والواقع أن المصطلحات التي استخدمها «حسن» في جدولته هذه ليست خاصة بالحداثة أو ما بعد الحداثة، بقدر ما هي أمثلة على تواترات ثقافية وفكرية، كانت ولا تزال شائعة في كلتيهما وغير مميزة لأيهما على حدة. وربما يكون الأكثر جدوى ودقة من ذلك هو القول بأنه في مراحل معينة من ثقافة الحداثة سادت - بدرجة أو بأخرى توجهات ما بعد حداثية، وفي مرحلة ما بعد الحداثة ما زالت هناك جذور حداثية. وباختصار، إن الثنائيات التي أوردها «حسن» في جدولته ينقصها الدقة والإحكام، ويمكن النظر إليها على أنها تعطينا مؤشرات على التوجه العام لتيار ما بعد الحداثة، ولا تكشف بدقة عن طبيعة هذا التوجه.
غير أن «حسن» في موضع آخر، يحدد بطريقة أكثر دقة، وإن كانت بالسلب، بعض الأسس المشتركة في تيارات ما بعد الحداثة، وهي كالآتي: (1)
رفض النظريات الشمولية، لا سيما النظريات الكبرى مثل: نظريات كارل ماركس، وهيجل، ووضعية كونت، والتحليل النفسي، مع التركيز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود. (2)
رفض اليقين المعرفي المطلق، ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول؛ أي تطابق الأشياء والكلمات. (3)
رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة، ولا سيما مفهوم التطور الخطي. (4)
مناهضة كل أشكال السلطة، سواء في الخطاب أو في السياسة أو في الفن.
4
وقد حاول كينيث آلن تقنين بعض المقولات النظرية لتيار ما بعد الحداثة ليضعها في شكل (السبب/النتيجة) أو (المتغير المستقل/المتغير التابع)، متخذا من الرأسمالية المتأخرة أو رأسمالية العولمة موضوعا لدراسته، وعلى سبيل المثال رأى آلن أن إعادة توطين رأس المال وسرعة حركته، هو سبب نتيجته زعزعة الرموز الثقافية وافتقادها القدرة على تقديم المعنى، كما ذهب إلى أن هيمنة التكنولوجيا في عملية الإنتاج، وهو متغير مستقل، يؤثر على متغير تابع هو (عدم ثبات الذات وتشظيها وتفككها).
5
والواقع أنه يصعب حصر المسألة في مجرد سبب ونتيجة؛ إذ النتيجة تتحول إلى سبب، والسبب يتحول بدوره إلى نتيجة، وهكذا. كما أن عبارات مثل «فقدان المعنى» و«تشظي الذات وتفككها» هي عبارات شديدة التركيب والتجريد يصعب ردها إلى سبب واحد.
صفحه نامشخص