Ease and Tolerance in Islam
اليسر والسماحة في الإسلام
ناشر
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
ژانرها
اليسر والسماحة في الإسلام إعداد
أد. فالح بن محمد الصغير
كلية أصول الدين - جامعة الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، وبعد:
إن الإسلام هو الدين الذي اختاره الله - تعالى - لعباده، منذ أن خلق الخليقة الأولى آدم ﵇، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (١) . ويقول أيضًا: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (٢) . وجعل لهذا الدين محورًا واحدًا إلى يوم القيامة، هو توحيده جل وعلا، وهو المحور الذي كان يدعو إليه الأنبياء والرسل أقوامهم وأتباعهم، يقول جل ثناؤه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (٣) . وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (٤) .
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ١٩.
(٢) سورة آل عمران، الآية: ٨٥.
(٣) سورة النحل، الآية: ٣٦.
(٤) سورة الذاريات، الآية: ٥٦.
1 / 1
ولكن أحكام هذا الدين كانت تختلف من رسالة إلى أخرى، وكانت تلك الأحكام مقتصرة على أقوام وأفراد في زمان ومكان محددين، ولا تدوم أحكام أية رسالة بعد وفاة نبيها لأمد طويل، فسرعان ما يعتريها التحريف والتبديل، فيفسد التوحيد عند الناس، وتعم المعاصي والمظالم، حتى يرسل الله تعالى نبيًّا آخر يجدد للناس دينهم، ويردهم إلى توحيد الله وهديه، هكذا كانت سنة الله - تعالى - في الأمم السابقة.
حتى بعث الله - تعالى - آخر رسله ﷺ ومعه آخر رسالة، فجاءت هذه الرسالة عامة للإنس والجن، والأبيض والأسود، والعرب والعجم، وهي الرسالة التي حملت مضمونين جديدين، هما الرحمة والعالمية، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (١) .
_________
(١) سورة الأنبياء، الآية: ١٠٧.
1 / 2
إن هذا الدين العالمي الذي يخاطب الناس كافة، بجميع أعراقهم وأطيافهم، في كل أرجاء الأرض، لا بد أن يتميز بصفات وخصائص تتناسب مع أحوال الناس وظروفهم في البلاد المتفرقة من العالم، فجاء يحمل في أحكامه وتشريعاته التيسير والسعة، فلا تخلو فريضة من الفرائض ولا شعيرة من الشعائر إلا وقد أضفى عليها الله - تعالى - من اليسر ما يجعل الإنسان قادرًا على تطبيقها والقيام بها على الصورة التي أرادها الله - تعالى - ورسوله ﷺ، لأنه ﷿ لا يكلف النفس فوق طاقتها أبدًا: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (١) .
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ٢٨٦.
1 / 3
وتتوضح لنا هذه الحقيقة في رسالة الإسلام بشكل أكثر عندما تتم المقارنة بين ما كانت عليها الأمم السابقة من المشقة والعنت، وما صارت عليه أمة الإسلام من يسر وسهولة، يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (١) .
_________
(١) سورة الأعراف، الآية: ١٥٧.
1 / 4
فقد خفف الله - تعالى - عن عباده الأغلال والأثقال التي كانت ترافق شرائعهم فتثقل بها كواهلهم، وتصعب معها حياتهم، وهذا فضل كبير من الله - تعالى - لهذه الأمة، ولم يكن ذلك أمرًا عارضًا وإنما لحكمة يعلمها الله، أرادها لعباده تمشيًا مع فطرهم وإعانتهم في أداء طاعاتهم وعباداتهم، ومن ثم تحقيق مصالحهم في شؤونهم كلها، فكل حكم أو تشريع يحمل معه مصلحة للناس في أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وغيرها.
