دیوان مازنی
ديوان المازني
ژانرها
العقاد
حسب بعض الشعراء اليوم أنه ليس على أحدهم إن أراد أن يكون شاعرا عصريا إلا أن يرجع إلى شعر العرب بالتحدي والمعارضة، فإن كانت العرب تصف الإبل والخيام والبقاع، وصف هو البخار والمعاهد والأمصار، وإن كانوا يشببون في أشعارهم بدعد ولبنى والرباب، ذكر هو اسما من أسماء نساء اليوم، ثم حور من تشبيهاتهم، وغير من مجازاتهم بما يناسب هذا التحدي؛ فيقال حينئذ: إن الشاعر مبتدع عصري، وليس بمقلد قديم.
وهذا حسبان خطأ؛ فما أبعد هذا الشعر عن الابتداع! والأخلق به أن يسمى الابتداع التقليدي؛ لأنه ضرب من ضروب التقليد، فلولا أن شاعرا سبق هؤلاء الشعراء لما استطاعوا أن يعارضوه، وإن شئت فارفع النموذج من أمام أعينهم تقف الأقلام في أيديهم ولا يخطون خطا، فلو أن الشاعر منهم كان نقاشا لما عرف كيف يطلي جداره بالدهان الأبيض، ما لم ير أمامه جدارا أسود الدهان.
وليس المبتدع كمن يبتني له حوضا تجاه ينابيع المطبوعين، يرصفه بحجارتها وحصبائها، ويملؤه بطينها ومائها، ثم يدعوه بغير أسمائها، ولكن المبتدع من يكون له ينبوع يستقي منه كما استقوا، ولا قبل بذلك إلا لمن كان له سائق من سليقة تهديه إلى مواقع الماء، وبصر كبصر الهدهد يزعمون أنه يرى مجاري الماء تحت أديم الأرض وهو طائر في الهواء.
كان شعر العرب مطبوعا لا تصنع فيه، وكانوا يصفون ما وصفوا في أشعارهم ويذكرون ما ذكروا؛ لأنهم لو لم ينطقوا به شعرا، لجاشت به صدورهم زفيرا، وجرت به عيونهم دمعا، واشتغلت به أفئدتهم فكرا، وأما نحن فلا موضع لتلك الأشياء من أنفسنا؛ فهي لا تهتاجنا كما اهتاجتهم، ولا تصبينا كما أصبتهم، وإذا سكتنا عن النظم فيها لا تخطر لنا إلا كما تمر الذكرى بالذهن، والمرء إذا تذكر لا يقلد من يتذكرهم، ولكنه يتحدث بهم، ويصف ما عنده من الأسف عليهم، أو الشوق إليهم.
والشعر العصري كهذا الشعر في أنه شعر الطبع، وأنه أثر من آثار روح العصر في نفوس أبنائه، فمن كان يعيش بفكره ونفسه في غير هذا العصر، فما هو من أبنائه، وليس خواطر نفسه من خواطره.
تمر على صفحة الزمن عصور خابية، لا تسمع لها حسا، ولا تختلج العين من جانبها بقبس، ويكاد يكون الفلك قد قذف بها من جوفه ميتة، فهي من لحدها في مهد، ومن مهدها في لحد.
هذه عصور لا ترى لأحدها ملامح ينماز بها عما قبله أو ما بعده، وهي عصور الغفلة التي تعقب إدبار الدول، تنعدم فيها ملكة الابتكار، وينشر التقليد رواقه على كل مزاولات الحياة؛ فلا ترى عالما ولا أديبا ولا حاكما ولا تاجرا ولا صانعا إلا وهو مقلد في عمله، ويكل الناس أمرهم إلى فئات تصوغ لهم الأفكار والعقائد والأذواق، وتخرجها إليهم متشابهة، كما تخرج المعامل مصنوعاتها إلى الشراة من طراز واحد.
وقد أصاب الأدب العربي هذه الآفة، فقتلت فيه روح البراعة والصدق، وقصرته زمانا على التقليد والمحاكاة، حتى لقد بلغ بهم الولوع بما سميناه الابتداع التقليدي، أنهم وصفوا الدمع الأحمر، والدمع الأصفر، والدمع الأزرق، والدمع الأخضر، والدمع البنفسجي، وحسبوا ذلك من بدائع الافتنان، وأنهم جاءوا بطائل كبير.
على هذه الوتيرة من الكذب في الإحساس، والتقارب في سياق النظم، ومعاني الشعر، كان غالب شعراء اليتيمة، حتى لتحسب الكتاب - لولا قليل من الشعر الجيد الحي فيه - ديوانا لشاعر واحد.
صفحه نامشخص