ندت عن الأخ ضحكة أعرب بها عن استهانته، أو عن تظاهره بذلك. وشرع في الكلام ولكن أوقفه عنه خروج سنجة الترام من السلك الكهربائي، محدثة أزيزا حادا وتوهجا خاطفا، فأخذ لحظة ثم قال: ها أنا أجاريك في أوهامك ما دمت تريد أن آخذك على قد عقلك، أتحسب أنني في حاجة إلى هذه الوصية؟! يا لك من طفل! أنت أعلم الناس بمكانتك عندي، فاطمئن إلي كل الاطمئنان، والآن وقد صارحتك فأرحني بدورك، لا بد من سفرك إلى البلد ولو لأسبوع! - بكل سرور، في بحر أسبوع على الأكثر، ستجدني عندك إن شاء الله، والآن هيا بنا إلى البيت.
ولكن الأخ كان يعاني من الحديث اضطرابا باطنيا، فانصدت نفسه عن كل شيء، وأبى إلا أن يعود من فوره إلى المحطة، وأصر على ذلك. وأراد أن يوصله ولكن الآخر قرر أن ينتهز فرصة وجوده في القاهرة؛ ليقوم ببعض زيارات هامة قبل السفر فتوادعا أمام القهوة، ومضى الشيخ إلى الناحية الأخرى من العتبة. واتجه جمعة رأسا إلى محطة الأوتوبيس. واستقل سيارة فدارت به دورتها ولكنها اضطرت إلى التوقف عند الأزبكية أمام زحام اعترض الطريق .. ونظر جمعة فرأى جمعا حاشدا - وآخذا في التزايد أكثر فأكثر - حول سيارة متوقفة. أدرك لتوه أن حادثة وقعت. وأجال عينيه في الجمع المحتشد، لكنه جفل من إمعان النظر، فحول رأسه بعيدا. وما لبث الأوتوبيس أن تفادى من الزحام، فشق سبيله إلى ميدان الأوبرا.
وكان في الجمع المحتشد حول الحادثة مساح أحذية، وكان ينظر إلى الجثة الممددة أمام السيارة بتفحص ودهشة، ثم قال بصوت مرتفع لمن حوله: أنا رأيت هذا الشيخ منذ نصف ساعة فقط، كان يجلس في قهوة ماتاتيا مع واحد أفندي.
قاتل
ما المخرج من هذه الوكسة؟!
منذ خروجه من السجن وهو يعيش متسولا، قرش من هنا وقرش من هناك، بلا عمل، وبلا أمل. وهو ليس بأول سجن، ولا آخر سجن فيما يبدو، ولكن الدنيا مصممة هذه المرة على مقاطعته. رفضه كل دكان عرض نفسه عليه، وأعرض عنه كل رجل مأمول، حتى تجار المخدرات أبوا أن يمنحوه ثقتهم. وتمضي الأيام يوما بعد يوم وهو يتدهور ويجن. ويجلس في القهوة إذا هده الإعياء، طمعا في معرفة قديمة، ولكنه ينسى حيث جلس، لا يكلمه أحد، ولا يقرب منه نادل، وتلاحقه نظرات المعلم الممتعضة، حتى يرق له قلب الصبي فيجيئه خلسة بشيء من نفايات المعسل المحروق، وغرق في الأحلام كما لم يغرق من قبل. أطعمة الخلفاء وحسان الحريم وبحور الشراب وجبال السطل. واسترجع أخيلة القصص التي كانت ترويها الرباب في قهوة خان جعفر منذ ربع قرن أو يزيد .. وهوم برأس متلبد الشعر، وليس على الجسد المتورم بالأقذار إلا جلباب متهرئ كالخيش تعشش فيه حشرات شتى. وكان يسكن في جحر بدرب دعبس بالحسينية، حجرة في حوش ربع قديم، حيث ترقد أمه الضريرة نصف مشلولة، وهي عجوز تعيش على صدقات الفقراء من الجيران، هناك يأوي آخر الليل، وتمضي الأيام وهو لا يلتفت إليها. أما هي فلا تشعر له بوجود، ولعلها لم تعد تذكره على الإطلاق، ولكنه لا يكف عن مغازلة الأحلام، الأميرة والبحر والجبل وبحبوحة عيش لا يحسن تصورها ولو في الخيال. وتساءل كثيرا عن المخرج من وكسته، أين يذهب؟ وماذا يفعل؟ وهو ذو الماضي الحافل بالأعمال. اشتغل شيالا، وموزع مخدرات، ولصا. أما العراك فبسببه دخل السجن أول مرة. واستوفى الأربعين من عمره دون أن يهن له عضل، وكان بوسعه أن يقتلع بيتا من أساسه، ولكنه لا يأكل لقمة إلا حسنة الوجه الله. وهذه ثالث مرة ينطلق فيها بعد سجن، ولكنه لم يجد الدنيا من قبل مغلقة الأبواب كما يجدها هذه المرة. حتى لتحدثه هواتف نفسه اليائسة أحيانا بأن يعود إلى السجن؛ ليستقر فيه بقية العمر. وقبيل خروجه من السجن أول مرة مات ابنه في مستشفى الحميات ، وحينما كان في السجن آخر مرة اختفت زوجته، لا يدري أين ذهبت ولا مع من هربت، وقليل من النساء من يسعهن الإخلاص لزوج هوايته السجن. ترى ما هي المعجزة التي يمكن أن تجعل منه هارون «الرشيدي»؟ إن رأسه يدور من نشوة الأحلام الكاذبة. والدنيا فيما يظهر لم تعد بحاجة إلى العضلات القوية. ولكن هل ضاع حقا وانتهى؟!
وكان يسير في الزحام شبه نائم، عندما ناداه صوت قوي قائلا: ولد يا بيومي!
انتبه بعنف نحو الصوت، كأنما يستجيب للسعة سوط. ثم وثب نحو صاحبه باستماتة، وهو يبتسم ابتسامة عريضة توددا وتذللا. ها هو إنسان يناديه أخيرا. وهوى على يده ليلتها وهو يقول: أهلا وسهلا بالحسيب .. أهلا بالمعلم علي ركن سيد حينا كله.
فسحب المعلم علي يده بخشونة، وقال وهو يحبك جبته: دعك من التواشيح يا ابن الذين، لعلك تتحسر الآن على السجن وأيامه الحلوة.
فقال بيومي في ملق: لولا وجود أمثالك في الدنيا لتحسرت فعلا! - ها أنت تعود إلى التواشيح!
صفحه نامشخص