واتجه الطبيب إلى الفراش فوضع عليه حقيبته، وراح يفحص الراقدة، أزاح جفنها محدقا إلى عينيها، وجس النبض، ثم أخرج من حقيبته السماعة، وألصقها بالصدر فوق القلب، ثم استمع إلى دقاته، ثم أعادها إلى الحقيبة وأغلقها، وبسط فوقها ورقة، وكتب على عجل بعض الكلمات وهو يقول: هذه الحقن لازمة.
وألقى نظرة على الموجودين قائلا: السلم متعب!
وابتسم ابتسامة لا معنى لها ثم حمل الحقيبة، ومضى والحاج مصطفى في أثره حتى غيبهما الباب. وما لبث الحاج أن رجع وهو يقول بلهجة ذات معنى: قال لي أن نشتري الحقن حقنة فحقنة، لا دفعة واحدة!
ونظر في عيني عبد العظيم، فأدرك هذا أنهم قد لا يحتاجون إلى الحقنة الثانية!
ومد بصره إلى الراقدة كأنما يلقي عليها نظرة الوداع. ومهما يكن من أمر؛ فلا ينبغي لهذه الجلسة أن تطول في هذا الجو البارد. يا لها من حجرة قامت في خلاء يصفعها هواء الشتاء البارد في كل جانب. وها هو الأصيل يغشى كل شيء، وزفيف الريح يشتد في الخارج، والبرودة تسري في الأطراف. وما زال هذا الوجه الشاحب يذكره باحتضار أبيه فيثير أشجانه. وقرب هذه العجوز منه يؤلمه، كأنه حجر مغروس في جنبه. ومضى الوقت في صمت ثقيل حتى فتح الباب، وترامى صوت ينادي على الحاج مصطفى فهتف به هذا: ادخل يا عليش!
فدخل قزم يحمل لفة ضخمة أكبر من حجمه فتناولها الحاج، ثم وضعها على الفراش عند قدمي الراقدة. وذهب القزم ورد الباب وراءه، دون أن ينبس أو يلتفت إلى أحد.
وتلاقت الأبصار عند اللفة فقال الحاج مصطفى بصوت انخفض قليلا عن درجته المألوفة: لا مؤاخذة .. هذا هو الكفن ولوازمه.
وعكست الأعين جفولا، كأنهم ينظرون إلى ثعبان، فهز الحاج رأسه وقال: وحدوا الله، ما نحن إلا أموات وأبناء أموات، وأنا أعلم من أول الأمر أن كل شيء سينتهي في ساعات، وغرضي الكرامة والستر!
لم يعقب أحد بكلمة، فواصل الرجل حديثه بلهجة من يلقي تعليمات نهائية: رتبت كل شيء بروية، والأعمال بالنيات، فإذا قضى الله قضاءه فسأحضر المغسلة، ثم نكفنها وندفنها ولو آخر النهار، أليس إكرام الميت دفنه؟ وأنت يا عبد العظيم أفندي لا تحب وجع الدماغ ولا الكلام الفارغ، بعد ذلك نجيء بمقرئ، فيقرأ سورتين هنا في حجرتها، ثم فيما بعد نتحاسب، والدار أمان .. وهذا أكرم للمرحومة!
وانتبه من توه إلى أنها لم تصر بعد «مرحومة»، فارتبك لحظة واحدة، ثم صحح نفسه قائلا: لا مؤاخذة أعني ست نظيرة، أستغفر الله العظيم!
صفحه نامشخص