وإذا أردنا أن نخوض في أعماق مبدأ التيسير والسماحة في دين الله - تعالى - فإننا سنجد أنفسنا أمام بحر زاخر من الشواهد والنصوص والأحداث التي تقر هذا المبدأ وتحث المسلمين على انتهاجه واتباعه، لذا سنتحدث عن هذا المبدأ الإسلامي العظيم من خلال بعض المعالم التي برز فيها واضحا وجليًّا بشيء من الإيجاز، وذلك حسب ما يتطلبه المقام؛ إذ إن هذا البحث كتب بناء على طلب: (المؤتمر العالمي عن موقف الإسلام من الإرهاب) الذي ترعاه جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
وقد جاءت عناصر البحث في:
- مفهوم اليسر.
- الدين الإسلامي قائم على اليسر والسماحة.
- مرتكزات منهج اليسر في الشريعة الإسلامية.
1 / 5
- مجالات التيسير والسماحة في الإسلام.
- القواعد الشرعية المستنبطة من النصوص الواردة في التيسير.
- آثار الابتعاد عن منهج التيسير.
- خلاصة البحث.
وأسأل الله - تعالى - أن ينفع بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه
فالح بن محمد بن فالح الصغير
الرياض ١٤٢٤هـ
ص. ب ٤١٩٦١ الرياض ١١٥٣١
falehmalsgair@yahoo. com
1 / 6
مفهوم اليسر اليُسْرُ لغة: ضد العُسْرِ. ومنه " الدِّين يُسْرٌ " أي سهلٌ سَمْحٌ قليل التشديد (١) .
أما في الاصطلاح: فهو تطبيق الأحكام الشرعية بصورة معتدلة كما جاءت في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، من غير تشدُّد يُحرِّم الحلال، ولا تميُّع يُحلِّل الحرام.
ويدخل تحت هذا المسمى السماحة والسعة ورفع الحرج وغيرها من المصطلحات التي تحمل المدلول نفسه.
وسنتحدث عن اليسر والسماحة في ضوء العناصر الآتية:
_________
(١) المعجم الوسيط، مادة: يسر ٢ / ١٠٧٨.
1 / 7
أولًا - الدين الإسلامي قائم على اليسر والسماحة إن الدين الإسلامي بمجمله قائم على اليسر ورفع الحرج ابتداء من العقيدة وانتهاء بأصغر أمور الأحكام والعبادات بشكل يتوافق مع الفطرة الإنسانية وتتقبله النفس البشرية من غير تكلف أو تعنت، وهذا ما أشار إليه الله تعالى في مواطن كثيرة من كتابه العزيز منها قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (١)، وقوله أيضًا: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (٢)، وقوله ﷿: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (٣) .
وتلت هذه الآيات الكريمات السنة النبوية بأحاديث كثيرة تحمل معاني اليسر في أمور الدين وعدم التنطع والتشدد في العبادات والطاعات، فقد أشار ﵊ إلى أن من أهم ما تميزت به رسالة الإسلام عن غيرها من الرسالات السماوية السابقة هي السماحة واليسر كما في قوله ﷺ: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (٤) .
_________
(١) سورة الحج، الآية: ٧٨.
(٢) سورة البقرة، الآية: ١٨٥.
(٣) سورة النساء، الآية: ٢٨.
(٤) صحيح البخاري، رقم٣٩، ص٩-١٠.
1 / 8
والمتمعن في السيرة النبوية يجد أن سلوك النبي ﷺ وتعامله مع صحابته مبني على منهج التيسير والسماحة، والشواهد أكثر من أن تعد أو تحصى، ولكن نكتفي بسرد حادثة وقعت لأحد الصحابة وجاء إلى الرسول ﷺ، يريد مخرجًا لها وهو صحابي فقير لا يملك قوت يومه، وهي تغني عن جميع ما كان يقع للصحابة من إحراجات.
يقول أبو هريرة ﵁: «بينما نحن جلوس عند النبي ﷺ إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله ﷺ: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، قال: فمكث النبي ﷺ فبينا نحن على ذلك أتي النبي ﷺ بعرق فيها تمر - والعرق: المكتل - قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خذها فتصدَّق بها فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك» (١) .
