ففي هذا المفترق الأول من السبل التي يواجه بها المرء مستقبله آثر الأمير الترسل، ومضى فيه متدفقا تدفق الينبوع الصافي، مجلجلا أحيانا جلجلة السيل الكثير الشعاب. وما زال - حفظه الله - منذ خمس وأربعين سنة يتحف قراء العربية في مشارق الأرض ومغاربها بكتب قيمة، يقتبسون من أنوارها هدى، أو يفيدون من مختلف الآراء المنبثة فيها ما يهيئ لهم من أمرهم رشدا؛ إلى رسائل متنوعة يجتلون محاسن أغراسها وأزهارها، ويجتنون ما يغذي العقول ويفكه القلوب من أطايب ثمارها؛ إلى فصول ومقالات تنشرها المجلات الدورية والصحف اليومية في كل قطر؛ فما ينقضي يوم من أيام تلك البرهة إلا وله في كل منها قلائد تزهي بها صفحاتها، أو فرائد تزخر بها أنهارها. ولو تفرغت طائفة من حملة الأقلام، جم عديدها، فياضة قرائحها، فيما يشاء الله من مسائل السياسة والاجتماع والأدب، ومباحث التاريخ والأخلاق؛ لكتابة ما كتب من تلك الفصول والمقالات؛ لتعذر عليها أن تأتي مجتمعة بما أتى به ذلك العلم الفرد.
على أن الذين تتبعوا - كما تتبعت - آثار الأمير شكيب قد تبينوا منذ الساعة الأولى سر المزية التي امتاز بها شعره ونثره جميعا، فأحلاه الذروة المنيعة الرفيعة التي حلها بين الأفذاذ المبرزين من متقدمين ومتأخرين.
ذلك السر هو أنه ملك اللغة من أول أمره. ولا أتغالى إذا قلت: إنه جمع معجمها في صدره، بله ما استظهره في صدره من أساليب بلغائها، ورواه من روائع فحول شعرائها. وفي أثناء وروده تلك الموارد من فصح العربية كان يرى وجوه الانطباق بين المصطلحات القديمة والمصطلحات الحديثة، ويتبين كيف تصرف المتقدمون فيما وصل إليهم من الأصول ليفرعوا عليها المعاني الجديدة التي تعلق بها تصرفا لم يناف سلامة القول، ولم ينابذ مقتضى البلاغة على تحول الأحوال وتعدد العهود.
فلما اتسقت له هذه الخصال، وتوافرت لديه تلك الأسباب، وأفاض من واسع علمه بالعربية على ما أكسبته الخبرة آنا بعد آن من مزكونات المبتدعات الحديثة، ومقتضيات الأحوال العصرية، ما دق منها وما جل، بين حسي ومعنوي؛ عدل غير مبطئ عن تشبثه الأول بالمحض الخالص من الأساليب المأخوذة عن الصميم من القديم، ولم ير له بعد ذلك مكتوب إلا وهو مطبوع بطابع السلاسة والانسجام والغزارة، مع الحرص على شرف المفردات ورصانة التراكيب، مجتمعا كل أولئك في طابع الأمير شكيب.
تلك غاية لم يدركها غير هذا العبقري في الترسل. ولو قد رامها في الشعر لأدركها كما قدمت؛ غير أنه إذا كان قد رضي لنفسه في الشعر أن يكون المقل المجيد، فلا مشاحة في أنه انفرد بين المترسلين بأنه المكثر المجيد.
وإن من ينظر جملة إلى صنيع الأمير شكيب ليجد بحرا زاخرا في الأدب ليست اللؤلؤات المنظومة فيه إلا شقائق للآلئ المنثورة منه في كل جانب.
خليل مطران
القاهرة 25 مايو 1936
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحه نامشخص