وكنت أحسن الثلاث حظا وأيمنهن طالعا، فقد قدر لي أن أخدم في بيت مأمور المركز، وكانت خدمتي غريبة أول الأمر ثقيلة على نفسي، ولكني لم ألبث أن أحببتها ووجدت فيها لذة ومتاعا، كلفت أن أصحب صبية من بنات المأمور كانت تقاربني في السن، ولعلها كانت أكبر مني قليلا.
كنت أرافقها في اللعب على ألا ألعب معها، وأرافقها إلى الكتاب على ألا أتعلم معها، وأرافقها حين يأتي المعلم ليلقي عليها الدرس قبل الغروب على ألا أتلقى الدرس معها.
كنت لها خادما، ألحظها من بعيد، وأجيبها إلى ما تريد، ولا أشاركها في شيء مما تعمل. ولكن «خديجة» كانت حلوة النفس، رضية الخلق، مشرقة الوجه دائما، مبتسمة الثغر دائما، وديعة النفس، رقيقة الحاشية؛ فلم يطل ما كان بينها وبيني من البعد، وإنما أشركتني في لعبها، واختصتني بأحاديثها وآثرتني بأسرارها، ولم تبخل علي حتى ببعض ما كانت تمنحها أمها من الحلوى، أو من النقد لتشتري به الحلوى.
وما هي إلا أن تزول بيننا الكلفة ونصبح رفيقتين صديقتين، وسيدة البيت تنكر ذلك أول الأمر، ولكنها تذعن له بعد حين؛ وإذا أنا أختلف مع الصبية إلى الكتاب فأتعلم كما تتعلم، وأتلقى مع الصبية درس المعلم فأستفيد كما تستفيد، وإذا ثياب الصبية تخلع علي فيقرب ما بينها وبيني من اختلاف الزي، وأختلس نظرات إليها، ثم أختلس نظرات إلى المرآة، فلا أكاد أحس بينها وبيني فرقا ولا اختلافا، لولا أنها كانت تتكلم لغة حلوة عذبة رقيقة هي لغة مصر، وكنت أتكلم لغة فجة خشنة غليظة هي لغة أهل الريف من «بني وركان»، وكنت أقلد في نفسي لغة خديجة فأحسنها وأجيدها، ولكني حاولت غير مرة أن أجهر بهذا التقليد فردعت عن ذلك ردعا عنيفا، ثم حاولت غير مرة أن أجهر بهذا التقليد حين كنت ألقى أمي وأختي فكانتا تضحكان مني ضحكا يخزيني ويردني إلى لغة الريف.
وأنفقت مع خديجة عاما وعاما لم ألق فيهما بأسا ولم أشك فيهما عناء، وإنما عرفت فيهما الترف والنعيم، وتعلمت فيهما غير قليل مما يعرفه الأغنياء، وبعد فيهما الأمد بعدا شديدا بيني وبين أمي التي كانت تعمل في بيت موظف من موظفي الدائرة السنية، معتدل الحال متوسط العيش، ولكنه أميل إلى حياة الريف، وأحرص على تقاليد الفلاحين، وبعد فيهما الأمد بيني وبين أختي التي كانت تعمل في بيت مهندس الري، ذلك الشاب الرشيق الأنيق ذو الوجه الوسيم، ذلك الشاب الذي كان يعيش وحيدا في دار واسعة، تحيط بها حديقة جميلة نضرة، ولا يعيش معه فيها إلا خادم ريفي، يحرس الدار ويعنى بالحديقة، وإلا أختي تنظف الدار وتعنى بمتاع الشاب، وكان الطعام يأتيه غزيرا موفورا من مطعم المدينة، فيصيب منه القليل، ويترك أكثره لخادميه.
وكنت أرى أختي تشب مسرعة، ويستدير جسمها استدارة حسنة، وتظهر عليها آثار النعمة وآيات من جمال، ولكنها ظلت كما أقبلت من ريفها المتبدي، ريفية بدوية، لا تقرأ ولا تكتب كما كنت أقرأ وأكتب، ولا تحسن من أمور الترف شيئا كما كنت أحسن منها أشياء.
وفي ذات يوم التقينا آخر النهار في حجرتنا تلك الحقيرة القذرة، وكنت قد أخذت أكره هذا اللقاء، وأضيق بهذه الحجرة، وأود لو أعفيت من هذا الاختلاف إليها كل أسبوع، ولو استطعت أن ألقى أمي وأختي من حين إلى حين حيث كانتا تعملان، ولكن أمنا كانت صارمة حازمة ملحة في الصرامة والحزم، لا تغير من عادتها شيئا، فكنا نلتقي آخر الأسبوع دائما، وكانتا تضحكان وتنعمان بهذا اللقاء، وكنت أتكلف معهما الضحك وأتكلف معهما النعيم.
فلما كان ذلك اليوم والتقينا مع المساء، لم أر بشرا ولا ابتساما، ولم أر بهجة ولا اغتباطا، وإنما أحسست صمتا عميقا مريبا، ورأيت وجهين كئيبين مظلمين، وخيل إلي أني أرى دموعا تضطرب في عيني أمنا ولا تستطيع أن تنحدر، وهممت أن أسأل عما أرى، فأعرضت أختي عني إعراضا، وأشارت إلي أمي أن لا تسألي.
وقضينا وقتا طويلا ثقيلا في هذا الهم الممض الذي لم أكن أفهمه ولا أتبين له مصدرا.
ثم انقطع هذا الصمت فجأة بجملة واحدة لم أسمع بعدها شيئا، ولم أصنع بعدها شيئا حتى كان الصباح، صدرت هذه الجملة عن أمنا فوقعت في قلبي موقع الصاعقة، ولقيتها أختي بوجوم غريب، رفعت عينيها إلى السماء، ثم مضت فيما كانت فيه من صمت وحزن وإعراض.
صفحه نامشخص