أعظم ملك يكتب عنه أعظم شاعر، ولكن لا لتمجيده والتغني بانتصاراته؛ فهو يتبع التاريخ دون أن يتقيد بالتاريخ. يوليوس قيصر الذي فاق هنيبعل والإسكندر فكان أول من استولى على الرين والأوقيانوس، وفرض الجزية على جرمانيا وبريطانيا، وبسط سلطانه فوق آسيا وإفريقيا، وافتتح إسبانيا وبلاد الغال، وانتصر على «فرسنجتوريكس» في ألزيا
Alésia ، وعلى فرناس في
Zela ، وبطليموس في الإسكندرية، وبومباي في «فرسال»، ومشى من نصر إلى نصر حتى دفع كاتون إلى الانتحار، وأوقع العالم في العبودية، ينظم فيه شكسبير رواية تمثيلية لا ليظهر بطولته ويشيد بمزاياه، ويعدد أعماله وفتوحاته؛ فهي في نظره لا شيء أمام الغيرة الوطنية والعدل والنزاهة التي كان يتحلى بها قاتله بروتوس.
فالرواية تحمل اسم القيصر غير أن الدور الأول فيها لبروتوس، والأهمية ليست لذاك القائد العظيم الذي افتتح ثمانمائة بلد، ودوخ ثلاثين أمة، وعبأ للحرب ملايين من الجند، بل لهذا المواطن المحبوب من الشعب الذي قال عنه المؤرخ بلوتارك: إنه كان أكرم الناس خلقا، وأصفاهم شيمة، وأعفهم لسانا، وأقواهم جنانا.
إن الذي حمل شكسبير على قلب التاريخ في علاقة الأشياء والحوادث بعضها ببعض، إذا جاز لنا هذا التعبير، يرجع إلى سببين؛ الأول: أن شكسبير كان شاعرا إنسانيا؛ فهو لا يفصل بين وظيفة الشاعر وواجبات الإنسان، ولا يلتمس الفن لأجل الفن وحده، بل يرى في الشعر رسالة إصلاح وتهذيب بمناصرة الحق ومحاربة الباطل. وما المسرح في نظره سوى مرآة تعكس للمجتمع فضائله وعيوبه، والغاية منه لا تقف عند تسلية الجماهير، بل تتعداها إلى تنوير الأذهان وإرشاد النفوس، بعرض حياة أبطاله عرضا يقصد منه إلى الحكم لهم أو عليهم، واستخلاص العبرة النافعة والموعظة الكبرى.
ولهذا تجد الفلسفة في أقواله تنبع من كل جانب، وهي مستوحاة من حالة الاجتماع، والبيئة التي عاش فيها. ومن الصعب أن تمر برواية له لا تشير إلى بعض مواطن النقص والفساد، وتهور الأخلاق التي عاش فيها ذلك الجيل، ولا تكثر فيها مغامزه ليخلص منها إلى مغزى أدبي أو درس اجتماعي.
في رواية «هملت» مثلا يريك خطر التردد في الرأي عندما يرتفع صوت الواجب، وفي «الملك لير» يظهر التباين بين سلطة الملك الزائلة، وسلطة الأب الطبيعية والأخطاء التي تتعرض لها الثانية إذا تحكمت بها الأولى، وفي «عطيل» يكشف لك عن أعماق الهاوية التي تحفرها يد الغيرة العمياء، وفي «كما يروق لك» ينحي باللائمة على حقوق البكورية التي ما برحت طوال القرون الوسطى عاملة في إنكلترا على تضحية الإخوة في سبيل مصلحة البكر، وفي «كل شيء حسن إذا حسنت نهايته» يطعن في امتياز الطبقات، ويجبر الأرستقراطية على الاتحاد مع الشعب.
وفي «تاجر البندقية» يحارب التعصب الديني بتزويجه مسيحيا من ابنة يهودي، وفي «يوليوس قيصر» يناهض الاستبداد. وهنا نصل إلى السبب الثاني فيما رمى إليه شكسبير بإنزال هذا العاهل العظيم عن عرش التاريخ؛ فإن الشاعر لم يكن في هذه الرواية إلا معبرا عن الشعور العام السائد في عصره، وهذا الشعور يختلف كل الاختلاف عن شعور العصور الوسطى؛ لأن الأفكار كانت قد تطورت تطورا كبيرا في الخمسمائة سنة الأخيرة، فتبدلت آراء الناس في السلطات والعقائد، ودبت في نفوسهم روح جديدة فيها شيء من التمرد والخروج على التقاليد القديمة. وهذا ما نتبينه في أجلى مظاهره إذا قابلنا بين ما كتبه شكسبير وما كتبه دانتي لثلاثمائة سنة قبل شكسبير في كتابه «الكوميديا الإلهية».
يهبط دانتي الجحيم بصحبة الشاعر فرجيل، وبعد أن يجتازا معا الحلقات الثمان الأولى من جهنم يصلان إلى الهوة التي يقيم فيها قايين قاتل هابيل، ثم نراهما يتقدمان على بحيرة من الجليد يرتعش بين أمواجها المتجمدة القتلة والسفاحون الذين عرفهم في حياته، فهنا الأخوان ألبرتي وقد جمد البرد دموعهما فأصبحت كالكفن لهما، وإلى جانبهما ينتفض فوكاسيا قاتل عمه، وموردك الذي قتله أبوه؛ لأنه حاول هو أن يفتك به، ومسكروني الذي ذبح ابن أخيه ليسلبه ماله، وهناك شيخ ممدود على ظهره فوق الأمواج المتبلورة هو الراهب منفرودي الذي قتل كل أنسبائه في وليمة أعدها لمصالحتهم.
وبعد أن يمر الشاعران بهذه الأشباح القاتمة يتابعان السير، وفرائصهما ترتعد من البرد والخوف، إلى أن يقع بصرهما على لوسيفروس، رأس الأبالسة، وقد بسط ظله الجبار على ذلك الأوقيانوس الجليدي الذي قذف به إليه الغضب الإلهي. لقد تحول جمال هذا الملاك الساقط إلى قبح فظيع، وصار إمبراطور مملكة الآلام كما يسميه دانتي أشبه بالخفاش، وله ثلاثة وجوه تنبسط عليها ستة أجنحة، وفي كل وجه فم يدق على الدوام، ويطحن تحت أسنانه واحدا من أشقى المحكوم عليهم باللعنة الأبدية؛ ففي الفم الأول بوداس الإسخريوطي، وفي الثاني بروتوس، وفي الثالث كاسيوس رفيق بروتوس. وبعد هذا المشهد يأخذ الليل بالهبوط فيصعد الشاعران وقد رأيا ما أرادا رؤيته.
صفحه نامشخص