وابتسم ابتسامة متألقة، وكأنما نسي الحزن. وإذا برجل يقوم، وهو يقول في اعتذار: آن لي أن أذهب؛ حتى لا تفوتني المغرب.
فقال له: مع السلامة، حرما، ولا تنس موعدنا غدا. - الساعة الخامسة! - الساعة الخامسة، وإن تأخرت لا تقلق، سألحق بك حتما.
واضطرب بيومي كلما تكلم الحاج عن يقين، أو ضرب موعدا، أو عكست عيناه الطمأنينة والثقة. لماذا يقتل هذا الرجل؟ إنه لا يعرفه، لم تكد تستقر صورته في ذهنه، لا يكرهه، ولا يحنق عليه، ولا يأتيه أي ضرر من ناحيته، فلماذا يقتله؟ لكنه إذا لم يقتله قتل، وإذا قتله ابتسمت له الدنيا، أو هكذا وعد. يحسن به ألا يستسلم للأفكار المثبطة للهمة. وليطمئن إلى أنه سينجو من الاتهام تماما. أي سبب يدعوهم إلى الاشتباه في أمره؟ أي سبب هناك يدعوه إلى قتل هذا الرجل؟ الحق أن اختياره لقتله هو في ذاته عمل بارع يدل على عراقة المجرمين في الإجرام.
وقال الحاج عبد الصمد: في رمضان القادم وعليكم خير، سيرتفع حظنا بإذن الله إلى مداه الأعلى.
رمضان القادم؟ شد ما يؤثر صوت الرجل في أعصابه. إنه يخشى أن يظل يسمعه حتى بعد الموت.
ووقف الحاج وهو يقول: آن لي أن أذهب إلى المأتم، سلام عليكم ورحمة الله.
وتبعه عن بعد حتى دخل السرادق بدرب سعادة، فذهب بعيدا عن أضواء المصابيح، ثم قبع في ركن مظلم. كان على ثقة من أن صاحبه لن يغادر السرادق إلا في آخر زمرة تغادره، فمضى يأكل قطع اللحم ويحتسي الكونياك. وهو إذا شرب توهجت أعصابه وتوثب قلبه، وفارت جراثيم العدوان في دمه. وترامت إليه التلاوة من مقرئ حسن الصوت، فأمعن في الأكل والشرب وغرق في دوامة من الهذيان الباطني. وجاء شرطي يتبختر فانقبض صدره. إنه يستطيع أن يعرفه بأكثر حاسة، بالعين والأذن وبالأنف أيضا. ذلك أنه ينفث رائحة جلدية خاصة تذكره بنقطة البوليس، والصفع واللعنات، وزنزانة السجن، والجرادل، والبرش، والظلمة المغرقة. مر به، ثم عاد، وتريث قبالته لحظة، ملقيا بثقله على ساق واحدة، ثم تأبط بندقيته وذهب. وتتابع الوقت حتى لم يبق في السرادق إلا آحاد. عند ذاك نهض، وكل شيء يبدو أحمر في عينيه، ومضى في سبيل درب الجماميز وهو يتحسس السكين في صدرته. البيت وما حوله خال نائم، لا دكاكين ولا مارة، وثمة حارة بين شارع السمهري والدرب، غير قصيرة، ضيقة، مظلمة، خالية، فعند أولها لبد، وفي مخبأ يرى بوضوح شارع السمهري والقادمين منه، على حين تخفيه الظلمة عن الأعين، وقف يتربص ويده قابضة على السكين، والوقت يمر كحز الألم.
وعندما دقت ساعة قديمة الواحدة لاح الحاج من بعيد، ولكن كان بصحبته آخر. فترت دقات قلبه. وقال لنفسه إنه إذا لم يجهز عليه الآن؛ فلن يعود إلى المحاولة مرة أخرى، وسيطارده الموت إلى الأبد. تقدم الرجلان حتى توسطا شارع السمهري، وما زالا يتقدمان حتى غص بالقنوط. أوشك أن يتقهقر من مكمنه مغلوبا على أمره، ولكن الرجلين توقفا عن السير، ثم تصافحا، ومال الآخر إلى عطفة جانبية، وتقدم وحده عبد الصمد. شد على أعصابه مرة أخرى، وهو يسدد نحوه النظر، وتحفز بكل قوة وجارحة. وكان الحاج يسير متمهلا، يد قابضة على العصا، والأخرى تعبث بسلسلة الساعة، والهدوء يكسو وجهه وما يشبه التعب أو الضجر. وخيل إليه أن ابتسامة خفيفة انسابت لحظة بين شفتيه. وما زال يتقدم حتى دخل الحارة المظلمة فاختفت معالمه، واستحال شبحا يسير في الظلام. ولم يعد يفصل بينهما إلا خطوة. استل السكين من صدرته، واشتدت عليها قبضته، واستجمع كل قواه، ثم انقض عليه بسرعة خاطفة، وطعنه طعنة قاسية، لا مهادنة فيها ولا أمل، ندت عن الرجل صرخة خافتة، وترنح جسده الضخم مرة ثم سقط.
واندفع بيومي هاربا وهو ينتفض، ناسيا السكين في صدر الرجل، ملوث العنق والجلباب - وهو لا يدري - بالدم.
ضد مجهول
صفحه نامشخص