إنجلز العالم
حدثت طفرة هائلة في أعداد المؤمنين بالأفكار الماركسية عام 1875 مع تكوين حزب اشتراكي كبير موحد وناجح انتخابيا في ألمانيا، وتقبل إنجلز التحدي.
في البداية اتبع منهجا غير مباشر تمثل في نقد أعمال أوجين فون دوهرينج، وهو أكاديمي تحول للاشتراكية وكان يحظى بتأثير متزايد داخل الحزب. واستجابة لمطالب الجماعة المناهضة لدوهرينج داخل قيادة الحزب، تولى إنجلز مهمة توضيح «موقفنا في مواجهة ذلك الرجل»، بتعبيره الذي قاله في خطاب لماركس في 24 مايو 1876 (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الرابع والثلاثون). في سبعينيات القرن التاسع عشر، نشر دوهرينج مجموعة أعمال هي: «التاريخ النقدي للاقتصاد السياسي والاشتراكية»، و«مقرر في الاقتصاد السياسي»، و«مقرر في الفلسفة باعتبارها نظرة علمية صرفة للعالم ونسق حياة». وأخذ إنجلز منطقيا الكتاب الأخير كهدف أساسي لهجومه؛ لأن هذا العمل «يكشف على نحو أفضل الجوانب والأسس الضعيفة للحجج المقدمة عن الاقتصاد»، وكتب إنجلز إلى ماركس فقال إن «تفاهات» دوهرينج، عرضت «بطريقة أبسط من تلك التي عرضت بها في الاقتصاد.» كانت بنية نقد إنجلز لدوهرينج مستوحاة إلى حد كبير من الملخص غير المترابط الذي وضعه دوهرينج لما أسماه «فلسفة الواقع». وطبقا لإنجلز، قدم دوهرينج قدرا قليلا من «الفلسفة الفعلية؛ من منطق صوري وجدل، وميتافيزيقا ... إلخ»، وكان لديه منهج مضحك تمثل في اعتبار «كل ما يبدو طبيعيا أنه طبيعي في الواقع» (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز؛ أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الرابع والثلاثون).
ظهر كتاب «ثورة السيد أوجين دوهرينج في العلوم»، المعروف باسم «الرد على دوهرينج» على شكل أجزاء في صحيفة اشتراكية ألمانية في الفترة ما بين عامي 1877 و1878، ثم نشر في ثلاثة كتيبات، ثم نشر مرة أخرى في هيئة كتاب قبل أن يفرض قانون 1878 المناهض للاشتراكية الرقابة في ألمانيا بوقت قصير، وأسفر العمل عن اضطراب كبير داخل الحزب الاشتراكي، ونشرت ثلاثة فصول من الكتاب تحت عنوان: «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية» في ترجمة فرنسية عام 1880، وباللغة الألمانية عام 1883، وعاد الكتاب الكامل في الظهور عام 1886 وعام 1894. وبحلول عام 1892 كان كتيب «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية» متداولا، كما زعم إنجلز، بعشر لغات. وكتب إنجلز فقال: «لا أدري إذا ما كان أي عمل اشتراكي آخر - حتى «البيان الشيوعي» الذي كتبته مع ماركس عام 1848، وحتى «رأس المال» الذي ألفه ماركس - قد حظي بهذا القدر من الترجمات؛ ففي ألمانيا ظهرت أربع طبعات، إجمالي عدد النسخ فيها 20 ألف نسخة تقريبا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). لقد وضع إنجلز الماركسية على الخريطة وجعلها تحظى بالشهرة.
كانت لدى إنجلز ثلاثة أسباب لمناقشة كتابات دوهرينج؛ أولها «الحيلولة دون إتاحة فرصة جديدة للانقسام الفكري والبلبلة داخل الحزب، الذي كان لا يزال في بداياته وبدأ لتوه في تحقيق وحدة واضحة المعالم»؛ فقد كانت آراء دوهرينج تحظى بالقبول باعتبارها آراء اشتراكية دون أي تحفظ، هذا فضلا عن استعداد بعض الأشخاص لنشر هذا المعتقد بين العمال، وخروج البعض على سياسة التحرير الخاصة بجريدة الحزب.