_________
(١) صحيح البخاري، رقم١٩٣٦، ص٣١١. ورواه مسلم في صحيحه برقم٢٥٩٥، ص٤٥٣.
1 / 9
١ - الرخصة
الرخصة في اللغة: التيسير والتسهيل، أو اليسر والسهولة، والرخص ضد الغلاء، وفلان يترخص في الأمر إذا لم يستقص، ويتعدى بالهمزة والتضعيف (١) .
أما في الاصطلاح فقد عرفها البيضاوي بأنها: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر" (٢) .
والرخصة قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين حيث تشمل جميع أمور الدين وجوانبه في العقيدة والعبادة والمعاملة والعقوبات وغيرها. وهي منحة وصدقة من الله - تعالى - لعباده، كما قال ﵊: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (٣) .
ويمكن وصف الرخصة بأنها من أهم معالم اليسر في هذا الدين، وأن الله - تعالى - إنما أجازها ليخفف عن عباده وطأة بعض التكاليف، ويعذرهم عما لا يطيقونه، لذلك يستحب إتيان هذه المنحة والعمل بها في مواضع الجواز، يقول ﵊: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته» (٤) .
ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الرخص التي بيّنها الله ورسوله ﵊ للأمة من خلال الأمثلة الآتية:
_________
(١) المصباح المنير ١ / ٣٠٤. القاموس المحيط ٢ / ٣٠٤.
(٢) نهاية السول ١ / ٨٧.
(٣) صحيح مسلم، رقم١٥٧٣، ص٢٧٩.
(٤) مسند أحمد، رقم٥٨٧٣، ص٤٥٣. ورواته ثقات.
1 / 10
أ - الرخصة في السفر: وذلك بقصر الصلاة الرباعية المفروضة، والجمع بين صلاتي الظهر والعصر وكذا المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير. وكذلك الإفطار فيه، لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (١) .
وقوله ﷺ: «ليس من البر الصوم في السفر» (٢) .
ب - التيمم بالتراب عند عدم وجود الماء أو عند تعذر استعماله، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (٣) .
ج - الرخصة في الحيض والنفاس، وهما عذران للصلاة والصيام ومسّ المصحف والطواف بالنسبة للمرأة.
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ١٨٤.
(٢) صحيح البخاري، رقم١٩٤٦، ص٣١٣. ورواه مسلم في صحيحه برقم٢٦١٢، ص٤٥٦.
(٣) سورة المائدة، الآية: ٦.
1 / 11
٢ - الأصل في الأشياء الإباحة
ومن أهم المرتكزات التي قام عليها منهج التيسير في الإسلام أن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، وليس منعها وحرمتها، فكل ما خلق في هذا الكون مسخرٌ للإنسان ومهيأ للاستمتاع به، ما لم يكن فيه نهي صريح، يقول الله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ (١) .
وبما أن الشارع قد بيّن ذلك فلا يحق لأحد أن يحرم هذا المباح، فإنه بذلك يدخل في نطاق التنطع والتعنت المنهي عنه، ومن أجل ذلك جاء التحذير الرباني بالنهي عن تحريم الأمور المباحة أو تحليل المحرم، فقد كان هذا السؤال سببًا لإخراج الناس من الدين الحق، وإحلال غضب الله عليهم، كما حدث لبعض الأمم السابقة، يقول الله تعالى: ﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾ (٢) .
_________
(١) سورة الجاثية، الآية: ١٣.
(٢) سورة المائدة، الآيتان: ١٠١، ١٠٢.
1 / 12
ويقول ﵊: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» (١) .
_________
(١) صحيح البخاري، رقم٧٢٨٩، ص١٢٥٤. ورواه مسلم في صحيحه برقم٦١١٦، ص١٠٣.
