَّا قَولُ النَّاظِمِ ﵀: وَغَدَتْ رِجَالُهُ لاَ كَالصَّحِيحِ اشْتَهَرَتْ: أي صَارَت رِجَال الحديث الحسن أَقلّ اشتهارًا عِنْد الْمُحدثين فِي الْحِفْظِ وَالإِتْقَانِ والضَّبط مِن رُتبة رجال الصَّحِيح، فثبت بذلك التَّعريف للحديث الحسن عند النَّاظِمِ جميع شروط الصِّحة - مع قلة الضَّبط - إلا السَّلامة من العِلَّة، وعند التَّحقيق فِي كَلامِ أَهْل الحديث، والجَمْعِ بَيْنَ أَطْرَافِ كَلامِهِمْ نجد أنَّ الحديث الحسن عندهم قِسْمَان:
١ - الحسن لذاته: وحدُّه الْجَامِع المانع هُوَ مَا اتَّصل سَنَده بِنَقْل عَدْلٍ ضَابِطٍ قَلَّ ضَبطه قلَّة لا تلْحقهُ بِحَال بِمَن يُعد تَفَرُّده مُنْكرًا، وَسلم كذلك من الشُّذُوذ وَمن الْعِلَّةِ. قَالَ ابنُ الصَّلاح فِي المقدمة: "مِثَالُهُ: حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ ... أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَوْلا أَنْ
_________
(١) قَالَ عَلَيُّ بْنُ المدينِي ﵀: " نظرت فإذا الإسناد يدور على سِتةٍ: الزُّهْرِيِّ، وعَمْرو بن دِينَارٍ، وقَتَادَةَ، ويَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ، وأَبِي إسْحَاقَ السَّبيعيِّ، والأَعْمَشِ ثم صَار علم هؤلاء السِّتة إلى أصحاب التصانيف ممن صنف". كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي (ت: ٣٢٧ هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى (الهندية) سنة ١٢٧١ هـ، (١/ ٣٤).
1 / 19
أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ» (١). فَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصِّدْقِ وَالصِّيَانَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ، حَتَّى ضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ جِهَةِ سُوءِ حِفْظِهِ، وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ لِصِدْقِهِ وَجَلالَتِهِ، فَحَدِيثُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ حَسَنٌ". (٢)
٢ - الحسن لغيره:
وهَو مَا عَرَّفه التِّرْمِذِيُّ ﵀: "كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى لا يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، وَلا يَكُونُ حَدِيثًا شَاذًّا، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْو ذَلِكَ فَهُو عِندَنَا حَدِيثٌ حَسَنٌ". (٣) وأَشَار ابنُ الصَّلاحِ إلى كَلام التِّرْمِذِيِّ السابق شَارِحًا له فَقَالَ: "أي الْحَدِيثُ الَّذِي لا يَخْلُو رِجَالُ إِسْنَادِهِ مِنْ مَسْتُورٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ أَهْلِيَّتُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُغَفَّلا كَثِيرَ الْخَطَأِ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَلا هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ، أَيْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ وَلا سَبَبٌ آخَرُ مُفَسِّقٌ، وَيَكُونُ مَتْنُ الْحَدِيثِ مَعَ ذَلِكَ قَدْ عُرِفَ بِأَنْ رُوِيَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى اعْتَضَدَ بِمُتَابَعَةِ مَنْ تَابَعَ رَاوِيَهُ عَلَى مِثْلِهِ، أَوْ بِمَا لَهُ مِنْ شَاهِدٍ، وَهُوَ وُرُودُ حَدِيثٍ آخَرَ بِنَحْوِهِ، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ شَاذًّا وَمُنْكَرًا ". (٤)
_________
(١) الحديث مخرج في الصحيحين؛ لكن الإسناد الذي أراده ابن الصلاح هنا هو ما أخرجه الترمذيُّ في السنن، كتاب الطهارة، بَاب مَا جَاءَ فِي السِّوَاكِ، طبعة: مصطفى البابي الحلبي، مصر، ق: أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي، (١/ ٣٤)، برقم (٢٢).
(٢) مقدمة ابن الصلاح، طبعة دار الفكر المعاصر، بيروت ١٤٠٦ هـ، (ص ٣٥).
(٣) شرح علل الترمذي لابن رجب، طبعة مكتبة المنار، الزرقاء، الأردن ١٤٠٧ هـ (٢/ ٥٧٣)، وهنا يَنْبَغي التَّنْبِيه عَلَى أنَّ بَعْضَ الْمُحَدِّثِينَ اسْتَخْدَموا لفظة الحسن بِمَعْنَى الْمُنْكَر فلا تخلط بينها، مثل: قيل لِشُعْبَةَ ﵀: لِمَ تَرَكْت فُلانًا، وَأَحَادِيثُهُ حِسَانٍ؟ قَالَ: "مِنْ حُسْنِهَا فَرَرْتُ! ".
(٤) مقدمة ابن الصلاح، (ص ٣١).
1 / 20
ومثاله: مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ الكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ... أَبُو يَحْيَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ﵁، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَقٌّ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَغْتَسِلُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَلْيَمَسَّ أَحَدُهُمْ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالمَاءُ لَهُ طِيبٌ». وهذا حديثٌ ضَعِيفٌ؛ لِضَعفِ أبِي يَحْيَى التَّيْمِيّ، ولكن تابعه هُشَيْمٌ عند التِّرْمِذِيِّ أيضًا فَقَالَ: "حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ ... أَبِي زِيَادٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ. حَدِيثُ البَرَاءِ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرِوَايَةُ هُشَيْمٍ أَحْسَنُ مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ يُضَعَّفُ فِي الحَدِيثِ". (١)
الحدِيثُ الضَّعِيفُ:
ثم انتقل النَّاظمُ إلى النَّوع الثَّالث من حيث اعتبار القبول والرد فقال:
٦ - وكُلُّ مَا عَنْ رُتْبَةِ الْحُسنِ قَصُرْ ... فَهْوَ الضَّعِيفُ وَهْوَ أَقْسَامًا كُثُرْ
قوله: وكُلُّ مَا عَنْ رُتْبَةِ الْحُسنِ قَصُرْ: أي كُلُّ حَدِيثٍ انحط عَن رتبة الحديث الحسن، فهو بذلك قد انحط عن رتبة الصحيح كذلك من باب أَوْلَى، فَهْوَ الضَّعِيفُ: أي فهو حَدُّ الحديث الضَّعيف، وفي اللغة هو: العَلِيل والسَّقِيم ضد الصَّحيح (٢)، وَهْوَ أَقْسَامًا كُثُرْ: أي أَنَّ أنواعه كثيرة حَسْبَ اختلال شروط الصحة في الحديث، فإذا انخرم شرط الاتصال مثلا نتج عَنْ ذلك عدة أنواع
_________
(١) أَبُو عِيسَى الترْمِذِيّ، السنن، كتاب الصلاة، بَابٌ فِي السِّوَاكِ وَالطِّيبِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، طبعة مصطفى البابي، مصر ١٣٩٥ هـ، أحمد شاكر (٢/ ٤٠٧ - ٤٠٨).
(٢) لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور الأنصاري الإفريقي (ت: ٧١١ هـ)، طبعة دار صادر، بيروت سنة ١٤١٤ هـ، (٩/ ٢٠٤).
1 / 21