هذا الذي ذكرنا هو الذي يفسر لنا ما يروى في كتب التاريخ والسير من قصص مختلفة، تدل على احتقار الموالي حينا واحترامهم حينا. ويظن الظان لأول وهلة أن بينهما تضاربا، والحق أن لا تضارب، وأن الأوساط السياسية وأوساط أشراف القبائل وأوساط البدو كانت تحقر الموالي، وأن الأوساط الدينية والعلمية ما كانت تتعصب لجنس ولا دم، وإنما كانت تتعصب للدين والعلم، وتقومهما حيث كانا. •••
كان يقابل هذه العصبية العربية عصبية أخرى، من الموالي، وخاصة الفرس؛ فقد تملكهم العجب، كيف غلبهم العرب! وعبر بعضهم عن هذا المعنى: بأن حكم العرب لهم ضرب من سخرية القدر! وكانوا يفخرون على العرب بمجدهم القديم، وعزهم التالد، وأنهم أهل الحضارة العظيمة، ومن عرفوا كيف يسوسون الملك، ويدبرون الحكم. وأنهم لما حكموا لم يكن لهم إلى العرب حاجة، ولما حكم العرب لم يستطيعوا أن يحكموا إلا بمعونتهم.
لم تكن عند الفرس نزعة قبلية، ولم يكونوا يعنون بالأنساب عناية العرب بها،
24
وإنما كانوا يتعصبون أحيانا للبلدان؛ فقد كان أهل خراسان مثلا من أشد الناس عصبية بعضهم لبعض. وكانت العصبية القوية عندهم العصبية للأمة. وذلك طبيعي؛ لأنهم قطعوا من عهد بعيد طور البداوة، وتحضروا، وكانوا أمة بكل معناها الصحيح، وبدأوا يفخرون على العرب في العهد الأموي؛ كالذي رأيت من شعر إسماعيل بن يسار،
25
فقد كان يتغنى دائما بمجد الفرس، ودخل على هشام بن عبد الملك في خلافته، فاستنشده فأنشده قصيدة يقول فيها:
إني وجدك ما عودي بذي خور
عند الحفاظ، ولا حوضي بمهدوم!
أصلي كريم، ومجدي لا يقاس به!
صفحه نامشخص