هذه نبذة في الدعاء وآدابه وأسبابه
قال ابن عطاء: للدعاء أركان، وأجنحة، وأسباب، وأوقات، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق أوقاته وفى، وإن وافق أسبابه أنجح.
فأركانه: حضور القلب، والرقة، والاستكانة، والخشوع، وتعلق القلب بالله، وقطعه من الأسباب.
وأجنحته: الصدق.
ومواقيته: الاستخارة.
وأسبابه: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
وقال تعالى: {بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء}. فهذه الآية قيدت ما في الأولى من العموم، وأنه سبحانه يكشف عمن يشاء، ولهذا كان الدعاء على ثلاثة أقسام:
1- مستجاب.
2- حط الأوزار.
3- رفع الدرجات.
صفحه ۱۴۳
إلا أن الغالب من أتى به في شروط حصلت له الإجابة بفضل الله سبحانه، ومنه، وسنذكر شروطه إن شاء الله تعالى:
قال القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه ((مراقي الزلف)):
حقيقة الدعاء: مناداة الله تعالى لما يريد من جلب منفعة، أو دفع
مضرة من المضار والبلاء بالدعاء، فهو سبب لذلك، واستجلاب لرحمة المولى كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، والدعاء سلاح المؤمنين، فإن كان العبد دائم الذكر، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فإن الملائكة تحفظه من جميع المكاره، فكلما جاءه ضر، أو مكروه من أحد من المخلوقين منعته الملائكة، وصدت في وجهه، فلا يزال محفوظا من جميع الجهات، إلا جهة فوق، فإن القضاء والقدر نازلان به، فإذا نزل القضاء والقدر أسلمته الملائكة.
لذلك فينبغي أن تحرس من جهة فوق بالعمل الصالح، فإنه لا بد لكل عبد من طريق إلى السماء يصعد منه عمله، وينزل منه رزقه، ومنه يقبض روحه، ومنه يصعد، فإذا كان العبد مدمنا على الطاعات مواظبا للخيرات، كثير الدعاء، كثر صعود عمله الصالح إلى السماء، فلا تزال تلك السبل معمورة بالخيرات، فإذا نزل البلاء من السماء نزل على طريقة العبد المتعينة له، فيجدها معمورة بالخيرات، مملوءة بالطاعات، فيحبس ذلك البلاء عن النزول، ولا يجد منفذا إليه، فيكون دعاؤه وعمله الصالح قد حجب عنه البلاء، لأن الدعاء من الله بالمكان العالي، فيتصادم البلاء والدعاء، فتارة يغلب الدعاء، وتارة يغلب البلاء، فيدفع الدعاء، فهما كالمتصارعين، فإن غلب الدعاء رفع البلاء، فخرق السموات، وارتقى إلى الله تعالى، وإن غلب البلاء أزال الدعاء، ونزل على العبد، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{والله غالب على أمره}.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يزال الدعاء والبلاء يقتتلان إلى يوم القيامة)). فهذا كون الدعاء سببا لرد البلاء.
صفحه ۱۴۴
وروى أبو هريرة -رضي الله عنه-: ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من لم يسأل الله يغضب)).
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدعاء هو العبادة)).
ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}.
وخرج الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام قال: ((الدعاء مخ العبادة)).
وقيل: معنى الدعاء: استدعاء العبد ربه العناية، واستمداده إياه بالمعونة.
وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، والاستشعار للذلة البشرية.
صفحه ۱۴۵
وفيه: معنى الثناء على الله تعالى، وإضافة الكرم والجود إليه.
وقد قيل: ((الدعاء مفتاح الحاجة)).
وهو درج لأصحاب الحاجات، والفاقات، وتنقش لذوي الكربات، وقد ذم الله تعالى أقواما فقال: {يقبضون أيديهم}.
قيل لا يمدونها في الدعاء والسؤال.
ومن خواصه: أنه عبادة، وإخلاص، وحمد، وشكر، وتوحيد، ورغبة، ومناجاة، وتضرع، وتذلل، واستكانة، واستغاثة، ومخ العبادة.
وفي الحديث: ((أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، فقال: ((أوصيك بالدعاء، فإن معه الإجابة، وعليك بالشكر، فإنه معه الزيادة، وأنهاك عن المكر، فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله)).
وعنه عليه السلام أنه قال له جبريل: ((اللهم استرني بالعافية في الدنيا والآخرة)).
وقال بعضهم: الدعاء سلم المريدين، وحبل الموحدين المخلصين.
وقيل: هو المراسلة، وما دامت المراسلة باقية فالأمر حميد.
وقيل: الدعاء يوجب العطاء، وهو أيضا يوجب الرضاء، ويوجب المقام على الباب.
وقيل: الدعاء ترك الذنوب.
وقيل: الإذن في الدعاء خير من العطاء.
