باب المقدمات: مقدمة: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وبعد، فإنني كنت قد تكلمت على الرواة الذين ذكرهم البخاري في تاريخه الكبير، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل دون أن يذكر فيهم جرحا في كتابي "القول الحسن في كشف شبهات حول الاحتجاج بالحديث الحسن"، ثم حذفت هذا الباب من هذا الكتاب في الطبعة الثانية لما رأيت أن دخوله في موضوع الكتاب ليس دخولا مباشرا، وحتى لا يطول الكتاب، وقد رأيت أن أذكر خلاصة ما انتهيت إليه في مقدمتي لهذا الكتاب: الضعفاء للبخاري لصلته بموضوعه فأقول: قد ذهب قوم إلى أن سكوت البخاري، وابن أبي حاتم عن الراوي يعد توثيقا له، فقد قال الشيخ ظفر أحمد التهانوي في كتابه "قواعد في علوم الحديث": "كل من ذكره البخاري في "تواريخه"، ولم يطعن فيه فهو ثقة، فإن عادته ذكر الجرح والمجروحين". وقال: سكوت ابن أبي حاتم، أو البخاري عن الجرح في الراوي توثيق له١، وتبعه على ذلك جماعة من المعاصرين، وقد جمع جل أقوالهم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في بحث نشره في مجلة كلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض بعنوان: سكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يجرح، ولم يأت بمتن منكر يعد توثيقا له، ثم ختم البحث بقوله: فإذا علم هذا كله، اتضحت وجاهة ما أثبته من أن مثل البخاري، أو أبي زرعة، أو أبي حاتم، أو ابنه، أو ابن يونس المصري الصدفي، أو ابن حبان، أو ابن عدي، أو الحاكم الكبير أبي أحمد، أو ابن النجار البغدادي أو غيرهم ممن تكلم أو صنف في الرجال _________ ١ "رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل" ص٢٥.

1 / 5

إذا سكتوا على الراوي الذي لم يجرح، ولم يأت بمتن منكر يعد سكوتهم عنه من باب التوثيق والتعديل، ولا يعد من باب التجريح والتجهيل، ويكون حديثه صحيحا أو حسنا أو لا ينزل عن درجة الحسن إذا سلم من المغامز، والله أعلم. ا. هـ١. وقد رد عليه الأستاذ/ عداب محمود الحمش في بحث سماه: "رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل"، وقد أجاد فيه وأفاد، إلا أنه قد جعل همه إبطال كل ما استدل به أبو غدة، ولم يستفد من بحثه شيئا، مع أن فيما جمعه نقولا عن أهل العلم تدل على أن ترجمة البخاري للراوي في تاريخه أو ابن أبي حاتم دون ذكر جرح فيها مما ينفعه، فمن ذلك ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد "١/ ٤٧٠-٤٧١" حيث قال: روى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن ابن أبي ذباب عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل منى أربعا، وقال: يا أيها الناس لما قدمت تأهلت بها، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلى بها صلاة المقيم". رواه الإمام أحمد ﵀ في مسنده، وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضا، وقد أعله البيهقي بانقطاعه، وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم، قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه، ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين. قلت: وقد حكاه ابن القيم، وأقره، ولا يرد على ذلك اعتراض عداب بذكره بعض من سكت عنهم البخاري، وتكلم فيهم غيره، لأن المجد ﵀ لم يقل بالتوثيق، وإنما عارض دعوى التضعيف المطلق. ومن ذلك ما حكاه المنذري عن ابن خزيمة حيث قال في حديث: إن صح الخبر، فإني لا أعرف خلفا أبا الربيع بعدالة ولا جرح، ولا عمرو بن حمزة القيسي الذي دونه. فقال المنذري: قد ذكرهما ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيهما جرحا. _________ ١ المرجع السابق ص٢٢.

1 / 6

ومن ذلك ما حكاه عن ابن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه التنقيح، متابعا لتقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه الإمام، عند نقض كلام ابن الجوزي في التحقيق، عند حديثه على عثمان بن محمد، حيث قال: عثمان بن محمد متكلم فيه، فقال ابن الجوزي متعقبا ابن الجوزي: إن هذا الكلام لا يقبل منه؛ لأنه لم يبين من تكلم فيه، وقد روى عنه أبو داود، وأبو بكر بن أبي عاصم وغيرهما، وذكره ابن أبي حاتم في "كتابه"، ولم يذكر فيه جرحا١. وقد ذكر أبو غدة أن الحافظ ابن حجر قال في "٨٧" موضعا من كتابه: "تعجيل المنفعة برجال الأئمة الأربعة": ذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحا، قال: قرن بينهما في أكثر هذه المواضع، وأفرد أحدهما في بعضها، ولكنه في جميع تلك المواطن ذكر سكوتهما عن الجرح من باب التوثيق والتعديل، ورد به على من زعم جهالة ذلك الراوي أو ضعفه. قلت: ونحن لا نوافق أبا غدة على أن عدم ذكر الجرح منهما توثيق للراوي منهما، ومع ذلك فإن النقول السابقة عن أهل العلم وغيرها مما يأتي تدل على أن ذلك مما ينفعه، ويدل على ذلك أيضا أن الحافظ ابن حجر يذكر ذلك في الاستدراك على الحسيني، وأحيانا يرد به على الحسيني إذا وصف الراوي بالجهالة في مثل: سويد بن الحارث عن أبي ذر، وعنه عمرو بن مرة، قال الحسيني: مجهول، لا يعرف. فقال الحافظ ابن حجر: هذه مبالغة، ثم تكلم على الحديث الذي رواه، ثم قال: قد ذكر البخاري سويدا، ولم يذكر فيه جرحا، وتبعه ابن أبي حاتم. ومن ذلك أيضا ما ذكره الحافظ في ترجمته سقير العبدي حيث قال: قال الحسيني: مجهول، ولم يصب في ذلك، فقد ذكروه في حرف الصاد المهملة، ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم فيه قدحا، وذكره ابن حبان في الثقات، وقد جاء هذا المسلك عن الحسيني نفسه، وذلك فيما ذكر في الإكمال ص٣٧٠، في _________ ١ نصب الراية "١/ ١٥١".

