لقد لاح النهار لعينه الطربة الجذلى متألقا بنور باهر وهاج سماوي الرونق مقدس الشعاع خلاف نوره المعتاد، وبدت له الحياة في أجمل صورة وآنق هيئة وأبدع زينة وأروع زخرف، وكأنما قد مسها سحر ساحر حول ترابها تبرا، وحصباءها درا.
وقال لنفسه: «الآن يمكنني أن أشافهها، الآن يمكنني أن أعدها وأخطبها وأنا آمن ما أكون من ارتياب الناس بي، وسوء ظنهم بنيتي، واتهامهم إياي بأني إنما عنيت من الفتاة بثروتها وطمحت إلى مالها، أما الآن فقد نلت وطري وبلغت أمنيتي على حين لم أرقب ولم أنتظر! فسرعان ما أسعدني الدهر، وأسعفني الحظ، وأجنت الآمال، وأينعت ثمار المنى! لقد أحسنت صنعا بتمهلي وانتظاري، وللصبر على كل حال أولى وأليق وخير عاقبة وأحسن مآلا، لقد كدت والله أن أطيش وأتهور ليلة الأمس، وكاد يخونني جلدي ويخذلني تماسكي، وأوشك لساني أن يبوح بما لم أزل أخفي وأضمر، ولكن الله سلم!»
وهنا يقع بصره على رسالة الفتاة، فيتناولها مختومة ويقول لنفسه قبل أن يفضها مناجيا حبيبته: «أي حبيبة القلب ومنية الروح، سأفهمك الآن حقيقة الحال، وأوضح لك من أمري ما طالما أخفيته عنك وكتمته.»
على مسافة أميال من الساحل في أعماق الزاخر الرجراج تعبث أكف الموج بجثة الفتاة، قد سلبها الموت، ما كان يجيش في ذهنها الوقاد من ملايين المنى والآمال، وتغص به روحها الفياضة الحافلة من ملايين الشهوات والرغبات، في هذه اللحظة يتناول إصطفيان كتابها الوداعي، وعلى وجهه ابتسامة الجذل والسرور وهو يقول لنفسه: «أجل، لقد أحسنت صنعا بتمهلي وانتظاري، وللصبر على كل حال أولى وأليق .» ثم فض الرسالة وأخذ يتلوها. •••
فلما أتى إصطفيان على هذه الرسالة مادت به الأرض، وماجت الأشخاص في عينيه، واختلطت الأشباح وصدمته سورة الحزن، وطاحت بلبه خمرة الأسى، فاستلقى على مقعده لا يدري أين هو ولا أيان يسار به، وبقي كذلك برهة كأنه في غمرة، ثم أخذ يستفيق من سكرة هذا المصاب شيئا فشيئا، وأخذت صورة مصابه العظيم تتكشف له وتتجلى كأنها تبدو من وراء سحابة أو ضبابة، فهنالك أيقن أنه قد خسر الدنيا برمتها، وفقد طعم الحياة ولذتها، والتفت حواليه فإذا الكون كله قفر خراب، وإذا كل ما يراه من منظر كان من قبل قر عينه، ومن منظر كان متعة ناظره، ومن مسمع كان حلية أذنه، إذا كل ذلك قد عاد قذى لعينيه وأذى في أذنيه، فضرب بيده على جبينه وزفر زفرة كادت تصدع أحشاءه، ثم أظلمت الدنيا في ناظريه فأغمضهما، وهنا تراءى له خيال حبيبته الذاهبة في غمار اللج الثائر، تتقاذفه أمواج مجنونة هوجاء، وتترامى به ذوائب العباب كأنها شياطين مردة، فكان لهول هذه الصورة في قلبه ألم كحز الخناجر، ووخز السهام، فضج إصطفيان من فرط الجوى، وأقبل يتوجع ويتأفف، ويتحرق ويتلهف، وحاول أن يطرح من هذا العبء الفداح بالشكوى ومناجاة روح تلك الحبيبة، فاستعصى عليه المنطق ثم أسعفته الدموع بوابل مدرار. •••
أيها الثاكل الحزين، ما جنى عليك الحظ والقضاء، وإنما على نفسك جنيت، ولم تطعنك بسنانها النافذ يد القدر، وإنما يدك التي طعنتك بسنان أنت صنعته من فولاذ قسوتك وجمودك، ولم تشكل لك لجنة المقادير محكمة أصدرت عليك حكم الإعدام؛ إعدام الراحة والقرار، ولكنك أنت الذي شكلت من آرائك الجائرة ومذاهبك الباطلة تلك اللجنة الظالمة، التي كنت أنت أول ضحية لظلمها، وفريسة لجورها وغشمها. فنفسك فلتلم إن كنت لائما، وعلى نفسك بالعسف والطغيان فاحكم إن كنت حاكما، واجن من غرس يدك الأثيمة شوك الثأر والعقاب، ومرارة الألم والعذاب، وكان الله لك على كل حال مسعفا ومعينا.
صفحه نامشخص