فقال ممعنا في السخرية: ثمة رجال محترمون لا يختلفون عنك في شيء، ولكن من يجد الشجاعة ليقول ذلك؟ - وقاتل نبوية معروف للجميع، ولكن من يجد الشجاعة ليشهد بذلك؟
فهز رأسه أسفا وقال: نبوية! .. المسكينة! .. من قاتلها؟ - شلضم الله يجحمه! - يا ساتر يا رب، الشاهد عليه شهيد، من حسن الحظ أننا لسنا المذنبين وحدنا في هذا البلد.
فقالت بضجر حاد: لكنك تضيع الوقت في الكلام!
وصمم الشيخ عبد ربه على استغلال ما وقع له في الجامع لصالحه، فحرر شكوى إلى الوزارة ضمنها ما وجه من اعتداء عليه بسبب خطبته «الوطنية»، وسعى إلى نشر الحادث في بعض الصحف بصورة مبالغ فيها، وبخاصة تدخل رجال البوليس للدفاع عنه، والقبض على المعتدين. وبات عظيم الأمل في أن تنظر الوزارة إلى تحسين حالته بعين الاهتمام. غير أنه عندما حان وقت درس العصر لم يجد مستمعا على الإطلاق. ورمى ببصره من الباب إلى دكان العصير، فرأى الرجل منهمكا في عمله، فظن أنه نسي الدرس، فاقترب من الباب، ونادى بصوت باسم: الدرس يا عم حسنين!
والتفت الرجل على الصوت بلا إرادة، لكنه سرعان ما أبعد رأسه في تصميم، وبحركة نبذ حاسمة. وخجل عبد ربه، وندم على ما بدر منه من نداء، وتراجع وهو يلعنه ألف لعنة.
وحين الفجر صعد المؤذن إلى أعلى المئذنة في ليل ساج رطيب، وبدر ساطع، وسكون مؤثر. وأذن هاتفا «الله أكبر». وفي لحظات الاستعداد لمواصلة الأذان انطلقت صفارة الإنذار في عوائها المتقطع الرهيب، فدق قلبه دقة عنيفة لوقع المفاجأة. واستعاذ بالله وهو يتمالك أعصابه، واستعد من جديد لمواصلة الأذان حالما تتوقف الصفارة عن العواء؛ إذ إن الإنذار بغارة بات عادة ليلية تمر بسلام مذ أعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء. وهتف من الأعماق «لا إله إلا الله»، وغناها بصوت لا بأس به. وإذا بانفجار يدوي مرعدا ارتجت له الأرض فغاص صوته في أعماقه، وتجمد في موقفه وأطرافه ترتعش، وعيناه تحملقان في الأفق البعيد حيث لاح لهيب أحمر. وتراجع إلى الباب مقتلعا قدميه من الأرض، ومضى يهبط السلم بركبتين مخلخلتين. وبلغ أرض الجامع في ظلام دامس، فاتجه نحو الأمام والخادم مستدلا عليهما بتهامسهما، ثم قال بصوت متهدج: غارة جدية يا جماعة .. كيف العمل؟
فقال الإمام بنبرة مبحوحة: المخبأ بعيد، ولعله اكتظ بكل من هب ودب، والجامع متين البنيان وهو خير ملجأ.
وجلسوا في ركن، وسرعان ما انطلقت أفواههم بالتلاوة. وترامت من الخارج أصوات شتى .. وقع أقدام مسرعة، نداءات، تعليقات مضطربة، صرير أبواب وهي تفتح أو تغلق. ومرة أخرى انصبت على الأرض قذائف متلاحقة، فزلزلت الأعصاب وخرست القلوب. وصاح خادم المسجد: الأولاد في البيت، بيت قديم يا سيدنا!
فقال الإمام بصوت متحشرج: ربنا موجود .. لا تتحرك من مكانك!
واندفعت مجموعة من الناس إلى داخل الجامع، وبعضهم يقول: هنا آمن مكان.
صفحه نامشخص