أما السبب الثاني، فهو ما قال عنه إنجلز عام 1878 «فرصة لصياغة آرائي في صورة إيجابية حول الموضوعات المثيرة للجدل، التي تستأثر اليوم باهتمام علمي أو عملي عام.» وعلى الرغم من أن عمل إنجلز لم يقدم نظاما «بديلا»، فقد تمنى إنجلز «ألا يفشل القارئ في ملاحظة الرابط الكامن في الآراء المختلفة التي قدمتها.»
والسبب الثالث أن إنجلز كان يهدف إلى تحذير القراء من الأنظمة الألمانية الأخرى التي تمثل «الهراء المطلق»، والتي فيها «يكتب الناس عن كل موضوع لم يدرسوه، ويقدموا ما كتبوه على أنه المنهج العلمي الدقيق الوحيد.» لم يكن دوهرينج سوى «واحد من أكثر الأشخاص النمطيين» الذين يروجون ل «العلوم الزائفة المغالية في إثبات مصداقيتها»، ومع ذلك، اعترف إنجلز صراحة أنه هاو غير متخصص في التشريع والعلوم الطبيعية، وجعل إسهامه في تلك الموضوعات قاصرا على «تصحيح الحقائق التي ليس فيها خلاف» (الرد على دوهرينج).
وبالتدريج استحوذ المشروع الثاني - عرض «الآراء الإيجابية» - على الاعتبارات الأخرى الموجودة في ذهن إنجلز. وفي مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «الرد على دوهرينج» عام 1885، المكتوبة بعد نحو عامين من وفاة ماركس، كتب إنجلز أن جدله «تحول إلى عرض مترابط بنحو أو بآخر للمنهج الجدلي والنظرة الشيوعية للعالم التي حاربت أنا وماركس من أجلها.» واستطرد فقال: «هذه النظرة تحظى الآن بالاعتراف والدعم حتى خارج حدود أوروبا، في كل دولة تحتوي على طبقة عاملة من ناحية، ومنظرين علميين دءوبين شجعان من ناحية أخرى.» ورأى إنجلز أن هذا الجمهور كان حريصا على نحو كاف على «تقبل الجدل المناهض لمعتقدات دوهرينج فقط من أجل التصورات الإيجابية.» وما وصفه في مقدمة عام 1878 بأنه «آرائي»، أصبح في كتابات إنجلز اللاحقة عن ذلك الموضوع آراء مشتركة بينه وبين ماركس (الرد على دوهرينج). وفي مقدمة عام 1892 لكتيب «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية»، قال إنجلز إن ترويج «الآراء التي أعتنقها أنا وماركس» هو «السبب الأساسي الذي دفعني للاضطلاع بهذه المهمة المزعجة من جميع النواحي الأخرى.» لقد منحته الشمولية المنهجية في أعمال دوهرينج فرصة لتطوير تلك الآراء المشتركة حول مجموعة كبيرة متنوعة من الموضوعات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). والغريب أن ماركس هو صاحب المقدمة الأصلية للكتيب، لكنها كانت موقعة باسم زوج ابنته الاشتراكي الفرنسي بول لافارج (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد التاسع عشر).
وفي عام 1894 ظهر ماركس على نحو أكبر في عرض إنجلز لكتاب «الرد على دوهرينج»؛ نظرا لأن إنجلز قد أضاف بعد ذلك بعضا من محتوى مخطوطات ماركس إلى الفصل العاشر من الكتاب. وبعد أن اقتطع إنجلز في السابق مسودات ماركس من أجل الجزء الذي يتحدث عن الاقتصاد السياسي في الكتاب، ضمن إنجلز ما اقتطعه من المسودات وكرر الشكر والتقدير الذي كان مكتوبا في طبعة 1885، وكانت هذه هي أول مرة يكشف فيها على الملأ أن ماركس قد ساعده في تأليف جزء صغير من كتاب «الرد على دوهرينج».
في الفصل الأول من العمل بصورته الأصلية التي نشره بها إنجلز، أسهب في توضيح الفروق التي تناولها عام 1859 في مراجعته النقدية لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» - وهي: الميتافيزيقا والجدل، والمثالية والمادية، والمدخل التاريخي والمنطقي لتطور الرأسمالية - ونسب الفضل إلى ماركس في اكتشاف «التصور المادي للتاريخ»، و«سر الإنتاج الرأسمالي من خلال فائض القيمة»، وعلق إنجلز على الأمر الأول فقال:
صفحه نامشخص