وقيل: دعاء الزاهد المخلص بالأفعال، ودعاء العارف بالأحوال.
وقيل: خير الدعاء ما هيجته الأحزان بالبكاء.
بيان شرائط الدعاء وآدابه
وهي:
الأول: أن تقدم بين يديك عملا صالحا صدقة، أو صياما، أو صلاة، فهكذا كان فعل السلف.
صفحه ۱۴۶
الثاني: افتتاح الدعاء بالحمد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ((الدعاء موقوف لا يصل منه شيء، حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم )).
وقال أبو سليمان الداراني: إذا سألت الله تعالى، فابدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم اسأل الله حاجتك، ثم اختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله بكرمه يقبل الصلاتين، وهو سبحانه وتعالى أكرم من أن يدع ما بينهما.
الثالث: حضور القلب، ولا يكون ساهيا، لما روى في الحديث: ((إن الله تعالى لا يجيب (دعاء عبد) من قلب ساه، ولا قلب لاه)). بل يلزم الخضوع والاستكانة والنزول عن القدرة والتعالي اقتداء بيعقوب -عليه السلام-: {إن الحكم إلا لله عليه توكلت}، فتم له ما أراد.
الرابع: لا تدعو وأنت مصر على المعاصي لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((أحمق الناس من يتمنى التوبة وهو مصر على المعصية)).
وقيل ليحيى بن معاذ: ألا تدع لنا؟ قال: ((كيف أدعو وأنا عاص، وكيف لا أرجوه وهو كريم)).
الخامس: الإخلاص. وهو أصل العمل، لقوله تعالى: {فادعوه مخلصين له الدين}.
وروي أن موسى -عليه السلام- مر برجل يدعو ويتضرع، فقال موسى: إلهي لو كانت بيدي حاجته قضيتها، فأوحى الله إليه: ((أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري)).
صفحه ۱۴۷
فذكر ذلك موسى للرجل فانقطع بقلبه فقضيت حاجته.
السادس: أن يكون مطعمه حلالا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: ((يا سعد أطب مكسبك تستجب دعوتك)).
وفي الخبر: أن موسى -عليه السلام- مر لحاجة فرأى رجلا يدعو ويتضرع، ثم رجع وهو على حاله، فسأل الله تعالى أن يستجيب له، فأوحى الله إليه: يا موسى أأستجب له أو في بطنه حرام؟، وعلى ظهره الحرام ؟، وفي بيته الحرام؟، فانصرف موسى إلى بيت الرجل فوجد فيه خمسة دراهم)).
وقال يوسف بن أسباط: ((الدعاء يحبس عن السماء بسوء الطعمة)).
وروي أنه قيل لسعد: ما بال دعوتك مستجابة من بين أصحابك؟ فقال: ((إني لا أرفع لقمة إلى فمي حتى أعلم أين مجيئها)).
السابع: أن يكون صوت الداعي معروفا عند الملائكة، وصاحبه من جملة العارفين؛ وقيل لجعفر الصادق: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: ((لأنكم تدعون من لم تعرفونه، فلو عرفتموه، حق معرفة لاستجاب لكم)).
الثامن: أن يستقبل القبلة، ويستقبل يديه، ويرفعهما نحو السماء تعبدا لله سبحانه وتعالى.
وقيل: سأل بعض أهل الذمة بعض العارفين قال: رأيتك ترفع يديك نحو السماء، وتخفض جبهتك نحو الأرض، فمطلوبك أين هو؟!
فقال: ((إنما نرفع أيدينا إلى مطالع أرزاقنا، ونستدفع بالثاني شر مصارعنا، ألم تسمع؟ قال: بلى.
فقال: قال الله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}، وقال تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}، فأسلم الذمي.
صفحه ۱۴۸
التاسع: إخفاؤه سرا فلا يسمع غير من يناجيه لقوله سبحانه وتعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية}، وقال تعالى حكاية عن زكريا -عليه السلام-: {إذ نادى ربه نداء خفيا}، فكانت الإجابة بأن وهب له يحيى -عليه السلام-، ومعنى ((خفيا)) والله تعالى أعلم: كما قال بعض العلماء: أخفى دعاءه في جوف الليل، وناجاه سرا في نفسه. وقال الحسن البصري: ((كان الناس يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا، فيما بينهم وبين ربهم)).
وفي ((الصحيح)) أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع الناس يصعدون في ثنية فجعل رجل كلما علا ثنية قال: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تناجون أصما ولا غائبا والذي تدعونه أقرب من عنق راحلة أحدكم)). ومعنى ((اربعوا على أنفسكم)): كفوا.
وقال بعض السلف: دعوة سرا أفضل من سبعين دعوة جهرا علانية.
العاشر: الاضطرار: قال العلماء: أقرب الدعاء من الإجابة الدعاء الخالي؛ وهو أن يكون صاحبه مضطرا له أن يدعو من أجل ما نزل به.
