استقر الفتور في العينين. ولم أكن لأدهش لو طردني أنا وذكرى أبي معا، وقال بلهجة من صمم على إنهاء الحديث: كان ذلك في الزمان الأول، وما أكاد أذكره اليوم.
فقمت لأطمئنه إلى اعتزامي الذهاب، وأنا أسأله: أكان وليا حقا؟ - كنا نراه معجزة.
فسألته وأنا أتحرك لأزيد من طمأنينته: وأين يمكن أن أجده اليوم؟ - مدى علمي أنه كان يقيم بربع البرجاوي بالأزهر.
وأكب على أوراق على مكتبه بحركة قاطعة بأنه لن يفتح فاه مرة أخرى، فحنيت رأسي شكرا، واعتذرت عن إزعاجه مرات، وغادرت مكتبه وأنا لا أسمع للدنيا صوتا من وش الخجل في رأسي.
وذهبت إلى ربع البرجاوي الذي يقوم في حي مأهول لحد الاكتظاظ، فوجدته قد تآكل من القدم، حتى لم يبق منه إلا واجهة أثرية وحوش استعمل، رغم الحراسة الاسمية، مزبلة. وكان له مدخل مسقوف اتخذه رجل محلا لبيع الكتب القديمة من دينية وصوفية، وكان قميئا ضئيلا كأنه مقدمة رجل، فلما سألته عن زعبلاوي نظر إلي بعينين ملتهبتين ضيقتين، وقال باستغراب: زعبلاوي؟! يا سلام! والله زمان! كان يقيم في هذا الربع حقا عندما كان صالحا للإقامة، وكان يجلس عندي كثيرا، فيحدثني عن الأيام الخالية، وأتبرك بنفحاته، ولكن أين زعبلاوي اليوم؟!
وهز كتفيه في أسى، وسرعان ما تركني لزبون قادم. ورحت أسأل أصحاب الدكاكين المنتشرة في الحي، فاتضح لي أن عددا وافرا منهم لم يسمع عنه، وآخرين تحسروا على أيامه الحلوة، وإن جهلوا مكانه، والبعض سخر منه بلا حيطة، ونعتوه بالدجل، ونصحوني أن أعرض نفسي على دكتور كأني لم أفعل. ولم أجد بدا من العودة إلى بيتي يائسا.
ومضت الأيام مثل عكارة الجو، واشتد بي الألم، فأيقنت بأنني لن أصبر على هذه الحال طويلا، وعدت أتساءل عن زعبلاوي وأتعلق بالآمال التي بعثها اسمه القديم في نفسي. عند ذاك خطرت لي فكرة وهي أن أقصد شيخ حارة الحي، والحق أني عجبت كيف لم أفكر في هذا من أول الأمر. وكان مكتبه عبارة عن دكان صغير غير أن به مكتبا وتليفونا، وكان يجلس إلى مكتبه مرتديا جاكتة فوق جلباب مقلم، ولم يقطع دخولي حديثه مع رجل يجلس إلى جانبه، فوقفت أنتظر حتى انصرف الرجل، ثم نظر إلي ببرود، فقلت أفض مغاليقه بالقواعد المتبعة، فسرعان ما جرت البشاشة في وجهه، ودعاني إلى الجلوس وهو يسألني عن مطلبي، فقلت: إني في حاجة إلى الشيخ زعبلاوي.
فرمقني بدهشة كما رمقني السابقون من قبل، وابتسم عن أسنان مذهبة وهو يقول: على أي حال فهو حي لم يمت، ولكن لا مسكن له وهذا هو الخازوق، ربما صادفته وأنت خارج من هنا على غير ميعاد، وربما قضيت الأيام والشهور بحثا عنه دون جدوى. - حتى أنت لا تستطيع أن تجده! - حتى أنا؟! إنه رجل يحير العقول، ولكن احمد ربنا على أنه ما زال حيا.
ونظر إلي مليا ثم تمتم: الظاهر أن حالتك شديدة. - جدا. - كان الله في عونك، لكن لم لا تستعين بالعقل؟
وبسط ورقة على المكتب ومضى يخطط عليها بسرعة ومهارة غير متوقعتين، حتى رسم للحي خريطة شاملة أحياءه وحواريه وأزقته وميادينه. نظر إليها بإعجاب، ثم قال: هذه مساكن، وهنا حي العطارين، وحي النحاسين، خان الخليلي، القسم والمطافئ. الرسم خير مرشد، وخذ بالك من المقاهي وحلقات الذكر والمساجد والزوايا والباب الأخضر؛ فقد يندس بين الشحاذين فلا يميز منهم. أنا في الواقع لم أره من سنوات، وشغلتني عنه شواغل الدنيا، وقد أعادني سؤالك عنه إلى أجمل عهود الشباب.
صفحه نامشخص