عام.
ثم عاد إلى المحادثة الشائقة، فلم يرفع حمام رأسه عن الجريدة، وهمس بين أسنانه «داهية في أمك!» وإذا بعم إبراهيم يعود بصينية ممتلئة. وراح يوزع سندوتشات الفول والطعمية والجبن والحلاوة الطحينية. وطحنت الأفواه الطعام وتجاوب التمطق في الأركان، ولم تتحول الأعين عن أعمدة الصحف. ووقف عم إبراهيم عند مدخل الإدارة يرقب الآكلين بنظرة غريبة من عينيه الذابلتين، حتى هتف به أحمد بصوت يعترضه الطعام: كشف الماهيات يا عم إبراهيم.
فذهب الرجل. وبعد ساعة من الوقت دخل الحجرة بائع الكرافتات والروائح العطرية الذي يزور الإدارة عادة في أول الشهر. ومر بالمكاتب عارضا بضاعته فأقبل الموظفون يتفحصونها، وأخذ بعضهم ما يحتاجه منها، وغادر الرجل الحجرة على أن يعود إليها بعد قبض الماهيات. وبعد ساعة أخرى جاء بياع السمن؛ ليجمع الأقساط المستحقة، ولكن مصطفى قال له بلهجة ذات معنى وهو يضحك: انتظر حتى يرجع عم إبراهيم.
فوقف الرجل عند الباب وشفتاه تتحركان بتلاوة مستمرة. وكانت الآلة الكاتبة تنقر بنشاط، على حين انتقل سمير إلى مكتب المدير؛ ليعرض أوراقا هامة. ودخلت الشمس لأول مرة من النافذة المطلة على الميدان، وما زال الجندي يختلس النظرات إلى نافذة العيادة. ونادى المدير عم إبراهيم لأمر، فذكره مصطفى بأنه لم يرجع بعد من الخزينة، وعند ذاك تساءل أحمد رافعا رأسه عن الملفات: الرجل تأخر! لماذا تأخر الرجل؟!
وذهب بياع السمن؛ ليمر بالإدارات الأخر، ثم يعود. وهب أحمد إلى خارج الحجرة ونظر يمنة ويسرة في الطرقة، ثم عاد وهو يقول: لا أثر له، ماذا أخره؟! الرجل المخرف!
ولما مرت ساعة ثالثة فقد أحمد صبره فقام، وهو يعلن بصوت مسموع أنه ذاهب إلى الخزينة للبحث عن الرجل. ثم عاد بوجه طافح بالغيظ وهو يقول: أخذ الكشف منذ ساعة كاملة، فأين ذهب المجنون؟
فسأله لطفي: هل قبض هو مرتبه؟
فأجاب محتدا: نعم، قالوا لي ذلك عند شباك صرف الخدم السايرة. - لعله ذهب يتسوق! - قبل أن يسلمنا الماهيات؟! - لا تستبعد ذلك، إنه يأتي كل يوم بجديد.
وارتسم الاستياء على وجوه، وقطب المدير - وهو درجة رابعة قديم - وساد صمت قصير، ما لبث أن قطعه مصطفى بضحكة من ضحكاته، ثم قال: تصوروا أنه سرق في الطريق!
فندت ضحكات فاترة، فاترة جدا، كأنها تأوهات متنكرة، غير أن لطفي قال: أو وقع له حادث!
صفحه نامشخص