1 / 13
٣ - الخطأ والنسيان والإكراه
تظهر سماحة الإسلام في توافقه مع الفطرة الإنسانية السليمة التي خلقها في نفس الإنسان، ومن هذه الفطرة الخطأ الذي يقع فيه الإنسان في معظم أحواله من غير قصد، وكذلك ما يعتريه من النسيان، وهو ما ذكره الله - تعالى - على لسان المؤمنين الذين قالوا: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ قال الله تعالى: " قد فعلت " (١) .
وأما الاستكراه فهو أمر خارج عن إرادة الإنسان، لا يستطيع كل إنسان أن يتحمل ما قد يتعرض له من أذى أو ضرر أو تهديد بالقتل أو قطع عضو وغيره، فحينها رخص له الشارع أن يتنازل عن بعض مفاهيمه الدينية تخلصًا من الحال التي يعانيها، والعذاب الواقع عليه كما حصل لعمار بن ياسر ﵄، حينما ذكر آلهة قريش بخير ونال من رسول الله ﷺ تحت وطأة التعذيب، وقتل أبواه أمام عينيه، فشكا ذلك إلى رسول الله ﷺ، فقال له الرسول ﵊: «(كيف تجد قلبك؟)، قال: مطمئنًا بالإيمان، قال النبي ﷺ: (إن عادوا فعد)» (٢) .
_________
(١) صحيح مسلم، رقم٣٣٠، ص٦٧.
(٢) رواه الحاكم في المستدرك ٢ / ٣٥٧. وذكره ابن حجر في الفتح عن عبد بن حميد من طريق ابن سيرين وقال: وهو مرسل ورجاله ثقات، وذكر مراسيل أخرى في هذا المعنى ثم قال: وهذه المراسيل تقوي بعضه ببعض.
1 / 14
وما ذلك إلا رحمة بالعباد وتيسيرًا عليهم، لأن الخطأ والنسيان من الأمور الفطرية التي لا يسلم منها أحد، وأما الإكراه فلأن قوة التحمل تختلف من إنسان لآخر، من أجل ذلك جاء هذا التشريع الرباني بهذه الصورة الميسرة التي تناسب أطباع الناس وفطرهم.
1 / 15
٤ - النهي عن الغلو في الدين
إن دين الله - تعالى - يحمل في تطبيقه السعادة والعدالة للناس، ولا يحمل الشقاء والعذاب، فالإنسان الذي يأخذ هذا الدين كما أراده الله - تعالى - باعتدال وفهم ووعي ينال السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وأما الذي يشادّ فيه ويتشدد في غير موضع التشدد، ويحرم الحلال والمباح، فإنه ينال الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة، يشير إلى هذا المعنى ربنا ﷿ في أول سورة طه قائلا: ﴿طه﴾ ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ (١) .
ويقول ﵊: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا (٢) .
والمتنطعون كما فسره النووي ﵀: المتعمقون المشدِّدون في غير موضع التشديد (٣) .
_________
(١) سورة طه، الآيتان: ١، ٢.
(٢) صحيح مسلم، رقم٦٧٨٤، ص١١٦٢.
(٣) رياض الصالحين، ص٥٤، باب الاقتصاد في الطاعة.
1 / 16
فقبول الطاعة غير مرتبط بمدى التعب والنصب، لأن الله - تعالى - لا يحب أن يطاع بغير ما أنزله على عباده، فالذي يعبد الله ليلًا ونهارًا بشكل يخالف منهج الله - تعالى - لا تقبل عبادته مهما أتعب نفسه وأرهقها، والله ﷿ في غنى عن أعمال العباد، ولكنه - جل شأنه - يفرح عندما يرى عباده على دينه القويم، تقول أم المؤمنين عائشة ﵂: «إن النبي ﷺ دخل عليها وعندها امرأة قال: من هذه؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها قال: (مهْ عليكم بما تطيقون فوالله لا يَمَلُّ الله حتى تَملوا) وكان أحب الدِّين إليه ما داوم صاحبه عليه» (١) .
ويقول أنس بن مالك ﵁: «دخل النبي ﷺ فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي ﷺ: لا حُلُّوه ليُصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد» (٢) .
