إذا كان الإنسان، باستخدامه لمعرفته وعبقريته المبدعة، قد أخضع قوى الطبيعة، فإن قوى الطبيعة بدورها تنتقم لنفسها منه بإخضاعه، في المجالات التي يستغلها فيها، لاستبداد حقيقي منفصل عن كافة أشكال التنظيم الاجتماعي (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
لقد كان لوجهة نظر إنجلز الجدلية تأثير واسع النطاق، ومن المؤكد تماما أن السبب في ذلك يرجع إلى أنها تزعم تضمنها العلمي لكل مجالات الدراسات الفيزيائية والاجتماعية في علم واحد. ووفقا لإنجلز يتنبأ هذا العلم «بالسقوط الحتمي » للرأسمالية، ويبرر برنامجا سياسيا لتحرير عمال العالم (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وتجرى حاليا محاولات لتقييم أعمال إنجلز وتحديد مدى تأثيرها.
الفصل السابع
إنجلز والماركسية
التفسير المادي للتاريخ هو العنصر الأساسي في تركة إنجلز الفكرية؛ فهذه الأفكار القليلة التي عبر عنها إنجلز بنفسه بطرق مختلفة كان لها تأثير ثوري على النظرية الاجتماعية والممارسة السياسية، وأي تعليم معاصر في أي مجال من مجالات الفنون أو العلوم الاجتماعية يدعي امتلاكه الكفاءة، لا بد أن يتضمن بعض الدراسة، حتى وإن كانت ناقدة، لهذا المذهب الفكري. ولم تنجح أي من محاولات إظهار هذا المذهب بأنه كلام عقيم أو غير مترابط أو حشو أو غير منطقي، حتى لو كانت حملات الهجوم تلك صادرة عن فلاسفة مرموقين ذائعي الصيت؛ والسبب في ذلك هو أن التفسير المادي للتاريخ مفيد جدا.
في الممارسة السياسية، تتخذ العديد من المجموعات - ومن بينها فرق النشاط السياسي الماركسي من أتباع لينين وتروتسكي وماو تسي تونج - التفسير المادي للتاريخ معتقدا أساسيا لها. والواقع أنه إذا كان هناك معيار واحد للتفرقة بين الماركسي وغير الماركسي، فسيكون التفسير المادي للتاريخ هو المنافس الأقوى من بين هذه المعايير. ومع ذلك، فإن مجرد قبول ذلك التصور لن يجعل أي شخص ماركسيا على نحو قوي للغاية؛ وعلى أي حال، فإن إلحاق وصف «ماركسي» بأي شخص قد لا يخبرنا الكثير، وهذا يرجع إلى عدم وجود تفسير موحد لهذه النظرة الشهيرة للتاريخ يحظى باتفاق كل الماركسيين؛ فالتفسير المادي للتاريخ يمثل مجموعة من «الخلافات المشتركة».
وعلى الرغم من أن التفسير المادي للتاريخ في العالم السياسي يمثل معتقدا راسخا (حيث إنه نقطة أساسية لتبرير الاستراتيجية والتكتيكات والسياسة)، فإن فائدة هذه النظرة تتضح على نحو أكثر مباشرة في أعمال التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا والفلسفة. أثنى إنجلز وماركس نفسه على ماركس بسبب تصوره المهم للطبيعة ولتطور المجتمع البشري؛ فلماذا إذن ترك لنا إنجلز «التفسير المادي للتاريخ»؟
السبب الأول هو أنه ابتكر هذا المصطلح بنفسه، وأصبحت هذه العبارة محل تفسير على نحو منفصل عن كل الموضوعات المعقدة التي كانت تهدف في الأصل إلى تلخيصها. واكتسبت مصطلحات «المادي» و«التفسير» و«التاريخ» أهمية خاصة بها مستقلة عن كتابات ماركس المتمثلة في «أطروحات حول فيورباخ»، و«فقر الفلسفة»، وأهم من ذلك مقدمته لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» لعام 1859؛ فهذه المصطلحات على أي حال لم تناسب جيدا وجهة نظر ماركس، بل ستكون «نظرية الإنتاج الخاصة بالتغيير الاجتماعي» مناسبة أكثر من «التفسير المادي للتاريخ»، على الرغم من أن ماركس امتنع بحكمة عن إعطاء وجهات نظره أسماء على الإطلاق؛ لقد وصف نفسه فقط في مرات نادرة بأنه «مادي»، وبعد ذلك لم يحدد ما قصد توضيحه بهذه الكلمة، باستثناء توضيح أنه ليس «مثاليا». وأشار في مقالته «أطروحات حول فيورباخ» إلى مذاهب المادية السابقة منتقدا إياها، وأشار باستحسان إلى المادية «الجديدة»، على الرغم من أن ماركس لم يربط هذا الوصف بأي شيء محدد آخر خلافا ل «المجتمع البشري أو البشرية الاجتماعية». وفي حين كانت لماركس آراء عن التطور التاريخي للمجتمع الرأسمالي، فإن تلك الآراء لم تكن مهمة تعنى ب «التفسير»؛ فقد كتب مستخفا بهذا الأمر في الأطروحة الحادية عشرة من أطروحاته حول فيورباخ، فقال إن «الفلاسفة «فسروا» فحسب العالم.» ولم يكن أيضا مهتما حقا «بالتاريخ» على النحو الذي كان سيقوم به المؤرخ الذي يسعى لتقديم «تفسير»؛ كان هدف ماركس «ممارسة ثورية»؛ أي «تغيير ذاتي» في المجتمع البشري (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
السبب الثاني للقول بأن التفسير المادي للتاريخ يقع ضمن تركة إنجلز الفكرية، هو أن إنجلز كان أكثر المدافعين عنه تأثيرا ولا يزال هكذا حتى وقتنا المعاصر؛ فهو لم يكن واضعا فحسب للمصطلح، بل كان مدافعا عنه أيضا، ولقد ثبت أن هذا هو أهم الأساليب التوضيحية التي استخدمها إنجلز في كل كتاباته؛ لأن شروحه لكتابات ماركس كانت أكبر تأثيرا من أي من بحوثه التاريخية أو ملاحظاته المعاصرة.
صفحه نامشخص