1 / 7

ترجمة محمد بن الأسود بن خلف القرشي المكي قال: روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعن أبيه، وعنه عبد الله بن عثمان بن خثيم، وأبو الزبير، ومنهم من يروي عن ابن خثيم عن أبي الزبير عنه. ثم قال: ذكره الذهبي في الميزان، وقال: لا يعرف هو ولا أبوه، تفرد عنه ابن خثيم. فقال الحسيني: قد عرفه البخاري، وأودعه تاريخه. قلت: وقد حكى هذا الحافظ ابن حجر في التعجيل، وأقره، وأضاف: وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وممن اعترض على ذلك صاحب كتاب "إمعان النظر في تقريب الحافظ ابن حجر" حيث قال ص٢٤٨: سكوت البخاري عن راو في تاريخه لا يدل على عدالته عنده، فكم من راو سكت عنه، فلم يذكره بجرح، وأورده مع ذلك في الضعفاء، وكذلك ابن أبي حاتم في كتابه لا يدل سكوته عن راو ما على أنه عدل عنده. ا. هـ. قلت: قد سبق أننا لا نقول إن ذكرهما للراوي مع عدم ذكر جرح فيه يدل على العدالة، ولكنه ينفع الراوي لما سبق ذكره عن أهل العلم، وما أقوله عن البخاري "كم من راو سكت عنه، فلم يذكره بجرح، وأورده مع ذلك في الضعفاء"، فكلامه يدل على وقوع ذلك كثيرا، وهي دعوى غير صحيحة، وهي تدل على عدم الثقة بكثير مما يقرره كثير ممن أقحموا أنفسهم في الكتابة في مثل هذه الأمور الخطيرة، ويبين ذلك هذه الدراسة التي قمت بها من خلال مقابلة كتاب الضعفاء للبخاري مع كتابه التاريخ الكبير، فخرجنا من خلالها أن كل من تكلم فيهم بجرح في الضعفاء قد ذكر الجرح نفسه فيهم في التاريخ الكبير، بل قد يزيد عليه، وذلك في الرواة كلهم المذكورين في الضعفاء البالغ عددهم "٤٤٢" راويا، إلا في ثلاثة رواة فقط، وهم المترجم لهم في الضعفاء برقم: ٦٢، ١٩٧، ٢٩٦ فدل ذلك على أن ذكر البخاري للراوي في تاريخه الكبير دون أن يذكر فيه

1 / 8

جرحا يعني أنه لم يقف له على ما يوجب جرحه فيما وقف عليه من حديثه، ولا شك أن هذا مما ينفع الراوي، فإن كان الراوي ممن روى عنه جمع من الثقات، ولم يأت بما ينكر كان ممن يحتمل حديثه، وإن لم يكن كذلك كان سكوته عنه نافعا لذلك الراوي، وناقلا له عن الضعف الشديد الذي لا يصلح معه الاعتداد برواية ذلك الراوي في المتابعات والشواهد ونحو ذلك، والله أعلم. ويزيد ذلك بيانا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل "٢/ ٣٨": وقصدنا بحكايتنا الجرح والتعديل في كتابنا هنا إلى العارفين به العالمين له متأخرا بعد متقدم، إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة رحمهما الله، ولم نحك عن قوم قد تكلموا في ذلك لقلة معرفتهم به، ونسبنا كل حكاية إلى حاكيها، والجواب إلى صاحبه، ونظرنا في اختلاف أقوال الأئمة في المسئولين عنهم، فحذفنا تناقض قول كل واحد منهم، وألحقنا بكل مسئول عنه ما لاق به، وأشبهه من جوابهم، على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل، كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روى عنه العلم رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى. ا. هـ. قلت: وابن أبي حاتم إمام من أئمة الجرح والتعديل، فمع أنه لا يكاد يدع راويا إلا سأل عنه أباه أو أبا زرعة إلا أنه له نقده الخاص ومعرفته بالحديث ونقلته، فإيراده الراوي يدل على أنه وقف على بعض أحاديثه أو على الأقل حديث أو حديثين، وعدم ذكره جرحا في الراوي مع ذلك يدل على أنه لا يرى في هذا القدر من حديثه بأسا، وإن كان قد يكون هذا القدر من رواياته لا يكفي في إطلاقه القول بتوثيقه، فعدم ذكره الجرح والحالة هذه مما ينفع الراوي، والله أعلم. وقد ذكر هذا أحد أفراد مجموعة "التأليف والتحقيق للجميع" التي يتزعمها فضيلة الشيخ مصطفي بن العدوي فيما سماه بتحقيق علل ابن أبي حاتم، وهو المسمى بـ"نشأت كمال"، قدم له فضيلة الشيخ: "أبو عبد الله مصطفي ابن العدوي"، فذكر الأول ستة من الرواة ادعى أن ابن أبي حاتم سكت عنهم في

1 / 9