_________
(١) رواه البخاري، رقم٤٣، ص١٠. ورواه مسلم في صحيحه برقم١٨٣٤، ص٣١٨-٣١٩.
(٢) صحيح البخاري، رقم١١٥٠، ص١٨٤. ورواه مسلم في صحيحه برقم١٨٣١، ص٣١٨.
1 / 17
٥ - التوبة
والتوبة من الأسس المتينة التي يرتكز عليها منهج التيسير في الإسلام، وهي سبب من أسباب ثبات المؤمن وبقائه على دين الله تعالى، حيث تزيل عن كاهله هموم المعاصي وأثقال المخالفات، وتدفعه للعمل دومًا نحو الأفضل، يقول الله تعالى: ﴿قُلْ يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (١) .
والتوبة سبب لمحبة الله - تعالى - للإنسان عندما ينيب إليه بعد أن عصاه، ويندم على فعله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (٢) .
ويؤيد هذا المعنى قوله ﵊: «لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها» (٣) .
_________
(١) سورة الزمر، الآية: ٥٣.
(٢) سورة البقرة، الآية: ٢٢٢.
(٣) صحيح مسلم، رقم٦٩٥٣، ص١١٨٩.
1 / 18
وينبغي ألا يستكثر الإنسان على ربه بالتوبة إذا عصى، أو يصارع نفسه ويدخلها في مستنقعات الوسواس الخناس إذا اقترفت يداه ذنبًا أو وقعت عينه على معصية، بأن يقول: إن الله - تعالى - لن يغفر لي بعد هذا، فهذه معصية كبرى، وعقيدة فاسدة، وسوء ظن بالله جل شأنه، وهو باب من أبواب الشيطان لئلا يعود إلى ربه مرة أخرى ويعمل الأعمال الصالحة، يقول ﵊: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (١) .
ويقول ﵊: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (٢) .
ومن يسر هذا الدين وسعته ورحمته أن الله - تعالى - جعل الأعمال الصالحة مكفرات لخطايا بني آدم، لقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (٣) .
وقوله ﵊ لأبي ذر ﵁: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (٤) .
_________
(١) صحيح مسلم، رقم٦٩٦٥، ص١١٩١.
(٢) سنن ابن ماجه، رقم٤٢٥١، ص٦١٩. رواه الترمذي في جامعه برقم٢٤٩٩، ص٥٦٨-٥٦٩. رجاله ثقات غير زيد بن حباب قال فيه الإمام أحمد: صدوق كثير الخطأ.
(٣) سورة الفرقان، الآية: ٧٠.
(٤) جامع الترمذي، رقم١٩٨٧، ص٤٦٠. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
1 / 19
وقد وردت أحاديث كثيرة تبين الأعمال التي تكفر السيئات وتحط منها، وترفع الدرجات وتزيد منها عند الله تعالى، نذكر بعضها:
أ - الوضوء، فإنه يكفر عن المسلم ذنوبه وخطاياه ما اجتنبت الكبائر، لقوله ﷺ: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» (١) .
ب - الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، وكذلك صوم رمضان، فإنها جميعا تكفر خطايا ابن آدم وترفع من درجاته وشأنه عند الله تعالى، يقول ﵊: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (٢) .
وعن أبي قتادة الأنصاري ﵁ «أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والباقية)، وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية» (٣) .
ج - أن كل ابتلاء ومصيبة يبتلى بها المسلم فهي كفارة له، لقوله ﵊: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» (٤)
_________
(١) صحيح مسلم، رقم٥٧٨، ص١٢١.
(٢) صحيح مسلم، رقم٥٥٢، ص١١٧.
(٣) صحيح مسلم، رقم٢٧٤٧، ص٤٧٧.
(٤) صحيح البخاري، رقم٥٦٤١، ص٩٩٩. ورواه مسلم بنحوه برقم٦٥٦٨، ص١١٢٨.
1 / 20