قال ابن عطاء: وصفة المضطر أن يكون العبد كالغريق، أو كالملقى في مقافر من الأرض، وقد أشرف على الهلاك، فمن صدق اللجاء إلى الله تعالى، والاستغاثة به، أجيبت دعوته في الحال -يريد غائبا- قال الله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه}.
ومن صدق دعاء المضطر ما حكاه عبد الواحد بن زيد البصري قال:
صفحه ۱۴۹
يرسل التجار معه بتجارتهم إلى إخوانهم من البلاد، فخرج يوما من البصرة يريد الكوفة، فعرض له رجل، فسلم عليه فقال: أين تريد؟ قال: أريد الكوفة لولا أني ضعيف لا أقدر على المشي كنت أسير معك، فإن شئت أعطيتك دينارا، وتحملني على الدابة، فإني أراها مخفة، وأراك رفيقا حسنا، فرغب الرجل في الدينار، وحمله فسارا يومهما إلى أن عرض لهما طريقان، فقال الراكب لصاحب الدابة: أي الطريقين تأخذ، فقال له: الجارة لا أعرف غيرها، فقال له الراكب: هذه الأخرى أقرب وأسهل، فأخذ تلك الطريق، فأوقفهم على واد موحش عميت عليهم الطريق فيه، فقال صاحب الدابة: فأين الطريق؟ فوثب الراكب، وأخرج سكينا عظيما من وسطه، وقال: هذا هو الطريق، فقال له: يا أخي خذ الدابة وما عليها ودعني أنجو بنفسي، فقال له: الدابة وما عليها لي، وما أريد إلا قتلك، فقال له: إذا عزمت على قتلي فدعني أختم عملي بركعتين، فقال له: نعم، فتوضأ الرجل من ماء كان معه، وقام يصلي، فقرأ الحمد لله، وارتجع عليه، فلم يجد آية يقرؤها بعدها، واللص خلفه بسكينه، وهو يقول: تعجل فإني أكره قتلك في الصلاة، ففتح عليه، فقرأ: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه}، فرجع بها، فأجابه اللص من خلفه، نعم الساعة يجيبك، فما استتم من كلامه إذ خرج عليه من بطن الوادي فارس بيده حربة كأن طرفها شعلة نار، فطعن اللص طعنة خر ميتا، والتهب نارا، قال: فبادرت للفارس، وقبلت بحوافر الفرس، وقلت: بحق الذي أغاثني بك في هذا المقام، من أنت؟، فقال: أنا عبد من يجيب المضطر إذا دعاه، فاذهب حيث شئت فلا خوف عليك، قال: فرجعت إلى الطريق الذي كنت أعرف والسلام)).
وقيل: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار يكنى أبا معلق، يتجر بمال له ولغيره، ويضرب الآفاق، وكان ناسكا، ورعا، فخرج مرة فلقيه لص ضعيف في السلاح؛ فقال له: ضع ما معك، فإني قاتلك، قال: وما تريد إلا دمي، شأنك بالمال، قال: إن المال لي، ولست أريد إلا قتلك، فقال: فذرني أصلي ركعتين، قال: صل ما تريد، فتوضأ، ثم صلى أربع ركعات، فكان من آخر دعائه في سجوده أن قال: ((يا ودود، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني -ثلاث مرات- فإذا هو بفارس قد أقبل، وبيده حربة، وضعها بين أذني فرسه، فلما نظر به اللص أقبل نحوه، فطعنه فقتله، ثم أقبل فقال: قم، قال: من أنت بأبي وأمي؟ فقد أغاثني الله بك؟! قال: أنا ملك من السماء الرابعة، دعوت بدعائك الأول، فسمعت لأهل السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني، فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي: دعاء مكروب، فسألت الله تعالى أن يوليني قتل عدوه. قال أنس: فاعلم أنه من توضأ وصل أربع ركعات، ودعا بهذا الدعاء استجيب له. روى هذا الحديث القاضي أبو بكر العربي، وأبو حسين الصدفي - رحمهما الله تعالى.
صفحه ۱۵۰
ومما نقله الإمام اليافعي أيضا لدفع العدو، قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا}، وفي نسخة من قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا .. .. إلى قوله - لا يبصرون}، وهذه الآيات لدفع كيد الأعداء، وتدميرهم، وخذلانهم، من نقشها على ترس، أو درقة، في صحيفة نحاس أو ذهب، وسمرها على قبضة الترس، وتلقى بها العدو، فإنه يخذله، ويرد كيده في نحره، ومن قرأها عند أخذ فراشه أمن في ليلته من اللص، والمفسد، ومن قرأها في مخاصمة خذل الظالم من المتخاصمين، والسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
صفحه ۱۵۱